عودة إلى صفحة : المجلة وشرحها لعلي حيدر
(الْمَادَّةُ 76) : الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ.
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْقَائِلِ «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَيُؤَيِّدُهَا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُدَّعِي مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ فَهُوَ ضَعِيفٌ يَحْتَاجُ لِبَيِّنَةٍ تَدْعَمُهُ، وَكَلَامُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ لِتَقْوِيَةِ مَا سِوَى الْيَمِينِ.
الْبَيِّنَةُ - هِيَ الشَّهَادَةُ الْعَادِلَةُ الَّتِي تُؤَيِّدُ صِدْقَ دَعْوَى الْمُدَّعِي. وَبِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ تُقَيِّدُ بَيَانًا سُمِّيَتْ بَيِّنَةً وَسُمِّيَتْ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَتَغَلَّبُ بِهَا عَلَى خَصْمِهِ.
الدَّعْوَى - هِيَ طَلَبُ أَحَدٍ حَقَّهُ مِنْ آخَرَ فِي حُضُورِ الْمُحَاكِمِ، وَيُقَالُ لِلطَّالِبِ الْمُدَّعِي وَلِلْمَطْلُوبِ مِنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مَادَّةُ 1613) الْمُدَّعَى - هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي، وَيُقَالُ لَهُ الْمُدَّعَى بِهِ أَيْضًا (مَادَّةُ 1614) .
الْيَمِينُ - هُوَ تَأْيِيدُ الْحَالِفِ لِخَبَرِهِ بِالْقَسَمِ بِاسْمِ اللَّهِ.
هَذَا وَيُعْلَمُ بَعْضُ أَحْكَامِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَقْلًا وَبَعْضُهَا شَرْعًا وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ: مِنْ الْمَعْلُومِ عَقْلًا أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَالِادِّعَاءُ الْمُجَرَّدُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرًا فَمَا لَمْ يُدْعَمُ بِبُنَيَّةٍ، فَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ. وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ أَنَّهُ مَتَى مَا أَثْبَتَ الْمُدَّعِي اسْتِحْقَاقَهُ بِالْمُدَّعَى بِهِ اسْتَحَقَّهُ.
فَعَلَيْهِ إذَا ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَى آخَرَ بِحَقٍّ لَهُ بِحُضُورِ الْحَاكِمِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْكَرَ دَعْوَى الْمُدَّعِي، فَالْحَاكِمُ بِمُقْتَضَى الْمَادَّةِ (1817) يَطْلُبُ مِنْ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ وَلَا تُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُطْلَقًا، فَإِذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرُ الْيَمِينَ، وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْمَادَّةِ (1818) وَلَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا.
مِثَالٌ: لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ مَالًا مِنْ آخَرَ فَادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي قَائِلًا لَهُ: إنَّهُ اشْتَرَى مِنِّي الْمَالَ الْفُلَانِيَّ بِالْوَكَالَةِ، وَأَضَافَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، وَأَخَذَ الْمَالَ فَلْيَدْفَعْ لِي الثَّمَنَ، وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ، بَلْ رَسُولًا وَأَنَّهُ لِذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْمَادَّةِ (1463) غَيْرُ مُطَالَبٍ بِدَفْعِ الثَّمَنِ، فَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَضَافَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، وَيُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ إضَافَةَ الْعَقْدِ لِنَفْسِهِ. إنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَا يُعْدَلُ عَنْهَا مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِمَبْلَغٍ فِي ذِمَّتِهِ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي: إذَا حَلَفْت بِأَنَّ هَذَا الْمَبْلَغَ يَلْزَمُ ذِمَّتِي أَدْفَعُهُ لَك فَحَلَفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ، فَلَا يُلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْمَبْلَغِ الْمَذْكُورِ.
هَذَا وَمِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ وَالْمُهِمَّةِ فِي الدَّعْوَى تَفْرِيقُ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَعْيِينُهُمَا؛ لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يُشْتَبَهُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَأَنْ يَكُونَ رَجُلٌ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَالٍ مَثَلًا فَيَجِيءُ أَجْنَبِيٌّ وَيَدَّعِي بِأَنَّهُ لَهُ، وَأَنْ لَيْسَ لِوَاضِعِ الْيَدِ مِنْ حَقٍّ فِي الْمَالِ، وَيَدَّعِي وَاضِعُ الْيَدِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَظَاهِرُ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُنْكَرٌ مَعًا، وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ نَفْسَ مِلْكِيَّةِ ذِي الْيَدِ يَدْخُلُ فِي دَعْوَى الْأَجْنَبِيِّ ضِمْنًا؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ، وَإِثْبَاتُ وَاضِعُ الْيَدِ الْمِلْكِيَّةَ لِنَفْسِهِ يَدْخُلُ فِي دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ نَفْسَ الْمِلْكِيَّةَ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ. وَبِمَا أَنَّ الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَقُولُ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَاَلَّذِي يَكُونُ قَوْلُهُ: مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَاضِعُ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعِي هُوَ الْأَجْنَبِيُّ.
مِثَالٌ آخَرُ:
إذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَادِّعَاؤُهُ هَذَا ادِّعَاءٌ يَشْغَلُ ذِمَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبِمَا أَنَّ اشْتِغَالَ الذِّمَّةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَتُهَا فَاَلَّذِي يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ مُدَّعٍ وَالثَّانِي هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ ارْتَأَى أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فِي حَالَيْنِ هُمَا:
الْحَالُ الْأُولَى - إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلِفَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَحْلِفْ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ يُحْكَمُ لَهُ وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «بِأَنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ أَيْ الْيَمِينَ» وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ:
- إذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَعَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي، وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الْحَالِ عَلَى أَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ هُوَ صِدْقٌ وَأَنَا مُسْتَحِقٌّ لِلْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ. وَلَكِنَّ لِلْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ حَلِفِ الْيَمِينِ وَيُكَلَّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَلِفِ
وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي أَيْضًا. إلَّا أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي قَبْلَ أَنْ يُكَلَّفَ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُ الْيَمِينِ الَّتِي تُرَدُّ عَلَيْهِ بَعْدَ تَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَا وَامْتِنَاعِهِ عَنْهَا، فَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ لِتَقْوِيَةِ جَانِبِهِ بِنُكُولِ الْخَصْمِ، وَتِلْكَ لِتَقْوِيَةِ جَانِبِهِ بِالشَّاهِدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْأُولَى إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَيُقْضَى بِالثَّانِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعِي يَمِينَ الرَّدِّ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْيَمِينِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق