عودة إلى صفحة : المجلة وشرحها لعلي حيدر
(الْمَادَّةُ 78) الْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَرَدَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، مِنْهَا تَنْوِيرُ الْأَبْصَارِ وَشَرْحُهُ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِمَا عَلَى الصُّورَةِ الْآتِيَةِ (وَالْأَصْلُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ) الْبَيِّنَةُ: هِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُظْهِرُ الشَّيْءَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْمَوْجُودَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ.
، وَقَدْ عُرِّفَتْ فِي الْمَادَّةِ (1676) بِأَنَّهَا الْحُجَّةُ الْقَوِيَّةُ.
وَمُتَعَدِّيَةٌ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ التَّعَدِّي، وَالتَّعَدِّي بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْغَيْرِ هُنَا هُوَ غَيْرُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
الْإِقْرَارُ: كَمَا وَرَدَ فِي الْمَادَّةِ (1572) هُوَ إخْبَارُ الْإِنْسَانِ عَنْ حَقٍّ عَلَيْهِ لِآخَرَ وَيُقَالُ لِذَلِكَ: مُقِرٌّ، وَلِهَذَا: مُقَرٌّ لَهُ وَلِلْحَقِّ: مُقَرٌّ بِهِ.
وَقَاصِرَةٌ: مِنْ الْقَصْرِ يُقَالُ (قَصَرَ الشَّيْءَ عَلَى كَذَا) أَيْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى غَيْرِهِ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ تَقْتَصِرُ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ وَلَا تَتَجَاوَزُهُ إلَى الْغَيْرِ، أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ تَتَجَاوَزُ إلَى الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْبَيِّنَةِ الْقَضَاءُ مِنْ الْحَاكِمِ، وَالْحُكْمُ مِنْهُ، وَالْحَاكِمُ لَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ، فَلَا تَقْتَصِرُ الْحُجَّةُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَتَتَجَاوَزُ إلَى كُلِّ مَنْ لَهُ مِسَاسٌ بِالْقَضِيَّةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرَرِ (الْحُكْمُ الْمَقْضِيُّ بِهِ اسْتِنَادًا عَلَى بَيِّنَةٍ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ يَكُونُ شَامِلًا لِعُمُومِ النَّاسِ) فَعَلَيْهِ لَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَلَا تَجُوزُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِهَا بِلَا خَصْمٍ. أَمَّا الْإِقْرَارُ فَلَمَّا كَانَتْ حُجَّتُهُ مُسْتَنِدَةٌ عَلَى زَعْمِ الْمُقِرِّ فَهِيَ قَاصِرَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَهُوَ جَائِزٌ بِدُونِ خَصْمٍ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ بِحَقِّ أَحَدٍ غَيْرِ الْمُقِرِّ.
لَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ وَلَا يَأْخُذُ الْمُقَرَّ بِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى، وَلَا يُلْزَمُ الْوَصِيُّ أَيْضًا بِأَدَائِهِ. كَذَلِكَ: لَوْ تَوَفَّى شَخْصٌ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِرَجُلٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ فَيُلْزَمُ الْمُقِرُّ بِإِعْطَاءِ ثُلُثِ مَا أَخَذَهُ مِنْ التَّرِكَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِلْأَخِ الثَّالِثِ، وَلَا يُلْزَمُ الْأَخُ الْمُنْكِرُ بِشَيْءٍ اسْتِنَادًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي أَخَذَتْ بِهِ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ (1642) .
هَذَا وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُجَّةِ الْبَيِّنَةِ، فَلَدَى اجْتِمَاعِ الْحُجَّتَيْنِ مَعًا تُقَدَّمُ حُجَّةُ الْإِقْرَارِ وَيُحْكَمُ بِهَا مَا لَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ لِلْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا أَقَامَ شَخْصٌ دَعْوَى اسْتِحْقَاقٍ فِي مَالٍ اشْتَرَاهُ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ، وَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي بِالْمَالِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَأَثْبَتَ الْمُدَّعِي مِلْكِيَّتَهُ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ، عَادَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِمَلْكِيَّةِ الْمُدَّعِي، يَحْكُمُ الْحَاكِمُ لِلْمُدَّعِي بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ أَقْوَى، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي حَاجَةٍ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَيُحْكَمُ بِالْبَيِّنَةِ حِفْظًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِي، وَمَنْعًا لِلْإِضْرَارِ بِهِ. حَتَّى يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ وَاسْتِرْدَادِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ.
هَذَا وَإِلَيْكَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأَمْثِلَةُ الْآتِيَةِ: مِثَالٌ: إذَا ادَّعَى شَخْصٌ بِحُضُورِ أَحَدِ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى بِأَنَّ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُتَوَفَّى دَيْنًا، وَأَثْبَتَ مُدَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِالدَّيْنِ الْمَذْكُورِ، فَالْحُكْمُ يَكُونُ سَارِيًا عَلَى عُمُومِ الْوَرَثَةِ، وَلَا يَحِقُّ لِلْوَرَثَةِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ بِمُوَاجَهَتِهِمْ أَنْ يُطَالِبُوا الْمُدَّعِيَ بِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ بِحُضُورِهِمْ أَيْضًا، أَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى بَيِّنَةٍ، بَلْ عَلَى إقْرَارٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَارِثِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْرِي بِحَقِّ أَحَدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ مَا عَدَا الْمُقِرَّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، كَمَا أَسْلَفْنَا. كَذَلِكَ: إذَا اسْتَحَقَّ شَخْصٌ مَالًا وَأَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ لَهُ بِهِ فَلِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَلَا يَحِقُّ لِهَذَا أَنْ يَتَعَلَّلَ عَنْ الدَّفْعِ بِدَاعِي أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ الْمُحَاكَمَةَ، فَلَا يَلْزَمُهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ فِيمَا لَوْ لَمْ يُثْبِتْ الْمُسْتَحِقُّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْبَيِّنَةِ، بَلْ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ. كَذَلِكَ: لَوْ أَقَرَّ الْمُؤَجِّرُ بِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَأْجُورَ هُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، فَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ صَحِيحٌ وَمُعْتَبَرٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْرِي بِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يُحْكَمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِذَلِكَ الْمِلْكِ. كَذَلِكَ إذَا كَفَلَ شَخْصٌ آخَرَ قَائِلًا: إنِّي أَكْفُلُ فُلَانًا بِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ لِفُلَانٍ، فَإِذَا أَثْبَتَ مِقْدَارَ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ ضَمِنَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، أَمَّا إذَا لَمْ يُثْبِتْ الدَّائِنُ الدَّيْنَ بِالشَّهَادَةِ، فَالْقَوْلُ مِنْ الْيَمِينِ لِلْكَفِيلِ وَلَا يَسْرِي عَلَى الْكَفِيلِ إقْرَارُ الْمَكْفُولِ بِدَيْنٍ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الْكَفِيلُ نَفْسُهُ. كَذَا لَا يَسْرِي إقْرَارُ الرَّاهِنِ بِمِلْكِيَّةِ الْمَرْهُونِ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، هَذَا وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ لَا يَتَبَايَنُ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ؛ لِأَنَّ الضَّعْفَ وَالْقُوَّةَ هُمَا غَيْرُ التَّعَدِّي وَالِاقْتِصَارِ. فَاقْتِصَارُ الْإِقْرَارِ عَلَى الْمُقِرِّ لَا يُنَافِي قُوَّةَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَضَعْفُ الْبَيِّنَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِقْرَارِ لَا يُنَافِيهِ كَوْنُهَا مُتَعَدِّيَةٌ.
(مُسْتَثْنَيَاتُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ) لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بَعْضُ الْمُسْتَثْنَيَاتِ هِيَ: إذَا أَقَرَّ الْمُؤَجِّرُ بِدَيْنٍ فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ وَمُعْتَبَرٌ، وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ عَنْ الْعَقَارِ الْمُؤَجَّرِ مِنْ قِبَلِهِ لِآخَرَ، وَيُبَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ لَيْسَ لَهُ سِوَى الْعَقَارِ مَا يُؤَدِّي بِهِ الدَّيْنَ الْمُقَرَّ بِهِ. كَذَلِكَ: إذَا أَقَرَّتْ الزَّوْجَةُ بِدَيْنٍ عَلَيْهَا وَالزَّوْجُ كَذَّبَهَا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَتُحْبَسُ رَغْمَ مَا يَلْحَقُ الزَّوْجَ بِذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ. هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتُ قَدْ ارْتَآهَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَيْنِ يَرَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَبْسُ الزَّوْجَةِ بِإِقْرَارِهَا بِدَيْنٍ، وَلَا فَسْخُ الْإِجَارَةِ وَبَيْعُ الْمَأْجُورِ إذَا أَقَرَّ الْمُؤَجِّرُ لِآخَرَ بِدَيْنٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق