مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة السادسة - عدد مارس
صفحة من تاريخ القضاء بمصر بمناسبة العيد الخمسيني لإنشاء المحاكم المختلطة
كيف تطورت الامتيازات في تاريخ مصر الحديث أي منذ عهد محمد علي، مقارنة الحالة في تركيا وفي مصر، مفاوضات نوبار وإنشاء المحاكم المختلطة، كلمة ختامية ونظرة عامة في طرق الإصلاح الواجب اتباعها.
لأحد كبار رجال القضاء تطور الامتيازات في تاريخ مصر الحديث
كان من آثار حكم المماليك لمصر أن انحطت تجارتها وعمتها الفوضى وهجرها الأجانب لما كانوا يلاقون من الإرهاق وسوء المعاملة، فتأخرت البلاد وزاد في تأخرها أن الباب العالي رأى أن اتخاذ البضائع الهندية طريق السويس قد يعطل تجارة الآستانة عن طريق حلب، فأصدر أوامره إلى باشا القاهرة بإيقاف كل تجارة عن طريق السويس وخصوصًا تجارة البن، وقد كانت مصدر إيراد كبير للخزينة المصرية وحظر تصدير الأرز، وكان السلطان يقسو في أوامره لدرجة جعلته يعزل باشا القاهرة في سنة 1714 ويهدده بضياع رقبته، ومن أهم التهم التي استحق بسببها هذه العقوبة الصارمة سماحه بتصدير الأرز والبن (انظر فتح مصر الحديث لأحمد حافظ عوض بك)
W. Heyd, Histoire du Commerce du Levant publié par Furry Deynaud
فلما تولى المغفور له محمد علي باشا حكم مصر رأى بثاقب نظره أن ينتفع ببعد بلاده عن الباب العالي بعد أن يجعل رقابته ضعيفة ففتح أبواب مصر للتجارة وأوصى برعاية التجار وسمح لهم بالتزيي بلباسهم القومي وبطواف البلاد من غير أن يخشوا إرهاقًا أو إساءة وكان يعطيهم فرمانًا يأمر به المديرين والمأمورين بتوفير كل أسباب الراحة لهم ومنع الغبن عنهم والقيام بخدمتهم حتى لا تصل إليه شكوى من جهتهم وهاك صورة من هذا الفرمان:
(من ديواننا في سنة من الهجرة إن صديقنا الحميم المسيو...... من (تذكر هنا الجنسية) جاء إلى أملاكنا ليزور المعاهد الأثرية وغيرها من الأماكن المفيدة له في أبحاثه، وقد قدمه إلينا جناب قنصله فبناءً عليه قد سلمناه فرماننا هذا لينتفع ويستظهر به أثناء رحلته في طول أملاكنا وعرضها.
فعلى المديرين والمأمورين وأرباب الحل والعقد ملكيين وعسكريين وبالجملة كل من يقدم إليهم هذا الفرمان أن يعنوا بأمره ويهتموا بأداء الخدم التي يروم منهم قضاءها حتى لا ترفع إلينا منه شكوى فيما بعد.
ونوصيكم بعمل ما يلزم كيلا يلحقه حيف أو يوجه إليه شتم من الفلاحين أو غيرهم وإن تبادروا بموافاته بكل ما يحتاج إليه وأن لا يدفع ثمنًا عنه إلا ما يطابق السعر الجاري في البلاد وذلك فيما يختص بأجر ركوب الدواب والمراكب وثمن الأغذية إلخ.
وإني أعتبر أن الخدمات التي ستؤدونها إليه كأنها أديت إلينا بالذات (نقل نص هذا الفرمان من كتاب كلوت بك - لمحة عامة إلى مصر تعريب محمد مسعود الجزء الثاني صـ 235).
ولقد كان من آثار السياسة التي اتبعها محمد علي مع الأجانب أن زاد عدد المحال التجارية بالإسكندرية حتى بلغ في سنه 1836 نحو ثلاثة أضعاف ما كان عليه في سنة 1822 فصار أربعة وأربعين بعد أن كان ستة عشر وهو عدد كبير جدًا إذا لاحظنا أنه لم يكن يوجد بجانبه لغير الأوروبيين سوى ستة محال لتجار مسلمين وأربعة لتجار من أساكل الشرق كلهم من اليونانيين (كتاب كلوت بك جزء 2 صـ502).
ولكن من الأسف أن محمد علي عند ما فتح أبوابه للأجانب وأكرم مثواهم وأوصى بحسن معاملتهم ووضع الحكام في خدمتهم وتحت إشارتهم فاته أن يحفظ للمصريين حقوقهم ويصونهم من أن ينقلب الأجنبي بماله من الامتيازات خطرًا ضد المصري فيحتاج إلى الحماية من اعتدائه.
وليس أدل على ذلك من شهادة أحد الأجانب أنفسهم وهو كلوت بك الذي عاش في مصر من سنة 1823 إلى سنة 1849 وتولى إنشاء التعليم الطبي فيها وإليه يرجع الفضل في تنظيم وإنشاء مستشفى أبو زعبل ومدرسة الطب والقابلات وكذلك مدرسة الصيدلة فقد ذكر في كتابه عن مصر.
(إن فريقًا من السياح يسلكون مع المصريين مسلك الشدة والقوة ويعاملونهم معاملة لا تليق بالمدنية التي ينتسبون إليها وذلك لأنهم يعتبرونهم ككائنات حقيرة مرذولة خارجة عن نطاق النوع البشري، ويرون أنه ليس من الواجب مخاطبتهم بغير لسان الكرباج ولأجل هذا تراهم يتزودون عند وصولهم لمصر بالكرابيج يضربون بها من غير رحمة ولا سبب معقول الحمالين المكلفين منهم بحمل أمتعتهم وأشيائهم باعتبار أنهم دواب يسامون سوء العذاب، وكذا يفعلون مع الحمارين والمراكبية الذين ينقلون هذه الأمتعة برسمهم من مكان إلى مكان)، وبعد أن بين الكاتب أن الاتصال بالنساء المسلمات يعتبر جريمة في الدرجة القصوى من الخطورة وأن الامتيازات الأجنبية تقضي على مرتكبيها بالإخراج من حمايتها قال (ولكن مع ذلك فإن رجال الشرطة في مصر إذا ضبطوا بعض الأوروبيين متلبسين بجريمة انتهاك حرمة مسلمة فإن سوادهم الأعظم يطلق سراحهم من غير أن تطبق عليهم عقوبة ما).
وختم كلوت بك عبارته بقوله (ولكنني شهدت فريقًا من الإفرنج لم يقدروا هذا التسامح حق قدره بل كانوا يعبثون إلى حد تجاوز كل وصف) (انظر المؤلف المشار إليه جزء 2 صـ 247).
نشأ عن تلك الحال أن أخذت امتيازات الأجانب في مصر تتطور بشكل مخالف لما هو جارٍ في تركيا فاتسع نطاقها واضمحل بجانبها كل سلطان لمصر ولحكومتها وصار حق مصر على الأجانب في التشريع والقضاء الخاصين بالجرائم وبالمعاملات المدنية والتجارية وبالملكية العقارية مختلفًا عنه في تركيا اختلافًا تامًا كما سيظهر لك في هذا البحث.
مقارنة الحال في تركيا ومصر
1 - المواد الجنائية:
لم يكن شك في أن جميع الجنايات والجنح والمخالفات التي ترتكب في تركيا ضد الرعايا العثمانيين أو ضد النظام العام أو المنشورات الإدارية كانت خارجة عن اختصاص القناصل وخاضعة للمحاكم التركية، وما كان يسع السلطات الأجنبية أن تعارض في ذلك حتى أنه حدث مرة أن قام النزاع في اختصاص المحكمة القنصلية بين الفرنسيين أنفسهم وكان ذلك على أثر رفع أحدهم دعوى قذف ضد جريدة فرنسية تصدر في تركيا ولقد قضت محكمة النقض والإبرام باختصاص المحكمة القنصلية المرفوعة إليها الدعوى لأن الاعتداء حدث من فرنسي ضد فرنسي آخر، ولكن جاء في أسباب حكمها ما يؤيد الرأي الذي نقول به حيث قالت (حيث إنه وإن لم يكن هناك شك في أن الصحافة خاضعة في رقابتها وفي نظامها وفي شروط وجودها لقانون البلاد التي توجد فيها إلا أنه يجب التفريق بين مخالفة شروط تلك الرقابة أو مخالفة اللوائح أو القوانين أو النظامات وبين الجنح الخاصة التي ترتكب بواسطة الصحافة بين الأفراد أو ضد الغير).
(وحيث إنه في هذه الحالة لا يدور البحث حول جريمة صحافية نشأت عن مخالفة قوانين الصحافة أو لوائحها ولا حول جناية أو جنحة ضد قوانين الدولة العلية المتعلقة بنظاماتها أو بسلامتها ولكنه قاصر على جريمة قذف ارتكبها فرنسوي ضد فرنسوي بواسطة جريدة تنشر في القسطنطينية وللقنصل وحده حق الفصل في الجنايات والجنح والمخالفات التي ترتكب من الفرنسيين ضد بعضهم في هذه المدينة) (انظر
P. du Rausas. Le régime des capitulations dans l’empire ottoman 2, edit. I. p. 4 15 ss).
وبينما الحال في تركيا على ما قدمنا إذن بالحكومة المصرية لا تتمسك بحقوقها وتسلم الرعاية الأجانب الذين يرتكبون جريمة من الجرائم إلى قناصلهم لمحاكمتهم بمعرفتها حتى أنك لتجد الحكومة الفرنسية عندما أرادت تخويل المحاكم القنصلية في سنة 1836 حق المحاكمة الجنائية نصت في المادة الأولى من هذا القانون على أنها تختص بالنظر في الجرائم التي من اختصاصها بمقتضى الامتيازات أو العرف ولقد شرح المسيو بران مقرر لجنة مجلس النواب هذا اللفظ بقوله (إن العرف زاد في الامتيازات الناشئة من المعاهدات فإنه لم يحدث أن رفض طلبنا في أي مرة رغب فيها قناصلنا أن يمنحوا حتى محاكمة الفرنسيين المتهمين بجناية ضد أحد الأهالي بل كانت هذه المنحة تقبل دائمًا).
كان يحدث هذا كله رغم ما كان لتلك الحال من نتائج مؤلمة، فقد كان من شأنها أن تكفل للمجرم الفرار من العقوبة، فكثيرًا ما كان يطلق سراح مجرمين ارتكبوا القتل بالنظر إلى تعذر محاكمتهم في بلادهم حيث لا يمكن استحضار الشهود (كلوت بك جزء أول صـ 512).
ولما تولى سعيد باشا وأراد نشر بعض القوانين الجنائية طلب من القناصل أن يجتمعوا بهيئة مؤتمر مع موظفين عينهم هو فأقروا لائحة نص فيها على جعل تنفيذ القوانين الجنائية من حق القنصل التابع له الأجنبي بناءً على طلب رئيس الشرطة وبذلك لم يكن الأجنبي يقدم للمحاكم المحلية ويطبق عليه قانونها إلا إذا لم يكن تابعًا لأي قنصلية أجنبية.
وإليك نص المادة (3) و(55) من لائحة 1857 المشار إليها (جميع المخالفات لهذه اللائحة التي تقع من الأجانب أصحاب الفنادق أو المنازل أو الشقق المفروشة والقهوات ومحال الأكل والحانات ومحال بيع المشروبات الروحية تبلغ بواسطة رئيس الشرطة إلى القنصل التابع له مرتكب المخالفة وهو الذي يتولى محاكمته وفي حالة ما تكون المخالفة ضارة بالأمن العام يجوز للحكومة أن تطلب غلق المحل غلقًا مؤقتًا أو نهائيًا).
مادة (55): (إذا لم يكن الأجنبي المتهم بارتكاب جناية أو جنحة أو مخالفة تابعًا لإحدى القنصليات ولم يكن تابعًا لاختصاص أي محكمة أجنبية فتكون محاكمته أمام المحاكم المحلية طبقًا لقوانين البلاد)، والذي يدعو إلى الغرامة في هذا النظام هو أن السلطة التي تتولى تنفيذ هذه القوانين هي سلطة أجنبية لا تطبق سوى قوانينها هي. وكثيرًا ما تكون الجريمة التي يراد إيقاع العقاب بسببها غير معاقب عليها في قوانين البلاد التابعة إليها القنصلية، وأكثر ما يكون هذا شيوعًا في المخالفات حيث تنظم كل مملكة لوائحها لتسري في بلادها ولا تتعرض للتنظيم فيما عداها ولذلك سرعان ما ظهرت العقبات في تطبيق هذا القانون وذلك على أثر فتح أحد الفرنسيين وهو الكونت دي مايارد مارافي - مطبعة ونشره جريدة من غير أن يستحصل على رخصة رغم إنذاره المتكرر بغلق المطبعة والجريدة، ولما رفع الأمر إلى محكمة أكس الاستئنافية قررت في حكمها الصادر في 22 مارس سنة 1872 بانطباق اللوائح على الأجانب وأقرت بأن للقنصل حق اتخاذ ما يلزم من الإجراءات لإزالة المخالفة، لأن اللائحة واجبة الاحترام على جميع السكان بصرف النظر عن جنسيتهم، ولكن لما كانت المحكمة القنصلية لا تملك أن تطبق عقوبة الحبس أو الغرامة الصادرة من تشريع أجنبي فإن عملها يقتصر على إزالة المخالفة.
تلك هي النتيجة التي وصل إليها تشريعنا الجنائي تتلخص في زوال سلطان الحكومة المصرية وغل يدها عن الأجانب الذين يعيشون فيها ويرتكبون الجرائم ضد أهلها أو حكومتها وهي على ما يرى القارئ بعيدة عما تقضي به قواعد المعاهدات أو العرف الذي كان العمل جاريًا عليه في تركيا.
2 - المواد المدنية والتجارية:
من المعلوم أن المعاهدات العثمانية صارت منذ سنة 1675 تقسم الدعاوى قسمين: فالدعاوى التي لا تتجاوز قيمتها 4000 قرش جعلت من اختصاص قاضي البلاد الذي يجب عليه أن يسمع الدعوى في حضور ترجمان القنصلية فإذا لم يكن موجودًا يؤجل النظر فيها.
أما الدعاوى التي تتجاوز هذه القيمة فيكون نظرها أمام الباب العالي دون سواه.
ولقد كانت هذه القاعدة الأخيرة غير ممكنة التطبيق في بلاد نائية عن عاصمة الباب العالي مثل مصر فإن مصاريف السفر وما يتكبده المتقاضون من المشقات ومن ضياع الوقت والمصالح في سبيل السفر إلى الآستانة كل ذلك كان من شأنه أن يبعد الناس عن التقاضي أمام الباب العالي، فكانوا يرفعون قضاياهم إلى القنصل الذي يكون الخصم تابعًا له توفيرًا للمشقات والمصاريف التي ربما أربت على قيمة الدعوى ومن ذلك الحين أخذت العادة تظهر في رفع الدعاوى الكبيرة إلى القنصل دون محاكم البلاد لأنها لم تعد مختصة ودون الباب العالي لأن الوصول إليه لم يكن مستطاعًا.
أما الدعاوى المدنية الصغيرة فإن القناصل أخذوا ينظرونها كذلك، لأن اشتراط حضور ترجمان القنصلية في أثناء نظر الدعاوى التي ترفع على الأجانب جعل للقنصل سبيلاً لمراقبة القضايا التي تكون ضد مواطنيه فلم يكن يوفد ممثلاً من قبله إلا إذا عرف موضوع الدعوى واقتنع بادئ بدء بصحتها وقد كان يحدث أحيانًا أن يحكم هو فيها إذا رأى حق الوطني واضحًا غير مشكوك فيه.
أضف إلى ذلك أن المصري إذا كسب دعواه أمام القاضي كان يحتاج بعد ذلك لمعونة القنصل في التنفيذ وما كان يحصل على تلك المعونة إلا بعد أن يفحص القنصل الحكم ويرى تنفيذه ولذلك فضل كثيرون تخلصًا من ذلك العناء أن يلجئوا إلى القناصل مباشرةً ليقاضوا أمامهم مواطنيهم، ولقد بدأت تلك العادة من غير أن تكون شائعة أو عامة في سنة 1850 حيث لم يكن سوى المستر فاليو قنصل إنجلترا في ذلك الوقت يأبى نظر الدعاوى التي تكون مع أحد من الأهالي ولكنه عندما سافر في سنة 1860 صار خلفه يقتدي بزملائه ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أنهم جميعًا عدا قنصل هولاندا أخذوا ينظرون الدعاوى العقارية.
ولقد يتساءل الإنسان عما آلت إليه حينذاك المحاكم التجارية التي أنشئت في تركيا سنة 1839 وبدأت عملها في سنة 1846 وأعيد تنظيمها في مصر والإسكندرية بمقتضى الأمر الصادر في سنة 1861 الذي قضى بأن تشكل هذه المحاكم من أعضاء مصريين وأجانب برئاسة مصري وأعد لها نظامًا خاصًا للمرافعات كان جواب لجنة وزارة الخارجية الفرنسية التي تشكلت في سنة 1867 على هذا التساؤل ما يأتي.
(وتبين من الأوراق التي تقدمت إلى اللجنة ومن المعلومات التي جمعتها من تحرياتها إن هذه المحاكم كانت موضعًا لشكاوى عديدة فالعنصر الوطني الذي كانت له الأغلبية فيها جعلها خاضعة لأفكار معادية للأجانب معاداة مستمرة وأكثر القضاة تنقصهم المعلومات الفنية الضرورية والاستقلال ويخضعون في غالب الأحوال لغايات توجب الأسف فقوانين المرافعات مهملة والقوانين التي نظمت المحاكم لاحترامها ليست متبعة إما عن جهل أو عن قصد، ولقد كان انتظام العدالة في تلك المحاكم أمرًا استثنائيًا حتى أن المساعدين الأوروبيين الذين كانوا ينتخبون للجلوس فيها انسحبوا في عدة ظروف حتى لا يتحملوا بحضورهم جزءًا من المسؤولية عن أحكام غير عادلة تمليها الأغلبية، أما المراقبة التي يقضي بها القانون على أقلام الكتاب فغير موجودة، والكتبة يختارون بالصدفة من غير أن تتوفر فيهم المعلومات اللازمة لإعدادهم وهم يعبثون بشكل مؤلم بالنفوذ الذي يستمدونه من مراكزهم، وأخيرًا فإن تنفيذ الأحكام موكل إلى قواصة منفصلين عن البوليس أو إلى عمال آخرين من غير كفاءة أو جدارة للعمل الذي يقومون به والإدارة المصرية نفسها من غير أن تقر بجميع هذه العيوب تعترف بوجوب إدخال الإصلاح في هذه المحاكم).
فالذي يستخلص مما تقدم هو أن تلك المحاكم كانت معطلة ويرجع تعطيلها بنوع خاص إلى أن القناصل كانوا يعطون الأوامر بعدم الاشتراك فيها أو التقاضي أمامها ولذلك فإن القاعدة التي كانت متبعة في مصر هي وجوب الالتجاء دائمًا إلى محكمة المدعى عليه Actor sequitur forum rei وهذه قاعدة كثيرة العيوب لأنها تقضي في حالة تعدد المدعى عليهم بوجوب الالتجاء إلى محكمة كل منهم حتى لو كان أحد المدعى عليهم ضامنًا للآخرين، وهي تمنع إمكان رفع دعوى فرعية ضد المدعي وفضلاً عن ذلك فإنها إما أن تمنع إمكان التنفيذ المؤقت أو إذا سمحت به تجعل المحكوم ضده ابتدائيًا في مركز سيئ في حالة ما إذا كسب الدعوى استئنافيًا لأنه يضطر في هذه الحالة من أجل استرداد ما حكم عليه به ابتدائيًا أن يرفع دعوى أمام المحكمة التابع لها خصمًا وتظهر عيوب تلك النظرية بشكل أجلي فيما يتعلق بالدعاوى العقارية لأنه يترتب عليها تطبيق جملة قوانين على العين الواحدة وفي هذا استحالة تنظيم الثقة العقارية التي هي أهم أسس الثروة في بلاد زراعية كمصر، ولقد رأينا أن جميع القناصل عدا قنصل هولاندا كانوا ينظرون الدعاوى العقارية أيضًا.
3 - المواد العقارية:
كانت الدولة العلية مثل باقي الدول الأوروبية تحرم امتلاك الأجانب للعقارات والأراضي وقد ظل الحال كذلك في أغلب البلاد الأوروبية حتى منتصف القرن التاسع عشر، أما في تركيا فإن الخط الهمايوني الصادر في 18 فبراير سنة 1856 أعلن رغبة السلطان في السماح للأجانب بالملكية العقارية في بلاد الدولة العليا (مع مراعاة قوانين ولوائح البوليس ودفع جميع الضرائب وغيرها مثل الأهالي وبعد أن تصدر الاتفاقات مع الدول في هذا الشأن).
ولقد بقي هذا الخط الهمايوني إحدى عشرة سنة من غير أن يظهر له أثر، ولكن فرنسا تمسكت بالتنفيذ وتشددت بشأنه حتى صدر قانون 7 صفر سنة 1284 (يونيه سنة 1867) الذي أباح للأجانب حق الملكية العقارية ليضع بذلك حدًا للصعوبات والعبث والشكوك التي كانت قائمة بهذا الشأن في الدولة العليا ويتمم ما يجب من الضمانات للخزينة والمراقبة الإدارية بتنظيمها تنظيمًا دقيقًا.
وأرسل الباب العالي منشورًا للدول أرفق به صورة القانون فوافقت عليه فرنسا سنة 1868 وتلتها جميع الدول الأخرى في تواريخ مختلفة كان آخرها في سنة 1874 وهو التاريخ الذي وافقت فيه الولايات المتحدة وصدر مع هذا القانون الذي يسمونه Protocole Bourée وهو عبارة عن مذكرة تفسيرية شارحة ومتممة لما جاء في هذا الخط الهمايوني وBourée هو اسم سفير فرنسا في تركيا حينذاك.
ويقضي قانون سنة 1284 بأن يكون الأجانب خاضعين في ملكيتهم العقارية لجميع النظم التي تسري على الأهالي ولذلك كان عليهم:
أولاً: أن يخضعوا لجميع القوانين واللوائح العامة والعادات ولوائح البوليس والبلدية التي تسري في الحاضر أو المستقبل فيما يتعلق بحق الانتفاع أو نقل الملكية أو الرهن العقاري.
ثانيًا: أن يدفعوا جميع الأموال والضرائب مهما كان نوعها أو الاسم الذي يطلق عليها التي تفرض في الحاضر أو المستقبل على الملكية العقارية بالمدن أو الأراضي الزراعية.
ثالثًا: أن يكونوا خاضعين للمحاكم العثمانية في جميع المسائل الخاصة بالملكية العقارية وفي جميع الدعاوى العينية سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم حتى لو كان جميع المتقاضين من الأجانب، كل ذلك بنفس الطريقة والشروط والإجراءات التي يتبعها الملاك العثمانيون ومن غير أن يكون لهم الحق في التمسك بالجنسية الأجنبية فيما عدا الامتيازات الخاصة بشخصهم وبحقوقهم المنقولة طبقًا للمعاهدات.
ومن هنا يتبين لنا أن الملاك الأجانب كانوا خاضعين في الملكية العقارية لكل ما يخضع له العثمانيون أنفسهم، سواء من حيث التشريع أو الإدارة أو القضاء أو الضرائب ولقد كان خضوعهم للقضاء العثماني كاملاً بحيث لم يكن يستدعي ترجمان القنصلية عند مقاضاتهم.
بل إن آثار هذا القانون تجاوزت هذا الحد إلى تعديل نفس نظام الامتيازات فيما يتعلق بحرمة المساكن وضرورة حضور ممثل القنصلية وبعض الأقضية الصغيرة حيث أدخلت عليها تعديلات كان من أثرها تخفيف شيء من وطأة الامتيازات.
أما في مصر فإن السماح للأجانب بامتلاك العقارات يرجع إلى ما قبل الخط الهمايوني بسنين، فإن محمد علي كان يعطي للأجانب نفس الحقوق التي للمصريين، وقد اقتفى هذا الأثر بعده سعيد باشا فإنه لما أصدر أمره في 15 جمادى أولى سنة 1274 (مارس سنة 1858) ببيع الأراضي الخارجية التي هجرها واضعوا اليد عليها سمح للأجانب بالعطاء فيها (انظر تقرير بطرس باشا غالي في مجموعة جلاد).
وكان ذلك سببًا في تكون عرف في مصر خاص بالملكية العقارية ومستقل عن قوانين الدولة العليا، ولما كانت روح الولاة ميالة إلى التسامح مع الدول وإجابة ما تتطلع إليه نفوس رعاياها وكان الأجانب يقظين لخلق العادات التي لصالحهم وتأييد كل عرف وكل سابقة يمكنهم التمسك بها لرفعها إلى مستوى القواعد العامة كان من الطبيعي أن يوجد بون شاسع بين الحالة التي يعامل بها الأجانب في تركيا والتي يعاملون بها في مصر فمن ذلك ظهرت الفروق الآتية جلية واضحة.
1 - بينما كان الملاك الأجانب يدفعون جميع الضرائب العقارية في تركيا إذا بهم في مصر يرفضون دفع أموال المباني في المدن، بل يرفضون دفع الضرائب العقارية عامة، حيث جاء في تقرير نوبار باشا للدول ما يأتي (منذ أربعين سنة والأوروبي يتمتع بحق الملكية العقارية في مصر ومن المفروض أنه يمتلكها طبقًا لقوانين البلاد وقضائها، أما في الواقع فإنه يمتنع بحجة كون الامتيازات تحمي الأوروبيين عن دفع الضرائب إذا كان مالكًا لمنزل أو لأرض زراعية وعندما يتداخل القنصل تكون النتيجة عدم الدفع في كل الأحوال تقريبًا).
وقد أقرت اللجنة التي تشكلت سنة 1867 بوزارة الخارجية الفرنسية هذه الشكاوى فيما يتعلق بالمباني ولكنها أنكرتها فيما يتعلق بالأملاك الزراعية ولذلك وافقت على إدخال تعديلات في الأولى بحيث تكون الضريبة عادلة وعامة وأن لا يكون من شأنها إرهاق الأوروبي في ملكيته.
ومهما يكن الأمر فإن ذلك معناه وضع رقابة على الإدارة المصرية من نوع غير معروف في تركيا.
ولقد صار هذا التقسيم قاعدة متبعة، فكلما أرادت الحكومة وضع ضريبة على المباني وجب عليها أخذ قبول الدول، وكان آخر مثل لطلب مصادقة الدول عندما أرادت الحكومة زيادة 0.5 % على ضريبة مباني القاهرة لإنشاء مجاري العاصمة فإنها اضطرت لأخذ مصادقتها قبل صدور ركريتو سنة 1909.
2 - بينما كان الملاك في تركيا خاضعين للقضاء العثماني وكان القاضي ينظر الخصومات المتعلقة بالأملاك العقارية من غير حضور ترجمان القنصلية إذا بالعرف يجري في مصر على رفع تلك الأقضية إلى القناصل وهذه العادة كانت متبعة رغم ما جاء في تقرير نوبار (أما فيما يتعلق بالنزاعات الخاصة بالمباني أو الأراضي الزراعية فإن الأوروبيين كانوا يذهبون دائمًا إلى محاكمنا التي تؤدي أعمالها جيدًا فضلاً عن كونها مشكلة من أعضاء يجيدون فهم المادة التي يحكمون فيها والعنصر الأجنبي لا تتوفر فيه الكفاية لها ولذلك اقترح على سموكم أن يبقى الحال على ما هو عليه).
وما قال نوبار لا شبهة فيه من الوجهة القانونية النظرية، أما الواقع فكان يخالف ذلك ولقد كتب المسيو فرود جيرود Féraud Giraud La Justice Mixte مشيرًا إلى أقوال نوبار بقوله:
(وهذا صحيح قانونًا أما عملاً فإني أصرح بأن هذه القاعدة لم تكن متبعة في جميع الأحوال ولقد فصلت محكمة أكس برياستي في جملة قضايا متعلقة بعقارات مصرية من غير أن يقوم نزاع في الاختصاص، ولقد أشار أحد ممثلي إنجلترا إلى أن تلك العادة تعتبر عبئًا غير مسموح ولكن حكومته عندما رفع إليها الأمر إجابته بأن يتبع سنة زملائه رغم عدم اختصاص المحكمة القنصلية).
ومن الطبيعي أن يرى الإنسان في النتيجة التي انتهى نوبار إلى تقريرها من جعل المحاكم المختلطة مختصة في تلك القضايا تأييدًا لهذا القول الأخير.
وهنا أيضًا تأيدت القاعدة القاضية برفع الدعوى إلى محكمة المدعى عليه وهي قاعدة إذا طبقت في المسائل العقارية كانت ضربة قاضية على الثقة بالمعاملات حيث إن من شأنها أن تترك لكل قنصلية تطبيق قوانينها فلا يدري من يأخذ حقًا عينيًا على العقار أيًا كان نوعه ماذا يجب عليه اتباعه لجعل حقه ثابتًا إذ أن ذلك يترتب على جنسية الشخص الذي سيتولى منازعته بل أنه يكفي إذا قاضى شخصًا من جنسية معينة وكسب الدعوى أن يتخلف الشخص الذي خسر الدعوى ليتولى النزاع أجنبي من جنسية أخرى، ويضطر المصري إلى رفع الأمر إلى قنصلية المعارض الجديد لتطبق قانونًا جديدًا ولقد لخص نوبار في تقريره تلك الحالة بقوله (إن الحاجة إلى الإصلاح صارت محل شعور الجميع فالحكومة والقنصليات متفقان في ذلك، ولكن الخلاف يبدأ عند البحث في سبل العلاج والقواعد الواجب تطبيقها حيث لا يريد أحد أن يدخل في اعتباره أصل الامتيازات بل صار العبث الذي كان جاريًا يعتبر كأنه مبدأ وقانون لا تجوز الحيدة عنه وبالجملة فإن الغاية وهي العدالة متفق على وجوب تحقيقها ولكن وسائل الوصول لهذه الغاية مرفوضة حتى أن مصر صارت دولة لا يمكن للوطني فيها أن يجد العدالة سواء كان مدعيًا أو مدعى عليه فيؤول أمره دائمًا إلى سلبه بل أنه يعتبر نفسه سعيدًا إذا هو لم يترك لمستأجره غير منزله).
3 - قضت المعاهدات في تركيا بقصر معنى المسكن الذي يتمتع بحرمة خاصة على المنزل الخاص بالسكنى وملحقاته الملاصقة من حديثة وحوش وذلك طبقًا للمذكرة التفسيرية، أما في مصر فلم تنجح الحكومة مطلقًا في تطبيق هذه المعاهدة فليست حرمة المنزل قاصرة عليه وعلى لواحقه بحيث لا يجوز للسلطة العامة دخوله بغير مندوب القنصلية بل أن جميع الأمكنة التي يستعمل فيها الأجنبي تجارته أو صناعته أو التي يتولى فيها مهنته أو عمله كالورشة والمصنع ومكتب المحامي وعيادة الطبيب ومشغل العامل والحانوت ومستودع البضائع كل هذه أمكنة تتمتع بهذا الامتياز وكما أن هذا التعديل لم يكن له أثر في مصر فكذلك جميع التعديلات الأخرى التي أدخلها الباب العالي على أثر صدور قانون سنة 1867 لم يكن لها أثر في مصر:
مفاوضات نوبار باشا والأدوار التي مرت بها حتى إنشاء المحاكم المختلطة:
1 - اقتراحات نوبار.
2 - لجنة وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1867.
3 - اللجنة الدولية في القاهرة سنة 1869.
1 - اقتراحات نوبار:
كان من آثار تلك الحالة أن شعرت الحكومة بضرورة معالجتها ومما زاد في اهتمامها أن الأمر لم يكن قاصرًا على ما اشتهرت به بعض القنصليات من التهاون مع مواطنيهم الذين يرتكبون الجرائم ويعيشون في البلاد، بل أن الضرائب لم يكن يدفعها الأجانب وبقي كثير من الأعمال العامة معطلاً من غير تنفيذ وذلك فضلاً عن دفع الحكومة تحت ضغط القنصليات مبلغ اثنين وسبعين مليونًا من الفرنكات بصفة تعويضات مع أنه لم يكن انتهى حينذاك من جميع المقاولات التي أخذها الأجانب سوى حوض السويس.
لذلك أرسلت الحكومة إلى الدول الأجنبية مذكرة في شكل خطاب موجه من رئيس الوزارة إلى مليك البلاد قال فيه إن الحالة التي وصلت إليها مصر في قضائها بين الأجانب والأهالي أو بينهم والحكومة لا تستند إلى الامتيازات الأجنبية التي لم يبقَ منها سوى الاسم بل هي نتيجة عرف تحكمي يستمد قوته من ميول رؤساء الوكالات السياسية ويرجع في الغالب إلى سوابق تجاوزت كل حد وما أيدها إلا الضغط من جانب والميل إلى التسامح من الجانب الآخر حتى صارت الحكومة بغير قوة وصار الشعب محرومًا من كل عدالة منظمة في علاقاته بالأوروبيين وهي حالة ليست في صالح أحد فلا هي من فائدة الدول الأوروبية ولا هي من فائدة سكان القطر المصري سواء كانوا وطنيين أو أجانب إذ أنها تمنع البلاد من إنماء ثروتها ومن اتصالها بأوروبا وختم خطابه بقوله.
(فالحالة التي تدار بها العدالة من شأنها أن تهدم كيان البلاد أدبيًا فلا تعود تثمر مجهودات سموكم لأن ابن العرب (كذا) ينظر إلى أوروبا من خلال الأوروبيين الذين يستغلونه فيشمئز من المدنية الأوروبية ويتهم الوالي وحكومته بالضعف والضلال).
ولقد اقترح نوبار في مذكرة فصل السلطة القضائية عن السلطة الإدارية بحيث يصدر القضاء عن الحكومة من غير أن يكون تابعًا لها ومن أجل أن تستوثق الدول من ذلك اقتراح:
1 - أن تبقى محكمتا التجارة، وينتخب قضاتها من بين التجار أو الأعيان بالطريقة السابقة ويجعل لها رئيس مصري ووكيل أجنبي يكون انتخابه بموافقة وزير حقانية المملكة التي يكون تابعًا لها.
2 - أن تنشأ محكمة استئناف (وهذا هو التغيير الأساسي) تشكل من ثلاثة من المصريين من الشبان الذين يكونون أتموا دراستهم في فرنسا وثلاثة من القضاة الأوروبيين المشهود لهم بالكفاية - ينتخبون بناءً على اقتراح حكوماتهم وتكون الرئاسة في تلك المحكمة لمصري.
3 - أن تنشأ محاكم مدنية يشبه نظامها نظام المحاكم التجارية ويرفع الاستئناف عن أحكامها إلى محكمة الاستئناف.
4 - أما المسائل العقارية فقال إنها تبقى كما كان الحال دائمًا من اختصاص محاكم البلاد.
5 - أن يرجع في التشريع بالنسبة للمواد التجارية إلى القانون التجاري الفرنسي وتؤلف لجنة لعمل قوانين مدنية وقوانين عقوبات يكون أساسها القانون الفرنسي والتشريع المتبع في مصر.
لجنة وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1867:
ولما أرسلت تلك المذكرة إلى الدول شكلت فرنسا لجنة بوزارة خارجيتها لتفحص ما يمكن إدخاله من التعديلات في النظام القضائي المصري فسمعت اللجنة ملحوظات نوبار باشا وعرفت منه ما يقبله من التعديلات في اقتراحاته الأصلية وكان أهم تلك التعديلات جعل الأغلبية للأوروبيين وتعيين الكتاب والمحضرين من الأوربيين بشرط أن يكون تعيين الجميع بدكريتات تصدر من خديوي مصر وتوسيع اختصاص المحاكم المدنية بحيث يشمل بعض القضايا العقارية أما المسائل الجنائية فقد ترك الوزير أمر الفصل فيها للجنة بشرط إيجاد طريق سريع للفصل في المخالفات.
ومع أن نوبار أنقص طلباته إلى هذه الدرجة وقبل أن يقتطع من حقوق الدولة بهذا المقدار فإن اللجنة لم تكتفِ بتلك الضمانات لأنها ما كانت تأمن جانب الحكومة المصرية وإليك جزءًا مما قالته في تقريرها (أن السلطة القضائية في مصر غير منفصلة عن السلطة الإدارية ولو فرض أن نصوص القوانين قضت به فإنه لا يمكن تنفيذه إذ لا يتصور في أي مملكة إمكان وجود نظام قضائي صالح من غير أن يوجد فيها نظام إداري صالح ونظامات سياسية وانتظام في جميع فروع الحكومة العامة).
أن سلطة الخديوي لا حد لها وهو غير خاضع لأي قاعدة سوى إرادته التي لا قيد عليها فكل شيء يخضع وينثني أمام عظمته فسلطانه قوي مطلق فمن المستحيل أن يتوقع الإنسان سير القضاء المحاط بهذه الظروف سيرًا مرضيًا.
أضف إلى ذلك أن للخديوي بصفته الشخصية دخلاً في جميع فروع الحياة الاجتماعية فهو يملك جزءًا عظيمًا من الأراضي التي يمتد عليها سلطانه، وهو زارع وتاجر ورجل صناعي وبناء إلخ، وبهذه الصفة يجوز أن يكون خصمًا ظاهرًا أو غير ظاهر للكثيرين من المتقاضين.
ومما يزيد الحالة تعقيدًا أن الكثيرين من كبار الموظفين هم أنفسهم في مثل هذا المركز فالقطر المصري خالٍ من الإدارة المنظمة ومن القوانين المضبوطة وهو من جملة سنين يرى القوانين واللوائح تتوالى بكثرة متزايدة وكل يوم يقل تنفيذها عن سابقة لأن الحكومة ينقصها روح (المتابعة) والاطراد، فلا يمكن لأحد أن يرتب على الحالة الموجود الآن ومن باب أولي لا يمكن التنازل عن الحقوق المكتسبة أملاً فيما يقترح إدخاله من التعديلات.
ثم أشارت اللجنة إلى أن الأجانب الذين ذهبوا لمصر ووضعوا فيها أموالهم إنما وضعوها تحت نظم خاصةً لا يمكن تغييرها من غير اعتداء صريح على ما اكتسبوه من الحقوق وكذلك أشارت إلى أن روح القلق والذعر استولت على الأجانب عندما علموا بمشروع الإصلاح المقترح ولم تكتفِ اللجنة بذلك بل ذهبت إلى حد إظهار الخوف من نفس الأجانب الذين يمكن أن تتشكل منهم المحاكم فجاء في تقريرها (أمن المضمون أن الأغلبية حتى لو كانت من الأوروبيين تحافظ على استقلالها بعد أن تكون تحت تصرف المليك ؟).
يجب أن لا ننسى أنهم يجلسون في وسط يهاجم فيه الموظفون بكل الطرق حتى أكثرها استنكارًا ومن جهة أخرى كيف يمكن إيجادهم والتأكد من أنهم متصفون لا بجميع الضمانات الضرورية بل بالكفاءة والاستقامة التي تجعلهم مقبولين ؟
نعم أنهم يعرضون علينا أن يكون التعيين بناءً على اقتراح الحكومات الأجنبية ولكن إذا كان من الممكن الوثوق بأكثر الحكومات الأوروبية فمن الذي يضمن أن مثل هذا الاحتياط يوجد من الجميع وفي كل الأوقات (أضف إلى كل ما تقدم أن الذين يهاجرون من بلادهم ليسوا عادةً ممن تصونهم فضائلهم ومراكزهم من مثل هذه الأخطار مجتمعة).
ورغم كون اللجنة ذكرت في مقدمة اقتراحاتها عطفها على مصر وألمها الشديد من الحال التي عليها بعض القنصليات وأنها تود أن تحفظ لمصر سعادتها فإنها كانت في اقتراحاتها مقيدة بذلك الروح الذي يظهر جليًا من خلال الفقرات القليلة التي نقلناها عن تقريرها لذلك أدخلت قيودًا جديدة على ما رضي به نوبار أهمها أن الأجنبي إذا كان مدعى عليه فلا يكون خاضعًا لتلك المحاكم إلا بشرط قبوله اختصاصها وأشارت اللجنة إلى أن الأوامر كانت صادرة من القناصل لمواطنيهم بعدم قبول قضاء المحاكم التجارة أو تنفيذ أحكامها، وكذلك وافقت اللجنة على أن يجعل للمحاكم الجديدة اختصاص في مسائل الإجارة والمزارعة وعلى إبطال حضور ترجمان القنصلية واشترطت أن يكون الإصلاح الجديد مؤقتًا بمدة على سبيل التجربة (هذا التقرير منشور في الكتاب الأصفر نمرة 13 سنة 1869 وفي مجموعة بولي صـ 28 - 43 من المقدمة وهو على جانب كبير من الأهمية في بيان وجهة النظر الأوروبية في ذلك الوقت).
3 - انعقاد اللجنة الدولية في سنة 1869:
ولما رأى نوبار النتائج التي وصلت إليها اللجنة لا تشفي غله سعى إلى عقد لجنة دولية بمصر لتبحث الأمر فرفضت فرنسا أولاً ولكن نوبار ما زال بها حتى قبلت في مارس سنة 1869 وكذلك فاوض بريطانيا وغيرها من الدول وأرسل إليها تقرير لجنة سنة 1867 ليكون أساسًا للبحث.
وبين الحال على ما قدمنا إذا بالباب العالي ينظر بعين الغضب إلى المفاوضات الجارية ويؤنب مصر على زيادة قواتها البرية والبحرية ويطلب منها بصفتها ولاية عثمانية عرض ميزانيتها عليه ويحظر على الوالي عقد تروض بغير إذنه أو التفاوض مباشرةً مع الدول في أي مسألة ذات شأن.
ولقد سعت فرنسا وإنجلترا والنمسا لمنع تفاقم الحالة وترضية كل من الجانبين ولكن الباب العالي لم يلبث أن جدد احتجاجاته عندما علم بعقد لجنة دولية بالقاهرة فاحتج لدى الدول على تصرفها وطلب إلى اللجنة أن لا تتجاوز المعاهدات التي أبرت مع الباب العالي فإن كان القصد إرجاع الحالة في مصر إلى ما تقضي به المعاهدات فيها وإلا فكل تعديل يجب أن يعرض أولاً على الباب العالي لأنه وحده صاحب السلطة في ذلك.
فأجابت الدول على ذلك مؤكدة له أن الغاية من اللجنة إنما هو درس الحالة وتقديم اقتراحات بما يجب أن يكون وأنه لم يدر بخلدها أن تعتدي على حقوق الدولة صاحبة السيادة على مصر، ولكن السلطان لم يكتفِ بذلك فأرسل إلى والي مصر كتابًا يؤنبه ويذكره فيه بأنه فيما عدا بعض الامتيازات الخاصة لا يوجد فرق بين مصر وبين أي ولاية تابعة للدولة العليا وخاضعة لجميع قوانينها الأساسية، وأن في إيفاد الشخص الذي ينتحل لنفسه لقب وزير الخارجية المصرية مخالفة لحقوق الدولة وقوانينها فأرسل إسماعيل يهدئ الباب العالي وعقدت اللجنة الدولية برئاسة نوبار نفسه، وافتتحت جلساتها في 28 أكتوبر سنة 1869.
ولقد كانت فكرة نوبار بعيدة النظر فإن اللجنة الدولية لم تكن من عناصر متجانسة كلجان وزارات الخارجية، فضلاً عن أن وجودها في مصر كان يبعدها عن المبالغات التي كانت يتأثر بها الخارج ويجعلها تتأثر لحد ما بالحكومة المصرية خصوصًا في وقت افتتحت فيه قناة السويس وظهرت فخامة مصر وعظمتها كأحسن ما كانت عليه أيام إسماعيل.
وكان من نتائج ذلك إن قررت اللجنة ضرورة جعل المحاكم الجديدة مختصة في جميع القضايا التي تقوم بين الوطنين الأجانب سواء كان الأجنبي مدعيًا أو مدعى عليه، وسواء كان النزاع قائمًا في شأن مدني أو تجاري لأن اشتراط رضا الأجنبي في حالة ما يكون مدعى عليه إنما هو تعليق على شرط بعيد الاحتمال.
ولقد تمسك نوبار فوق ذلك بأن يكون للمحاكم الجديدة وحدها حق النظر فيما يقوم من القضايا بين الأجانب مختلفي الجنسية وبعد جدال وافقت اللجنة على رأيه ولكنها ألزمت نوبار في مقابل ذلك أن يقبل جعل المحاكم الجديدة مختصة بنظر الدعاوى العقارية أيًا كانت جنسية المدعي والمدعى عليه فيها.
وكذلك قررت اللجنة أن يكون من اختصاص المحاكم الجديدة النظر في الدعاوى التي ترفع ضد الحكومة أو الدوائر دون النظر في ملكية المنافع العامة أو في إبطال أو إيقاف أي أمر إداري.
أما فيما يتعلق بتشكيل هذه المحاكم فإن اللجنة اقترحت تشكيل محاكم أول درجة من خمسة قضاة ثلاثة منهم يكونون من الأوروبيين ولقد رفضت اللجنة تشكيل هيئة المحكمة من ثلاثة قضاة وأيدت هذا الرفض بقولها (إن الأوروبيين إذا اختلفا في رأيهما كان الفصل في الترجيح لابن العرب (كذا) لذلك نرى أن يزاد العدد بأن يجعل خمسًا).
أما محكمة الاستئناف فاقترح تشكيلها من سبعة قضاة أربعة منهم من الأجانب.
وكان من رأي اللجنة إيجاد درجة ثالثة للقضاء ولكن قام الخلاف في تحديد اختصاصها وهل تكون درجة ثالثة تنظر في جميع القضايا أو تجعل بمثابة محكمة نقض وإبرام تنظر القضايا في حالات معينة فقط وعلى أثر هذا الخلاف رأت ترك البحث في المسألة لتسويتها عند عمل التشريع الجديد واشترطت اللجنة جعل الرئاسة لقاضٍ أجنبي وأن يكون تعيين القضاة الأجانب بناءً على توصية الحكومة التابعين لها وأن يكون القضاة غير قابلين للعزل.
واقترحت الحكومة المصرية أن يكون لمحكمة الاستئناف أو محكمة المراجعات حق عزل القضاة إذا أتوا أمرًا يخالف واجبات وظائفهم ولكن اللجنة تركت هذا القرار للائحة تنظيم المحاكم، أما حضور الترجمان في المحكمة فقد نص على تركه ولكن اشترط إخبار القنصلية التابع لها الأجنبي قبل البدء في التنفيذ فإن لم يحضر فيستمر الحضر في عمله من غير ضرورة إخطار القنصل أو انتظاره، ولقد تركت اللجنة البحث في الإصلاح الجنائي واكتفت بالإشارة إلى ضرورته.
4 - انتهاء المفاوضات:
ولما انتهت اللجنة من قراراتها وبلغتها إلى الدول رأت فرنسا أن تعقد لجنة جديدة بوزارة الخارجية للنظر في هذا التقرير وعينت المسيو دفرجي الذي ترأس لجنة سنة 1867 رئيسًا لها فأصرت اللجنة على قراراتها السابقة، ولكن تبدل الحالة السياسية في فرنسا جعل وزير الخارجية الجديد يغير تلك السياسة ويرسل إلى الدول مشروعًا جديدًا أُسمي فيما بعد (المشروع الفرنسي)، وهو الذي استقر عليه الرأي عدا بعض تعديلات، فصدرت به (لائحة تنظيم المحاكم المختلطة) ولسنا في حاجة إلى أن نذكر أن هذا المشروع يقضي بوجود محكمتين ابتدائيتين ومحكمة استئناف وترك محكمة المراجعة وأنه نص على أن تصدر الأحكام في الدرجة الأولى من خمسة قضاة ثلاثة منهم أوروبيون ومن سبعة قضاة يكون منهم خمسة من الأوروبيين (وهذه من النقط التي تعدلت).
وكذلك نص المشروع على أن تكون الرئاسة في المحاكم الابتدائية وفي محكمة الاستئناف المصريين.
وفي المادة السابعة والثامنة والتاسعة وردت نصوص لا تخرج عن نصوص المواد (9) و(10) و(11) و(12) و(13) من اللائحة الحالية ونص على عدم قابلية القضاة للعزل وعلى تنظيم أقلام الكتاب والمترجمين والمحضرين وعلى طريقة تنفيذ الأحكام.
ولما أرسل هذا المشروع إلى الدول كاد يتم الاتفاق عليه لولا أن أعلنت الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا فتعطل الاتفاق بسبب ذلك.
وبمجرد أن انتهت تلك الحرب استؤنفت المفاوضات، ولكن الباب العالي رأى من جديد أن في ذلك افتياتًا على حقوقه فما كان لبلد تابع أن يجعل له تشريعًا خاصًا فانضمت الدول إلى إسماعيل ووزيره اللذين ذهبا للآستانة لتسكين روع السلطان وتهدئة نفسه حتى تم ذلك في أغسطس سنة 1871.
ولما عقدت اللجنة من جديد في يناير وفبراير سنة 1872 حاول نوبار أن يتوصل إلى موافقتها على جعل المحاكم الجديدة مختصة في المسائل الجنائية فما أصغت إليه اللجنة وقصرت مهمتها على بحث الضمانات التي تعطيها الحكومة المصرية لتخويل تلك المحاكم حق الفصل في الجنايات والجنح التي تقع على القضاة ورجال القضاء أثناء تأدية وظائفهم أو بسبب تأديتها أو ضد تنفيذ الأحكام وكذلك الجرائم التي تقع من القضاة أو موظفي المحاكم أثناء تأدية وظائفهم وفي العقوبات التي تترتب على ذلك.
وعندما انتهت اللجنة من جلساتها وتقديم تقريرها كاد الاتفاق يتم مع الدول لولا أن دولتي الروسيا والنمسا أظهرتا استعدادًا لسحب بعض ما تم عليه الاتفاق وكان ذلك مطابقًا لميول بعض الدول الأخرى وخصوصًا فرنسا التي كانت مستعدة للسير في ذلك الطريق ولكن هاتين الدولتين عدلتا عن ميلهما الأول.
وفي مايو سنة 1874 صدقت النمسا على مشروع المعاهدة وتبعتها الدول الأخرى.
أما فرنسا فعادت إلى ترددها وعقدت لجنة جديدة في سنة 1875 فرأت تلك اللجنة: (أن رفض فرنسا وحدها الموافقة على تلك الإصلاحات ليس من شأنه تأجيلها أو تأخير تنفيذها ولذلك فلا مندوحة عن البت في الأمر فأما رفض مع ما يترتب عليه من نتائج لا محيص عنها من شعور مصر بالاستياء منها ومن الانفراد بين رعايا الدول الأخرى التي تتوق للحلول محلنا وأما قبول يحفظ علاقتنا المتوارثة بمصر فإن هذه العلاقات هي التي تجعل لنا دون قوة الجيوش السلطان والأمن في بلاد الشرق.
(أما الرفض فيحرمنا من كل وسيلة لمعالجة الحال فيما بعد إذا تأثرت مصالحنا من جراء تطبيق القوانين الجديدة وأما القبول ففضلاً عن كونه مقيدًا بخمس سنين فإنه يجعل لنا إشرافًا على النظام الجديد).
ولكن المشروع عندما عرض على مجلس نواب فرنسا كاد يسقط رغم تأييد الحكومة له ولولا أن الخديوي إسماعيل أحس القوة من نفسه بسبب مصادقة جميع الدول الأخرى وخاصةً ألمانيا وإنجلترا والنمسا والمجر وإيطاليا والروسيا فافتتح رسميًا المحاكم المختلطة بحضور قضاتها المصريين والأجانب المعينين طبقًا للمعاهدات المتفق عليها فكانت جميع الدول ممثلة عدا فرنسا فظهر لها أن الأمر تم من غيرها وضد رغبتها لما صادقت على المشروع، أما المحاكم المختلطة فشرعت في تولي أعمالها في فبراير سنة 1876.
كلمة ختامية
حالة المحاكم المختلطة وطرق الإصلاح الواجب اتباعها
تلك هي التطورات التي مرت على القطر المصري في القرن الماضي ولقد بينا إلى أي درجة اتسعت فكرة الامتيازات الأجنبية وكيف توصلت الحكومة إلى إنشاء المحاكم المختلطة وما هي المفاوضات الشاقة والأدوار الخطيرة التي مرت قبل المصادقة على إنشاء تلك المحاكم، وكيف أنها احتاجت إلى كثير من المجهودات ومن الدهاء للوصول إليها، وها هي الآن بعد أن مضى عليها خمسون عامًا صارت أقوى سلطة قضائية في البلاد، فقضاؤها هو الأخير دائمًا، وهي وحدها التي تضمن تنفيذ أحكامها واحترام قضائها فلا تمتد سلطة ما إليه غير سلطتها، وهي وحدها التي إن رأت اعتداءً على ما تراه من حقوقها أو من حقوق الأجانب تستطيع أن ترد ذلك الاعتداء وتستطيع أن تجعل كل الأحكام الأخرى في حيز العدم.
لذلك كان من حق المصري أن ينظر بعين القلق إلى ذلك التطور السياسي الذي لازم انحلال الدولة العليا فكانت تنتزع الولايات التابعة لها واحدة بعد الأخرى وكانت تتولى عليها البلاد الأوروبية فتنتزعها تبعًا من قضاء البلاد الطبيعي وهو المحاكم الأهلية، فمراكش وتونس وطرابلس وسوريا والعراق وفلسطين وغيرها كلها تخرج واحدة بعد الأخرى من القضاء الأهلي إلى القضاء المختلط، وبها يزداد نفوذ تلك المحاكم الدولية بقدر ما يضيق نفوذ محاكم البلاد العادية.
ومما يجعل لهذا التطور صفة خاصة ما بين هذه البلاد ومصر من اتحاد في العادات واللغة والدين مما يجعل سكان هذه الممالك أقرب في قضائهم إلى المحاكم الأهلية، زد على ذلك أن ما تنظر به تلك البلاد إلى مصر من أنها المقدمة بينها وصاحبة القدرة فيها يجعل من غير الطبيعي أن يطلب أهلها من مصر ضمانات ليست لأهلها وحقوقًا كان من أهم أسبابها على ما قدمنا انحطاط أساليب الحكم في مصر عن البلاد الأوروبية.
أضف إلى ذلك أن هذا من شأنه تقوية الامتيازات وتوسيع نطاقها وقت نهضت فيه البلاد الأخرى وخاصة تركيا لمحاربتها.
ولقد كنا نعتقد أن إنشاء المحاكم المختلطة وضع حدًا لفوضى النظم القضائية في مصر ولكن الحالة التي نشأت عن انحلال الدولة العليا مما يوجب علينا اليقظة حتى لا نضع كل يوم قيدًا جديدًا على سلطاننا.
وأنه لمن المؤلم أن نرى تلك النظم بعد خمسين عامًا لا تكاد تتزحزح عما كانت عليه في سنة 1876 ولولا أن الدول صادقت منذ سنة 1911 على تعديل المادة (12) من القانون المدني التي جعل بمقتضاها حق تعديل القوانين من اختصاص الجمعية العمومية مشكلة تشكيلاً خاصًا لما كان الإنسان يشعر أن هناك تغييرًا في نظام المحاكم المختلطة أو أن مصر تقدمت في طريق تقرير سيادتها خطوة واحدة.
حقًا أنه لا يسع من عرف المحاكم المختلطة وشاهد ما هي عليه من الدقة في أعمالها ومن حسن النظام وأداء الواجب إلا أن يقر بأنها نموذج راقٍ مما يجب أن يكون عليه القضاء في أي بلد من البلاد.
ولئن كان يدهشك شيء من رجال القضاء المختلط فهو ما تجدهم عليه من الدأب على العمل وحب النظام والبحث والتنقيب الدائمين، يكفي أن يطلع الإنسان على ملفات القضايا بتلك المحاكم ليقتنع بما تسير عليه من التدقيق في العمل إذ يجد فيها جميعًا مذكرات من كل من الجانبين تبين بالتفصيل وجهة نظر كل خصم والأدلة التي يستند عليها فيدرسها القاضي ويقرؤها بالتفصيل قبل أن يعرض ما فيها على زملائه للمداولة فلا يصدر الحكم إلا بعد فحص كل ما لدى الخصوم من أدلة قانونية وغير قانونية، وهذا وحده كافٍ لأن يشغل كل وقت القاضي وفضلاً عن ذلك فإن رؤساء الجلسات يقومون بنصيب أكبر من زملائهم ولذلك فإن مهمتهم شاقة تحتاج إلى الخبرة الواسعة والنشاط المستمر، إذ أن كل رئيس يراجع ملفات القضايا قبل الجلسة ويسبق زملاءه إلى المحكمة في اليوم المحدد للجلوس ليجرد الرول ويحجز القضايا المعدة للمرافعة قبل حضور زملائه، وعندما يتم إعداد القضايا الصالحة للمرافعة ويخرج إلى زملائه يعود إلى الجلسة معهم فتبدأ المرافعات ومع أن عمل الرؤساء يزيد كثيرًا عن عمل الأعضاء فالكل يتناول مرتبًا واحدًا يستوي في ذلك الرئيس والعضو الأجنبي فإنك تجد كل من يأنس في نفسه الجدارة يجد ويجتهد ليظهر كفاءته وامتيازه ويسعى لينال ثقة إخوانه لينتخبوه رئيسًا وهو انتخاب يتجدد كل سنة عندما تنعقد الجمعية العمومية في محكمة الاستئناف لترتيب الأعمال.
ومما يجدر ذكره بالإعجاب أن هذا الانتخاب لا يتقيد بالأقدم ولكنه يصيب الأكفاء، كل ذلك من غير أن تجد واحدًا يخرج عن واجبات الزمالة أو لا يؤدي للرئيس حقه بحيث يكاد الإنسان يعتقد أن عقيدة الواجب حلت عند المستشارين والقضاة محل كل اعتبار آخر.
وهذا القول نفسه يصدق على رئيس المحكمة ووكيلها اللذين ينتخبان من بين زملائهم وبمحض رغبتهم وفي هذا المضمار يستوي الجميع لا فضل لواحد منم على الآخر إلا بالعلم والجدارة ما دام أجنبيًا، أما إذا كان مصريًا فإنه بحكم مصريته مبعد عن هذا الأمل، وهو بحكم جنسيته أقل مرتبًا كذلك وهذه وإن كانت مسألة يجب أن تكون ثانوية إلا أنه بينما تجد المستشار الأجنبي يتناول أعلى مرتب يصبو إليه في الحكومة المصرية، (وبذلك فهو يتفرغ إلى عمله ولا يمكن أن يفكر في تغييره) إذا بالمستشار المصري يجد الكثير من الوظائف أعلى مرتبًا منه ولذلك رأينا بعض المستشارين بمحكمة الاستئناف ترك وظيفته ليكون مستشارًا ملكيًا أو وكيل وزارة وهذا لا يتفق مع ما يجب على الحكومة توخيه من جعل القضاء ثابتًا ليتفرغ رجاله لعملهم دون نظر لسواه.
ولكن مهما يكن تقديرنا لما عليه المحاكم المختلطة من حسن النظام وضمان العدالة فإن ذلك يجب أن لا ينسينا حقوقنا القومية ومطمحنا الأسمى وهو تحقيق استقلالنا في جميع مظاهر الحياة حتى نرفع الوطن في كل أطوار حياته إلى مستوى الأمم الراقية، ولذلك يتعين علينا البحث في طرق الإصلاح الواجب الأخذ بها، ففريق منا يرى طريق ذلك إلغاء المحاكم المختلطة وجعل اختصاصها للمحاكم الأهلية.
وفريق يرى توسيع اختصاص المحاكم المختلطة بحيث يشمل جميع الجرائم التي تقع من الأجانب وذلك تمهيدًا للوصول إلى الغاية القصوى وهي جعل قضاء البلاد عامًا لجميع سكانها.
فأما الفريق الأول فهو يعبر عن شعور كل مصري وعن الأمل الذي تنطوي عليه العزة القومية والكرامة الوطنية، وأنه لما يؤلم النفس أن نرى سلطان الدول يمتد في كثير من البلاد حتى السودان على جميع سكانها إلا في مصر.
ولكن لا يكفي أن يكون هذا أملنا حتى يتحقق بل يجب أن نعمل على تحقيقه من الطريق الصحيح ولئن كنا أطلنا البحث في تاريخ المفاوضات فلأننا نرى من الواجب لتقدير مركزنا إزاء الأجانب أن نعرف كيف ينظرون من جانبهم إلى حالتنا وما هي مواضع النقد والشكوى التي يوجهونها إلينا وإلى أنظمتنا، فإذا ما وصلنا إلى معرفة ذلك على وجهه الصحيح أمكننا أن نتوصل إلى معرفة السبيل الذي يمكن ولوجه لنيل أمانينا وأول شيء يبدو لنا هو أن في تشريع المحاكم المختلطة عيوبًا لا يمكن أن نصل إلى تحقيق غايتنا إلا إذا عالجها أولاً، لقد رأينا أنه عند إنشاء المحاكم المختلطة كان يكفي أن يكون نظام ما موضع مظنة لنفوذ المصري (أو ابن العرب كما هو تعبير بعض التقارير) حتى يكون ذلك سببًا في سقوط هذا النظام، فالحجة التي قدمت بكل صراحة ضد تشكيل المحاكم الابتدائية من ثلاثة قضاة هي أن القاضيين الأوروبيين إذا اختلفا كان الترجيح لرأي المصري، ولكن والحمد لله أنقص عدد القضاة إلى ثلاثة منذ الحرب العالمية ولم يشك أحد من سوء بسبب ما خشيته اللجنة، كذلك كان المشروع الفرنسوي يقضي بجعل الأحكام تصدر في محكمة الاستئناف من سبعة مستشارين لا يكون للمصريين فيهم سوى اثنين ولكن انتهى الأمر إلى جعل الجلسة تشكل من ثماني مستشارين خمسة منهم من الأوربيين ولكن نص بجانب ذلك على أنه في حالة انقسام الآراء يرجع الجانب الذي يكون فيه العدد الأكبر من الأوروبيين (انظر المادة (109) من اللائحة العامة R. G)، ومن حسن الحظ أن زال هذا الفارق كذلك بجعل عدد المستشارين الذين تصدر منهم الأحكام خمسة.
وفضلاً عما تقدم فإن نظام تلك المحاكم عندما جعل رئاسة الشرف لمصري أوجب أن لا يكون لهذا الرئيس حق في ترأس الجلسات ولا تولي الأعمال الإدارية، وأن تقتصر رئاسته على التقدم في التشريفات وافتتاح الجمعية العمومية أما الوكيل ونائب الوكيل فقضى النظام بأن تنتخبها الجمعية العمومية بمحكمة الاستئناف المختلطة غير مقيدة في اختيارهما بأي شرط إلا بشيء واحد هو أن يكون المنتخب أجنبيًا لا مصريًا، أما المصري فيحرم عليه أن يكون وكيلاً أو نائب وكيل ولا يجوز له أن يتولى الرئاسة في العمل مهما كانت ثقة زملائه به ولو أجمعوا على انتخابه.
ومهما أراد الإنسان أن يتصور إيلامًا لعزة النفس أو امتهانًا لحقوق الوطنية المصرية فلن يجد أبلغ من هذا النص، فمن واجب الحكومة المصرية ورجال القضاء أن يسعوا إلى إلغائه، فإنه ما دام موجودًا يجعل الأجانب ينظرون إلى حقوقهم بمنظاره، ويتعودون على أن يروا في تلك الرئاسة ضمانًا لحقوقهم، أما إذا تعودوا أن يروا المصريين متولين لتلك الرئاسات وعرفوا أن العدالة بين أيديهم مصابة وأن المصري يعدل زميله الأجنبي كفاءة واستقلالاً كان ذلك مدعاة للثقة بالمصريين ودافعًا لاحترامهم ومبددًا لما يشعر به الأجنبي من الغضاضة في وضع حقوقه بين يديهم فيسهل بعد ذلك البحث في جعل القضاء بالنسبة للأجانب مصريًا لا دوليًا، وإذا كانت الحكومة قد استطاعت في سنة 1911 أن تجعل للجمعية العمومية حق التشريع بشرط مصادقة ثلثي أعضائها وهذا الحق مما يجعل من المحتمل مع وجود ستة من المصريين بتلك الجمعية أن ينفذ تعديل القوانين رغم كون نصف الأجانب لا يوافقون عليه مع أنه كان يكفي أن تعارض في القانون دولة واحدة ليتعطل العمل به فهل تأبى الدول وقد تنازلت عن حق التشريع إلى هذا الحد أن تسمح للمصريين أن يكون لهم حق تولي الوكالة أو الرئاسة مع الأجانب إذا وثقت بهم أغلبية الجمعية العمومية ؟
ولقد تبع اشتراط أن يكون الوكيل ونائبه أجنبيين إن تركت في العمل رئاسة الجلسات للأجانب وكذلك القضاء الجزئي.
وحدث مرة في محكمة المنصورة أن انتخب أحد قضاتها المصريين للقيام بعمل القاضي الجزئي فأبت الجمعية العمومية في محكمة الاستئناف الموافقة على هذا الاختيار، وهذه صعوبات تزول كلها طبعًا بإدخال التعديل الذي نشير إليه.
وأنه من الواجب إذا ما تنبهت الحكومة لذلك أن تعيد رئاسة الشرف التي كانت موجودة قبل اشتعال نار الحرب العالمية الأخيرة حتى يكون ذلك رمزًا لأن المحاكم المصرية وأن تترك الوكالة ونيابة الوكالة بالانتخاب تصيب من يراه زملاؤه أهلاً لها سواء كان مصريًا أو أجنبيًا.
ومن الغريب أن روح إهمال الحكومة شأن المصري في المحاكم المختلطة جعل الكثيرين يعتقدون باستحالة أن يكون للمصريين نصيب صحيح فيها، حتى أنك تجد الحكومة نفسها عندما رأت منذ سنتين فقط أن أحد رؤساء المحاكم الابتدائية الأهلية غير قادر على العمل لاعتلال صحته عينته قاضيًا في المحاكم المختلطة فاحتج هو حفظًا لكرامته واستقال، ومثل هذا التصرف يدل على مقدار فهم الحكومة مهمة القاضي المصري في المحاكم المختلطة وهو فهم لا يقتصر ضرره على فرد أو أفراد بل يتناول الأمة كافة لأن للأجنبي العذر إذا اعتقد أن الأمة المصرية لا يمكنها أن تخلق عناصر أكفأ من التي يراها بجانبه فيثبت في نفسه الاعتقاد بتفوقه وبعدم إمكان مناظرة المصري له.
تفعل حكومتنا هذا بينما نرى بعض الحكومات الأجنبية تدقق في انتخاب القضاة الذين يمثلونها، لأنها تعلم أن ذلك يرفع من شأنها ويعلي قدرها ويجعلها منظورة بعين الاحترام أما نحن الذين نحتاج لاختيار أحسن العناصر فينا وأقواها حتى يكون لنا من كفاءتنا ومقدرتنا معادل لقلتنا ولضعفنا وللمزايا التي يتمتع بها الأجنبي إزاءنا فإننا نهمل الأمر ونتركه للصدفة حتى كان من نتائج ذلك أنه عندما اقترح في سنة 1912 وسنة 1913 إنقاص عدد المستشارين الذين تصدر منهم الأحكام إلى خمسة رأينا محكمة الاستئناف تقول صراحةً ومن غير مواربة أنني أرى أن يكون عدد المستشارين ستة حتى يكون بينهم أربعة أوروبيون فنضمن بذلك إنجاز الأعمال، ومع ذلك كان المستشارون الموجودون حينذاك لا يرون ذلك طبيعيًا فهل بعد ذلك يحق لنا أن نطلب من الأجنبي أن ينظر إلينا بغير العين التي تنظر بها إلينا الحكومة نفسها.
ولكن لحسن الصدف زالت تلك الحالة أيضًا، وأخيرًا قررت الجمعية العمومية أنه يجب التسوية بين الأوروبيين والمصريين في المرتبات لأن الكل يؤدون عملاً واحدًا فيتعين علينا وعلى حكومتنا ألا نجعل مركزنا في تلك المحاكم وبالتالي في نظر الأجانب خاضعًا لمحض الصدفة بل يتعين علينا أن نحافظ عليه ونسعى إلى إعلاء شأنه حتى يكون ذلك سبيل الإصلاح كما قدمنا.
ومن الغريب أننا في الوقت الذي نرى فيه لمصر ممثلين في البلاد الأوروبية ليرفعوا اسم مصر نرى في صميم نظاماتنا وقوانيننا ما يشعر بانحطاط المصري، فجميع النظم والقوانين لا تذكر لفظ مصري ولكن تذكر لفظ أهالي indigéne.
فيقال (المحاكم الأهلية) والخصومات مع (الأهالي) ويقال في تشكيل المحاكم المختلطة إنها تشكل من قضاة أجانب وقضاة وطنيين indigéne إلى غير ذلك ولو دقق الإنسان في هذا التعبير لوجده وليد الاستعمار، فالدول المستعمرة تأبى شرف الجنسية للدول التي تدين لها بالسلطان فتسميها (بالأهالي) فهل نرفع من شأننا في الخارج بينما أننا ندمغ أنفسنا بطابع الخضوع والخنوع في الداخل، أليس ذلك مما يقتضي التعديل العاجل، وهل يلام الأجنبي إذا لم يعطَ المصري حقوقًا أكثر من التي يحتملها الوصف الذي يختاره لنفسه في كل مظاهر حياته ؟
هذا من جانب النظام والشكل الخاصين بالمحاكم المختلطة ولكن من الجهة الأخرى يجب أن يوجد في المحاكم الأهلية من الضمان ما هو موجود في المحاكم المختلطة، فمهما قلنا بكفاءة المصري واستقلاله ومساواته للأوروبي فإنه يجب لإمكان المقارنة بين نظامين أن يكون لكل منهما نفس الضمانات، فعدم قابلية العزل وعدم إمكان التدخل الإداري، وجعل الترقية في يد المحكمة العليا وغير ذلك من النظم الموجودة في القضاء المختلط يجب أن يتمتع به القضاء الأهلي ليكون له المستوى الذي يرضى به الأجنبي في قضائه.
وأخيرًا أود أن أوجه كلمة إلى حضرات المحامين المصريين الذين هجروا المحاماة المختلطة هجرًا فلا تكاد تجد المصري فيها إلا نادرًا ولست أجرح أحدًا إذا قلت إن ذلك يجعل الأجنبي يعتقد أن هذا الهجر إنما نشأ من عدم قدرة المصري على ولوج باب المحاكم المختلطة وهي عقيدة ضارة يجب علينا إزالتها من طريق العمل ومن طريق وجودنا في هذا الوسط وإثبات أننا قادرون على العمل فيه، ولا ريب أن الطريق لذلك إنما يكون من طريق الاشتغال أمام المحاكم المختلطة، فإن فيها المركز الأدبي والمادي الذي يرفع رأس المصري الكفء ولو راجعنا أسماء بعض المصريين لوجدناهم مثلاً يجب الاقتداء به، فالإقدام والإخلاص في العمل كفيلان بأن يجعلا لنا في هذا المعهد الدولي العظيم المركز الذي يتفق ومطامحنا وبذلك نخطو الخطوة الصحيحة نحو جعل أنظمتنا مصرية اسمًا ومعنى.