القضية 85 لسنة35 قضائية "دستورية".جلسة 2/1/2016
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثاني من يناير سنة 2016م،
الموافق الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة 1437هـ.
برئاسة السيد المستشار/ عدلي محمود منصور رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: سعيد مرعي عمرو ورجب عبد الحكيم سليم وبولس
فهمي إسكندر ومحمود محمد غنيم وحاتم حمد بجاتو والدكتور محمد عماد النجار نواب
رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عبد العزيز محمد سالمان رئيس هيئة
المفوضين
وحضور السيد/ محمد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 85 لسنة 35
قضائية "دستورية" بعد أن أحالت محكمة استئناف طنطا مأمورية شبرا الخيمة
"الدائرة الرابعة" بحكمها الصادر بجلسة 26/2/2013 ملف الاستئناف رقم 140
لسنة 10 ق "أسرة" شبرا الخيمة.
الوقائع
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الاستئناف وسائر
الأوراق - في أن المستأنف عليها في الدعوى الموضوعية كانت قد تحصلت في مواجهة
المستأنف على الحكمين رقمي 939 و940 لسنة 2009، أسرة القناطر الخيرية، بفرض نفقة
لها عليه، وإذ امتنع المستأنف عن سداد بعض من المبالغ المستحقة لها، فقد أقامت
الدعوى رقم 30 لسنة 2011، أمام محكمة القناطر الخيرية لشئون الأسرة ضد المستأنف،
بطلب الحكم بإلزامه بأداء هذه المبالغ وحبسه عند الامتناع. فأمرت تلك المحكمة
المستأنف بأداء هذه المبالغ، فلم يمتثل إلا جزئيا، فقضت بجلسة 7/3/2012، بحبسه
ثلاثين يوماً لامتناعه عن سداد باقي متجمد النفقة، رغم قدرته على أداء ما حُكم به،
على أن يخلى سبيله في الحال إذا قام بدفع المبلغ أو أحضر كفيلاً تقبله المدعية أو
طلبت هي الإفراج عنه. لم يرتض المدعى عليه هذا الحكم فطعن عليه بالاستئناف رقم 140
لسنة 10 ق أمام محكمة استئناف طنطا مأمورية شبرا الخيمة طالباً الحكم بوقف تنفيذ
الحكم المستأنف والقضاء باعتباره كأن لم يكن، وإذ تراءى لتلك المحكمة أن نص البند
رقم (9) من المادة رقم (9) من قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل
الأحوال الشخصية، الصادر بالقانون رقم (1) لسنة 2000، يُخل بالحق في التقاضي والحق
في الدفاع والحق في المساواة، لعدم إعمال مبدأ التقاضي على درجتين في دعوى الحبس
خلافاً للقاعدة العامة التي انتهجها المشرع في سائر الدعاوى الأخرى. فقد قضت بجلسة
26 فبراير سنة 2013 بوقف الاستئناف وإحالة الأوراق إلى هذه المحكمة للفصل في
دستوريته.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
وحيث إن المادة (9) من قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في
مسائل الأحوال الشخصية الصادر بالقانون رقم 1 لسنة 2000، معدلة بالقانون رقم 91
لسنة 2000 تنص على أن:
"تختص المحكمة الجزئية بنظر المسائل الواردة بهذه المادة.
وبمراعاة أحكام المادة (52) من هذا القانون، يكون حكمها في الدعاوى
قابلاً للطعن بالاستئناف ما لم ينص القانون على نهائيته، وذلك كله على الوجه
التالي:
أولا- المسائل المتعلقة بالولاية على النفس:
1- ........................
........................
9- دعاوى الحبس لامتناع المحكوم عليه عن تنفيذ أحكام النفقات وما في
حكمها ويكون الحكم في ذلك نهائياً."
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية -
مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك
بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية مؤثراً في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها
والمطروحة على محكمة الموضوع. لما كان ذلك، وكانت رحى النزاع في الدعوى الموضوعية
تدور حول طلب المستأنف القضاء باعتبار حكم محكمة أول درجة بحبسه لامتناعه عن دفع
النفقة المقضي عليه بها كأن لم يكن، وكان النص المحال قد جعل حكم محكمة أول درجة
نهائياً، بما يحول دون مضي محكمة الاستئناف في نظر الاستئناف المطروح عليها
والقضاء فيه، ومن ثم يكون للفصل في دستورية النص المحال انعكاس على الدعوى
الموضوعية على نحو يتغير به وجه الرأي فيها بحسب ما تقضي به هذه المحكمة، الأمر
الذي يتحقق به المصلحة الشخصية المباشرة في الدعوى الموضوعية، ويتحدد نطاقها فيما
تضمنه نص البند (9) من أولاً: من المادة (9) من النص المُحال من نهائية الحكم
الصادر بالحبس لامتناع المحكوم عليه عن تنفيذ أحكام النفقات.
وحيث إن الرقابة الدستورية على القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد
الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره،
بحسبانه مستودع القيم التي ينبغي أن تقوم عليها الجماعة، وتعبر عن إرادة الشعب منذ
صدوره، ذلك أن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً صون الدستور القائم وحمايته من الخروج
على أحكامه، إذ إن نصوص هذا الدستور تمثل دائماً القواعد والأصول التي يقوم عليها
النظام العام في المجتمع، بحسبانها أسمى القواعد الآمرة التي تعلو على ما دونها من
تشريعات، ومن ثم يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من تشريعات - أياً
كان تاريخ العمل بها - لضمان اتساقها والمفاهيم التي أتى بها، فلا تتفرق هذه
القواعد في مضامينها بين نظم مختلفة يناقض بعضها البعض بما يحول دون جريانها وفق
المقاييس الموضوعية ذاتها التي تطلبها الدستور القائم كشرط لمشروعيتها الدستورية.
وحيث إنه بالبناء على ما تقدم، فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على
النصوص المطعون عليها في ضوء أحكام الدستور المعدل الصادر سنة 2014
وحيث إن حكم الإحالة نعى على النص المحال أنه قصر التقاضي على درجة
واحدة وهذا الأمر وإن كان مما يدخل بحسب الأصل في إطار السلطة التقديرية للمشرع،
إلا أن ذلك لا يكون إلا بالقدر وفي الحدود التي تقتضيها مصلحة عامة لها ثقلها، وأن
المشرع إذا جعل التقاضي على درجتين كأصل عام، فإنه يتعين اتباع النهج ذاته في سائر
المنازعات تحقيقاً لضمان حق الدفاع في كلتا الدرجتين دون نقصان، ذلك أن الخصومة
القضائية لا تبلغ غايتها إلا بإتاحة الفرصة أمام الخصوم لاستكمال بسط أوجه دفاعهم
التي أغفلوها أمام محكمة أول درجة، وتمكين محكمة ثاني درجة من إعمال رقابتها
عليها، وإذ كان النص المحال قد حرم المتقاضي في دعوى الحبس - للامتناع عن سداد دين
النفقة، إذا كان قادراً على الأداء وأمرته المحكمة فلم يمتثل - من الحق في الطعن
بالاستئناف بنصه على اعتبار الحكم في دعوى الحبس نهائياً، فإنه يكون قد أخل بالحق
في المساواة أمام القانون، والحق في التقاضي، والحق في الدفاع، بالمخالفة لنصي
المادتين (40 و68) من دستور سنة 1971، المقابلتين لنصوص المواد (53، 97، 98) من
الدستور القائم.
وحيث إن هذه المناعي في جملتها غير سديدة ذلك أن المقرر في قضاء
المحكمة الدستورية العليا أن الأصل في سلطة المشرع في تنظيمه لحق التقاضي أنها
سلطة تقديرية، جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل
بالموضوع محل التنظيم لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي
يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزناً، وليس من قيد على مباشرة المشرع لهذه
السلطة إلا أن يكون الدستور ذاته قد فرض في شأن مباشرتها ضوابط محددة تعتبر تخوماً
لها ينبغي التزامها، وفي إطار قيامه بهذا التنظيم لا يتقيد المشرع باتباع أشكال
إجرائية محددة تمتد إلى المنازعات جميعها حتى مع اختلاف موضوعها، ذلك أن التنظيم
الإجرائي للخصومة القضائية لا يمكن أن يعكس أنماطاً موحدة إذ يتعين دوماً أن يفاضل
المشرع بين صور هذا التنظيم ليختار منها ما يكون مناسباً لخصائص المنازعات التي يتعلق
بها، ومتطلباتها إجرائياً لتتعدد بالتالي الأشكال التي يقتضيها إنفاذ حق التقاضي
وبما لا إخلال فيه بأبعاده التي كفلها الدستور طالما أن الشكل الإجرائي الذي يفرضه
المشرع يستهدف تحقيق مصلحة اجتماعية جديرة بالرعاية.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن قصر حق التقاضي في المسائل
التي فصل فيها الحكم على درجة واحدة، هو مما يستقل المشرع بتقديره بمراعاة أمرين:
أولهما: أن يكون هذا القصر قائماً على أسس موضوعية تمليها طبيعة المنازعة وخصائص
الحقوق المثارة فيها. ثانيهما: أن تكون الدرجة الواحدة محكمة أو هيئة ذات اختصاص
قضائي من حيث تشكيلها وضماناتها والقواعد المعمول بها أمامها، وأن يكون المشرع قد
عهد إليها بالفصل في عناصر النزاع جميعها الواقعية منها والقانونية فلا تراجعها
فيما تخلص إليه من ذلك جهة أخرى.
متى كان ذلك، وكان البين أن المشرع إنما شرع وسيلة الحبس لحمل المحكوم
عليه بالنفقة على الوفاء بها متى كان دين النفقة ثابتاً بحكم نهائي، وكان المقضي
عليه بها قادراً على أدائها وامتنع عنتاً ومطلاً بغير حق، وكانت هذه الديون
بطبيعتها هي ديون ممتازة ذات طابع حيوي مقدمة على غيرها، مراعاة لكونها قوام
الحياة في كل أسرة، يقوم بها أودها غذاءً وكساءً وسكناً ومن ثم يكون التخلف عن
أدائها ضاراً أبلغ الضرر بالمعيل المقضي له بها، ومضيعاً له، فينكشف مصدر رزقه على
احتياجه له ليكون عرضة للعوز المذل، ومعرضاً للانحراف عن السلوك القويم فاتحاً
لأبواب الانحراف. وكان المشرع قد سلك في سبيل ذلك مسلكاً حاصله أن أتاح سبيل الطعن
في دعوى النفقة أمام من تطلب منه قضاء لينازع في أصل استحقاقها ومقدار فرضها أمام
المحكمة المختصة ابتداء وطعناً، فإذا ما استقر دين النفقة بحكم نهائي وبات أمره
مقضياً، أجاز إكراه المسئول عن النفقة على الوفاء بها بوسيلة الحبس متى ثبتت قدرته
على الوفاء، وامتنع عن أدائها عنتاً وظلماً، وقد تطلب المشرع ضمانة لعدم التعسف
والمغالاة في استخدام هذه المكنة أن توجه المحكمة إلى الملتزم بدين النفقة أمراً
بأداء المبلغ المطلوب منه، وأن تمهله أجلاً للوفاء به، فإذا امتنع بعد ذلك -عناداً
أو إهمالاً - فإنها تقضي بحبسه ثلاثين يوماً، وقد أفسح المشرع فرصة تحول دون إكمال
تنفيذ هذا الحكم بهذه الوسيلة في أحوال ثلاثة، هي سداد المدين الدين المحبوس لأجله
بعد صدور الحكم أو تنفيذه، أو إحضار كفيل يرضاه المحكوم له، أو طلب المحكوم له
الإفراج عنه، وكان المشرع بقصره هذه الخصومة على درجة واحدة، بأن جعل حكم محكمة
أول درجة فيها نهائياً غير قابل للطعن عليه بالاستئناف، يحدوه مصلحة راجحة قوامها
رغبته في ضمان توفير المال تلبية لإشباع احتياج المعيل لتنفيذ حكم النفقة حفظاً
لنفسه وعرضه، والحيلولة دون أن تتخذ إجراءات التقاضي سبيلاً للمماطلة بظلم، بعد
استقرار دين النفقة بموجب حكم نهائي أتاح فيه للخصوم سبل التناضل فيه والطعن عليه
إثباتاً ونفياً، كما أسند المشرع الاختصاص بنظر دعوى الحبس إلى محكمة مشكلة من
قضاة مستقلين يعملون وفق إجراءات قانونية يتاح فيها للخصوم بسط دفاعهم ودفوعهم إيراداً
ورداً، وقد ضمن استيثاق المدين بحدود التزامه الذي يتعين عليه أداؤه بموجب الحكم
المقضي به لدرء حكم الحبس، بأن أوجب على المحكمة التي تنظر دعوى الحبس بعد أن
تتحقق من ثبوت الدين ومقداره أن تأمر المدين بالأداء، بما يستتبعه ذلك من منحه
أجلاً لتنفيذ هذا الأمر، وما كلف به تلك المحكمة من التثبت من قدرة المدين على
الوفاء، فإن مسلك المشرع لا يكون قد أخل بالحق في التقاضي ولا الحق في الدفاع،
ويكون هذا النص بما انطوى عليه من تنظيم واقعاً في صميم السلطة التقديرية للمشرع،
بما ينأى به عن مظنة مخالفة أحكام الدستور.
وحيث إنه عما نعى به حكم الإحالة على النص المطعون عليه إخلاله بالحق
في المساواة لقصره الخصومة في دعوى الحبس على درجة واحدة خلافاً للأصل العام في
التقاضي على درجتين، فلما كان المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مبدأ المساواة أمام
القانون، ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء
تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين
العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للدولة أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من
التدابير، لتنظيم موضوع محدد، أو توقياً لشر تقدر ضرورة رده، إلا أن تطبيقها مبدأ
المساواة لا يجوز أن يكون كاشفاً عن نزواتها، ولا منبئاً عن اعتناقها لأوضاع جائرة
تثير ضغائن أو أحقاد تنفلت بها ضوابط سلوكها، ولا عدواناً معبراً عن بأس سلطانها،
بل يتعين أن يكون موقفها اعتدالاً في مجال تعاملها مع المواطنين، فلا تمايز بينهم
إملاءً أو عسفاً. ومن الجائز بالتالي أن تغاير السلطة التشريعية - ووفقاً لمقاييس
منطقية - بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم
عليها، على أن تكون الفوارق بينها حقيقية لا اصطناع فيها ولا تخيل، ذلك أن ما يصون
مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط
فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها.
متى كان ذلك، وكان النص المحال، وإن قصر التقاضي على درجة واحدة في
دعاوى الحبس خلافاً للأصل العام الذي يجيز الطعن على الأحكام بالاستئناف، إلا أن
هذا التمييز؛ قد قام تحقيقاً لمصلحة راجحة هي ضمان تدفق النفقات الثابتة بحكم قطعي
إلى مستحقيها، حفظاً لأنفسهم من الضياع، وأعراضهم من الابتذال، كما قصد الحيلولة
دون مماطلة الملتزم الواجد بها متى ثبت يساره وقام الدليل على ذلك، وقد شُيد هذا
التنظيم على أساس قاعدة عامة موضوعية مجردة يتساوى أمامها جميع المتقاضين في
المركز القانوني ذاته، وكان لهذا التباين في التنظيم الإجرائي لخصومة الطعن في
دعوى الحبس أسباب سائغة ومبررة تقوى على حمله، بما يكشف عن تباين في المراكز
القانونية لخصوم هذه الدعوى عن سائر الدعاوى الأخرى التي أتاح فيها المشرع حق
الطعن فيها بالاستئناف، فإن هذا التنظيم - والحال كذلك - ينهض تمييزاً مبرراً غير
قائم على أساس تحكمي، بما ينأى به عن قالة الإخلال بالحق في المساواة.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، فإن النص المطعون فيه لا يُعد مخالفاً
لأحكام المواد (53 و97 و98) من الدستور، كما لا يخالف أي أحكام أخرى فيه، مما
يتعين معه القضاء برفض هذه الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق