2، 3 - الأصل في العقود - وباعتبارها شريعة المتعاقدين تقوم نصوصها مقام القانون في الدائرة التي يجيزها - هو ضرورة تنفيذها في كل ما تشمل عليه، فلا يجوز نقصها أو تعديلها إلا باتفاق الطرفين أو وفقاً للقانون. وكلما نشأ العقد صحيحاً ملزماً، كان تنفيذه واجباً، فقد التزم المدين بالعقد، فإذا لم يقم بتنفيذه، كان ذلك خطأ عقدياً سواء نشأ هذا الخطأ عن عمد أو إهمال أو عن مجرد فعل لا يقترن بأيهما.
ومن ثم تظهر المسئولية العقدية باعتبارها جزاء إخفاق المدين في تنفيذ عقد نشأ صحيحاً ملزماً، وهي تتحقق بتوافر أركانها؛ وليس ثمة ما يحول بين المشرع وبين أن يقيم مسئولية جنائية إلى جانبها، فلا يكون اجتماعهما أمراً عصياً أو مستبعداً، بل متصوراً في إطار دائرة بذاتها، هي تلك التي يكون الإخلال بالالتزام العقدي فيها قد أضر بمصلحة اجتماعية لها وزنها. وهو ما يعني أن الدستور لا يتضمن قاعدة كلية أو فرعية يمكن ردها إلى النصوص التي انتظمها أو ربطها بها، تحول دون تدخل المشرع لتأثيم واقعة النكول عن تنفيذ التزام لم ينشأ مباشرة عن نص القانون، وإنما كان العقد مصدره المباشر، وبشرط أن يكون هذا التأثيم محدداً بصورة واضحة لعناصر الجريمة التي أحدثها المشرع.
وهذه القاعدة ذاتها هي التي صاغها المجلس الدستوري الفرنسي وذلك على النحو التالي:
Aucun principe ou régle de valeur constitutionnelle n’interdit au lègislateur d’èriger en infraction le manquement à des obligations qui ne résultent pas directement de la loi elle-même. la méconnaissance par une personne d’obligations contractuelles ayant force obligatoire à son égard peut donc faire l’objet d’une répression pénale des lors que le législateur définit de facon précise et compléte les éléments constitutifs des infractions pu’il vise.
(82 - 145 DC, 10 november 1982, Rec. p. 64)
يؤيد ما تقدم، أن الحرية الشخصية التي يكلفها الدستور، لا تخول أي فرد حقاً مطلقاً في أن يتحرر نهائياً في كل وقت، وتحت كل الظروف، من القيود عليها، بل يجوز كبحها بقيود تتعدد جوانبها تقتضيها أوضاع الجماعة وضرورة صون مصالحها، وتتطلبها كذلك أسس تنظيمها، دون إخلال بأمن أعضائها.
،،The liberty secured to every person does not import an absolute right in each person to be, at all times and in all circumstances, wholly free from restraint. There are manifold restraints which every person is necessarily subject for the common good. On any other basis organized society could not exist with safety to its members ،،Jacobson V. Massachusetts, 197 U. S. 11, 26 (1905).
4 - الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور بضوابط ترسم تخومها وتحد منها، فلا يكون الإخلال بها إلا عدواناً على هذه الحقوق سواء عن طريق تهميشها أو بإهدار مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها.
5 - ما نص عليه الدستور من المادة 7 من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتدخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها وترابطهم ليكون بعضهم لبعض ظهيراً، فلا يتفوقون بدداً أو يتناحرون طمعاً، أو يتنابذون بغياً، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق منهم بالتالي أن يتقدم على غيره انتهازاً، ولا أن ينال من الحقوق قدراً منها يكون به - عدواناً - أكثر علواً. بل يتعين أن تتضافر جهودهم لتكون لهم الفرص ذاتها، التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار.
6 - القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علاقة الأفراد سواء فيها بينهم، أو من خلال روابطهم مع مجتمعهم، إلا أن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن إتيانها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعياً ممكناً، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبرراً إلا إذا كان مفيداً من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزاً تلك الحدود التي لا يكون معها ضرورياً، غدا مخالفاً للدستور.
7 - التجريم المقرر بالفقرة المطعون عليها مرده إلى الضرورة الاجتماعية التي يمثلها أن صور التعامل في تلك الأعيان من خلال بيعها، ينبغي أن يحيطها ما يكون كافلاً لصدقها ويبعد بها عن الالتواء، فلا يكون هذا التعامل زيفاً أو تربحاً غير مشروع بل حقاً وإنصافاً، لتعايش البيوع الأغراض التي يرتجيها المتبايعون منها، فلا يتوهمها أطرافها على غير حقيقتها.
غموض النصوص العقابية يعني انفلاتها من ضوابطها وتعدد تأويلاتها، فلا تكون الأفعال التي منعها المشرع أو طلبها محددة بصورة يقينية، بل شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها أو خفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها. ولا كذلك الفقرة المطعون عليها التي صاغها المشرع مؤثماً بحكمها من يبيعون أو يؤجرون أعياناً، ولا يقومون اختياراً - في الموعد المحدد - بتسليمها لمشتريها أو مستأجريها.
كذلك فإن الفقرة المطعون عليها تتعلق - في بعض جوانبها - بمن يعرضون على الغير وحدة سكنية لتمليكها أو تأجيرها، ولا يخل الجزاء المقرر بها بوجود عقد بيعها أو إجارتها، ولا ينال كذلك من الآثار التي يرتبها.
كما أن قضاء هذه المحكمة وإن جرى على أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها يقتضي أن تتوازن خصائصها مع وطأة عقوبتها؛ وكان ذلك مؤداه أن يفرد المشرع لكل جريمة العقوبة التي تناسبها، إلا أن ما يكون من الجزاء ملائماً لجريمة بذاتها، ينبغي أن يتحدد على ضوء درجة خطورتها ونوع المصالح التي ترتبط بها، وبمراعاة أن الجزاء الجنائي لا يكون مخالفاً للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة La disproportion manifeste بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها. ودون ذلك يعني إحلال هذه المحكمة لإرادتها محل تقدير متوازن من السلطة التشريعية للعقوبة التي فرضتها.
الضرورة الاجتماعية التي تقرر الجزاء المنصوص عليه بالفقرة المطعون عليها لصونها، تبلور تلك الضوابط التي لا يتصور أن يتم التعامل في الأعيان بعيداً عنها، وإلا كان هذا التعامل انتهازاً وضرباً من التحايل، فلا يطمئن من كان طرفاً فيه للحقوق التي تتولد عنه إذا صار أمرها نهباً وكان لازماً بالتالي أن يقرن المشرع العقوبة التي فرضتها الفقرة المطعون عليها في شأن الجريمة التي حددتها، بجزاء مالي يردع من يرتكبونها عن العودة إليها، وينذر غيرهم بأثقالها، فلا يقدمون عليها.
الجزاء المالي المقرر بالفقرة المطعون عليها، وإن تمثل في التزام بائع الوحدة السكنية بأن يؤدي لمن ابتاعها مثلى مقدار المقدم المدفوع، إلا أن جزاء على هذا النحو ليس أمراً فجاً، ولا يتمحض كذلك غلواً، بل إن لهذا الجزاء نظائره كلما كان لازماً لردع من ينكثون بعهودهم مثلما فعل المشرع بنص المادة 103 من القانون المدني التي أوردها في شأن العربون.
كذلك فإن القول بأن عبارة "دون مقتض" التي تضمنها النص المطعون فيه لا تقل في غموضها عن عبارة "التخلف عن تسليم الواحدة السكنية" مردود بأن هاتين العبارتين متكاملتان في تحديدهما لعناصر الجريمة التي حددتها الفقرة المطعون عليها، ذلك أنهما تواجهان امتناع بائع العين عن تسليمها أو تراخيه في ذلك عن الموعد المحدد، وتقرران أن لذلك جزاء جنائياً مشروطاً بألا يكون الإخلال بهذا الالتزام ناشئاً عن سبب أجنبي، بما لا مخالفة فيه الدستور.
وبذلك تفارق هذه المسئولية، تلك التي تنشأ وفقاً لأحكام القانون المدني عن الإخلال بالالتزام بالتسليم، باعتباره متفرعاً عن الالتزام بنقل ملكية شيء ومنصرفاً كذلك إلى تحقيق غاية، لا إلى مجرد بذل عناية. فإذا لم يتم التسليم كاملاً - ولو بسبب أجنبي كقوة قاهرة هلك بها المبيع أو تلف قبل تسليمه - ظل البائع مسئولاً. وما ذلك إلا لأن المشرع تغيا بالمسئولية الجنائية التي قررتها الفقرة المطعون عليها، أن يرد عن التعامل المشروع في الأعيان التي عناها، أبواباً ينفذ التحايل منها، فإذا انقطع دابره، لعذر قام ببائعها وحال دون تسليمه العين لمشتريها، فإن اعتباره مسئولاً جنائياً عن عدم تسليمها، يكون أمراً منهياً عنه دستورياً، على تقدير أن وقوع جريمة ما يفترض إرادة ارتكابها.
فضلاً عن أن الجريمة التي أحدثتها الفقرة المطعون عليها قوامها أن شخصاً باع وحدة سكنية يملكها، ولم يقم مختاراً بتسليمها في الموعد المحدد، وهي جريمة لا يتم إثباتها بعيداً عن تدخل سلطة الاتهام للتدليل على توافر أركانها هذه بأوصافها التي حددها المشرع. وإثباتها لها مؤداه نقضها لبراءة ذمة متهمها مما يثقلها، حال أن هذه البراءة هي الأصل في الحقوق الشخصية جميعها. وبنفيها لهذا الأصل، يكون للمتهم بالجريمة محل النزاع الموضوعي - وفي إطار وسائل الدفاع التي يملكها أن يقيم الدليل على توافر مقتض حال دون تسليمه الوحدة التي باعها في موعدها. ولا مخالفة في ذلك للقواعد التي يقوم عليها النظام الاختصامي للعدالة الجنائية. ولا لافتراض البراءة المقرر بنص المادة 67 من الدستور.