الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 28 أبريل 2024

الطعن 52 لسنة 20 ق جلسة 8 / 6 / 2000 دستورية عليا مكتب فني 9 دستورية ق 77 ص 645

جلسة 8 يوليو سنة 2000

برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: ماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله وعلي عوض محمد صالح وأنور رشاد العاصي، 

وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق حسن - رئيس هيئة المفوضين، 

وحضور السيد/ ناصر إمام محمد حسن - أمين السر.

--------------

قاعدة رقم (77)
القضية رقم 52 لسنة 20 قضائية "دستورية"

1 - دعوى دستورية "حكم: نطاق حجيته".
اقتصار الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية على النصوص التشريعية التي كانت مثاراً للمنازعة حول دستوريتها وفصلت فيها المحكمة فصلاً حاسماً بقضائها.
2 - دعوى دستورية "المصلحة الشخصية المباشرة: مناطها".
مناط هذه المصلحة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - أن تتوافر علاقة منطقية بينها وبين المصلحة القائمة في النزاع الموضوعي - وذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
3 - عقود "مسئولية عقدية - مسئولية جنائية".
المسئولية العقدية هي جزاء إخفاق المدين في تنفيذ عقد نشأ صحيحاً - خلو الدستور من قاعدة تحول دون تدخل المشرع لتأثيم واقعة النكول عن تنفيذ التزام عقدي - اجتماع المسئوليتين العقدية والجنائية في إطار دائرة بذاتها ليس أمراً عصياً أو مستبعداً.
4 - تشريع "الفقرة الثانية من المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر: ضرورة اجتماعية".
تدخل المشرع بالجزاء الجنائي المقرر بهذا النص لتأثيم واقعة عدم تسليم المستأجر الوحدة السكنية في المواعد المحدد - دون مقتض - إنما اقتضته ضرورة اجتماعية - تحديده الأفعال المؤثمة بموجبه دون تجهيل.
5 - جزاء جنائي "دستورية".
الجزاء الجنائي لا يكون مخالفاً للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها.
6 - تشريع "الفقرة الثانية من المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981: غلو - سبب أجنبي".
الجزاء المالي المقرر بنص هذه الفقرة لا يشوبه الغلو - الجزاء الجنائي المقرر به مشروط بألا تكون واقعة التخلف عن تسليم الوحدة السكنية ناشئاً عن سبب أجنبي - الجريمة المقررة بهذا النص لا يتم إثباتها إلا بقيام سلطة الاتهام بالتدليل على توافر أركانها ولا مخالفة في ذلك لأصل البراءة.
7 - تشريع "القانون رقم 4 لسنة 1996" - جريمة تقاضي المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار - جريمة تخلف المؤجر عن تسليم الوحدة المؤجرة.
إعادة العلائق الإيجارية بمقتضى القانون رقم 4 لسنة 1996 إلى الأصل فيها باعتبارها من عقود القانون الخاص - الجزاء الجنائي المقرر لجريمة تقاضي المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار أصبح منهدماً بعد العمل بهذا القانون - جريمة تخلف المؤجر دون مقتض عن تسليم الوحدة المؤجرة تعتبر من صور التدليس - انطواؤها على مسلك إجرامي يضر بالقيم والمصالح الاجتماعية.

------------------
1 - الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية - على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - يقتصر نطاقها على النصوص التشريعية التي كانت مثاراً للمنازعة حول دستوريتها وفصلت فيها المحكمة فصلاً حاسماً بقضائها، أما ما لم يكن مطروحاً عليهم ولم تفصل فيه بالفعل، فلا تمتد إليه تلك الحجية.
2 - المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن تتوافر علاقة منطقية بينها وبين المصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
3 - الأصل في العقود - وباعتبارها شريعة المتعاقدين تقوم نصوصها مقام القانون في الدائرة التي يجيزها - هو ضرورة تنفيذها في كل ما تشتمل عليه، فلا يجوز نقضها أو تعديلها إلا باتفاق الطرفين أو وفقاً للقانون. وكلما نشأ العقد صحيحاً، كان تنفيذه واجباً، فإذا لم يقم المدين بتنفيذه، كان ذلك خطأ عقدياً سواء نشأ هذا الخطأ عن عمد أو إهمال أو عن مجرد فعل لا يقترن بأيهما. ومن ثم تظهر المسئولية العقدية باعتبارها جزاء إخفاق المدين في تنفيذ عقد نشأ صحيحاً ملزماً، وهي تتحقق بتوافر أركانها، وليس ثمة ما يحول بين المشرع وبين أن يقيم مسئولية جنائية إلى جانبها، فلا يكون اجتماعهما أمراً عصياً أو مستبعداً، بل متصوراً في إطار دائرة بذاتها، هي تلك التي يكون الإخلال بالالتزام العقدي فيها قد أضر مصلحة اجتماعية لها وزنها، وهو ما يعني أن الدستور لا يتضمن قاعدة كلية أو فرعية، تحول دون تدخل المشرع لتأثيم واقعه النكول عن تنفيذ التزام لم ينشأ مباشرة عن نص القانون، وإنما كان العقد مصدره المباشر، وبشرط أن يكون هذا التأثيم محدداً بصورة واضحة لعناصر الجريمة التي أحدثها المشرع، يؤيد ما تقدم أن الحرية الشخصية التي كفلها الدستور لا تخول أي فرد حقاً مطلقاً في أن يتحرر نهائياً في كل وقت، وتحت كل الظروف، من القيود عليها، بل كبحها بالقيود التي تقتضيها أوضاع الجماعة وضرورة صون مصالحها، وتتطلبها أسس تنظيمها.
4 - من المقرر قانوناً - وعلى ما تقضي به المادتان 564 و566 من القانون المدني - أن المؤجر يلتزم بأن يسلم المستأجر العين المؤجرة وملحقاتها في حالة تصلح معها لأن تفي بما أعدت له من المنفعة، كما أن الالتزام بتسليم العين المؤجرة تسري في شأنه ما يسري على الالتزام بتسليم العين المبيعة من أحكام، وعلى الأخص ما يتعلق منها بزمان التسليم ومكانه.
إن المشرع قدر بالفقرة الطعينة أن بعض من يؤجرون وحدات سكنية لا يسلمونها لمستأجريها في الموعد المحدد، مما يخل بالحقوق الناشئة عن استئجارهم لها، ويهدر كذلك الثقة المشروعة التي ينبغي أن تسود تعاملهم فيها، فلا يكون امتناعهم دون مقتض عن تسليمها إلا صورة من صور التدليس ومن ثم كان تدخل المشرع بالجزاء الجنائي لتجريم تلك الصورة، تحقيقاً لضرورة اجتماعية، تقتضى إحاطة التعامل في العقارات المبنية - بيعاً أو إيجاراً - بما يكفل صدقه وبعده عن الالتواء.
ما ينعاه المدعي من أن الفقرة المطعون عليها لا تتضمن تعريفاً واضحاً بماهية الأفعال التي جرمتها، مردود بأن المشرع لم يؤثم واقعة التخلف عن التسليم في ذاتها بل سلوكاً اتصل بها، كان مؤدياً إليها، باتجاه إرادة الجاني إلى الأفعال التي أثمتها، مع قصده إلى تحقيق نتيجتها بعد العلم بدلالتها، وهو ما يتوافر به الركنان المادي والمعنوي للجريمة في تحديد واضح بماهية الأفعال التي أثمتها دون تجهيل مع انتفاء التجريم كلما وجد المقتضي المانع من التسليم، لدلالته الواضحة على انعدام القصد الجنائي.
5 - الجزاء الجنائي لا يكون مخالفاً للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها. ودون ذلك يعني إحلال هذه المحكمة لإرادتها محل تقدير متوازن من السلطة التشريعية للعقوبة التي فرضتها.
6 - الجزاء المالي المقرر بالفقرة المطعون عليها وإن تمثل في التزام مؤجر الوحدة السكنية بأن يؤدي إلى من استأجرها مثلي مقدار المقدم المدفوع إلا أن جزاء على هذا النحو ليس أمر فجاً، ولا يتمحض كذلك غلواً، إذ أنه لازم لردع من ينكثون بعهودهم.
أن عبارة "دون مقتض" وعبارة "التخلف عن تسليم الوحدة السكنية"، متكاملتان في تحديدهما لعناصر الجريمة التي حددتها الفقرة المطعون عليها، ذلك أنهما تواجهان امتناع مؤجر العين عن تسليمها أو تراخيه في ذلك عن الموعد المحدد، وتقرران لذلك جزاء جنائياً مشروطاً بألا يكون الإخلال بهذا الالتزام ناشئاً عن سبب أجنبي لا يدل له فيه، وبما يقيم لصالحه مانعاً من موانع التجريم يحول دون أن تكتمل للجريمة أركانها بما لا مخالفة فيه للدستور.
والجريمة التي أحدثتها الفقرة الطعينة بالنسبة للمؤجر الذي يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة المؤجرة، هي جريمة لا يتم إثباتها إلا بقيام سلطة الاتهام بالتدليل عن توافر أركانها هذه بأوصافها التي حددها المشرع. وإثباتها لها مؤداه نقضها لبراءة ذمة متهمها مما يثقلها، ولا مخالفة في ذلك للقواعد التي يقوم عليها النظام الاختصامي للعدالة الجنائية، ولا لأصل البراءة المقررة بنص المادة 67 من الدستور.
7 - جريمة تقاضي مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار؛ جاءت نتاج القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية والتي لا يجوز اعتبارها حلاً دائماً ونهائياً لمشكلاتها، وإنما كان عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغي أن يقوم في شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر، وهو ما فعله المشرع بإصداره القانون رقم 4 لسنة 1996 والذي أعاد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها باعتبارها من عقود القانون الخاص التي تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، مقرراً سريان قواعد القانون المدني - دون غيرها - عند تأجيرها واستغلالها، وملغياً كل قاعدة على خلافها، وهو ما يعني أن الضرورة الاجتماعية التي انطق منها الجزاء المقرر بالقوانين السابقة في شأن جريمة تقاضي المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة في مرحلة جديدة من أطوار تقدمها، قوامها حرية التعاقد. فلا يكون الجزاء الجنائي - وقد لابس القيود التي فرضتها هذه القوانين على تلك الحرية - إلا منهدماً بعد العمل بالقانون الجديد. وعلى نقيض ذلك كله، فإن جريمة تخلف المؤجر - دون مقتض - عن تسليم الوحدة المؤجرة تعتبر صورة من صور التدليس تنطوي على مسلك إجرامي يضر بالقيم والمصالح الاجتماعية ويهدر الثقة المشروعة في المعاملات في جانب من أهم جوانبها يتمثل في ضرورة توفير المسكن؛ وهو ما استوجب تدخل المشرع بعقاب فاعله بالعقوبة المقررة لجريمة النصب؛ وذلك أسوة بالنص على عقاب من تراخى في تسليم وحدة مبيعة لمشتريها، والذي قضت هذه المحكمة بحكمها الصادر بجلسة 15/ 9/ 1997 في القضية رقم 48 لسنة 18 قضائية "دستورية" برفض المطاعن الدستورية الموجهة إليه.


الإجراءات

بتاريخ الثامن من مارس سنة 1998، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وبتاريخ 8/ 10/ 1998 أودع السيد/ ....... طلباً بتدخله انضمامياً للمدعي في الدعوى.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد قدمت المدعي للمحاكمة الجنائية في القضية رقم 52 لسنة 1996 جنح العمرانية، متهمة إياه بأنه - بصفته مالكاً - تخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة السكنية التي قام بتأجيرها للمدعى عليها الخامسة بموجب عقد الإيجار المؤرخ 23/ 3/ 1995، وطلبت عقابه بالمادتين 23 و24 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه، وإذ قضت تلك المحكمة غيابياً بتغريمه مائة جنيه، فقد طعنت النيابة العامة على هذا الحكم بالاستئناف فقضى غيابياً بإلغائه وبحبس المتهم شهراً مع الشغل، وأن يؤدي إلى المجني عليها مثلي المبلغ المدفوع. وقد عارض المدعي في هذا الحكم، وأثناء نظر المعارضة دفع بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وصرحت له برفع الدعوى الدستورية فقد أقامها
وحيث إنه عن طلب التدخل انضمامياً للمدعي، فقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن شرط قبوله أن يكون مقدماً ممن كانوا أطرافاً في الدعوى الموضوعية، التي يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على الحكم فيها، وإذ كان طالب التدخل غير ممثل في تلك الدعوى، ولا يعتبر بالتالي من ذوي الشأن في الدعوى الماثلة؛ فإن الحكم بعدم قبول تدخله يكون متعيناً.
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم قبول الدعوى تأسيساً على أن هذه المحكمة، سبق أن حسمت المسألة الدستورية المثارة فيها بحكمها الصادر بجلسة 15/ 9/ 1997 في القضية رقم 48 لسنة 18 قضائية "دستورية".
وحيث إن هذا الدفع مردود بأن الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية - على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - يقتصر نطاقها على النصوص التشريعية التي كانت مثاراً للمنازعة حول دستوريتها وفصلت فيها المحكمة فصلاً حاسماً بقضائها، أما ما لم يكن مطروحاً عليها ولم تفصل فيه بالفعل، فلا تمتد إليه تلك الحجية. لما كان ذلك وكان الحكم الصادر في الدعوى رقم 48 لسنة 18 قضائية "دستورية" المشار إليها، قد اقتصر على الفصل في دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه، وذلك في مجال تطبيقها بالنسبة إلى من يبيعون وحدة سكنية، ويخلون - دون مقتض - بالتزامهم بتسليمها لأصحابها في الموعد المحدد، فإن هذا الحكم لا يجوز حجية بالنسبة لتطبيق ذات النص على من يخلون دون مقتض بالتزامهم بتسليم الوحدات السكنية المؤجرة لمستأجريها.
وحيث إن المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر تنص على أن:
فقرة أولى: "يعاقب بعقوبة جريمة النصب المنصوص عليها في قانون العقوبات لمالك الذي يتقاضى بأية صورة من الصور، بذاته أو بالوساطة أكثر من مقدم عن ذات الوحدة أو يؤجرها لأكثر من مستأجر أو بيعها لغير من تعاقد معه على شرائها.....".
فقرة ثانية: "ويعاقب بذات العقوبة المالك الذي يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة في الموعد المحدد فضلاً عن إلزامه بأن يؤدي إلى الطرف الآخر مثلي مقدار المقدم، وذلك دون إخلال بالتعاقد وبحق المستأجر في استكمال الأعمال الناقصة وفقاً لحكم الفقرة الأخيرة من المادة 13 من القانون رقم 49 لسنة 1977........".
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن تتوافر علاقة منطقية بينها وبين المصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، وكان النزاع الموضوعي يتعلق بوحدة سكنية تخلف المدعي - وبصفته مؤجراً - عن تسليمها إلى من استأجرها منه، فإن مصلحته - وبقدر ارتباطها بالتهمة المنسوبة إليه في الدعوى الجنائية الموضوعية - تنحصر في الفصل في دستورية الفقرة الثانية من المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه، وذلك في مجال تطبيقها بالنسبة إلى من يؤجرون وحدة سكنية، ويخلون - دون مقتض - بالتزامهم بتسليمها لمستأجريها في الموعد المحدد.
وحيث إن المدعي ينعى على النص الطعين - محدداً نطاقاً على النحو المتقدم - مخالفته لنص المادة 66 من الدستور وذلك تأسيساً على أن المشرع قد خالف مبدأ الشرعية الدستورية وتوسع في نطاق التجريم وأحال إلى عقوبة جريمة النصب - قياساً في شأن واقعة مدنية هي التراخي في تسليم العين المؤجرة دون مقتض، مبتعداً بذلك بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية. وأن القوانين الجزائية يجب ألا تتناول إلا صور النشاط المحددة معالمها الواضحة حدودها، بصورة يقينية لا لبس فيها أو تجهيل، بينما النص الطعين - على عكس ذلك - لا يجرم سلوكاً محدداً أتاه المدعي عن عمد وإرادة واعية، وإنما أثم واقعة مادية هي تخلفه عن تسليم وحدة سكنية أجرها، كما أن النص المشار إليه ينقض افتراض البراءة، إذ يحمل المتهم عبء إثبات توافر المقتضي المسوغ للتخلف عن التسليم فضلاً عن أنه بصدور القانون رقم 4 لسنة 1996 والذي أعاد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها وهو خضوعها للقانون المدني والذي لا مكان فيه لجريمة التخلف عن تسليم الوحدة المؤجرة فإن شمول هذا الفعل بالجزاء الجنائي المنصوص عليه في المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 سالفة الذكر يعد مخالفاً لمبدأ القانون الأصلح للمتهم.
وحيث إن الفصل في دستورية الفقرة المطعون فيها، يتحدد على ضوء اتصال العقوبة المنصوص عليها فيها بالأغراض التي يتوخاها الجزاء الجنائي باعتباره عقاباً واقعاً بالضرورة في إطار اجتماعي، منطوياً غالباً من خلال قوة الردع على تقييد للحرية الشخصية، ومستنداً إلى قيم ومصالح اجتماعية تبرره، كتلك التي تتعلق بضمان جريان التعامل في الأموال بما يرد عنها أشكالاً من التحايل تقوض الحماية المقررة لها.
وحيث إن الأصل في العقود - وباعتبارها شريعة المتعاقدين تقوم نصوصها مقام القانون في الدائرة التي يجيزها - هو ضرورة تنفيذها في كل ما تشتمل عليه، فلا يجوز نقضها أو تعديلها إلا باتفاق الطرفين أو وفقاً للقانون. وكلما نشأ العقد صحيحاً، كان تنفيذه واجباً، فإذا لم يقم المدين بتنفيذه، كان ذلك خطأ عقدياً سواء نشأ هذا الخطأ عن عمد أو إهمال أو عن مجرد فعل لا يقترن بأيهما. ومن ثم تظهر المسئولية العقدية باعتبارها جزاء إخفاق المدين في تنفيذ عقد نشأ صحيحاً، ملزماً، وهي تتحقق بتوافر أركانها، وليس ثمة ما يحول بين المشرع وبين أن يقيم مسئولية جنائية إلى جانبها، فلا يكون اجتماعهما أمراً عصياً أو مستبعداً، بل متصوراً في إطار دائرة بذاتها، هي تلك التي يكون الإخلال بالالتزام العقدي فيها قد أضر بمصلحة اجتماعية لها وزنها، وهو ما يعني أن الدستور لا يتضمن قاعدة كلية أو فرعية، تحول دون تدخل المشرع لتأثيم واقعه النكول عن تنفيذ التزام لم ينشأ مباشرة عن نص القانون، وإنما كان العقد مصدره المباشر، وبشرط أن يكون هذا التأثيم محدداً بصورة واضحة لعناصر الجريمة التي أحدثها المشرع، يؤيد ما تقدم أن الحرية الشخصية التي كفلها الدستور لا تخول أي فرد حقاً مطلقاً في أن يتحرر نهائياً في كل وقت، وتحت كل الظروف، من القيود عليها، بل كبحها بالقيود التي تقتضيها أوضاع الجماعة وضرورة صون مصالحها، وتتطلبها أسس تنظيمها.
وحيث إن من المقرر قانوناً - وعلى ما تقضي به المادتان 564 و566 من القانون المدني - أن المؤجر يلتزم بأن يسلم المستأجر العين المؤجرة وملحقاتها في حالة تصلح معها لأن تفي بما أعدت له من المنفعة، كما أن الالتزام بتسليم العين المؤجرة تسري في شأنه ما يسري على الالتزام بتسليم العين المبيعة من أحكام، وعلى الأخص ما يتعلق منها بزمان التسليم ومكانه.
وحيث إن المشرع قدر بالفقرة الطعينة أن بعض من يؤجرون وحدات سكنية لا يسلمونها لمستأجريها في الموعد المحدد، مما يخل بالحقوق الناشئة عن استئجارهم لها، ويهدر كذلك الثقة المشروعة التي ينبغي أن تسود تعاملهم فيها، فلا يكون امتناعهم دون مقتض عن تسليمها إلا صورة من صور التدليس ومن ثم كان تدخل المشرع بالجزاء الجنائي لتجريم تلك الصورة، تحقيقاً لضرورة اجتماعية، تقتضي إحاطة التعامل في العقارات المبنية - بيعاً أو إيجاراً - بما يكفل صدقه وبعده عن الالتواء.
وحيث إن ما ينعاه المدعي من أن الفقرة المطعون عليها لا تتضمن تعريفاً واضحاً بماهية الأفعال التي جرمتها، مردود بأن المشرع لم يؤثم واقعة التخلف عن التسليم في ذاتها بل سلوكاً اتصل بها، وكان مؤدياً إليها، باتجاه إرادة الجاني إلى الأفعال التي أثمتها، مع قصده إلى تحقيق نتيجتها بعد العلم بدلالتها، وهو ما يتوافر به الركنان المادي والمعنوي للجريمة في تحديد واضح بماهية الأفعال التي أثمتها دون تجهيل مع انتفاء التجريم كلما وجد المقتضي المانع من التسليم، لدلالته الواضحة على انعدام القصد الجنائي.
وحيث إن ما يأخذه المدعي على الفقرة المطعون عليها من فرضها لعقوبة لا تتسم بمعقوليتها، فلا يكون توقيعها إلا تعبيراً عن قسوتها في غير ضرورة، ومنافاتها بالتالي للحدود المنطقية التي ينبغي أن تكون إطاراً لها، مردود أولاً: بأن الجزاء الجنائي لا يكون مخالفاً للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها. ودون ذلك يعني إحلال هذه المحكمة لإرادتها محل تقدير متوازن من السلطة التشريعية للعقوبة التي فرضتها.
ومردود ثانياً: بأن الجزاء المالي المقرر بالفقرة المطعون عليها وإن تمثل في التزام مؤجر الوحدة السكنية بأن يؤدي إلى من استأجرها مثلي مقدار المقدم المدفوع إلا أن جزاء على هذا النحو ليس أمراً فجاً، ولا يتمحض كذلك غلواً، إذ أنه لازم لردع من ينكثون بعهودهم.
ومردود ثالثاً: بأن المشرع ما كان يخول المستأجر بالفقرة المطعون عليها استكمال الأعمال الناقصة في العين المؤجرة، إلا لضمان صلاحيتها للاستعمال، والانتفاع بها بالتالي في الأغراض التي عقدت الإجارة من أجلها، ذلك أن أجرة العين تقابل منفعتها، وينبغي من ثم استيفاؤها بتمامها.
وحيث إن قول المدعي أن عبارة "دون مقتض" التي تضمنها النص المطعون عليه لا تقل في غموضها عن عبارة "التخلف عن تسليم الوحدة السكنية"، مردود بأن هاتين العبارتين متكاملتان في تحديدهما لعناصر الجريمة التي حددتها الفقرة المطعون عليها، ذلك أنهما تواجهان امتناع مؤجر العين عن تسليمها أو تراخيه في ذلك عن الموعد المحدد، وتقرر أن لذلك جزاء جنائياً مشروطاً بألا يكون الإخلال بهذا الالتزام ناشئاً عن سبب أجنبي لا يد له فيه، وبما يقيم لصالحه مانعاً من موانع التجريم يحول دون أن تكتمل للجريمة أركانها بما لا مخالفة فيه للدستور.
وحيث إن ما ينعاه المدعي على الفقرة المطعون عليها من إلقائها على المتهم عبء التدليل على توافر المقتضي سبيلاً وحيداً للتخلص ن مسئوليته الجنائية؛ مما يناقض افتراض البراءة المقرر بنص المادة 67 من الدستور، مردود بأن الجريمة التي أحدثتها الفقرة الطعينة بالنسبة للمؤجر الذي يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة المؤجرة، هي جريمة لا يتم إثباتها إلا بقيام سلطة الاتهام بالتدليل عن توافر أركانها هذه بأوصافها التي حددها المشرع. وإثباتها لها مؤداه نقضها لبراءة ذمة متهمها مما يثقلها، ولا مخالفة في ذلك للقواعد التي يقوم عليها النظام الاختصامي للعدالة الجنائية، ولا لأصل البراءة المقرر بنص المادة 67 من الدستور.
وحيث إنه لا ينال مما تقدم ما أبداه المدعي من أن شمول جريمة التخلف عن تسليم الوحدة المؤجرة بالجزاء المقرر بالنص الطعين بعد صدور القانون رقم 4 لسنة 1996 يخالف مبدأ القانون الأصلح للمتهم وهو المبدأ الذي طبقته هذه المحكمة بشأن جريمة تقاضي مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار؛ ذلك أن هذه الجريمة جاءت نتاج القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية والتي لا يجوز اعتبارها حلاً دائماً ونهائياً لمشكلاتها، وإنما كان عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغي أن يقوم في شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر، وهو ما فعله المشرع بإصداره القانون رقم 4 لسنة 1996 والذي أعاد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها باعتبارها من عقود القانون الخاص التي تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، مقرراً سريان قواعد القانون المدني - دون غيرها - عند تأجيرها واستغلالها، وملغياً كل قاعدة على خلافها، وهو ما يعني أن الضرورة الاجتماعية التي انطلق منها الجزاء المقرر بالقوانين السابقة في شأن جريمة تقاضي المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة في مرحلة جديدة من أطوار تقدمها، قوامها حرية التعاقد. فلا يكون الجزاء الجنائي - وقد لابس القيود التي فرضتها هذه القوانين على تلك الحرية - إلا منهدماً بعد العمل بالقانون الجديد. وعلى نقيض ذلك كله، فإن جريمة تخلف المؤجر - دون مقتض - عن تسليم الوحدة المؤجرة تعتبر صورة من صور التدليس تنطوي على مسلك إجرامي يضر بالقيم والمصالح الاجتماعية ويهدر الثقة المشروعة في المعاملات في جانب من أهم جوانبها يتمثل في ضرورة توفير المسكن؛ وهو ما استوجب تدخل المشرع بعقاب فاعله بالعقوبة المقررة لجريمة النصب؛ وذلك أسوة بالنص على عقاب من تراخى في تسليم وحدة مبيعة لمشتريها، والذي قضت هذه المحكمة بحكمها الصادر بجلسة 15/ 9/ 1997 في القضية رقم 48 لسنة 18 قضائية "دستورية" برفض المطاعن الدستورية الموجهة إليه.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق