الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 ديسمبر 2021

حكم الاتفاقات المتعلقة بالأموال في حق الخلف بسبب خاص حامد فهمي المحامي

مجلة المحاماة - العددان الرابع والخامس
السنة الثامنة - يناير وفبراير سنة 1928

حكم الاتفاقات المتعلقة بالأموال
في حق الخلف بسبب خاص
نظرية الاستخلاف على الحقوق والالتزامات ونظرية نقلها

1 - الخلف من يعقب غيره برضائه أو بحكم القانون في كل حقوقه أو بعضها ليكون له حق مباشرتها بنفسه وباسمه، فمن اكتسب ملكًا بوضع اليد المدة الطويلة لا يعتبر خليفة من تركه، ومن عاد إليه ملكه بحكم الرجوع أو الإبطال أو الفسخ، ومن سقط عن ملكه ما كان مقررًا عليه من التكاليف والحقوق العينية، لا يعتبر خليفة من كان المال في يده أو من كان صاحب تلك التكاليف والحقوق.
2 - وقد يكون الخلف خلفًا من كل وجه كالوارث يخلف مورثه في تركته ويسمونه الخلف بسبب عام، وليس هو مقصودنا من هذا المقال، وقد يكون خلفًا من وجه كالمشتري يخلف بائعه فيما ابتاع، وكالمستأجر يخلف مؤجره فيما استأجر، وكالمحتال يخلف محيله فيما احتال به ويسمونه الخلف بسبب خاص.
3 - والأصل أن الحقوق والالتزامات العينية، أصلية كانت أو تبعية، تنتقل للخلف بسبب خاص وفق الأحكام المعروفة في القانون المدني وقانون التسجيل - وأن الحقوق الشخصية والديون باعتبارها حقوقًا يمكن نقلها - إلا ما استُثني منها - بالطرق والأوضاع المعروفة، سواء أكانت مطلقة من الشرط أو الأجل أم مؤجلة أو معلقة على شرط موقف أو فاسخ: كحق مالك العقار المؤمن عليه فيما يستحقه من التعويض قبل تلفه، وحق المؤلف في عوض ما التزم تأليفه قبل وضعه، وسواء أكان الحق من النقود أم لا: كحق المستأجر في الإجارة وكالنفقة الحاصلة للدائن من التزام مدينه بعملٍ ما أو بعدم عمله، وكحق صاحب المسرح يستأجر ممثلاً يلتزم له عدم العمل في مسرح آخر.
وأما الالتزامات فالأصل فيها أن لا تقبل التحويل في الفقه الإسلامي والفرنسي والمصري، لأن الأشخاص متغايرة، والذمم متفاوتة، ولو سمح للمدين بإرغام دائنه على قبول حميل عنه، لصرف الدين عن نفسه إلى آخر ممن لا ذمة له، وفي ذلك من الضرر بالدائن ما لا يخفى.
4 - والاتفاقات التي أقصد بيان أحكام نفاذها وعدمه في حق الخلف الخاص، هي التي ينشئ بها العاقد حقًا أو التزامًا يتعلق بالمال قبل نقله للخلف. مثال ذلك: تاجران يتجران بالمنسوجات القطنية في بلد، فيلتزم أحدهما للآخر بالكف عن التجارة فيه، ثم يبيع من له الالتزام محل تجارته، فهل يخلفه المشتري في إنفاذ هذا الالتزام أم لا؟
مثال آخر: مالك ممر خاص أذن لجاره أن يفتح عليه بابًا أو منافذ على أن يكون له متى شاء حق مطالبته بسدها بعد التنبيه عليه، ثم باع الجار المنزل بحالته التي هو عليها، فهل للآذن وخلفائه حق إلزام المأذون له ومن يخلفه بسد الباب أو المنافذ، أم لا؟

1 - القانون الفرنسي وفقهه وقضاؤه

5 - النص القانوني وغموضه: جاء بالمادة (1122) من القانون المدني الفرنسي أن الشخص يعتبر عاقدًا لنفسه وورثته وخلفائه ما لم يشترط في العقد أو يستفاد من طبيعته خلاف ذلك

on est censé avoir stipulé pour soi et pour ses heritiers et ayants cause, â moins que le contraire ne soit exprimé ou ne resulte de la nature de la convention

وظاهر هذا النص يقتضي التسوية بين الورثة والخلفاء، في حكم الاستخلاف على الحقوق والواجبات، ولكن الشراح مجمعون على التفرقة بين حكم الوارث والخلف الخاص، وبين حكم الاستخلاف على الحقوق وحكمه في الواجبات، فيرون بصفة عامة استخلاف المورث لوارثه على الحقوق والواجبات، ولا يرونه للخلف الخاص إلا على الحقوق، عدا ما استثني منها، ومع إجماعهم على هذا الأصل اختلفوا في تأويلها: فمنهم من اعتبر لفظ stipuler بمعنى contracter أي (تقبل الدين ملتزمًا به لغيره أو وليه لنفسه ملزمًا به غيره)، وحمل لفظ (الخلفاء) على معنى (الخليفة بسبب عام) لتستقيم له خلافة الوارث والخلف العام في الحقوق والواجبات، وليستبقي حكم الخلف الخاص فيستفيده من القواعد العامة [(1)].
ومنهم من صرف لفظ stipuler إلى معنى devenir créancier par uné convention أي ولي الدين ملزمًا به غيره، واعتبر لفظ الخلفاء بمعناه المطلق فاستقام له حكم التسوية بين الوارث والخلف الخاص في الحقوق واستبقى حكم الاستخلاف على الواجبات ليستفيده من نصوص أخرى ومن القواعد العامة.
وقد بلغ من شأن هذا الخلاف أن بعضهم ذهب إلى القول بعدم فائدة المادة (1122) مستنبطًا حكم الخلافة على الحقوق والواجبات من القواعد العامة [(2)].
حكم الاستخلاف على الحقوق في الفقه الفرنسي
6 - يحسن بنا تسهيلاً لدرس المسألة تقسيم الاتفاقات إلى الأقسام الآتية:
1/ الاتفاقات التي انتقل بها المال إلى المستخلف - كالبائع أو المؤجر... إلخ.
2/ الاتفاقات المنشئة حقًا عينيًا لمنفعة ذلك المال الحاصل فيه التصرف.
3/ الاتفاقات المنشئة حقوقًا شخصية اتصلت بالمال وجرت منه مجرى الأوصاف والتوابع.
4/ الاتفاقات المنشئة حقوقًا شخصية تعلقت بالمال ولكنها منفكة عنه لم تجرِ منه مجرى الأوصاف والملحقات.
7 - والظاهر أن حكم الاستخلاف في الأقسام الثلاثة الأولى لا يحتاج إلى نص، فاتفاقات النوع الأول ترد مثبتة لحقوق المستخلف واتفاقات النوع الثاني والثالث قد ألحق القانون الحقوق فيها بالمال وأجاز نقلها معه فيما وضعه من أحكام التوابع في باب البيع والوصية، ولهذا كان لمشتري العقار الحق فيما كسبه البائع للمبيع من حقوق الارتفاق، ولمشتري الدين الحق في مطالبة من كفله للبائع، وللمشتري من مشترٍ الحق في تضمين بائع البائع له مباشرةً [(3)] وكل هؤلاء لهم هذه الحقوق بحكم القانون، بغير حاجة إلى ذكر نقلها في العقد الناقل للمال.
8 - أما اتفاقات النوع الرابع - الشاملة لكل اتفاق ينشئ حقًا شخصيًا لا ينتفع به إلا من بيده المال، ولم يجرِ العرف مع ذلك باعتباره من ملحقاته الضرورية - فهي محل النظر ومجرى الخلاف. افرض أن رجلاً من رجال الأعمال أراد إقامة مصنع لتوليد الكهرباء في بلد، فابتاع من أحد ملاك أراضيه ما لزم منها لمصنعه، والتزم لبائعه بتقديم ما يحتاجه لباقي أرضه من السيال الكهربائي بنصف ما يقدمه لأهل البلد، وافرض أن شخصية بائع الأرض لم تكن ملحوظة في هذا الاتفاق، بل افرض أن صاحب المصنع قد التزم بذلك لبائعه ولخلفائه، فهل يكون لمن خرج له مالك الأرض عما بقي منها إلزام صاحب المصنع بنفاذ هذا الالتزام؟
9 - يظهر من أقوال الشراح أنه إذا تضمن العقد الناقل للمال في مثل تلك الصورة، نقل هذه الميزة، كان للمنقول له الحق فيها بغير شبهة، أما إذا خلا من ذكر نقلها فالمسألة خلافية عندهم، إذ يرى جمهور الفقهاء إعمال نص المادة (1122) بتقرير الخلافة في جميع الحقوق والدعاوى المتعلقة بالمال ما لم يشمل الاتفاق أو يدل بطبيعته على خلاف ذلك، ويقولون إن الشارع قد لاحظ ضرورة، أن لا مصلحة للعاقد في استبقاء هذه الحقوق معطلة في يده بعد خروج المال عن ملكه والغالب عليه أن ينقلها لخليفته تبعًا للمال الذي نقل ملكيته له.
ولهذا كان حكم الاستخلاف عندهم جاريًا على نية المتعاقدين، يقدرونها دائمًا، إلا إذا اشتمل الاتفاق على خلاف ذلك.
ويقولون حسب من يرى عدم الحاجة إلى نص المادة (1122) إنها تزيل في هذه الصورة، ما ينزل بصدر الفقيه من الحيرة: لا يعرف أينقل الحق إلى خليفة العاقد، وهو لم يلغِ بعد مرتبة ما يجري من المال مجرى الأوصاف والتوابع، أم لا، وإذا انتقل فلا يفقه كيف وقع الحكم، أعلى تنازل ضمني يصطنعه، والشارع وحده هو الذي يضع التقديرات الشرعية، فيقدر بها الموجود معدومًا والمعدوم موجودًا [(4)].
10 - ويسير على القاضي أن يأخذ بهذا المذهب فيحكم بالخلافة ما لم يتبين له من ظروف الاتفاق ونية المتعاقدين أن العاقد الأصلي ما كان يقصد كسب تلك الميزة لخلفائه، أو قصد عدم انتقالها لهم مع المال فيحكم إذن بعدم الخلافة فيها.
11 - ويرى المخالفون عدم خلافة الخلف الخاص في الحقوق والدعاوى التي لم تجرِ من المال مجرى التوابع والأوصاف [(5)].
وحجتهم أن المنقول له المال، لم يباشر بنفسه عقد الاتفاق المنشئ لهذه الحقوق، ولا يصح في النظر أن تنتقل إليه انتقالاً آليًا لمجرد انتقال المال، لأنها لم تجرِ منه مجرى التابع من أصله، ويقول بودري إن مذهب مخالفيه يقوم على مظنة انتحلوها للمادة (1122)، وهي نية المتعاقدين والمادة لا تصلح لتقريرها قانونًا، لأنها غير صريحة في إفادة هذه المظنة ولاضطراب الفقهاء في تأويلها واتفاقهم على عدم استخلاف الخلف الخاص على الواجبات [(6)].

مذهب القضاء الفرنسي

12 - وقد أخذ القضاء الفرنسي بمذهب الجمهور في بيوع محل التجارة، فقضى بأحقية المشتري في الاحتجاج على من باع لبائعه، بما التزم له من الكف عن الاشتغال بالتجارة في نفس البلد وبعين الصنف، ولو لم يرد في عقد شرائه ذكر لهذا الالتزام، مستندًا في كثير من أحكامه على المادة (1122)، وفي القليل منها، على حق المشتري الأخير في تضمين البائع لبائعه، نزولاً على حكم الضمان في البيع [(7)].
13 - وقد قضى بالاستخلاف، إذا كان التزام الكف عن التجارة أو الصناعة لم يجب بحكم الضمان في البيع، في الحادثة الآتية:
التزم مدير مصنع حلوى في بلد لصاحبه، بعدم الاشتغال في غيره ما دام مصنعه قائمًا، ثم بيع المصنع، وتنازع الملتزم مع مشتريه على إنفاذ الالتزام، فحكمت محكمة ليل بحكمها المؤرخ 23 سبتمبر سنة 64 بتنفيذه آخذةً بخلافة المشتري للبائع عملاً بنص المادة (1122)، وحكمت محكمة النقض برفض الطعن المقدم عنه في 5 يوليه سنة 65 [(8)].
14 - وجرى البحث في حكم الاستخلاف على الحقوق المستفادة بعقود التأمين من الحريق، عند طروئه على ملك الخلف، فأجمعوا على أن لا حق للبائع في التعويض، لأن المقصود من العقد ضمان التلف، وقد خرج البائع عن ملكه سليمًا لم ينتقص عليه من ثمنه شيء، أما حق المشتري في التعويض فقد قال به المتقدمون كديمولان وديسيبسيس وفقهاء النصف الأول من القرن الماضي كبردوسو وألوزت وبعض فقهاء هذا القرن [(9)] كما أخذت به بعض القوانين الحديثة كالقانون الإيطالي (المادة 422) والقانون السويسري للتأمين الصادر في سنة 1908 (مادة 54) وجرت عليه أيضًا بعض المحاكم الفرنسية والبلجيكية [(10)] إما على تقدير أن المؤمن قد عقد التأمين لنفسه ولخلفائه كنص المادة (1122)، وإما على اعتبار أن الحق في التأمين نزل من العقار منزلة التابع فانتقل معه عملاً بالمادة (1615)، وإما على حكم التنازل الضمني مستفادًا من استكشاف نية المتعاقدين، والظاهر مع ذلك أن المحاكم الفرنسية قضت كثيرًا منذ النصف الأخير من القرن الماضي بعدم خلافة المشتري في التأمين ولو صرح العقد بنقله إليه، لاعتبارها العقد متعلقًا بشخصية المؤمن وحرصه على سلامة أملاكه من الخطر [(11)].
15 - أما الآن - وشركات التأمين تشترط على المؤمن انفساخ عقده بالبيع، إلا إذا قبل المشتري الالتزام بالمضي فيه قائمًا مقام البائع، بتقرير يقدمه في أجل قصير، وظلت عقود البيع وقائمة شروط المزاد الجبري، تنص على التزام المشتري بالاستمرار على التأمين - فقد أصبح البحث في حكم الاستخلاف على هذه العقود غير مفيد من الوجهة العملية.
16 - هذا ولم نرَ للقضاء الفرنسي أحكامًا في غير الاتفاقات المتعلقة بالمزاحمة التجارية والصناعية وبالتأمين، ولا يغرنك ما يستشهد به بعضهم من الأحكام، كالتي صدرت بأن لا حق للمشتري في التعويض المترتب على غصب الملك أو التعدي على منافعه قبل الشراء، لأن الحق في الضمان مرتب فيها على جنحة أو شبه جنحة، وكلامنا في الاتفاقات التي تزيد أو تنقص من قيمته أو في وجه الانتفاع به، والفرق بين الحالين ظاهر.
17 - وإنك لتشعر الآن بعد إيراد هذين المذهبين في الفقه والقضاء بأن سبب الخلاف هو نص المادة (1122)، فمن حاول أعماله متأولاً اعتبر الاستخلاف على الحقوق أصلاً لا يعدل عنه إلا إذا اشتمل الاتفاق أو دل بطبيعته على الرغبة في عدم الاستخلاف، ومن كره ما في هذه المادة من اضطراب، نزل على حكم القواعد العامة في اعتبار الخلف أجنبيًا عن العقد، وكان الأصل عنده عدم الاستخلاف لا يحيد عنه إلا إذا دل الاتفاق بطبيعته أو اشتمل على ما يخالف ذلك، ومن هذا نشأت نظرية الخلافة في الحقوق Théorie de la succession بجانب نظرية انتقالهاThéorie de la transmission عند من يرون إعمال نص المادة (1122).
18 - وإنك لتجد النظريتين تتمشيان معًا، حتى إذا بلغتا الحقوق الشخصية التي لم تجرِ من المال مجرى الأوصاف والتوابع، وقفت نظرية النقل تتعرف هل أصبحت هذه الحقوق بما ينكشف لها من نية المتعاقدين تجري مجرى التوابع أم لا، فإن كانت كذلك نقلتها نقل نظرية الخلافة وإلا لم تنقلها وانفردت نظرية الخلافة بتقرير الاستخلاف فيها ما لم يدل الاتفاق بطبيعته أو بنية المتعاقدين على خلاف ذلك.
حكم الاستخلاف على الواجبات في الفقه الفرنسي وقضائه
19 - قد خلا القانون الفرنسي من نص صريح في حكم استخلاف الخلف الخاص على الالتزامات، فاستنبطه الفقهاء الآخذون بنص المادة (1122) من إعمال مفهوم المخالفة فيها، فصارت عندهم دالة بمنطوقها على الخلافة في الحقوق، وبهذا المفهوم على عدم الاستخلاف في الواجبات، أما من لم يروا الأخذ بهذه المادة، فقد استنبطوا عدم الاستخلاف على الواجبات من القواعد العامة، فقالوا إن المدين بالالتزام لا يستطيع تفريغ ذمته منه لمجرد تصرفه في العين التي تعلق بها، ولا يمكن أن تشغل به ذمة المشتري من انتقالها له، وإذا اقترن رضاء المشتري في العقد الناقل بالمال، بالرضاء عما التزمه البائع، وقع التزامه على حكم رضائه لا على حكم انتقال العين له، وقد يزيد بعضهم على ذلك فيقول إن الشارع الفرنسي قد أشار إلى عدم الخلافة في الالتزامات بنص المادة (871)، حيث لم يستخلف الموصى له بمال، على التزامات الموصي إلا ما تعلق منها بالوصية.
20 - وهذا ما يكاد الإجماع ينعقد عليه فقهًا وقضاءً: فجرى القضاء الفرنسي بعدم الاستخلاف على التزامات الكف عن العمل، وحكم بأنه إذا اتفق القصابون في بلد، على عدم فتح حوانيتهم بعد ظهر يوم الأحد من كل أسبوع، ثم باع أحدهم حانوته، لا يكون المشتري ملزمًا بما التزمه البائع وينفسخ الاتفاق في حق الكل بزوال سبب التزامهم [(12)]، وقد استشهد بهذا الحكم كابيتان في رسالته التي وضعها لنظرية السبب تأييدًا لما قرره من ضرورة بقاء سبب الالتزام بعد انعقاده، استبقاءً لدوامه - وكذلك حكمت محكمة النقض في 15 يناير سنة 1918 بنقض الحكم المطعون فيه في الحادثة الآتية: تعاقد اتحاد أصحاب المناجم مع اتحاد الفحامين فالتزم الاتحاد الأول بمنح العمال منحًا يومية على أجورهم، وتنازلت إحدى الشركات التابعة له عن امتيازها لأخرى رفضت الجري مع العمال على ما التزمه الاتحاد، فحكمت محكمة اتيان بنفاذ الالتزام على المشتري، وصرحت محكمة النقض عند نقضه بأن الخلف الخاص لا يخلف العاقد له قانونًا في التزاماته الشخصية ولو تعلقت بالمال الذي استخلفه عليه [(13)]، وحكمت محكمة النقض بنقض حكم محكمة روان التجارية، القاضي بإلزام المشتري جزافًا - للذمم المطلوبة لشركة حكم لتصفيتها - وبتسديد ديونها التي عليها، وقالت في حكمها المبرم أن لا نص في القانون ينقل إلى الخلف الخاص ما التزمه العاقد له من الالتزامات وأن الحيازة لمالٍ ما لا تنقل إلى ذمة الحائز ما تعلق به من التزام شخصي [(14)].
21 - وكذلك استمر القضاء الفرنسي على عدم إلزام مشتري محل التجارة بتسديد ديون البائع تجارية أو غير تجارية، حتى بعد صدور قانون 17 مارس سنة 1909 الخاص ببيع المحال التجارية - وهو أيضًا رأي جمهور الفقهاء [(15)].
22 - واستثنى أوبري ورو الالتزامات التي من شأنها أن تنقص أو تغير الحق المنقول أو تكون شرطًا ضروريًا له.

qui ont eu pour effet de restreindre ou de modifier le droit transmis ou qui forment la condition necessaire de son exercice. [(16)]

وكأني بك تشعر شعوري بعدم وضوح المعنى المراد من هذه الجملة، فالمال المنتقل إذا كان حقًا شخصيًا، لا يكون الالتزام، المنقص أو المغير له أو الذي نزل منه منزلة الشرط، إلا وصفًا من أوصافه ينتقل به، فإذا أبرأت ذمة الكفيل أو التزمت لمدينك بعدم المطالبة إلا بعد أجل، كان على المحتال بالدين، أن يفي لهما بما التزمت لانتقال الدين غير مكفول أو مقيدًا بأجل - والظاهر من الأمثلة الخمسة التي ذكرها الأستاذان الجليلان إيضاحًا لهذه القاعدة أنهما لا يقصدان منها إلا الحق العيني، وإن صح ذلك، فعسير أن نتصور تأثيرًا للالتزام الشخصي في حق عيني بنقص أو تغيير.
23 - نعم يجوز أن ينشئ عقد ما التزامًا شخصيًا، وأن يحدث في آنٍ واحد تنقيصًا أو تغييرًا في حقوق الملك الثابتة من قبل، كما إذا بعت جزءًا من ملكك، فلك أن تقول إن هذا العقد قد ألزمك ضمان ما بعت وأنقص ملكك الذي كان لك، ولا تستطيع مع ذلك أن تقول إن هذا الالتزام بالضمان هو الذي أحدث تغييرًا فيما كان لك من ملك قديم.
24 - والذي يتصور إمكانه، أن ينتزع صاحب الملك بعض حقوقه أو بعض منافعه فيقرر عليه حقوقًا عينية لغيره، يتحتم على الخلف الإذعان لها إذا استوفت عقودها شرائط الاحتجاج من ثبوت تاريخها رسميًا أو قيدها أو تسجيلها على ما هو معروف.
وإذا كان هذا المعنى هو مراد الأستاذين فما أحقهما أن يقولا إيضاحًا له (قد يجب على الخلف احترام الاتفاقات المنشئة لالتزامات عينية من شأنها أن تنقص حقوق الملك متى استوفت شرائط الاحتجاج بها من قيد وتسجيل [(17)].
25 - كذلك كان استثناء أوبري ورو الالتزامات التي تكون شرطًا ضروريًا لوجود الحق العيني، غير واضح. نعم قد تشتري عقارًا وتعلق فسخ عقده على تنفيذ التزامٍ ما، فإذا بعته لآخر وتحقق الشرط ونزل الجزاء على المشتري قُضي برد المبيع إلى البائع الأول، ولكن هذا الرد لا يقع على حكم أن المشتري الأخير أخلفك في التزام شخصي، وإنما على حكم أنه اشترى ملكًا معلقًا على شرط وقع، فاستحق المالك الأصلي أصل حقه على ذي اليد.
فإذا كان مقصود أوبري ورو من جملتهما انتقال الملك إلى الخلف مقيدًا بما كان قد قيد به على ملك العاقد، من شرط فاسخ، فقد رأيت أن ليس فيه التزام شخصي يجري فيه الاستخلاف استثناءً، وإن كانا يقصدان الالتزامات التي جرت مجرى الشروط بين المتعاقدين، التزموها على أن تكون ملزمة لخلفائهم من بعدهم (وهو ما لا نظنه)، كان قولهما بعيدًا عن الصواب، إذ يصبح نقل الالتزام إلى الخلف متعلقًا بإرادة المتعاقدين يوصلونه بالعقار ويربطونه به تكليفًا مقررًا عليه، فينشئون بذلك طائفة من التكاليف العينية تنتقل بغير تسجيل، وفي ذلك من الضرر بمصلحة الخلفاء، ومن مخالفة أحكام إنشاء حقوق الارتفاق وانتقالها والاحتجاج بالعقود الناقلة لها، ما سنعود إليه في موضع آخر من هذا المقال.
26 - انظر قبل الفراغ من هذا البحث إلى محكمة النقض الفرنسية تعتمد في حكمها المؤرخ 13 ديسمبر سنة 99 في الحادثة الآتية على نفس العبارة التي أوردناها نقلاً عن أوبري ورو: باعت إحدى شركات التعدين قطعة من أرض لها فوق منجم مشترطة على المشتري أن لا يكون له حق تضمينها ما يصيب سطح الأرض من ضرر أعمال التعدين العادية، ثم باع المشتري ما اشتراه لآخر وأصاب الأرض ضرر من المنجم فطالب الشركة بتعويض عنه فحكمت محكمة ديجون في 30 ديسمبر سنة 96 برفض الدعوى بناءً على أن إعفاء المنجم من تعويض الضرر قد أصبح حقًا عينيًا تابعًا له على الأرض التي أصابها الضرر، وأنه إذا اعتبر الالتزام بعدم المطالبة بالتعويض التزامًا شخصيًا فإن المشتري الأخير يخلف بائعه فيه عملاً بنص المادة (1122) ورفضت محكمة النقض الطعن المرفوع لها عن هذا الحكم آخذةً فيه بأن البيع لا ينقل للمشتري إلا ما كان حقًا للبائع، وأن المشتري يخلفه فيما كان من الالتزامات منقصًا لأصل حقه أو كان شرطًا ضروريًا له، وأن الالتزام بعدم التضمين كان شرطًا ضروريًا في الشراء.
ولعل محكمة النقض اعتبرت الإعفاء من التعويض شرطًا علق المتعاقدان فسخ العقد على مخالفته ولما لم يطلب الفسخ عملاً بالشرط أبرمت الحكم الصادر برفض التعويض [(18)].
27 - حكم الاستخلاف على الحقوق والواجبات المتقابلة: أتينا بحكم الاستخلاف على الحقوق وحكمه على الواجبات منفردين، لأن أبسط الصور ما يراد منه معرفة أحقية الخلف لحق ناله المستخلف باتفاق ملزم من جانب واحد، أو معرفة نفاذ الالتزام على خليفة الملتزم بعقد ملزم من جانب واحد كذلك أو بعقد من عقود المعاوضة أوفى أحد المتعاقدين بالتزاماته وبقي التزام الآخر متنازعًا في نفاذه بين الأول وخليفة الثاني.
ولما كان الغالب أن يقع الاتفاق منشئًا لحقوق والتزامات متقابلة تتعلق بالمال على صورة عقد من عقود المعاوضة، وأن يقوم النزاع على نفاذها بين أحد المتعاقدين وخليفة الثاني، تعين علينا أن نذكر حكم الاستخلاف فيهما مجتمعين.
28 - وعجيب أن يغفل كثير من المؤلفين الآخذين بنظرية الاستخلاف الكلام على هذه الصورة المركبة منهما مع كثرة وقوعها، وأن يكتفي من فطن إليها بوجيز القول. ها هو دومولمب وهو من أنصار هذه النظرية يكتفي في المسألة بتقرير عدم الاستخلاف على الحقوق لارتباطها في هذه الصورة بالتزامات لا يمكن إنفاذها جبرًا على الخلف الخاص [(19)].
29 - وإنك لتشعر معي بنتائج هذا الرأي القاسية إذا كان الاتفاق قد أنال المال المنتقل مزية كبيرة الفائدة بعوض تافه يرغب الخلف في وفائه برضائه اكتسابًا لها، وترى صواب الخلافة في الحقوق على أن لا يكون العاقد مع السلف ملزمًا لخلفه بالوفاء إلا إذا قام له الخلف بما التزمه سلفه من مقابل لهذه الحقوق، وأن يكون لمن طالبه الخلف بوفاء حق له، الامتناع عن الوفاء امتناعه عنه للسلف، فما على الخلف إذا أراد الاستمساك بالحق الذي كسبه سلفه متعلقًا بالمال إلا أن يفي بما التزمه السلف عوضًا لهذا الحق، ومتى وفاه صحت منه المطالبة ووجب على غريمه الوفاء، وما رأينا هذا لنلزم الخلف بالتزامات سلفه وإنما رأيناه لنمكن من التزم له السلف التزامًا بمقابل من دفع طلب خلفه الوفاء بحقه إلا أن يفي بمقابله ليكون الوفاء من الجانبين - وما أعدل ما ذكرته محكمة النقض الفرنسية في حكمها المؤرخ 16 نوفمبر سنة 1856 [(20)] حيث قالت (على من دخل في اتفاق مع غيره بنية الاستفادة منه أن يفي بما وجب عليه من شروطه وعلى من يخلفه في حقوقه أن يخضع إلى ما تعلق بأصل وجودها من التزامات).
30 - وعلى هذا لا يكون مشتري محل التجارة ملزمًا باحترام ما عقده البائع من عقود الإجارة مع مستخدميه إذا خلا عقد الشراء من ذكرها وإيجابها عليه، فإذا شاء المضي فيها فلا وجه لإنفاذها عليهم إذا ثبت أن شخصية البائع كانت ملحوظة في عقدها، وإلا كان له أن يلزمهم بالبقاء في خدمته حتى تنتهي مدة الإجارة ما أدى لهم بأجورهم وقام بالتزامات بائعه [(21)].
وإذن فسواء نص في عقد البيع على وجوب احترام عقود الاستخدام أو لم ينص فللمشتري متى قام لهم بتنفيذها أن يلزمهم بالاستمرار عليها ولهؤلاء أن يلزموه باحترامها عند النص عليه في عقد شرائه ولهم أن يفسخوها إذا كانت شخصية البائع ملحوظة عند التعاقد [(22)].
31 - ولقد جرى القضاء الفرنسي في بيع محلات التمثيل على أن للمشتري الحق في إلزام الممثلين بالاستمرار في عقود الإجارة، إما على اعتبارهم ملزمين بها لمحال التمثيل نفسها وللمشتري بوصف كونه وليًا عليها له الحق في اقتضاء حقوقها منهم، وإما على اعتباره خليفة البائع فيها بتنازل ضمني [(23)] وجرى في بيع الجرائد وبيع المحال الصناعية على عدم أحقية الخدمة والموظفين في إلزام المشتري بالمضي فيما عقده البائعون من عقود الإجارة ما داموا لم يلتزموا بنفاذها في عقود الشراء [(24)]. وهي كما ترى أحكامه مضطربة في تطبيق نظرية الخلافة.

2 - في القانون المصري

32 - لعل الشارع المصري لاحظ أن حكم استخلاف الوارث على الحقوق من أحكام المواريث التي تركها جملةً لقانون الأحوال الشخصية الخاص بالملة التابع لها المتوفى [(25)] ، ورأى ما في نص المادة (1122) من اضطراب، وعلم بما قام بشأنها من خلاف في التأويل والتفسير، وفقه أن أحكام انتقال الحقوق والالتزامات أو عدم انتقالها منفردة أو مجتمعة يغني عن وضع أحكام جديدة للاستخلاف أو عدم الاستخلاف عليها - فلم ينقل عن الشارع الفرنسي نص المادة (1122).
وإذن فما حكم القانون المصري في الاتفاقات المنشئة للحقوق والالتزامات المتعلقة بالأموال في حق الخلف الخاص؟
33 - قد أوجب القانون على البائع في المواد 285/ 387 وما بعدها تسليم المبيع شاملاً لجميع ما يعد من ملحقاته الضرورية حسب جنس المبيع وقصد المتعاقدين، وأمر في المادة 348/ 434 في بيع الديون والحوالة باتباع الأصول العامة المقررة في باب البيع والقواعد الخاصة المبينة في المواد 349/ 435 وما بعدها، وبين أحكام انتقال الحقوق العينية في حق المتعاقدين وفي حق غيرهم بقانون التسجيل.
34 - وإذن فالمال الحاصل فيه التصرف إما أن يكون دينًا أو عينًا، والاتفاق المعقود بشأنه إما أن يكون منشئًا حقًا شخصيًا أو عينيًا أو التزامًا كذلك.
35 - فإن كان الحق دينًا نقل بنحو بيع أو حوالة انتقل بما كان له على ملك البائع أو المحيل من وصف، إذ الغالب أن يكون المراد مما يعقده الدائن مع مدينه من الاتفاقات متعلقًا بالدين، زيادةً أو نقصًا في حقوقه ومزاياه أو تقيدًا بنحو شرط أو أجل، وكل ذلك مما يصبح وصفًا للدين لا ينفك عنه أو ملحقًا من ملحقاته الضرورية ينتقل به ضرورة انتقال الموصوف بأوصافه، وإذن فما يكتسبه الدائن لدينه من تأمين وكفالة، وما يتقيد فيه من أجل أو شرط أو قبض أو حط أو إسقاط يكون لخلفه، وما كان للمحيل من دعوى تتعلق بهذا الدين وله منها ميزة تفيده في ثبوته أو الوفاء به ينتقل كذلك لخلفه [(26)] ويكون للمدين على المحتال كل ما اكتسبه من الدائن من قيد أو شرط أو عدم مطالبة أو دفع أو إسقاط لجريانه مجرى الأوصاف السلبية للدين.
36 - أما إذا كان المال عينًا فكذلك ينتقل للخلف بجميع حقوقه ومزاياه التي تجري منه مجرى الأوصاف والملحقات حسب طبيعة وغرض المتعاقدين، مع مراعاة قواعد التسجيل والقيد فيما وجب حفظه بهما للاحتجاج به على المتعاقدين وغيرهم، وإذن:
1/ فللخلف الحق فيما اكتسبه سلفه للمال من الحقوق العينية بالاتفاقات المنشئة لها.
2/ وفيما اكتسبه له من الحقوق الشخصية التي تعد ملحقة به حسب طبيعة أو غرض المتعاقدين.
3/ وعليه احترام ما رتبه القانون من التكاليف العينية وما أوجبه سلفه منها بالطرق والأوضاع والقيود المعروفة لإنشائها وحفظها والاحتجاج بها.
4/ وليس له الحق فيما اكتسبه سلفه من الحقوق الشخصية المتعلقة بالمال ولم تبلغ منه مبلغ التابع من المتبوع.
5/ وليس عليه احترام ما التزم به سلفه من الالتزامات الشخصية المتعلقة بالمال ما دام لا يصح اعتبارها حقوق ارتفاق عينية.
أما الاحتجاج من الخلف أو عليه بالاتفاقات المنشئة حقوقًا أو التزامات عينية متعلقة بالعقار، فلأنها اتفاقات ألحقت بالملك زيادةً أو نقصًا أو تعديلاً فحددته في انتقاله له من السلف، ولهذا ينقل القانون الحقوق والالتزامات العينية إلى الخلفاء عن أسلافهم ما توالى النقل إيجابًا أو سلبًا.
وأما احتجاجه بالاتفاقات المنشئة حقوقًا شخصية يمكن اعتبارها توابع للمال حسب جنسه ونية المتعاقدين، فلأن القانون نقل له المال بتوابعه وملحقاته.
وأما ما لم يكن كذلك من الاتفاقات مما كان محله حقًا شخصيًا لا يتعلق بالمال أو يتعلق به ولكنه لم يجرِ منه مجرى التوابع أو كان محله التزامًا فلا وجه للاحتجاج منه أو عليه.
37 - وعلى هذا:
( أ ) يكون للمشتري الحق في مباشرة واستعمال جميع حقوق الارتفاق المقررة للعقار المبيع.
(ب) وينتقل له العقار بما وجب عليه من التكاليف المقررة في القانون العام أو في القوانين الخاصة كقانون التنظيم وقانون الترع والجسور كمنع الملاك المجاورين للقلاع وللسكك الحديد من البناء على مسافة معينة وكترك ما يلزم من الملك للمنفعة العامة بغير تعويض - وكذلك ينتقل مقيدًا بما استبقاه البائع لنفسه من حقوق الملك كحقه في الانتفاع به مدة حياته أو مدةٍ ما، وبما قرره لغيره من حق انتفاع أو ارتفاق مرتب على الأفعال أو العقود، وبما رتبه من رهن أو اختصاص أو امتياز وبالجملة ينتقل العقار للمشتري على نحو ما كان يملكه البائع زائدًا عليه حقوق الارتفاق الإيجابية وناقصًا منه ما استبقاه لنفسه أو تصرف فيه للغير من حقوق الملك وما رتبه من حق انتفاع أو ارتفاق أو حق آخر من الحقوق العينية.
(جـ) وينتقل للمشتري كل حق شخصي جرى العرف أو دلت نية المتعاقدين على اعتباره تابعًا من توابع المبيع فللمشتري حق تضمين البائع لبائعه عند الاستحقاق، ولمشتري محل التجارة حق منع بائعه من الاستمرار على تجارته في محل آخر يفتحه قريبًا من المحل المبيع، ولمشتري امتياز الطبع تضمين البائع إذا طبع المؤلف قبل نفاذ نسخ الطبعة الأولى، ولمشتري المصنع أن يلزم من التزم لبائعه الكف عن التجارة أو الصناعة مدةٍ ما أو في بلدٍ ما - إذا دلت نية المتعاقدين على انعقاد الرغبة في توفير سبب من أسباب التقدم للمصنع ومنع المزاحمة عنه واعتبار ذلك ميزة له تلحق به وتكون من توابعه وأوصافه كما ذهبت إلى ذلك بعض المحاكم الفرنسية في بعض الحوادث.
(د) ولا ينتقل للمشتري كل حق شخصي اكتسبه البائع ولا يمكن اعتباره من توابع المبيع أو ملحقاته بحسب طبيعته ونية المتعاقدين كما ذهبت إليه محكمة ديوي في الحادثة الآتية: باع أحد ملاك أراضي البناء قطعة منها لآخر مشترطًا عليه أن يترك بغير بناء أربعة أمتار على طول أحد جوانبها وملتزمًا له إذا باع القطع الأخرى أن يلزم مشتريها بمثل ذلك فيما يشترون، ثم باع هذا المشتري لثانٍ مجهلاً عليه هذا الالتزام: لم يخبره به ولم يعلنه له في عقد البيع، وباع مالك الأرض ما بقي له من أجزاء بغير أن يلزم المشترين بترك البناء على المسافة المذكورة فحكمت محكمة ديوي برفض دعوى التعويض التي رفعها المشتري الأخير للقطعة الأولى على مالك الأرض يضمنه فيها ما أصابه من الضرر بسبب عدم وفائه بما التزمه للمشتري الأول من إلزام من يشتري منه بترك بعض الملك بغير بناء، آخذةً في ذلك بأن هذا الالتزام شخصي لم يلتحق بالمبيع فينتقل معه [(27)].
(هـ) ولا ينتقل للمشتري ما التزمه بائعه من الالتزامات الشخصية ولو تعلقت بالمبيع، فليس لمن وعده البائع ببيع عقاره بثمن معين بالأفضلية على غيره أن يلزم مشتريه بالوفاء له بهذا الالتزام [(28)] وليس لمن رفع دعوى إبطال التصرفات أن يوجهها على المشتري الثاني باعتباره خليفة المشتري الأول مكتفيًا بما توافر له من شروط نجاحها على المشتري الأول بل يجب عليه أن يستكمل شروط نجاحها في حق المشتري الثاني لأنه لا يخلف بائعه فيما وجب عليه من رد المال إلى ملك المدين [(29)].
وليس على من اشترى العقار بمنافذه المفتوحة على ملك الجار أن يدفع الأجرة التي التزمها بائعه لهذا الجار، وليس على من اشترى حانوتًا لقصاب التزم مع المحترفين بالقصابة معه في بلد على عدم فتح محلاتهم يوم الأحد من كل أسبوع، أن يفي لهم كبائعه بعدم فتح حانوته بحكم خلافته على المبيع، وليس على من اشترى عقارًا وهب لبائعه على أن يقوم بنفقة الواهب أو خدمته قضاء شيء من ذلك، ومن اشترى عقارًا مرتبًا له حق ارتفاق عيني متبوع بتعويض جزائي على صاحب العقار المرتفق عليه فله حق المطالبة بالتعويض، أما مشتري العقار المرتفق عليه فلا يكون ملزمًا بهذا التعويض، لأنه حق تابع في الصورة الأولى والتزام شخصي في الصورة الثانية.
38 - ولا يفوتك أن تلاحظ أن المشتري قد يضطر إلى الوفاء بما التزمه البائع استبقاءً للمبيع على ملكه: فالحائز لعقار مرهون مضطر إلى دفع دين المرتهن إذا لم يتبع قواعد افتكاك الرهن أو التخلية، والمشتري من مشترٍ مدين لبائعه بالثمن أو بعضه مضطر إلى سداد ما بقي من ثمن اتقاءً لدعوى الفسخ واستبقاءً للملك، وهما في الحالين لا يصح اعتبارهما ملزمين بالتزام انتقل مع الملك بالتصرف الناقل له، وإنما حيازتهما هي التي اضطرتهما إلى الوفاء.
39 - حكم انتقال الحقوق والالتزامات المتقابلة: فرضنا فيما تقدم الحقوق المستحدثة والالتزامات المنشأة كلاً على انفراده، وذكرنا حكم انتقال كل منها، فما حكم انتقالها مجتمعة في عقد من عقود المعاوضة يكون فيها كل من المتعاقدين له حق وعليه واجب؟ فإذا جاز للبائع أن يحيل بالثمن وللمؤجر أن يتنازل عن الأجرة، فهل يمكن للبائع أو للمؤجر أن ينقل جميع حقوقه والتزاماته جملةً؟ وبعبارة أخرى هل يمكن اعتبار الحقوق والالتزامات المتعلقة بالمال مالاً بمعنى كلي ينتقل بالطرق والأوضاع المعروفة؟
القانون لا يبيح انتقال الالتزامات وإن كان المرغوب فيه أن يكون ميسورًا ما لم يكن ضارًا بالدائن فمن آل إليه الحق يستطيع المطالبة به إذا أوفى لغريمه بما يقابله من التزام.
فمشتري المصنع أو محل التجارة لا يكون ملزمًا بما عقده بائعه من عقود الاستخدام إلا إذا التزم نفاذها حين شرائه فإن لم يلتزمه فلا تلزمه ولا سبيل لإنفاذها على مستخدميه حينئذٍ إلا أن يفي لهم بالتزامات بائعه.

3 - تطبيق نظرية الاستخلاف ونظرية النقل على عقد الإجارة عند بيع العين المستأجرة

40 - في القانون الفرنسي: إذا كان العمل بالأصول السابقة ميسورًا فيما يشبه البيع من عقود المعاوضة التي يمكن أن يطالب فيها كل من المتعاقدين بجميع حقوقه جملةً، فمن الصعب تخريج نفاذ عقد الإجارة في حق مشتري العين المستأجرة على تلك الأصول، لأن المستحق للمستأجر بالعقد هو المنافع المتجددة التي تحدث على ملك المؤجر، والمستحق للمؤجر هو الأجرة الواجبة على ملك المستأجر، فإذا قلت إن للمشتري الخيار بين أن يأبى الخلافة في الواجبات فلا يكون له حق مطالبة المستأجر بما له من حقوق الإجارة، وبين أن يرى المضي في العقد فيقوم للمستأجر بما على بائعه من التزامات ويطالب بما له من حقوق، وجب أن يعطي للمستأجر هذا الخيار في نفاذ العقد له وعليه وإذن يكون اختلافهما في الخيار موضع خصام في كل آنٍ يتجدد فيه العقد بتجدد منافعه.
41 - لهذا كان البيع فاسخًا للإجارة في الفقه الإسلامي على مذهب أبي حنيفة إذ قالوا: إن المستحق بالعقد هو المنافع المتجددة على ملك المؤجر والأجرة المتجددة على ملك المستأجر، وما دامت الرقبة تنتقل بالبيع إلى المشتري، وبالإرث إلى الوارث فليس للمستأجر أن يلزمهما بتمكينه من الانتفاع بما تجدد على ملكهما من المنافع.
وكذلك كان البيع يفسخ الإجارة في الفقه الروماني ولكن فقهاءه على ما يظهر من المأثور عنهم تحايلوا في إنفاذها على المشتري والمستأجر بتنازلين من البائع أحدهما للمشتري حين الشراء عن دعوى الإجارة action (locati) ليلزم المستأجر بنفاذ الإجارة، والثاني للمستأجر عن دعوى البيع action (venditi) ليلزم المشتري باحترام عقد الإجارة وتنفيذه، ثم دخل هذا الاشتراط في العرف حتى استقر وأصبح عرفًا فعليًا له قوة المشروط شرطًا، وكانوا يعللون نفاذ حكم الإجارة على المشتري فيقولون إن المستأجر بقبوله الاستئجار قد وكل المؤجر في اشتراط نفاذ الإجارة على المشتري حين الشراء [(30)] وبهذا جرى العرف قديمًا في فرنسا.
42 - ولعل الشارع الفرنسي أدرك شيوع استغلال الأملاك بالتأجير ولاحظ ما يعتري مصالح الملاك والمستأجرين من الضرر إذا أجرى على عقود الإجارة أصله في جواز الاستخلاف على الحقوق دون الواجبات فقال في نص المادة (1743) من القانون المدني (إذا بيع الشيء المستأجر فليس للمشتري أن يخرج من استأجره بعقد مسجل أو ثابت التاريخ رسميًا إلا إذا احتفظ المؤجر في عقد الإجارة بحقه في إخراجه).
43 - والفقهاء الفرنسيون في هذا النص يتفقون ويختلفون: يتفقون في أنه جاء على خلاف القياس إذ القياس - وحق المستأجر شخصي والواجبات التي التزمها البائع له شخصية - أن يكون للمشتري الخيار بين أن يأبى الخلافة في الواجبات فلا يكون له حق مطالبة المستأجر بما له من حقوق في الإجارة، وبين أن يرى المضي في عقد الإجارة فيقوم بما على بائعه من التزامات ويطالب بما له من حقوق.
44 - ويختلفون فيرى أوبري ورو - قياسًا على أصلهما وهو عدم الاستخلاف على الواجبات إلا إذا كان الاتفاق المنشئ لها ينقص أو يعدل حق العاقد في المال المستخلف - أن عقد الإجارة لا يصح اعتباره قد أنقص ملك البائع حيث لم ينتزع به للمستأجر شيئًا من حقوقه العينية وإنما هو في الواقع قد قيد به استعمال حقه المطلق بالتنازل له عن بعض منافع الملك مدةٍ ما ولهذا يحتمان الوقوف في تفسير المادة (1743) عند نصها، فكانت لا تفيد عندهما إلا إلزام المشتري بعدم إخراج المستأجر من العين المستأجرة إذا كان عقد الإجارة مسجلاً أو ثابت التاريخ [(31)] وإذن فلا يكون ملزمًا بما عدا ذلك من التزامات الإجارة كالتسليم والترميمات التأجيرية ونحوهما، وليس له بغير نص خاص في عقد شرائه يوجب عليه نفاذ الإجارة، أن يلزم المستأجر بنفاذها ولو كانت مسجلة أو ثابتة التاريخ، وليس له أن يخرج المستأجر إلا إذا احتفظ بشرط الإخراج في عقد الإجارة [(32)].
45 - ويحسب الذين رأوا بنص المادة (1122) مظنة قانونية مفيدة لحكم الاستخلاف على الحقوق، أن الشارع جريًا مع العرف الفعلي قدر وقوع الشراء على حكم بقاء الإجارة إذا كان عقدها مسجلاً أو ثابت التاريخ، فالإجارة عندهم نافذة بين المستأجر والمشتري نفاذها بينه وبين البائع، وبهذا يكون المستأجر دائنًا لهما في جميع التزاماتها إلا أن يصدر منه ما يدل على رغبته في قصر المعاملة على المشتري دون البائع.
46 - ويرى بودري - وهو من أنصار نظرية النقل - أن الشارع قصد من المادة (1743) أن يكون للمستأجر حق الاحتجاج على المشتري بعقده المسجل أو الثابت التاريخ، فأوجب بقاءه في العين المستأجرة بمنع المشتري عن إخراجه منها وأن ليس من المعقول أن يكون هذا الواجب قاصرًا على ترك المستأجر منتفعًا بالعين بعد استلامها بل يجب عليه أن يسلمها إليه، ومتى وجب عليه التسليم وجب عليه الترميمات التأجيرية الواجبة على كل مؤجر قبل البدء في تنفيذ الإجارة وهكذا يستنتج، من طريق دلالة النص أو اقتضائه، إلزام المشتري بجميع التزامات المؤجر [(33)]، وإذا حفظ المؤجر لنفسه في عقد الإجارة حق فسخها بالبيع كان الخيار في الفسخ وعدمه للمشتري بغير حاجة إلى النص على ذلك في عقد البيع وليس للمستأجر إجباره على الفسخ لوقوع الشرط في مصلحته أما إذا شرط الفسخ في عقد البيع أو في ورقة لاحقة به فلا ينفذ على المستأجر [(34)] وربما يكون الأجدر ببودري، وهو ممن رأوا في نظرية نقل الحقوق غنى عن نظرية الاستخلاف أن يقف عند ظاهر نص المادة (1743) التي جاءت على خلاف أصله بتجويز نقل الالتزامات من ذمة إلى ذمة وألا يسترسل في الأخذ بدلالة الإشارة فيجعل للمستأجر حقًا على المشتري في إلزامه بترميم العين المستأجرة حتى عند آبائه قبض الأجرة منه.
47 - في القانون المصري: ولقد جاء نص المادة 389/ 474 مدني أوفى بالغرض وأقطع في الدلالة فصرح بأن بيع العين المستأجرة يفسخ إجارتها مستثنيًا حكم الإجارة التي لها تاريخ ثابت رسمي سابق على تاريخ البيع، فجعل لها بالاستثناء حكمًا مخالفًا لحكم المستثنى فكان حكمها النفاذ على المشتري والمستأجر على السواء.
ولعل الشارع المصري لاحظ أهمية استغلال الأملاك بالتأجير وما يكون بين الملاك والمستأجرين من التزامات متقابلة تتعلق بالعين المستأجرة، وخشي على هذه الالتزامات، وهي شخصية، أن تسقط وتزول عند انتقال العين بالعقود الناقلة لملكيتها فقرر تبعيتها لها إذا كان الإجارة ثابتة التاريخ وأجاز نقلها معها على أنها من أوصافها مخالفًا بذلك أصله المانع لنقل الالتزامات الشخصية من ذمة إلى ذمة، أو لعله لاحظ أن عقد الإجارة ليس من قبيل التصرفات الواردة على ذوات الأعيان بل هو من التصرفات الواردة على المنافع والمعتبرة من أعمال الإدارة فاعتبر البائع وهو يؤجر ما يملكه مأذونًا من جهة الشارع في تأجيره إجارة بعيدة عن الغش لمصلحته وخلفائه، وبهذا المعنى أوجب على البائع وفائيًا عند استرداده العين المبيعة خالية من كل حق عيني احترام ما عقده المشتري من عقود الإجارة وكان القياس فسخها [(35)].

4 - كيف يستطيع المتعاقدان جعل الالتزامات قابلة للنقل إلى الخلف بسبب خاص

48 - لعلك عند شرحنا نظرية الاستخلاف ونظرية النقل، قد خطر ببالك أن المتعاقدين قد يتذرعان ببعض الوسائل القانونية لإيجاب ما التزمه العاقد من الالتزامات الشخصية على خلفه، ولعلك عند إيرادنا ما استثناه أوبري ورو من حكم عدم الاستخلاف على الواجبات وما ذكرناه شرحًا لغامضه قد لاحظت أن من يلتزم التزامًا في عقد يستطيع تعليق فسخ العقد على عدم الوفاء بالالتزام فيكون الخلف بين أن يفي به أو يفسخ العقد نزولاً على حكم الشرط الفاسخ - ولعلك عند ذكر الاستخلاف على الالتزامات العينية وعند الكلام على نقلها باعتبارها أوصافًا للعقار رأيت أن المتعاقدين يستطيعان إفراغ الالتزام في قالب حق ارتفاق عيني ينتقل مع العقار تبعًا باعتباره من ملحقاته الضرورية.
49 - لكن لا يخفى عليك أن التذرع بالطريقة الأولى غير ميسور إلا عند إنشاء العقد الناقل للملك حيث يمكن تعليق فسخه على عدم الوفاء بالالتزام، والوفاء لا يقع عندئذٍ مقصودًا لذاته بل اتقاءً للفسخ المحتوم وقد يهون فسخ العقد على الملتزم بل ربما تعجله بعدم الوفاء.
50 - وكذلك التذرع بجعل الالتزام تكليفًا ارتفاقيًا غير ميسور دائمًا: إما لأن المال من المنقولات فلا سبيل إلى جعل الالتزام المتعلق به ارتفاقًا، وإما لأن الالتزام بطبيعته لا يمكن اعتباره تكليفًا مقررًا على عقار لمنفعة عقار آخر: فحق الاصطياد والاحتطاب والاحتشاش من الحقوق التي يقع الالتزام بها في الغالب لمنفعة شخصية ويندر أن يقع مقصودًا به تقرير صلة ارتفاق بين عقارين [(36)].
51 - أما حق الاحتطاب في أرض بقدر ما يحتاجه منزل ما من الوقود فقد جرى العرف في فرنسا على اعتباره حق ارتفاق عقاري إذا تبين أن مقصود المتعاقدين رفع قيمته الاقتصادية بتدبير حاجته من الوقود على الدوام والاستمرار.
وأما حق الطحن فقد اعتبره القضاء الفرنسي تكليفًا بارتفاق عقاري في قضية احتفظ فيها بائع الطاحون بحقه في طحن ما يلزم لمنزله على الدوام والاستمرار بغير أجر [(37)] واعتبره التزامًا شخصيًا في قضية التزم فيها مالك الطاحون أن يطحن لآخر الحبوب اللازمة لمنزله على الدوام والاستمرار [(38)].
52 - وأما الالتزام بالكف عن العمل منعًا للمزاحمة التجارية أو الصناعية فلا يمكن اعتباره تكليفًا بارتفاق عقاري، ذلك لأن بيع محل التجارة ينقل إلى المشتري ميزة ما التزم به الغير للبائع من عدم المزاحمة إما على اعتباره خليفة له فيما ناله من حق كما يقول أصحاب نظرية الاستخلاف وإما على اعتبارها من ملحقاته وتوابعه كما يقول أنصار نظرية النقل، وهذا الالتزام من جانب الملتزم شخصي لا ينتقل إلى خلفائه في النظريتين.
وإذن فلا يمكن التفكير في اعتباره تكليفًا بارتفاق عقاري إلا إذا كان للمعقود له الالتزام مصنعان يستبقي لنفسه أحدهما ويبيع الآخر مشترطًا على المشتري الكف عن العمل مدة ما كيلا يزاحمه وفي هذه الصورة تكون المنفعة عائدة على البائع لا على مصنعه [(39)].
وكذلك رأت محكمة نانت الابتدائية في قضية قامت بشأن شركة باعت أرضًا لبناء نزل (أوتيل) والتزمت لمشتريها أن تلزم من تبيعه ما جاورها من القطع الأخرى، الامتناع عن إقامة نزل آخر ولكنها باعتها لمن خالف وبنى النزل، فحكمت في 11 ديسمبر سنة 1902 بأن الالتزام شخصي وقع لمصلحة صاحب النزل الأول وبنية حمايته من المزاحمة وأيدتها في هذا النظر محكمة باريس ثم محكمة النقض في 17 نوفمبر سنة 1908 [(40)].
53 - وقد أمكن للقضاء الفرنسي في بعض الحوادث أن يعتبر الالتزام تكليفًا مقررًا على عقار لمنفعة عقار آخر فقضت محكمة استئناف ديبوي في 12 مارس سنة 1900 بأن التزام مالك المنزل المجاور للكنيسة بعدم إقامته هو وخلفاؤه على الدوام والاستمرار حفلات أو ليالٍ راقصة فيه هو تقرير حق ارتفاق للكنيسة عليه [(41)].
وقضت محكمة النقض بأن الالتزام الوارد في شروط بيع بعض الأراضي متضمنًا تحريم استخراج الجبس والجير منها وعمل الطوب فيها وإقامة ما يلزم لذلك من الأفران والأدوات فيها لمنفعة قطع أخرى أعدت لذلك هو تقرير لحق ارتفاق على عقار لمنفعة عقار آخر [(42)].
وحكمت محكمة استئناف باريس في 27 مارس سنة 1924 بهدم عمارة عظيمة بناها صاحبها للاستغلال، على قطعة من أرض أُعدت لبناء مساكن ريف ونزهة بشروط وقيود خاصة، مخالفًا في بنائها ما التزمه المشترون من عدم إقامة محلات للتجارة أو الصناعة أو محلات عمومية تقلق الراحة وتحدث الضوضاء، وأخذت المحكمة في ذلك بما اتضح لها من صيغة الالتزام الواردة في عقود البيع الدالة بنصها على تقرير هذا التكليف العقاري لمصلحة باقي القطع على القطعة المبيعة [(43)].
ولكن محكمة بروكسل في أول مارس سنة 1909 قضت على الضد من ذلك في قضية مشابهة ورد فيها الالتزام بصيغة النهي عن إقامة محلات مقلقة للراحة أو مضرة بالصحة [(44)].
54 - ولا تحسبن ما تراه من تناقض هذه الأحكام يرجع إلى خلاف فقهي وإنما هو راجع إلى ظروف كل قضية وطبيعة الالتزام فيها وصيغته التي ورد بها، وعلى اختلافها اختلف القضاء، إذ الفقه والقضاء مجمعان على أن الالتزام الشخصي لا ينتقل للخلف وأن التكليف الارتفاقي هو الذي ينتقل تبعًا للعقارين المرتفق والمرتفق به وأن الارتفاق لا يظهر إلا إذا كان التكليف مقررًا على عقار لمصلحة عقار آخر، وقد يكون الفرق بينهما من الدقة في بعض الصور بحيث يشتبه الأمر على الناظر فيعتبر الالتزام ارتفاقًا والارتفاق التزامًا.
55 - اعتبر ذلك في القضيتين الآتيتين أقيمت إحداهما أمام المحاكم الفرنسية والثانية أمام المحاكم المختلطة.
تتلخص وقائع الأولى في أن شركة مونت فرماي قسمت أرضًا للبناء واستبقت على ملكها ما أنشأت لها من طرق وميادين ثم عرضتها للبيع معلنة أنها تحتفظ بهذه الطرق والميادين وعليها تمهيدها ورصفها وكنسها ورشها وإنارتها مقابل أجر يتناسب مع مقدار كل بيع من الأرض وثمنه، فباعت الكثير منها واستمرت على القيام بهذه المهمة إلى أن رفع بعض المشترين دعوى فسخ هذا الالتزام باعتباره التزامًا شخصيًا ولغير مدة فقضت محكمة استئناف باريس بحكم أيدته محكمة النقض بتاريخ 5 مايو سنة 1919 برفض الدعوى، آخذةً بأن التزام الشركة بتخطيط الشوارع والميادين وكنسها ورشها وإنارتها مع استبقاء ملكيتها لها هو تقرير تكليف عقاري عليها لعموم الأرض، ولا يقدح في اعتباره كذلك أن يلتزم ملاك العقارات المرتفقة دفع أجر يتناسب مع مقادير أرضها وثمنها لأن القانون لا يمنع الاتفاق مع صاحب العقار المرتفق على التزامه بدفع مصاريف ارتفاق في هذه الصورة [(45)].
وربما أدى هذا القضاء إلى ترك الشركة ملك الشوارع والميادين لأصحاب هذه الأجزاء المبيعة إذا زادت نفقاتها عما تتقاضاه منهم كما يتخلى صاحب العقار المرتفق به إذا ثقل عليه ما التزمه من المصاريف [(46)].
56 - وتتلخص وقائع القضية الثانية في أن شركة أراضي الجزيرة أعدت أرضًا لإنشاء حي صحي فقسمتها أجزاء وعرضتها للبيع وكانت تلزم كل مشترٍ لجزء منها ألا يقيم عليها إلا بناءً واحدًا وأن يترك فضاء لا يقل عن خمسة عشر مترًا بين ما يقيمه من البناء والجزء المجاور له إلى غير ذلك من الالتزامات وتنص في كل عقد على أنها تعتبر هذه القيود أساسية للبيع وأن لها الحق في إلزام المشترين وخلفائهم باحترامها ومطالبة من يخالفها منهم بهدم ما يبنى على مصاريفه وتضمينهم في مخالفتها.
فخالف أحد المشترين هذه الشروط بإقامة بناءين في جزء واحد فطلب جاره هدم البناء بدعوى رفعها إلى محكمة مصر المختلطة فدفع المدعى عليه بأن لا صفة لمدعيها فحكمت محكمة مصر في 22 مايو سنة 1924 برفض الدفع وحكمت محكمة الاستئناف بإلغاء هذا الحكم وقبول الدفع في أول إبريل سنة 1926 [(47)].
57 - لاحظت محكمة مصر أن الشركة في اشتراطها هذه الشروط في كل عقد من عقود البيع ما كانت تعمل لمصلحتها فحسب بل كانت تعمل لمصلحة كل مشترٍ يشتري منها، وأن جميع المشترين بالتزامهم لها قد أراد كل منهم أن يكون ملزمًا لغيره على التقابل، وأنهم ما كانوا يقبلون على الشراء لو علموا بالتزامها لمصلحة الشركة دون مصلحتهم فتنتهي بانتهائها.
لاحظت المحكمة ذلك فترجح لديها أنها حقوق ارتفاق مقررة على كل جزء لباقي الأجزاء فكان لكل مشترٍ أن يلزم الآخر باحترامها ولهذا حكمت برفض الدفع.
لكن محكمة الاستئناف المختلطة لم يفتها أن تعطي هذه الالتزامات وصفها الحق، نظرت إليها فرأت أنها تتعلق بما يجب أن يكون عليه البناء من حيث إقامته وارتفاعه وبعده عما جاوره فلا يمكن أن تكون حقوق ارتفاق ظاهرة يرتبها المالك بالإعداد إذ المعروف فقهًا أنه لا يستطيع إلا ترتيب حقوق الارتفاق الظاهرة المستمرة، ثم أعادت النظر فيما إذا كان يمكن اعتبارها حقوق ارتفاق رتبها العقد بالاتفاق فلاحظت أن كلمة (حق ارتفاق) لم ترد في عقود البيع الصادرة من الشركة، وأنها كما اشترطت هذه الالتزامات لها خاصة بنص صريح جعلت لنفسها الحق في إلزامهم بمراعاتها وبطلب هدم ما يقع من البناء مخالفًا لها فدل ذلك على أنها لم تقصد من اشتراطها إلا أن تأخذ عهدًا على المشترين بجميع ما التزموه، ثم أكدت المحكمة نظرها هذا بقولها إن الشركة لم تتعاقد مع جماعة المشترين بشروط عامة بل باعت لكل منهم بعقد منفصل ولم تلتزم له فيه بالتزامٍ ما فكانت صاحب هذا الحق دون غيرها إن شاءت طالبت به وإلا فلا، واستنتجت المحكمة من ذلك كله أن هذه الالتزامات شخصية لا تنتقل إلى خلفاء الشركة فحكمت بقبول الدفع وعدم قبول الدعوى.
58 - فانظر إلى القضاء الفرنسي كيف اعتبر شركة مونت فرماي - بإذاعتها شروط البيع على جماعة المشترين وباستبقاء ملكيتها لما خططته من الطرق والميادين والتزامها بتمهيدها ورصفها وكنسها ورشها وإنارتها - أنها قررت على ملكيتها حقوق ارتفاق لمنفعة ما اشتروه منها مجتمعين ومنفردين، وانظر إلى قضاء محكمة الاستئناف المختلطة كيف اعتبر شركة الجزيرة - لعدم تعاقدها مع جماعة المشترين والاكتفاء بأخذها لنفسها خاصة عهدًا من كل مشترٍ باتباع ما ألزمته به من قيود وشروط تتعلق بكيفية إقامة البناء وارتفاعه وبُعده عما جاوره - أنها لم تقرر حقوق ارتفاق عينية على كل جزء من أجزاء أرضها لمصلحة الأجزاء الأخرى.
59 - الآن وقد علمت أنك لا تستطيع جعل الالتزام ارتفاقًا عقاريًا إلا إذا أمكن قانونًا اعتباره حقًا عينيًا لعقار على آخر فهل من المستطاع نقل الالتزامات الشخصية التابعة للأموال بالاتفاق انتقال التكليف المقررة على العقار؟
لا شك في أن الناس أحرار فيما يتراضون عليه متعلقًا بأموالهم ما داموا غير مخالفين للنظام العام، ولا مانع من أن يقبل الدائن التزامًا متعلقًا بمال على أن يكون مدينه فيه من التزمه ثم من ينتقل له المال بعقد من العقود الناقلة للملك فيكون المدين بالالتزام في الواقع غير معين بذاته عند إنشاء المداينة وإنما هي المطالبة بالوفاء التي تعينه فيما بعد - وإذن فمتى باع الملتزم المال وألزم مشتريه بالوفاء في عقد الشراء انعقد الالتزام للدائن مباشرةً وكذلك إذا باع ولم يوجب الوفاء في عقد الشراء وعلم المشتري بالالتزام وأمكن إثبات رضائه الضمني به صح اعتباره مدينًا ووجب عليه الوفاء ولكنك لا تستطيع إلزام المشتري بهذا الالتزام، إذا لم يلتزمه حين الشراء أو لم يكن قد علم به وارتضاه صراحةً أو دلالةً.
ومع هذا فلا تزال بعض شركات التأمين في فرنسا توجب نفاذ شروطها على ورثة المؤمن ومن يهب له أو يوصي مضمنة هؤلاء جميعًا فيما استحق ويستحق دفعه من أقساط التأمين وهي تعلم أنها إذا استطاعت إلزام الورثة بالمضي في عقود التأمين فلن تستطيع إلزام من له الهبة أو الوصية بهذا الالتزام.
وقد ينظم أصحاب الطبقات في عمارة علائقهم الحيوية في الانتفاع بالسلم والبئر والسطح فيلتزمون الإنفاق عليها ويلزمون به من يخلفهم ولكنهم لا يستطيعون إنفاذه عليهم.
60 - وإذا التزم من تقبل الالتزام على نفسه وخلفائه في الحال أن يلزم به من يشتريه منه فإما أن يهمل أو لا يقبل مشتريه سعيه فيبقى الالتزام غير نافذ عليه (على المشتري) مضمونًا على الملتزم [(48)] إذ كان ينبغي ألا يهمل أو أن يمتنع عن البيع إلا لمن يرضى بنفاذ الالتزام، وأما أن يعلم المشتري بما التزمه البائع فيصعب اعتباره في القانونين الفرنسي والمصري راضيًا بالالتزام وإن كان القانون الألماني يعتبر الخلف ملزمًا بما على المال من التكاليف الشخصية إذا أُخبر بها عند نقله إليه [(49)]. وإذا قبل المشتري الالتزام صراحةً أو دلالةً أصبح ملزمًا به في القانونين الفرنسي والمصري إذا وقع قبوله لمصلحة صاحب الالتزام stipulation pour autrui وقد رضي هذا عند إنشائه أن يلزم به من التزمه له وخلفاءه.
وهكذا يتصل كل مشترٍ بصاحب الالتزام ويكون الاتفاق عليه بمثابة ضم ذمة مدين جديد إلى ذمة المدين الأصلي.
61 - ولا تنقطع الصلة بين صاحب الالتزام والملتزم إلا إذا كان المقصود أن يكون أي مشترٍ ملزمًا به وحده بالنص على ذلك في عقد الاتفاق الأصلي أو بعد نقل المال وإذن يكون مدينًا بذاته بدلاً من الملتزم (par novation) أو متنازلاً عن الدين(par cession de dette) عند من يجيزه من أمثال ساليه [(50)] وجودميت [(51)].

خاتمة

62 - ومن الحق أن نعترف بعد الذي قدمناه بأن القانونين الفرنسي والمصري لا يسمحان بانتقال الالتزامات الشخصية المتعلقة بالأموال انتقالاً آليًا بحكم القانون كما تنتقل الحقوق التي نزلت منها منزلة الملحقات والتوابع الضرورية، وأن المصلحة تحتم تدخل الشارع بتشريع جديد يوفق فيه بين مصلحة الخلف التي تستوجب ألا يلزم بما يجهله من التزامات شخصية تتعلق بالمال الذي نقل إليه ومصلحة ذوي الحقوق فيها المستوجبة لبقائها وانتقالها فيوجب انتقال الالتزامات بانتقال المال الذي تعلقت به على أن يضع لإعلانها وإذاعتها نظامًا من القيد أو التسجيل يكفل العلم بها - ولعل شارعنا يبادر بوضع هذا النظام فيما اتضحت المصلحة منه كالاتفاقات المنظمة للمعاملات الجوارية بين مالكي الطبقات المختلفة لبناء واحد أو مالكي المرافق المشتركة بين عقارات متعددة أو بين مالكي أراضي البناء تقسم أجزاء ويشترط لشرائها والبناء فيها شروط خاصة، ولعل حكم محكمة الاستئناف المختلطة السابق ذكره في هذا المقال على وجاهة ومتانة أسبابه يكون سببًا لوضع هذا النظام في القريب العاجل إن شاء الله.

حامد فهمي
المحامي

الزقازيق 17 يناير سنة 1928.
-----------------
[(1)] راجع لارومبير جزء أول فقرة (4) على المادة (1122) ودمولومب جزء (24) فقرة (259) وهوك جزء (7) فقرة (55) وكولمت دي سانتير جزء (5) فقرة (34) مكررة.
[(2)] راجع بودري التزامات جزء أول ن 223 طبعة ثانية.
[(3)] راجع أوبري ورو جزء (2) طبعة خامسة صـ 98.
[(4)] هذا هو رأي تولييه ودلنكور ودورانتون وماركاديه وكولمت دوسانتير جزء خاص صـ 46 ولوران طبعة ثالثة جزء 16 صـ 12 وبوفنوار في كتابه propriété et contrat صـ 756 وهو رأي جمهور الفقهاء في بلجيكا أيضًا. راجع الباندكت البلجيكية جزء 11 صـ 1334 وجمهور الفقهاء الإيطاليين. راجع كتاب الأستاذ جورجي في نظرية الالتزامات جزء سادس صـ 410 طبعة سابعة، مع ملاحظة أن المادة (1127) مدني إيطالي المقابلة للمادة (1122) جاء بها لفظ contracter بدلاً من لفظ stipuler الذي كان محلاً للخلاف في فرنسا.
[(5)] أوبري ورو جزء (2) طبعة خامسة صـ 55 وكابيتان جزء (2) صـ 328 وبلانيول طبعة سابعة جزء (2) صـ 385.
[(6)] بودري جزء أول التزامات فقرة (225) وما بعدها طبعة 1906.
[(7)] د. د 900 - 2 - 476 وسيريه 84 – 2 – 40.
[(8)] د. د 65 - 1 - 425 وراجع أيضًا حكم محكمة ديجون وحكم النقض المنشورين في داللوز 69 - 1 - 366.
[(9)] راجع قاموس القانون التجاري لواضعه Roben de Couder لريبان دي كودير تحت كلمة التأمين ن (365).
[(10)] راجع الباسيكر يزي 37 - 2 - 131 و38 - 1 - 266 و66 - 2 - 61.
[(11)] راجع دالوز الدورية 1906 – 2 – 2 29 وسيريه 908 – 1 – 337 والمراجع الأخرى المذكورة في تعليق الأستاذ هيمار على هذا الحكم الأخير.
[(12)] د/ 1911 - 2 - 128.
[(13)] د - 1918 - 1 - 17.
[(14)] راجع داللوز الدورية 45 – 1 – 15 و913 – 2 – 57 و98 – 2 – 148.
[(15)] راجع بودري (أموال فقرة (583) الهامش نمرة (1)) وأوبري ورو جزء (2) المسألة (263) الهامش نمرة (5) وتالر فقرة (89) من وجيزة في القانون التجاري وليون كان فقرة (245) جزء ثالث وقارن لاكور فقرة (408) هامش نمرة (2).
[(16)] راجع الجزء الثاني الطبعة الخامسة صـ 103.
[(17)] راجع بلانيول جزء (2) طبعة سابعة صـ 385 فقرة (1179).
[(18)] داللوز 900 - 1 - 761.
[(19)] دمولولمب جزء (24) صـ 267.
[(20)] - د - 58 - 1 - 104.
[(21)] راجع بلانيول تعليقًا على الحكم المنشور في دالوز الدورية 97 – 3 – 476 وقارن بودري جزء (2) مجلد أول في الإجارة فقرة (2905) و(2906).
[(22)] وربما كان القياس على قول ليون كان ورينو وهما ممن يأخذون بلفظ Stipuler بمعنى دخل في المداينة دائنًا أو مدينًا أن يكون للمستخدمين حق إلزام المشتري بالمضي في عقود الاستخدام تطبيقًا للمادة (1122) (راجع جزء (3) فقرة (541) التي جاء فيها أنهما لا يظنان أن عقود الإجارة تنتهي ببيع محال التجارة).
[(23)] داللوز 83 - 2 - 93.
[(24)] داللوز 905 - 2 - 13.
[(25)] 54 – 77 مدني.
[(26)] راجع مقالنا في الشرائع السنة الرابعة صـ 283 وما بعدها.
[(27)] داللوز 89 - 1 - 307.
[(28)] راجع أوبري ورو صـ 103 من الجزء الثاني الطبعة الخامسة.
[(29)] راجع أوبري ورو صـ 103 و104 من الجزء الثاني الطبعة الخامسة.
[(30)] راجع صحيفة 287 جزء أول من كتاب الأستاذ هوك المسمى:

Traité théorique et pratique de la cession et de la transmission des créances.

[(31)] جزء خامس صـ 360 الهامش (32).
[(32)] راجع صـ 362 من الجزء المذكور الهامش (34).
[(33)] تراجع الفقرة (1312) و(1313) من كتاب الإجارة جزء أول الطبعة الثالثة، وجيوار فقرة (369) جزء أول ولوران الجزء (25) فقرة (392) وكولمت دي ساتير جزء (8) المسألة (189) مكررة نمرة (2)، وراجع الأحكام الكثيرة والمراجع المذكورة بصحيفة (361) من الجزء الخامس من أوبري ورو بالهامش.
[(34)] راجع بلانيول جزء (2) صـ 1347.
[(35)] المادة (345) مدني أهلي و(431) مدني مختلط و(1673) مدني فرنسي.
[(36)] راجع دالوز الدورية 91 – 1 – 891 وسيريه 1912 - 1 - 419 وكابيتان جزء أول طبعة رابعة سنة 1921 صـ 481.
[(37)] راجع حكم محكمة استئناف ريوم المؤرخ 2 أغسطس سنة 1873 وحكم محكمة النقض وتقرير المستشار برافورت في دالوز الدورية 75 – 1 – 372.
[(38)] راجع حكم محكمة استئناف بو في 16 يونيه سنة 1890 وتعليق الأستاذ ديبويسن (دالوز الدورية 91 - 2 - 185).
[(39)] راجع حكم محكمة استئناف أميان المؤرخ 19 فبراير سنة 1851 دالوز الدورية 51 - 2 - (109).
[(40)] راجع دالوز الدورية 908 - 1 - 460 وراجع في مثلها حكم محكمة ليل المؤرخ 31 يناير سنة 1896 المؤيد بحكم محكمة استئناف ديويه المؤرخ 10 أغسطس سنة 96 وبحكم النقض المؤرخ 17 نوفمبر سنة 98 دالوز الدورية 98 – 1 – 324.
[(41)] سيريه 904 – 2 – 130.
[(42)] راجع الجازيت عدد 13 يوليه سنة 1919.
[(43)] راجع مجلة دالوز الدورية الأسبوعية سنة 24 نمرة (21) صـ 398.
[(44)] راجع سيريه 909 – 4 – 15.
[(45)] دالوز الدورية 1919 - 1 - 124.
[(46)] راجع مجلة القانون المدني سنة 1920 صـ 360.
[(47)] راجع مجلة البلتان سنة 38 صـ 319 وجازيت المحاكم المختلطة المجلد (16) صـ 213 واقرأ بمعناه حكم محكمة مصر الابتدائية المؤرخ 31 مايو 1927 المنشور بمجلة كلية الحقوق بالعدد الأول من السنة الثانية صـ 85.
[(48)] راجع دالوز الدورية سنة 99 – 2 – 477.
[(49)] راجع كتاب الأستاذ جوديميت في التنازل عن الديون صـ 384.
[(50)] راجع ann. Du com 189 صـ 38 وما بعدها.
[(51)] راجع etude sur le transport des dettes صـ 538.

بحث في مسؤولية الآباء والأمهات والقامة والأوصياء عن أعمال الصبي أو المحجور محمد فؤاد حسني

 مجلة المحاماة – العددان الرابع والخامس

السنة الثامنة – يناير وفبراير 1928

بحث
في مسؤولية الآباء والأمهات والقامة والأوصياء
عن أعمال الصبي أو المحجور

كانت مسؤولية الآباء والأمهات في عهد القانون الروماني كمسؤولية السيد بالنسبة لأفعال العبد المملوك له لذلك كان لوالد الطفل الذي ارتكب أمرًا موجبًا للضمان أن يتخلص من المسؤولية بتخليه عن الطفل وذلك بطريق التبرؤ منه وجعله في تصرف الشخص الذي لحقه الضرر إن شاء اقتص منه وإن شاء استعبده ثم ما لبثت هذه السنة القبيحة أن تلاشت وحلت محلها قاعدة جواز إقامة الدعوى على الولد نفسه والرجوع على والده بمقدار التعويض بنسبة معينة.
ومن هذا الشبه الوثيق الذي كان موجودًا من قبل بين الأولاد والوالي بالنسبة لمسؤولية رب العائلة وجدت الرخصة لمن أصابه الضرر في مقاضاة رب العائلة مباشرةً إذا تبين أنه رضي عن العمل وكان في وسعه اتقاؤه لو أراد.
ولما كان أساس تلك المسؤولية سلطة الآباء على أولادهم كانت ملازمة لها تقوم بوجودها وتزول بذهابها كما لو انتقل الولد إلى سلطة إنسان آخر كالوصي مثلاً أو أنه أصبح مالكًا حرية تصرفه.
أما في عهد القضاء الفرنسي القديم فلم تكن القاعدة الرومانية التي أوجزنا معناها آنفًا سارية على إطلاقها فقد دون العلامة (Merlin) في موسوعاته جملة أحكام أثبت عدم مسؤولية الأب عن التعويض المدني الناشئ عن جرائم ولده ومن رأي هذا العالم أنه لا يجوز إلزام الأب بالضمان عن عمل ابنه إلا بمقدار ما يمسكه من ماله المملوك له كأن يكون ورثه عن أمه أو جاءه من أي طريق آخر بيد أنهم لاحظوا على ذلك العالم أن رأيه هذا لا يستقيم على إطلاقه لأنه لا يتفق مع ما كانت قد أقرته العوائد المحلية في بعض جهات فرنسا ومهما يكن من الأمر فإن القواعد القديمة في هذا الصدد كانت غير ثابتة وكانت تختلف باختلاف عوائد البلاد ولكن يمكن مع ذلك ردها جميعها إلى قاعدتين أصليتين الأولى أنه يسأل الأب عن فعل ولده إذا أظهر الرضا عن عمله كما لو تولى الدفاع عنه أمام القضاء، والثانية أنه يسأل الأب إذا ثبت أن الفعل الموجب للمسؤولية وقع من الولد بعلمه أو باتفاقه معه فيه (coanivence) وكان يكفي للدلالة على وجود العلم والاتفاق عدم مبادرة الأب إلى منع ولده عن الفعل في حال القدرة عليه فقد كانت تلك القرينة قاطعة في وجوب مسؤولية الوالد بأنه لا عذر له في تمكين ولده من إحداث العمل الضار في حال قدرته على منعه وتأييدًا لهذه القاعدة أورد العلامة (Legrand) حكمًا صادرًا في سنة 1641 من الرئيس (Lecoigneux) ملخصه أن رجلاً خرج من الكنيسة يومًا بعد الفراغ من الصلاة مع ابنه الذي كان دون البلوغ فتشاجر الصبي مع صبي آخر ولكمه فمات المضروب بعد ذلك بأيام فحكم الرئيس على الرجل بالتعويض وبالغرامة وبرأ الصبي لأنه غير مميز.
أما في العهد الحاضر فقد تدونت مسؤولية الأقارب ضمن وجوه أخرى من وجوه المسؤولية في المادة (151) من القانون المدني الأهلي والمادة (213) من القانون المدني المختلط وتبينت نصًا وتعينًا في المادة (1384) من القانون المدني الفرنسي وإليك عبارتها (الأب والأم بعد موت زوجها مسؤولان عن الضرر الحادث بفعل أولادهما القصر المقيمين معهما إلا أن يقيم الأبوان الدليل على أنه لم يكن في مقدورهما منع الفعل الذي أوجب المسؤولية).
أما نصوص القوانين المصرية فهي الآتية:
مادة (151) مدني أهلي:
كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر وكذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن إهمال من هم تحت رعايته أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم.
مادة (213) مدني مختلط:
كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عدم ملاحظته إياهم.
وقد لاحظ المسيو دوهلتز في شرحه الكبير أن النص الأهلي أسقط شرط التقصير من عبارته على خلاف ما جاء في النص المختلط فأصبح النص الأهلي موافقًا للعبارة الفرنسية.
ومن مقارنة النص المصري بالنص الفرنسي يظهر أن الأول عام يتناول مسؤولية الأبوين والأوصياء والقامة والمعلمين والموكلين بحراسة المجانين والمستوظفين وأصحاب المعامل والمصانع وغيرهم، أما النص الفرنسي فهو قاصر على الآباء دون غيرهم.
وبديهي أن أساس مسؤولية الأبوين تلك السلطة الطبيعية التي لهما على أولادهما وهي التي تفرض عليهما واجب المحافظة على سلوكهم والعناية بأفعالهم ما داموا في السن الذي لا يحسنون فيه التصرف بما فيه صالحهم وأنهم تابعون لهما في جميع المعاملات المدنية وأن لهما عليهم الإشراف المستمر الدائم فيما فيه تقويم المعوج من أخلاقهم وصرفهم عما يكون مفسدًا لآدابهم فإن أحدث الولد بعد ذلك ضررًا كان سببه تفريط الأبوين في واجب رعايته وإهمالهما مراقبة سلوكه كانا مسؤولين عن تفريطهما وإهمالهما.
ولا فرق في ذلك عندهم بين أن يكون الولد شرعيًا أو غير شرعي لأن علة التشريع بإيجاب المسؤولية في الحالتين واحدة فوجب أن يكون الحكم فيهما واحدًا وذلك التفريق بين الولد الشرعي وغير الشرعي جائز عندهم لجواز الاستلحاق عندهم.
أما عندنا فغير جائز لأن القاعدة الشرعية أن الولد للفراش وقد خالف معاوية في ذلك باستلحاق زياد بن أبيه وإثبات نسبه منه فلما انقرضت دولة بني أمية وجاءت دولة العباسيين رُد نسب زياد وآله إلى حقيقته فإذا عدنا إلى النص الفرنسي الذي جاء بأحكام مسؤولية الأبوين على طريق التخصيص والتعيين نرى أنه يجب لتحقق تلك المسؤولية توفر ركنين أصليين أولهما أن يكون الولد مقيمًا معهما والثاني أن يكون قاصرًا.
ومعنى إقامة الولد مع أبويه أن يكون في منزلهما الذي يقيمان فيه بحيث تتحقق تلك الرقابة التي أشرنا إليها آنفًا وبحيث يكون الولد متأثرًا دائمًا بما يتلقاه عن والديه من التعليم والإرشاد ذلك لأن الوالد ملزم طبعًا بتربية ولده وتقويمه وتهذيبه وعليه تقع تبعة الأخلاق السيئة التي قد يتصف بها ولو كان الموكل بملاحظته أجيرًا من قِبل أبيه لا فرق في ذلك بين أن تكون تلك الملاحظة الأجنبية مستمرة أو منقطعة وعلى هذا إذا نيط بمعلم تعليم الولد في منزل أبويه بعض ساعات في كل يوم فلا يكون المعلم مسؤولاً عما يرتكب الولد من الأفعال الضارة لأن الولد يتطبع غالبًا بطباع أبويه فإن كان الأب مفرطًا في تقويم أخلاقه أو كان مثال السوء له فهو المسؤول عن أفعاله إنما يكون له الرجوع على المعلم بما ضمنه عن ولده في بعض الأحوال إذا وجد لهذا الرجوع مسوغ كما لو ظهر أن المعلم كان سببًا مباشرًا في ارتكاب الصبي للفعل الموجب للضمان.
كذلك إذا كان المعلم ملازمًا للولد في منزل أبيه على طريق الاستمرار كما يفعل بعض كبار الأغنياء فإن المسؤولية تقع أولاً وبالذات على الوالد لأنه لا يعذر أن ألقى مقاليد ولده إلى معلمه من غير أن يكون له الإشراف الدائم عليهما إنما يكون له الرجوع على المعلم إذا كان خطأ الولد ناشئًا عن سوء تربية المعلم له أو عن تعمده إفساد أخلاقه وهذا جائز.
فإن وضع الأب ولده على وجه الاستمرار لدى مستصنع أو معلم فالمسؤولية عليهما لأن ركن الإقامة أصبح معدومًا بالنسبة للأبوين من جهة ولأن الرقابة والملاحظة انتقلت منه إليهما من جهة أخرى.
فإن كان الصبي يبرح المصنع أو المدرسة ليلاً عند أبويه أو نهارًا في أوقات الطعام ليتناول طعامه معهما فلا مسؤولية على صاحب المصنع أو مدير المدرسة ما لبث الصبي غائبًا فمتى عاد عادت مسؤوليتهما.
فإن كان شرط إقامة الصبي عند معلمه أن لا يبرح مكانه لا ليلاً ولا نهارًا كان المعلم هو المسؤول دون سواه، وقد رأى العالم (Delvincourt) في المجلد الثالث صحيفة 685 ودالوز في كتاب التعهدات صحيفة 786 هذا الرأي على إطلاقه، ورأى (Toullier) أن الصبي إذا كان ليس له أن يبرح محل عمله فتركه ثم ارتكب أمرًا موجبًا للمسؤولية في منزل أبويه كانت المسؤولية عليهما وقد يكون هذا الرأي الأخير راجحًا عندنا إذا كان الأبوان يعلمان بمجيء ولدهما عندهما خلسة من معلمه فيتجاوزان عن ذلك أما إذا جهلاه ووقع منه ما يوجب المسؤولية في منزلهما فإننا نرى أن المعلم هو المسؤول لأنه مفرط من حيث إنه مكن الصبي من الخروج بغير إذنه.
كذلك إذا وضع الوالد ابنه القاصر عند تاجر مثلاً فلا يمكن القول بمسؤوليته عما يرتكبه الصبي أثناء عمله من السيئات لأنه غير مباشر له فيه فلو سرق الصبي من مال التاجر شيئًا فلا مسؤولية على أبيه وبذلك حكمت محكمة منبليه حكمها الرقيم 12 فبراير سنة 1887، على أنه قد اعترض على هذا الرأي بأنه غير وجيه على إطلاقه لجواز أن يكون فعل الصبي الموجب للمسؤولية أثرًا من سوء تربية والده له فتتعين مسؤوليته والمسألة مختلف فيها والمذهب الأول أكثر اتفاقًا مع حكم القانون، كذلك ترتفع مسؤولية الأبوين من باب أولى إذا أدخل الصبي في المدرسة ليقيم بها لأنه يصبح في ذمة مدير المدرسة وأساتذتها خاضعًا لسلطانهم ويكونون قد حلوا محل أبيه فيما له من الحقوق على ولده وفيما عليه من واجب التربية والتهذيب نحوه - زد على ذلك أن القانون عرف للمعلم حق التأديب وأطلق له شيئًا من السلطة تكفي لتمكينه من تقويم أخلاق الصبي وتهذيبه وكبح جماحه فإن تراخى في مراقبته وأهمل تأديبه وأبدى جانب اللين والإغضاء ولم يستعمل الجد في موضعه واللين في مقامه حتى شب الولد على أخلاق سيئة يكون المعلم مسؤولاً عن تعويض الضرر الذي قد يصيب الغير بسبب سوء سلوكه ولا مسؤولية على الأبوين لأن إنابتهما للمعلم في تهذيب الصبي وتأديبه قد أقالتهما منها.
ولسائل أن يقول إذا خرج المؤدب بتلاميذه للرياضة مثلاً فاعتدى صبي منهم على عابر سبيل فأصبح المؤدب أو ناظر المدرسة مسؤولين أليس يكون لهما الرجوع على الأبوين بما ضمناه أو ضمنه أحدهما عن الصبي فيما لو أثبت أحدهما أو كلاهما أن الأمر الذي ارتكبه الصبي ونشأ عنه الضمان لم يكن في مقدورهما منعه ولا تلافيه والجواب أن بعضهم يقول بذلك لكن قولهم هذا ضعيف ذلك لأن نصوص المواد (151) و(213) و(1384) فرنسي لا تتفق مع ذلك الرأي لأنها جميعها قررت المسؤولية على من يكون الصبي تحت رعايته وقت حدوث العمل ولا شك أن الصبي وقت تعديه على عابر السبيل كان تحت رعاية معلمه وأن تمكنه من إيذائه لم يكن يحدث لو كان المعلم منتبهًا.
فإن كانت حجة أصحاب الرأي الآخر عدم استطاعة المعلم منع الصبي عن الفعل الموجب للمسؤولية وقت وقوعه فأولى بالأبوين أن يكون لهما العذر في ذلك وهما بعيدان عن الصبي فكيف يلزمان بالضمان عنه للمعلم أو ناظر المدرسة.
ورب معترض يقول في هذا المقام إن بين والد الصبي وبين المعلم أو ناظر المدرسة عقد وكالة أقام الأول بمقتضاه الثاني على تأديب ابنه وتهذيبه مقابل أجر معين وإن المادة (528) من القانون المدني الأهلي ألزمت الموكل بأن يدفع لوكيله المصاريف التي أنفقها أثناء وكالته في أعمال موكله بشرط أن لا يكون قد سببها بخطئه وعلى ذلك يكون من حق المعلم الرجوع على الأبوين بما غرمه في مسؤوليته عن ابنهما لأنه وكيل بأجر وله ذلك بمقتضى القانون.
والجواب أن الأجر المتفق عليه بين والد الصبي والمعلم يقوم مقام التعويض عن ذلك الغرم لأن الأجر يقابل تعهد المعلم بتأديب الصبي والمحافظة عليه من التعرض لإيذاء الناس فإن آذى الصبي أحدًا كان ذلك من إهمال المعلم وخطئه فهو المسؤول دون غيره.
كذلك تسقط مسؤولية الأبوين إذا أدخلا الصبي خادمًا مأجورًا عند أحد الناس فيما يرتكبه أثناء خدمته.
قلنا إن ركن مسؤولية الأبوين إقامة ولدهما معهما غير أن مجرد عدم الإقامة على إطلاقه غير مسقط لتلك المسؤولية وإنما يشترط في ذلك أن يكون خروج الولد عن الإقامة مع أبويه لسبب مشروع كالأسباب التي أسلفنا ذكرها فإن ترك الوالد ولده القاصر ليتشرد في الطرق أو أذن له في الإقامة بمفرده في معزل عنه في سن يحتاج فيه إلى أن لا يفتر والداه عن ملاحظته ورعايته طرفة عين فارتكب أمورًا موجبة للمسؤولية كانت تلك المسؤولية على الأبوين لأنها نتيجة ظاهرة من تفريطهما ونسيانهما واجبهما قِبل الصبي.
فإن كان الولد لا يزال قاصرًا عن سن الرشد ولكنه دونه بشيء يسير بحيث يرخص له عادةً في الخروج والدخول والتردد على دور العلم والجامعات والكتبخانات وغيرها من غير رقيب عليه فارتكب أمرًا موجبًا للمسؤولية هل يضمنه الوالد؟ والرأي الراجح أنه لا يضمن لأنه يكون في حالة العذر الواردة في نهاية المادة (1384) فرنسي أي أنه لم يكن في استطاعته وقت حدوث الفعل منع ولده عنه فلا مسؤولية عليه.
وإذا انتهينا من الركن الأول من ركني مسؤولية الأبوين عن أفعال ولدهما ننتقل إلى الركن الثاني وهو أن يكون الولد قاصرًا عن سن الرشد.
ولم يفرق القانون بين القاصر المميز وغير المميز عند تقرير مسؤولية أبويه فهل يكون الأبوان مسؤولين في كلتا الحالتين؟
والذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن مسؤولية الأبوين تكون أظهر في وجوبها عندما يكون الولد غير مميز لأن الصبي في هذه الحالة لا يكون مسؤولاً على الإطلاق عن أفعاله قِبل الغير بنص القانون - قالت المادة (212) مدني مختلط (كل فعل مخالف للقانون يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان لعدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).
إلا أن بعض العلماء رأوا أن الأبوين لا يُسألان عن فعل ولدهما غير المميز وحجتهم في ذلك أن أفعاله تعتبر من قبيل العوارض والحوادث القهرية فيجب اعتبارها كذلك بالنسبة لأبويه فإن أبى المجني عليه إلا التعويض من الوالدين زاعمًا أنهما كانا يستطيعان منع ولدهما عن إحداث الضرر فعليه إقامة الدليل قِبلهما على أنهما قدرا وأمسكا، وأصحاب هذا الرأي يسقطون في هذه الحالة عن الأبوين وجوب إقامة الدليل على عجزهما عن منع حدوث الفعل المؤثر وقت وقوعه ويجعلان الإثبات على المدعي.
وخالف أصحاب هذا الرأي كثير من علماء القانون أمثالfaustin, sourdat, duranton, helie وغيرهم وحجتهم أن القائلين بعدم مسؤولية الأبوين عن فعل الولد غير المميز قد خلطوا بين خطأ الصبي غير المميز وخطأ أبويه مع أن الفارق بين الحالتين واضح وضوحًا لا ترد عليه أية شبه ذلك لأن الولد غير المميز أحوج إلى العناية والمراقبة من سواه ما دام أنه لا يميز بين الضار والنافع ومن هذا يكون واجب المحافظة عليه وعلى أفعاله أظهر في اللزوم والاستمرار ويكون الوالد قد ارتكب خطأ شخصيًا إذا فرط وتهاون في تلك المراقبة حتى تمكن الصبي من ارتكاب ما يضر الغير فهو مسؤول عن خطئه هذا وعن تعويضه لا سيما وأنه قد يتعذر على الوالد في هذه الحالة أن يدرأ عن نفسه المسؤولية بالاعتذار بعدم المقدرة على منع ولده لأنه إن جاز له ذلك في حالة تمييز الولد لاحتمال خروجه عن دائرة المراقبة الفعلية بما يعالجه من المرافق في الخارج فليس بجائز له أن يعتذر بمثل ذلك في حالة عدم تمييز الولد لضرورة بقاءه تحت المراقبة الفعلية الدائمة.
وعند الفرنسويين منزلة بين المنزلتين يسمونها emancipation وهي إطلاق التصرف للقاصر قبل بلوغه سن الرشد وهو إحدى وعشرون سنة عندهم فماذا يكون الحكم في مسؤولية الأبوين في هذه الحالة.
وإطلاق التصرف للقاصر يحصل عندهم إما برضاء الأب أو الأم وإما قسرًا عليهما إذا عقد القاصر عقد زواجه وهو لا يستطيع عقده إلا إذا أتم ثماني عشرة سنة كاملة وأحكام هذه الحالة مدونة في المواد (470) إلى (487) من القانون المدني الفرنسي وتتلخص في الترخيص للقاصر الذي أطلق له التصرف إما برضاء أبويه وإما بالزواج في مباشرة مصالحه وإدارة أمواله بنفسه.
وقد ذهب بعضهم إلى القول بزوال مسؤولية الأبوين عند إطلاق التصرف للولد وحجتهم أن المسؤولية عن أفعال الغير استثناءً من القواعد العامة فلا يجب التوسع فيها ويلزم حصر نطاقها.
والرأي المعمول به أنه يجب التفصيل بين أن يكون إطلاق التصرف للقاصر كان برضاء أبويه أو أن يكون بزواج القاصر.
فإن كانت الحالة الأولى كان الوالد مسؤولاً عن أفعال القاصر لأن الأصل فيه أن يكون مشغولاً بولاية والديه وما دام الولد قاصر فوالداه مسؤولان عن أفعاله كما أسلفنا بيانه فإذا بدا لهما أن يتخليا عن هذا الواجب واجب المحافظة على أعمال الولد القاصر بإطلاق التصرف له قصدًا منهما فهما مسؤولان عن فعلهما هذا متى كان الولد غير أهل له فإن ساء سلوكه بعد ذلك ونال الغير من تصرفاته ضرر كان الوالدان مسؤولين لأنهما مكنا الولد من حقوق لم يكن يحسن استعمالها.
أما إذا ملك الولد القاصر حق التصرف قصرًا على والديه بالزواج في السن القانوني ولو كان الزواج مقرونًا برضاء من له حق الرضاء من الوالدين فالقول بمسؤوليتهما ليس من الصواب في شيء لأن القانون عرف للقاصر حقًا خوله إياه فلا يسأل عن الإفراط في استعمال هذا الحق سواه ولا يحتج على ذلك برضاء ولي القاصر عن زواجه لأن الزواج سنة طبيعية وليس لوالديه أن يمنعاه منه عند سنوح الفرصة المناسبة وليس من المستطاع تحقق مناسبة الفرصة عند سنوحها لأن تحقق ذلك منوط بالمستقبل ولا يعلم الغيب أحد.
ويشبه إطلاق التصرف للقاصر عندهم ما جاء عندنا في كتب الشرع الحنيف من الترخيص للولي وللوصي في الإذن للصبي في التجارة إذا جرباه فرأياه يعقل أن البيع للملك سالب وأن الشراء له جالب وأنه يعرف الغبن اليسير من الفاحش وهو ظاهر غير خافٍ على من يعقل (مادة (492) من كتاب الأحوال الشخصية للمرحوم قدري باشا) والتصرفات التي تجوز شرعًا للصبي المأذون له في التجارة البيع والشراء ولو بفاحش الغبن والتوكيل بهما والرهن والارتهان والإعارة وأخذ الأرض إجارة ومساقاة والمزارعة والإيجار والإقرار بالوديعة وبالدين والحط من الثمن والمحاباة والتأجيل والصلح.
وليس له أن يقر بحق ولا أن يهب ولا أن يكفل ولا أن يتزوج إلا بإذن وليه في النكاح (مادة (493) من الكتاب المذكور) والظاهر هنا أن الولي أو الوصي يكون مسؤولاً عن أعمال القاصر المأذون له في التجارة على الإطلاق إذا أوجبت ضررًا للغير ذلك لأن الإباحة التي ورد الترخيص بها آنفًا مقيدة بشرط أن يجرب الولي أو الوصي القاصر فيرى منه التمييز واستقامة النظر في أمور التجارة ومعرفة النافع من المعاملات من الضار منها وهذا لا يكون إلا بعد الاختبار فإذا أخطأت فراسة الوصي أو الولي في الصبي بسبب سوء الاختبار فأطلق له التصرف وهو غير أهل له كان ذلك مردودًا على الولي أو الوصي لأنه لم يكن ينبغي له أن يأذن للقاصر في التجارة إلا بحيث لا يحدث من أفعاله ما يوجب الضرر للغير لذلك وجبت مسؤوليته ووجب عليه الضمان.
فإن ركب القاصر المأذون في التجارة دين بسبب معاملاته فدفعه عنه الولي أو الوصي يرجع به على القاصر ذلك لأن البيع والشراء تصرف مشروع صدر عن أهله في محله عن ولاية شرعية فوجب نفاذه على القاصر ويضمنه من ماله.
أما أنهما تصرف مشروع فذلك لأن الشريعة الغراء أحلت البيع من غير فصل بين البالغ والصبي، وأما أنه صدر من أهله فلأنه عاقل مميز يعلم أن البيع سالب والشراء جالب ويعلم الغبن اليسير من الفاحش وكون التصرف في محله فلكون المبيع مالاً متقومًا، وأما الولاية الشرعية فلأنه صدر من القاصر بإذن وليه والولي له هذا التصرف فكذا من أذن له (يراجع كتاب فتح القدير وشرح العناية على الهداية وابن عابدين).
هذا وقد يكون الإذن بالتصرف صادرًا من الجهة الشرعية في حالة بلوغ القاصر الثماني عشرة سنة غير رشيد فتستمر الولاية أو الوصاية عليه بحكم المجلس الحسبي فقد رأى بعض المجالس الحسبية والمجلس الأعلى عند النظر في طلب رفع الولاية أو الوصاية عن القاصر لبلوغه سن الرشد أن القاصر غير أهل للتصرف في ماله على الإطلاق فاتخذت قبله طريقًا وسطًا بأن قررت استمرار الولاية أو الوصاية عليه مع الإذن له في مباشرة إدارة أمواله فيما عدا البيع والرهن لمدة معينة على سبيل التجربة ليتبين لها بعد ذلك إن كان أهلاً لإثبات رشده أم لا - وبديهي أن الولي أو الوصي في هذه الحالة لا يكون مسؤولاً عن أفعال القاصر إذا أوجبت ضررًا للغير لأن الإذن له بالتعامل لم يأتِ من قِبله ولكن جاء من جهة قضائية تملكه.
ننتقل من هذا إلى الكلام عن الولد الذي يدرك سن الرشد معتوهًا أو مجنونًا ثم يبقى عند والديه وإن لم يحجر عليه فماذا يكون الحكم في مسؤوليتهما الناشئة عن أفعاله.
قال المتقدمون بوجوب محافظة الأقارب على الولد المجنون حتى لا يصيب أحدًا منه أذى، وقال مرلان Merlin في موسوعاته إن هذه القاعدة القديمة لا تتفق مع نص المادة (490) من القانون المدني الفرنسي لأنها تجيز لأقارب المعتوه أو المجنون طلب الحجر عليه ولكنها لا تلزمهم بذلك ولا تتفق أيضًا مع نص المادة (1384) التي عينت الأشخاص المسؤولين عن فعل الغير وإلى هذا الرأي ذهبت محكمة النقض والإبرام الفرنسية في حكم أصدرته في 26 يونيه سنة 1806 قررت فيه أن الزوجة ليست مسؤولة عن أفعال زوجها المجنون الذي لم يحجر عليه وإلى نقيضه ذهبت محكمة استئناف ليون في حكمها الصادر في 27 مايو سنة 1840 ومحكمة استئناف كان في حكم 2 ديسمبر سنة 1852 وكل هذه الأحكام أوردها مرلان في مسوغاته.
ومما لا ريب فيه أنه لا يمكن القول بتجريد الوالدين عن كل مسؤولية بالنسبة لأفعال ابنهما المجنون ما دام أنهما اختارا إمساكه ذلك لأن القانون أوجب عليهما تلك المسؤولية في بعض أحوال معينة فقد جاءت المادة (346) من قانون العقوبات المصري بالنص على عقوبة من يطلقون المجانين المكلفين بحراستهم يهيمون على وجوههم ولا شك أن أولى الناس بهذه المحافظة الوالدين متى كان ولدهما المجنون مقيمًا معهما وكان لهما رفع هذه المسؤولية عنهما بوضعه في مستشفى إلا أن مسؤولية الأبوين في هذه الحالة مسؤولية شخصية ناتجة عن خطأهما بعد المحافظة على الولد المجنون فليست إذن من قبيل المسؤولية الناشئة عن فعل الغير.
بينا فيما تقدم مسؤولية الأبوين بالنسبة لأفعال ولدهما على وجه العموم ويبقى أن نقول كلمة عن الأحوال التي تكون تلك المسؤولية قاصرة على الأم دون الأب.
قلنا إن الأب مسؤول عن أفعال ولده لأنه رب العائلة وعليه واجب تربية أولاده وتقويم أخلاقهم ولكنه لا يستطيع ملازمتهم دائمًا أبدًا لا سيما إذا كانوا في سن الحداثة ولا شك أن الأم هي المنوط بها ملاحظتهم ومراقبتهم خصوصًا في الأوقات التي يبرح الأب فيها منزل العائلة سعيًا وراء الرزق وليتكسب نفقة عياله فإذا قصرت الأم في ملاحظة أولادها الصغار كانت مفرطة في القيام بالواجب عليها قِبلهم وكانت مسؤولة دون سواها عن أفعالهم ولا تثريب على الأب في الاطمئنان إليها على أولاده لأنها بمحافظتها عليهم وعنايتها بأمرهم لا تكون في ذلك مستمدة حقًا من جانبه ولا نائبة عنه فيه ولكنها تقوم بواجب طبيعي هي مكلفة به قِبلهم كأبيهم سواءً بسواء، وإلى هذا الرأي ذهب كل من دالوز في كتاب التعهدات صحيفة 797 نمرة (19) Toullier, نمرة (281) ونمرة (287) وLarombiere جزء (5) صحيفة (451) وخالفهم في ذلكLaurent Demelombe جزء (20) صحيفة (451).
وإلى الرأي الأول ذهبت المحاكم المصرية فإن محكمة مصر الابتدائية الأهلية المنعقدة بهيئة استئنافية قررت أن المادة (151) مدني قد نصت على أن من تكون لهم رعاية على غيرهم مسؤولون مدنيًا عن الضرر الناشئ عن أعمال من هم تحت رعايتهم وهذا النص عام وبناءً عليه تكون أم القاصر مسؤولة عن تعويض الضرر الناشئ عن فعله ولو لم تكن هي الوصية عليه (حكم 7 فبراير سنة 1910).
على أن مسؤولية الأم في هذه الحالة توشك أن تكون مسؤولية شخصية ناشئة عن خطئها وإهمالها لا أن تكون مسؤولية ناشئة عن فعل الغير وسواء كان هذا أو ذاك فإن من الشطط تجريد الأم مطلقًا من كل مسؤولية لأن في ذلك إرهاقًا للأب وإحراجًا له لتحميله من المغارم ما لا يتفق مع ما يوجبه عليه نظام الحياة العائلية من السعي في أسباب الارتزاق بالعمل.
وتتعين مسؤولية الأم من غير شبهة إذا الصغير في حضانتها الشرعية إذ لا يكون للأب أية سلطة عليه ما دامت تلك الحضانة قائمة لا سيما إذا كانت الأم تأخذ أجرًا من والد الصغير عن حضانته.
وفي غير ذلك من الأحوال فإن المسؤولية تنتقل إلى الأم مطلقًا بوفاة الأب لانتقال سلطته على أولاده إليها بموته - كذلك يكون إذا غاب الأب غيبة طويلة أو منقطعة أو حجر عليه أو حُكم عليه في تحريض أولاده على الفسق والفجور.
هذا وقد نصت المادة (25) من قانون العقوبات المصري على أن كل حكم بعقوبة جناية يستلزم حتمًا حرمان المحكوم عليه من إدارة أشغاله الخاصة بأمواله وأملاكه مدة اعتقاله ومعنى هذا أن المحكوم عليه يصير في حكم المحجور عليه ويعين عليه قيم يتولى إدارة أمواله إنما تبقى له حقوقه الطبيعية الأخرى لعدم جواز إطلاق الأحكام التأديبية إلى غير ما اشتمل عليه النص فتبقى له السلطة على عائلته ولكن اعتقاله في استبقاء العقوبة المقضى بها عليه تجعله غير مسؤول عن أفعال أولاده القصر لأن واجب العناية بأمرهم والمحافظة عليهم مرفوع عنه بحكم الضرورة وقد أثبت هذا الرأي Faustin Helie وChauveau في مؤلفهم جزء أول صحيفة (209).
وما يقال في هذه الحالة يقال أيضًا في حالة النفي أو الحبس البسيط إلا أن يثبت في جميع هذه الأحوال أن أفعال الولد كانت مسببة عن سابقة إهمال الأب في تربيتهم وتقصيره في تأديبهم واضطراب نظام عائلته بسبب سوء استعمال سلطته الأبوية.
فمع غياب الأب لأحد الأسباب المتقدمة مع بقاء سلطته الطبيعة الأبوية هل تكون الأم مسؤولة عن أفعال أولادها أم لا؟
والجواب أنه وإن تكن سلطة الأب على عائلته لا تزول عنه في حالة الحكم عليه إلا أنها تكون باقية حكمًا وتكون معدومة بالفعل ولا شك أن تلقاء هذه الحالة تكون الأم مسؤولة عن أفعال أولادها مسؤولية نسبية يكون الرجوع في تحديدها إلى النظر في وجه استعمالها للسلطة التي انتقلت إليها على أولادها باعتقال زوجها، ويدخل في تقدير هذه المسؤولية اعتبار سلوكها الشخصي مع أولادها وتقصيرها وإهمالها وتفريطها في القيام بذلك الواجب الطبيعي المطلوب منها في غياب رب العائلة.
قلنا فيما سلف إن النص الفرنسي الذي بيّن أحكام مسؤولية الأبوين على طريق التخصيص والتعيين عرف لهما حق دفع المسؤولية الناشئة قِبلهما من أفعال أولادهما بإقامة البرهان على عجزهما عن منع حدوث تلك الأفعال، وحكمة ذلك أن مراقبة الآباء لأولادهم وإن وجبت ولزمها القسط الأوفر من العناية واليقظة فهي لا تكون بحيث لا تنفك عنهم طرفة عين، ولقد يحدث أن الأولاد ينشأون على شيء من المكر والمواربة وقد يكون في طباعهم بعض الرياء والخبث يخفى على ذويهم فإن أصابوا غرة من تلك المراقبة الواجبة انتهزوا الفرصة وأحدثوا ما لم يكن في الحسبان لذلك كان حقًا لآبائهم أن يدفعوا عن أنفسهم المسؤولية بإثبات كل هذه الظروف التي تخرج عادةً عن مقدور الإنسان مهما كبرت حيطته.
ولا يعترض معترض بأن من هم في حكم الأبوين كالمعلم وصاحب المصنع والمستوظف مسؤولون بحكم المادة (152) مدني أهلي و(214) مدني مختلط عن أفعال الصبيان الذين يستعملونهم أثناء اشتغالهم بوظائفهم بغير استثناء وأنهم ليس لهم دفع تلك المسؤولية بإخراج العذر.
ذلك لأن من ذكرنا أحرار في اختيار عمالهم ولهم التحري عن سلوكهم وقبول الصالح منهم وإقصاء الرديء الفاسد أما الآباء فلا خيرة لهم في أولادهم فهم يرزقونهم على الفطرة التي يفطرون عليها وليس لهم من الأمر شيء في صلاحهم وفسادهم إذا صحت نظرية من يقول بزيد الشرير وبكر الصالح وخالد المغفل من العلماء أمثال لفاتير ولومبروزو.
لقد كان العرب في الجاهلية يئدون بناتهم خيفة العار فجاء القرآن بتحريم هذه العادة القبيحة ولو كان للآباء أن يتخيروا أولادهم لأمسك أكثر الرجال عن الزواج أو كانوا على مذهب ملتوس ولكان في ذلك فساد الكون باضمحلال النسل.
فإذا تقررت حكمة الترخيص بالعذر للأبوين فكيف يكون تقدير ذلك العذر وهل يكفي أن يقيم الأبوان البرهان على أنه كان يستحيل عليهما عند ارتكاب الصبي للمحذور أن يمنعاه عنه استحالة حقيقية وهل لا ينبغي عند النظر في قيمة العذر البحث في علة الفعل الموجب للضرر هل كان ناشئًا ومسببًا عن إهمال سابق في تربية الصبي وتأديبه أم لا؟
والقاعدة المتفق عليها لدى غالب العلماء أن ليس للوالد أن يتمسك باستحالة دفع الفعل الضار عند حدوثه على وجه الإطلاق وتبقى مسؤوليته قائمة إذا اتضح أن الفعل سبقته ظروف تبين خطأ الوالد لولاها لما وقع الفعل الموجب للمسؤولية.
مثال ذلك: خرج شاب دون السابعة عشرة للصيد مع شاب مثله وكان الأول مأذونًا بذلك من أبيه فأصاب زميله في إحدى عينيه فأتلفها فرفع والد المصاب دعوى التعويض على والد الفاعل فدفع المسؤولية بأنه لم يكن يستطيع وقت حدوث الإصابة اتقائها وأن ذلك كان مستحيلاً عليه استحالة مادية لأنه لم يكن مرافقًا لولده وقت ذلك فحكم عليه بالتعويض لما ثبت من علمه بخروج ابنه للصيد وأنه كان قادرًا على منعه عن الخروج لو أراد.
وعلى العكس من ذلك المثال الآتي:
دعا شاب دون الرشد آخر للمبارزة فاقتتلا فقتل الشاب خصمه فلا مسؤولية على والده لأنه لم يكن يعلم بما نواه ولده ولم يكن في وسعه منعه عنه حين لم يكن يعلم به.
فإن ثبت أن الوالد كان يكثر من ذكر المبارزة على ولده مستحسنًا إياها محرضًا عليها محسنًا لولده طريق الثأر لنفسه محركًا لديه سورة الغضب لما يظنه ماسًا بشرفه حتى شب الولد على التحرش بالناس لمجرد الظنة يغضب لأقل وهم يعتريه مسرفًا في طلب الثأر لأوهن سبب كان أبوه مسؤولاً عن ذلك.
كذلك تسقط مسؤولية الوالد إذا كان زمنًا أو كان الفعل المنسوب لولده وقع منه في تجمهر عام أو أثناء حركة سياسية أو كان الذي أصابه الضرر مشتركًا في المسؤولية.
وإذ علمنا أوجه مسؤولية الأبوين عن أفعال أولادهما فهل لهما الرجوع عليهم بما غرماه بسبب تلك المسؤولية إذا كانوا ذوي مال.
قال العلامة سوردا بالتفصيل في ذلك بين الولد المميز والغير المميز فإن كان الولد غير مميز فلا يضمن لوالده ما غرمه في مسؤوليته وليس لوالده حق الرجوع عليه بمقدار ذلك الغرم لأن الولد غير المميز غير مسؤول قط عن أفعاله ولا يعاقب على جرائمه التي يرتكبها وإذن فإنه يكون من الخلط والتناقض أن يقال بمسؤولية الولد غير المميز قِبل والده عن فعل هو غير مسؤول عنه قِبل الغير.
فإن كان الولد مميزًا فإنه يكون مسؤولاً عن أفعاله وعن تعويض الضرر الناشئ عنها قِبل الغير وما دام أنه يضمن من ماله تعويض ذلك الضرر بالنسبة للغير فإنه يضمن لوالده تعويض ما أصابه من الغرم بسبب مسؤوليته عن فعله.
وقد أخذت المحاكم المصرية بهذا الرأي وقررت مسؤولية القاصر في ماله وأجازت للمحاكم الجنائية الحكم عليه بدون اختصام وليه أو وصيه بتعويض الضرر الناشئ عن جريمة ارتكبها (راجع الحكم الاستئنافي الصادر من محكمة مصر الابتدائية في 23 مايو سنة 1907).
بقي علينا أن نجمل ما جاء منثورًا من الأحكام المتعلقة بمسؤولية الوصي بالذات فنقول:
يقوم الوصي مقام الأبوين بالنسبة للقاصر وله عليه سلطة تماثل سلطتهما وعليه واجبات كواجباتهما من عناية ورعاية فرضها عليه الشرع والقانون.
ولما كان الوصي هو المتحدث دون غيره على جميع أموال القاصر وهو القائم على العناية بأمره كانت المسؤولية القانونية واجبة عليه ولكنها لا تلحق المشرف ولا المجلس الحسبي الذي ليس له إلا المصادقة على بعض التصرفات التي لا تجوز للوصي بدونها ولا أولي البر والإحسان الذين يعنون بتربية الصغير حسبةً واتجارًا أولئك لا يُسألون عن فعل الصبي الموجب للضمان إلا إذا نشأ عن خطئهم الشخصي أو إذا كانوا يستعملون الصبي في صناعة لهم أو يستخدمونه في مصالحهم.
والوصي كالأبوين بالنظر لشرط تحقق المسؤولية بمعنى أنه لا بد لتحققها قبله أن يكون القاصر مقيمًا معه وقد تكلمنا في ذلك آنفًا بما لا يحتمل المزيد أو التكرار وكذلك للوصي أسوةً بالأبوين أن يدفع عن نفسه المسؤولية بإثبات عدم مقدرته على منع القاصر عن الفعل الموجب للضمان وقت حدوثه فإن كان القاصر مميزًا وجب على الوصي تعويض الضرر الناشئ عن فعله من ماله (أي من مال القاصر) ويخصم الوصي من حساب القاصر ما يكون قد غرمه شخصيًا بسبب الفعل المذكور.
ولا تنصرف أحكام الوصي بالنسبة للمسؤولية إلى القيم لأن المحجور عليه بالغ سن الرشد فهو مسؤول في ماله ثم هو إن كان مجنونًا وجب وضعه في مستشفى فلا يكون مقيمًا مع قيمه فإن آثر القيم إمساكه عنده فيكون مسؤولاً عن أفعاله مسؤولية كل شخص موكل بحراسة مجنون إنما يشترط أن يكون القيم عارفًا بحالة محجوره عالمًا بجنونه، أما إذا كان الغالب فيه الهدوء ثم هاجت مرته فجأة فآذى إنسانًا فلا مسؤولية على القيم ولا مسؤولية عليه من باب أولى إذا تبين أن سبب هياجه راجع إلى فعل ذلك الإنسان.

محمد فؤاد حسني
القاضي بالمحاكم المختلطة

الخبراء في الخطوط في مصر عزيز خانكي

مجلة المحاماة

الخبراء في الخطوط في مصر

تُوفي شخص في ثغر الإسكندرية عن تركة جسيمة، فادعى نفر من الناس أن المتوفى أوصى لهم بحصة كبيرة من ماله ثم طعن الورثة في الوصية بالتزوير وقالوا إن الإمضاء المنسوبة إلى مورثهم ليست إمضاءه ولم تخطها يده، فعينت المحكمة ثلاثة خبراء من كبار رجال فن الخط فأجمعوا رأيهم على أن الإمضاء مزورة ثم طعن المُوصى لهم في تقرير الخبراء الثلاثة فندبت المحكمة خبراء ثلاثة آخرين من أشهر الخطاطين في مصر فأجمعوا رأيًا على أن الإمضاء صحيحة كتبها المورث بخط يده، ستة رجال من أشهر رجال الخط اختلفوا في أمر معرفة حقيقة الإمضاء الموجودة على الوصية وحارت المحكمة في أمر الإمضاء وفي أمر الخبراء فأمرت بتحقيق واقعة الإيصاء وسمعت شهادة الشهود فتبين لها من أقوالهم ومن ظروف وقرائن الواقعة أن الوصية صحيحة فحكمت للمُوصى لهم بالحصة المُوصى بها وأيدت محكمة الاستئناف حكمها.
قل لي وأبيك ماذا يكون حال المُوصى لهم وهم من ذوي الحيثيات الرفيعة في البلد لو كانت المحكمة أخذت بأقوال الخبراء الثلاثة الأول الذين قرروا بالإجماع أن الإمضاء مزورة.
ومن يستقرئ الحوادث التي تقع بين جدران المحاكم يجد وقائع كثيرة تشابه حادثة الوصية بينما يحد خبيرًا يقول بصحة الإمضاء تجد عشرة خبراء يقولون بتزويرها وقد يكون الخبير الأول أصدق وبينما نجد عشرة خبراء يقولون بصحة الإمضاء نجد واحدًا يقول بتزويرها وقد يكون رأي الخبير الأخير أصح، لهذا نجد القضاة لا يميلون عادة إلى الاعتداد برأي الخبراء كثيرًا بل يعتمدون في أحكامهم على التحقيقات التي يجرونها بأنفسهم وعلى الأدلة الكتابية والقرائن المعنوية وعلى شهادة الشهود أكثر من اعتمادهم على آراء الخبراء في الخطوط، لأن البينة والقرائن والأدلة أقوى في الإثبات وأحوط للحكم من استنتاج الخبراء في الخطوط ولاسيما أن الخبراء ليس لهم قواعد ثابتة يرجعون إليها لمعرفة صحة الخط أو تزويره، بينما تجد خبيرًا يستنتج التزوير من سنة الباء أو لفة الهاء أو ذيل الميم أو رأس الواو أو استدارة الكاف أو شرطة الألف أو تقويسة الحاء أو تقعيرة الخاء نجد خبيرًا آخر يستدل بهذه الأشكال نفسها على صحة الإمضاء، وبينما تجد زيدًا الخبير يستدل على التزوير من استدارة الحرف أو استطالته أو اعوجاجه تجد زميله يستنتج الصحة من نفس الاستدارة أو الاستطالة أو الاعوجاج، وإن واجهت الخبيرين قالا لك إن المسألة مسألة نظر، ولعل اختلاف النظر هذا هو الذي حدا بالشارع إلى إطلاق الحرية للقضاء في الأخذ أو في عدم الأخذ برأي الخبراء، تركهم أحرارًا في تكوين عقيدتهم من مجموع الأدلة والقرائن التي تعرض عليهم بغير أن يقيدهم برأي الخبراء حتى ولو اتفق الخبراء جميعًا على رأي واحد.
قرأنا في الجرائد ذات يوم أن أحد حضرات المحامين سأل خبيرًا في الخطوط (استشهد البعض برأيه أمام المحكمة العسكرية) عن صناعته لتقدير رأيه في عملية المضاهاة، فأجابه الخبير بأنه كان باشكاتبًا لمحكمة مصر الشرعية ونُقل إلى دفتر خانة مجلس الوزراء وأن اسمه غير مقيد في جدول الخبراء، فالتفت رئيس المحكمة العسكرية إلى زملائه ثم بدرت منه ابتسامة ذات معنى، معناها طبعًا كيف يمكن للقضاء أن يثق برأي خبير في الخطوط وليس الخط صناعته ما دامت صناعته الكتابية تباين صناعة الخبراء في الخطوط.
في مصر يخلطون بين الكاتب والخطاط والبون بينهما بعيد، ويظنون أيضًا أن كل خطاط يصح أن يكون خبيرًا في مضاهاة الخطوط، وهو خطأ فاحش، لأن عميلة مضاهاة الخطوط ليست عملية فنية فقط بل هي عملية علمية أيضًا، العمدة فيها ليس على فن الخط وحده، بل يجب الاستعانة بالنظريات العملية أيضًا، كون حروف الكلمات مقعرة أو محدبة أو مستديرة أو مستطيلة أو فيها وقفات أو تقطعات وكون الحبر باهتًا أو زاهيًا، وكون الخط مكتوبًا بريشة أو قلم أو بما شاكل ذلك ليس كل ما يهم الخبير ملاحظته لاستنباط أدلة التزوير أو أدلة الصحة، بل هناك مسائل جمة معنوية يجب على خبراء الخطوط العلم بها والبحث فيها والتحقق منها قبل تكوين رأي باتً في أمر التزوير أو في أمر الصحة.
فمن القواعد الصحيحة التي يجب على كل خبير في الخطوط أن يجعلها نصب عينيه وقت المضاهاة القاعدة التي مقتضاها أن الخط يتنوع بتنوع حالة الشخص العقلية ويتغير بتغير حالته النفسية ويتطور بتطور حالته الجسدية، الكلمات التي يكتبها زيد وهو قوي البنية تختلف عن الكلمات نفسها التي يكتبها زيد بنفسه وهو ضعيف البنية والكلمات التي يكتبها وعقله سليم تباين الكلمات نفسها إذا كتبها وعقله غير حافظ توازنه الطبيعي والكلمات التي يكتبها الشخص وباله مطمئن لا تشبه الكلمات نفسها إذا كتبها وروعه مضطرب والكلمات التي يكتبها خالد وهو هادئ الأعصاب لا تشابه الكلمات نفسها إذا كتبها وأعصابه هائجة، وكتابة الشخص في سن العشرين ليست مثلها وهو في سن الأربعين، وكتابة المرأة نوع وكتابة الرجل نوع، فخطوط الشخص تتنوع بتنوع حالاته العقلية والنفسية والجسدية.
كل هذا متفرع من قاعدة علمية وهي أن الخط مرتبط بمراكز الشخص المخية، والمراكز المخية هي مراكز الحركة التي منها حركة اليد، كل حركة تسطرها يد الكاتب تعبر عن حركات مخية، ولا يخفى أن المخ شديد التأثر سريع التشكل، فالمرض والصحة والشيخوخة والشبيبة والسكر واليأس والفرح والغم والغضب والعشق والذهول والبله والتأني والتسرع والبخل والإسراف وسائر الحالات التي تؤثر في العقل وفي الفكر وفي النفس وفي الجسم عوامل مهمة يجب أن يراعيها القضاة والخبراء في وقت المضاهاة وعند تحقيق الخطوط ولدى الحكم.
أعرف خبيرًا أفتى بتزوير إمضاء بحجة خلو الإمضاء من بعض نقط ومن بعض شرط وبحجة وجود حرف مشطور شطرين، مع أن النظريات العلمية الصحيحة تعلمنا أن شطر بعض الكلمات شطران أو أكثر ليس دليلاً على التقليد لأن المشاهدات دلت على أن شطر بعض الكلمات شطرين أو أكثر وترك بعض النقط وبعض الشرط قد يكون سببه ضعف ذاكرة الكاتب أو نتيجة اضطراب أو أثر من آثار حالة نفسية مثل حزن شديد أو غم وما شابه ذلك، أو أن حركة عقل كاتبها تُخالف حركة عقل كاتب آخر يوصل الكلمات بعضها ببعض.
وقد وجدوا بالاختبار أن فكر بعض الكتَّاب ينحصر وقت الكتابة في نطاق محدود ينصرف إليه المجهود العصبي فلا يتعداه، فتجد في كتاباته وقفات وتقطعات وحركات قلمية تدل على الذلل أو الاضطراب أو ضعف الذاكرة أو الخوف أو اليأس أو حالات نفسية أخرى ينتقل أثرها من النفس إلى اليد ثم إلى الورقة فيظن الخبير أن هذه الآثار دالة على التقليد، وما هي إلا آثار انفعالات نفسية أو تطورات عقلية أو فكرية لا علاقة لها بفن الخط من حيث هو، مثل هذه النظريات العلمية يجب أن تراعي عند تحقيق الخطوط مثل ما تراعي القواعد الفنية في الخط تمامًا بل ربما كانت القواعد العلمية أشد والاستنباط بها أصح إنما دعانا إلى عرض هذا البحث على أنظار رجال القضاء ورجال المحاماة في مصر ما نراه كل يوم بين جدران المحاكم من المظالم التي تُبنى على رأي أشخاص ليسوا على شيء من فن الخطوط وليسوا على شيء من هذه النظريات العلمية الرشيدة، فيجب على من يهمهم الأمر أن يضعوا حدًا لهذه الفوضى السائدة في المحاكم فإن تبعة القضاء بالظلم واقعة على من بيدهم زمام العدل في مصر، وهذا واجب لا تبرأ ذمة الحكومة إلا بأدائه والسلام.

عزيز خانكي

بحث في دعوى صحة التوقيع وعلاقتها بقانون التسجيل محمد صبحي بهجت المحامي

مجلة المحاماة - العددان الخامس والسادس

السنة الثامنة عشرة

بحث في دعوى صحة التوقيع وعلاقتها بقانون التسجيل
وجوب الحكم بعدم قبولها

1 - أساس دعوى صحة التوقيع في القانون هي المادة (251) من قانون المرافعات الأهلي الواردة في باب تحقيق الخطوط ونصها:
(يجوز لمن بيده سند غير رسمي أن يكلف من عليه ذلك السند بالحضور أمام المحكمة ولو لم يحل ميعاده لأجل اعترافه بأن هذا السند بخطه وإمضائه ويكون ذلك التكليف بصفة دعوى أصلية على حسب الأصول المعتادة فيها).
2 - والغرض منها الاحتياط مقدمًا بإثبات صحة صدور السند ممن نسب إليه حتى لا يكون محل طعن يصعب تحقيقه إذا تغيرت الأحوال، كأن توفي صاحب الخط أو التوقيع أو أصيب بما يجعل إقراره غير مأخوذ به قانونًا.. إلخ.
ولهذا لا تقبل الدعوى المذكورة إذا سبق الاعتراف بالخط أو التوقيع صراحة أو ضمنًا (البند كت جزء 59 صحيفة (527) فقرة (25)).
ولا يمكن أن يكون للحكم الصادر بصحة التوقيع أو الخط أي أثر أو نتيجة قانونية أكثر من هذا التحقيق.

علاقة هذه الدعوى بقانون التسجيل

3 - نص قانون التسجيل الجديد نمرة (18) لسنة 1923 في المادة الأولى منه على وجوب تسجيل جميع العقود التي من شأنها إنشاء أو نقل أو تغيير أو زوال حق ملكية أو حق عيني آخر... ورتب على عدم التسجيل أن هذه الحقوق المشار إليها لا تنشأ ولا تنتقل ولا تزول لا بين المتعاقدين ولا بالنسبة للغير.
(ولا يكون للعقود غير المسجلة من الأثر سوى الالتزامات الشخصية بين المتعاقدين)
ثم وضع هذا القانون الشروط وبين الإجراءات الواجبة في تحرير هذه العقود لتسجيلها فنص في المادة السادسة منه ما يأتي:
(يجب التصديق على إمضاءات وأختام الطرفين الموقع بها على المحررات العرفية المقدمة للتسجيل، ويكون التصديق بمعرفة أحد الموظفين أو المأمورين العموميين الذين يعينون بالقرارات المنصوص عنها في المادة السابعة عشر).

شرط

4 - فالتصديق على الإمضاء لقبول العقد في التسجيل، لكن هذا التصديق لا يتحقق إلا إذا وُجِد طرفا العقد أمام الموظف المختص ليوقعا أمامه فيثبت هذا ويصدق عليه، فإذا امتنع أحدهما استحال التصديق واستحال التسجيل تبعًا لذلك.
وقد يكون هذا الامتناع من جانب أحد المتعاقدين تعنتًا فيقف تنفيذ التعاقد الذي تم فعلاً ولم يبقَ إلا أن يوضع في صورته النهائية ثم يسجل.
5 - هذه الحالة التي نشأت على أثر صدور قانون التسجيل كانت صدمة شديدة للأفكار التي لم تهيأ لها، فمن حرية مطلقة في تسجيل أي عقد عرفي أو أي ورقة عرفية مهما كان شكلها أو صيغتها أو بياناتها حتى ولو كانت مزورة فعلاً إلى تشديد وتدقيق يمتنع معه التسجيل حتى للعقود الصحيحة الكاملة لمجرد امتناع أحد الطرفين تعنتًا.
لم تحتمل الأفكار هذه الصدمة ورؤى أن العدالة تقتضي البحث عن مخرج قانوني من هذا المأزق فاهتدوا إلى المادة (251) مرافعات وقالوا أن فيها ما يسد هذه الثغرة.
6 - جرى الناس من ذلك الوقت أي منذ رُئي الانتفاع بالمادة (251) مرافعات على رفع دعاوى صحة التوقيع باستمرار واطراد، وجرت المحاكم على الحكم فيها دون تدخل في موضوع العقد وشروطه وسبب امتناع الطرف الممتنع عن التصديق على التوقيع، واقتصر البحث على الإمضاء أو الختم هل هو صحيح أو لا، فإن ثبتت صحته بالاعتراف أو التحقيق صدر الحكم بصحة التوقيع، وأسرع صاحب الحكم في تقديمه للتسجيل.
7 - ولكن لم تكن للقضايا المرفوعة كلها نتيجة لتعنت أحد طرفي العقد بالامتناع عن التوقيع أمام الكاتب المختص فإن هذا التعنت لا يقع إلا نادرًا، إنما كان أكثر هذه الدعاوى مبنيًا على سوء استعمال هذا الحق (الحق في رفع دعوى صحة التوقيع) إلى أقصى درجة:
1/ فمن بيده عقد ابتدائي لم تستوفِ شروطه ولم يقصد المتعاقدان فيه إلى نقل الملكية إلا بعد استفاء الشروط، يسرع إلى رفع دعوى صحة التوقيع ويسجل العقد فتنتقل الملكية، ويستطيع التصرف في العقار رغم أنف المتعاقد معه الذي لا يقبل منه أي دفاع في الموضوع.
2/ ومن يعجز عن تحرير عقد صحيح وفقًا للشروط التي يوجبها القانون وتقتضيها لوائح مصلحة المساحة، سواء كان عجزه نتيجة عيوب في مستنداته أو غش في معاملته، يلجأ إلى دعوى صحة التوقيع متخطيًا هذه القيود التي وضعت لضمان المعاملات.
3/ ومن يتواطأ مع آخر على تحرير عقد عن ملك غيره يرفع دعوى صحة التوقيع ليسجل الحكم إضرارًا بالمالك الأصلي، ولا يقبل المالك الحقيقي خصمًا في الدعوى لأنها قاصرة على صحة التوقيع.
وهكذا من ضروب الحيل والابتكارات الضارة التي وجد هذا القانون للتخلص منها أو لا وقبل كل شيء، وبهذا خرجت دعوى صحة التوقيع عن الغرض الذي اقتبست له، وأصبحت لا تحقق المنفعة المرجوة من اقتباسها فضلاً عن مخالفتها للقانون.

مخالفة هذه الدعوى للقانون العام

8 - ووجه المخالفة الظاهر أنها لم تعد دعوى تحقيق خط أو إمضاء، وإنما دعوى إرغام على الاعتراف بالتوقيع للوصول إلى تسجيل العقد، وإن كان هذا مخالفًا لما اتفق عليه المتعاقدان في نفس العقد ومخالفًا أيضًا لنصوص القانون.
وغني عن البيان أن التعهد بالحضور أمام الكاتب المختص للتوقيع على العقد النهائي هو التزام بعمل معين obligation de faire لا يمكن معه استبدال العقد النهائي بالعقد الابتدائي ولا استبدال الكاتب المختص بالقاضي ولا بد فيه من حضور الطرفين بأشخاصهما.
فكيف يجوز عقلاً أن يُكره الإنسان على الاعتراف بتوقيعه دون أن يسمع منه دفاعه عن سبب امتناعه عن تنفيذ هذا الالتزام.
وكيف يجوز قانونًا الحكم بصحة التوقيع لتسجيل عقد لم يتفق الطرفان على تسجيله بحالته ولم يحرراه ليسجلاه، وإنما حرر توطئة لتحرير عقد آخر.
وكيف يستطيع القاضي وهو يعرف هذه النتائج أن يغتصب من أحد الخصمين اعترافه بالتوقيع ليحكم بصحته ويكون بهذا قد صدَّق على عقد كرهًا عن أحد طرفيه.
9 - وإني أستعير هنا عبارات الأستاذ الجليل مرقص بك فهمي في كتابه (بحث في كيف يتم عقد البيع بعد قانون التسجيل): قال حضرته في الصحيفة (16):
(إن تصديق الموظف أو القاضي على توقيع الخصوم أو على عقودهم لا يتصور قانونًا ولا يجوز أن يحصل إلا بحضور أصحاب الشأن وبإقرارهم أمامه أنهم يريدون هذا العقد، ثم بتوقيعهم فعلاً عليه أمامه أما التصديق القهري فإنه عمل لا يُتصور عقلاً).

مخالفة هذه الدعوى لنصوص قانون التسجيل

10 - أشرت فيما تقدم إلى نص المادة السادسة من قانون التسجيل رقم (18) لسنة 1923 التي توجب التصديق على العقود بمعرفة أحد الموظفين أو المأمورين العموميين الذين يعينون بالقرارات المنصوص عنها في المادة السابعة عشرة.
ومن القواعد القانونية الأولية أنه متى رسم القانون طريقًا معينًا لعمل معين وبين الإجراءات التي تتبع فلا يجوز استبدال هذا الطريق بغيره إطلاقًا وإلا كان العمل باطلاً.
وقد بين هذا القانون الطريق والأجزاء في تحرير العقود والتصديق على التوقيع لإمكان تسجيلها فلا يمكن تغييرها.
ولتعيين الموظفين الذين اختارهم القانون حكمة أرادها الشارع لأنه جعلهم مقيدين بمنشورات ولوائح وإجراءات تتغير من وقت لآخر يجب عليهم اتباعها عند التصديق على التوقيع وذلك تحقيقًا للغرض الذي وضع من أجله قانون التسجيل وضمانًا لصدور العقود مستوفية كافة ما يتطلبه القانون حتى تستقر المعاملات وتنتظم السجلات فلا يجوز استبدال هؤلاء الموظفين بغيرهم ممن لا يخضعون لهذه التعليمات.
11 - وليس للقضاء عمل في هذه الإجراءات الشكلية إلا ما نُص عليه في المادة الرابعة والمادة التاسعة أو ما يكون خصومة خاضعة للقانون العام فيرفع أمرها للمحاكم، أما أن القاضي يجعل محل كاتب التصديقات أو محل الموثق فتلك مخالفة ظاهرة:
1/ لأنه لا يجوز استبدال القاضي بالموثق.
2/ لأن الموثق خاضع لتعليمات لا يخضع لها القاضي.
3/ لأن التوقيع على عقد أو التصديق على التوقيع لا يمكن أن يحصل كرهًا أو في غيبة أحد الأخصام.
12 - ومما يدل على أن المشرع كان حريصًا كل الحرص على استيفاء بيانات خاصة في العقود قبل تسجيلها وأنه لا يسمح بتسجيل أي عقد إلا بعد استيفائها أنه نص في نفس القانون رقم (18) سنة 1923 بالمادة الثالثة منه على وجوب ذكر أسماء الطرفين وآبائهم وأجدادهم ومحل إقامتهم وبيان الناحية ونمرة الحوض والقطعة والحدود وأصل الملكية واسم المالك السابق.. الخ ولأهمية هذه البيانات جعل الفصل في استيفائها من عدمه بين ذوي الشأن والكاتب المختص لقاضي الأمور الوقتية (مادة 4).
13 - وجاء بالمادة رقم (13) من قرار وزير الحقانية الخاص بمسك دفاتر التسجيل وإنشاء مأموريات أقلام الرهون المختلطة (صحيفة 11 من مجموعة القوانين والمنشورات الخاصة بالتسجيل):
(لكاتب المأمورية التصديق على إمضاءات الخصوم الموقع بها على المحررات العرفية وكذلك إثبات تاريخ تلك المحررات وذلك كله بعد دفع الرسوم.
وفي المادة رقم (14): إذا كان المحرر العرفي المقدم للتسجيل غير شامل للبيانات المنوه عنها في المادة الثالثة من القانون رقم (19) لسنة 1923 يكلف الكاتب الطالب باستيفاء البيانات.
من هذا ومن غيره يتضح أن الكاتب المختص بالتصديق مكلف بمراجعة بيانات العقد فهو حتى إذا تقدم طرفا العقد للتصديق على توقيعهما لا يجري عملية التصديق إلا بعد التحقق من استيفاء البيانات والشكل القانوني للعقد.
14 - قد يقال أن الحكم بصحة التوقيع لا يمنع استيفاء هذه البيانات عند تقديمه للتسجيل والواقع غير ذلك، لأن أقلام التسجيل مقيدة بأحكام المحاكم ومضطرة إلى احترامها، وكانت محكمة الاستئناف المختلطة قد أصدرت منشورًا بعدم جواز تسجيل أحكام صحة التوقيع ولكنها عُدلت عن هذا المنشور، ومع ذلك فأصحاب هذه الأحكام يلجأون أحيانًا إلى التسجيل في المحاكم الشرعية لوجود سجلات بها ولورود النص في المادة الأولى من القانون رقم (18) سنة 1923 على ذلك إذ تقول المادة المذكورة (جميع العقود الصادرة بين الأحياء.. يجب إشهارها بواسطة تسجيلها.. أو في المحكمة الشرعية).
15 - ما تقدم – في اعتقادي – يكفي لاعتبار دعوى صحة التوقيع التي يقصد بها الوصول إلى تسجيل المحررات العرفية هي دعوى غير مقبولة.
وقد تتبعت الأحكام الصادرة أخيرًا فلم أعثر على حكم بالمعنى المتقدم، ولعلي لم أحسن البحث، لكني وجدت أن التطور سائر في طريقه وربما رجعت إلى استقصاء الأحكام الصادرة في هذا الشأن في فرصة أخرى.
16 - هناك أربعة اعتراضات تُبدى على الرأي المتقدم وهي:
1/ أن في الحكم بعدم قبول دعوى صحة التوقيع مخالفة لنص صريح في المادة (251) مرافعات.
2/ أن تكليف كل صاحب عقد برفع دعوى صحة التعاقد إرهاق إذا كان الطرف الثاني متعنتًا.
3/ أنه يمكن أن يكون الحكم قاصرًا على صحة التوقيع دون الإشارة إلى التسجيل.
4/ أن التسجيل في نفسه لا يصحح العقد الباطل فلا خوف من الحكم بصحة التوقيع وتسجيله.
17 - وجميع هذه الاعتراضات مردودة.
فأولاً: لا مخالفة للقانون في الحكم برفض دعوى صحة التوقيع لأن نطاق تطبيق المادة (251) محدد فإذا تجاوزه المدعي إلى حالة لا يسمح بها القانون كانت دعواه غير مقبولة.
ثانيًا: لا إرهاق لأحد من الخصوم ما دام القانون والعدل يقتضيانه، خصوصًا وأن قانون التسجيل قد افترض فعلاً هذه الحالة ونص صراحة على أن النتيجة الوحيدة لها هي التزامات شخصية إذ العقد الغير المسجل لا ينتج أي أثر عيني، وإذا كان العقد فيه التزامات جائزة التنفيذ فيجب طرح العقد برمته على القضاء في دعوى صحة التعاقد ونفاذه أو في سواها من الدعاوى.
ثالثًا: أن عدم الإشارة إلى التسجيل في الحكم بصحة التوقيع لا يغني من الأمر شيئًا، لأن حكم صحة التوقيع يسجل ولو لم ينص فيه على السماح بالتسجيل، كما أن مثل هذا الحكم مخالف للقانون كما تقدم.
رابعًا: حقيقة لا يصحح التسجيل عقدًا باطلاً أو معيبًا، إنما هذا التسجيل فيه عبث إذا كان العقد سيبطل، إذ لا محل لإجازة تسجيل عقد رغم أنف المتعاقد وهو يطعن عليه بما يبطله.
هذا رأي أنا مقتنع بصحته، وشاعر بمقدار الضرر الذي يصيب الناس من قضايا صحة التوقيع الشائعة فأرجو أن يكون محل تقدير،

محمد صبحي بهجت
المحامي

بحث في دعوى صحة التوقيع وعلاقتها بقانون التسجيل عباس محمد الدسوقي المحامي

مجلة المحاماة - العدد الأول 

 السنة التاسعة عشرة

بحث
في دعوى صحة التوقيع وعلاقتها بقانون التسجيل

قرأت في مجلة المحاماة بالصفحة (547) وما تلاها بعدد يناير وفبراير سنة 1938 بحثًا للأستاذ صبحي أفندي بهجت تحت العنوان السابق ولما كانت لي وجهة نظر مخالفة لحضرته فقد حررت هذا النقد.
1 - قال حضرته أن دعوى صحة التوقيع مبنية على المادة (251) مرافعات أهلي ونصها (يجوز لمن بيده سند غير رسمي أن يكلف من عليه ذلك السند بالحضور أمام المحكمة ولو لم يحل ميعاده لأجل اعترافه بأن هذا السند بخطه أو إمضائه ويكون ذلك التكليف بصفة دعوى أصلية على حسب الأصول المعتادة فيها).
2 - ثم ذكر حضرته نصوص قانون التسجيل الجديد ونص المادة الأولى منه التي توجب تسجيل جميع العقود التي تنشئ الحقوق العينية أو تنقلها الخ - كما ذكر نص المادة السادسة من ذلك القانون التي توجب التصديق على إمضاءات أو أختام الطرفين بمعرفة أحد الموظفين أو المأمورين العموميين الذين يعينون بالقرارات المذكورة في المادة السابعة عشرة.
3 - وقرر حضرته أن القانون حتم أن يكون التصديق على الإمضاءات أمام الموظف المختص، وقد يمتنع أحد الطرفين عن الحضور للتصديق أمام هذا الموظف المختص، وأنه لعلاج هذا التعنت رُئي الالتجاء إلى المادة (251) مرافعات أهلي برفع دعاوى صحة التوقيع بناءً على هذه المادة، وأخيرًا يرى حضرته أن أكثر هذه الدعاوى لم يكن مرجعه تعنت صاحب الإمضاء بل أنها ترجع غالبًا إلى سوء استعمال الحق.
4 - ثم أبدى حضرته اعتراضه على مشروعية دعاوى صحة التوقيع وقرر أنها مخالفة للقانون وضرب مثلاً على ذلك ما يأتي:
( أ ) فمن بيده عقد ابتدائي لم تستوفِ شروطه ولم يقصد المتعاقدان فيه إلى نقل الملكية إلا بعد استيفاء الشروط، يسرع إلى رفع دعوى صحة التوقيع ويسجل العقد فتنقل الملكية.
(ب) ومن يعجز عن تحرير عقد صحيح وفقًا للشروط التي يوجبها القانون وتقتضيها لوائح مصلحة المساحة سواء كان عجزه نتيجة عيوب في مستنداته أو غش في معاملته، يلجأ إلى دعوى صحة التوقيع متخطيًا هذه القيود.
(ج) ومن يتواطأ مع آخر على تحرير عقد عن ملك غيره برفع دعوى صحة التوقيع ليسجل الحكم إضرارًا بالمالك الأصلي، ولا يقبل المالك الحقيقي خصمًا في الدعوى لأنها قاصرة على صحة التوقيع هذه هي مقدمة لآراء حضرته وفيما يلي الأدلة التي يحتج بها على عدم مشروعية دعوى صحة التوقيع وردي عليها.
أولاً: مخالفة هذه الدعوى للقانون العام ولنصوص قانون التسجيل:
وجه المخالفة في رأي حضرته أنها لم تصبح دعوى صحة توقيع أو إمضاء وإنما أصبحت دعوى إرغام على الاعتراف بالتوقيع للوصول إلى تسجيل العقد، وأنه لا يجوز للقاضي أن يغتصب من أحد الخصمين اعترافه بالتوقيع للحكم بصحته ويكون بهذا قد صدق على عقد كرهًا عن أحد طرفيه، واقتبس تأييدًا لرأيه عبارة للأستاذ مرقص بك فهمي وهي (أن تصديق الموظف أو القاضي على توقيع الخصوم أو على عقودهم لا يتصور قانونًا ولا يجوز أن يحصل إلا بحضور أصحاب الشأن وبإقرارهم أمامه أنهم يريدون هذا العقد، ثم بتوقيعهم فعلاً عليه أمامه، أما التصديق القهري فإنه عمل لا يتصور عقلاً).
واعتمد حضرته على هذا ليحكم بحرمان القاضي من الحكم بصحة التوقيع.
وفي رأيي أن المادة (251) مرافعات أهلي وما تلاها قد أعطت القاضي سلطة الموثق بالنسبة للتصديق على الإمضاء أو الختم والأدلة على ذلك ما يأتي:
( أ ) تقول المادة (لأجل اعترافه بأن هذا السند بخطه أو إمضائه) وظاهر من النص أن المطلوب الحصول على تصديق المحكمة على اعتراف الخصم بالإمضاء.
(ب) تقول المادة (ولو لم يحل ميعاده) وهذا النص يدل على أن المطلوب من القاضي هو تحرير محضر بالتصديق على الاعتراف لا أن يحكم حكمًا في حق لم يحصل ميعاده بعد، أي أن القاضي موثق وهذا بالطبع في حالة اعتراف صاحب الإمضاء.
(ج) وأقطع مما تقدم في سلطة التوثيق أن المادة (252) مرافعات تقول (وفي حالة الاعتراف تصدق المحكمة على ذلك لمن طلبه وتكون كافة المصاريف عليه).
كما أن للقاضي بموجب القانون العام أن يرغم المتعاقد على تنفيذ تعهده بإلزامه بالتوقيع الذي أبى أن يقوم به أمام الكاتب المختص، وذلك استنادًا إلى أن القاضي هو السلطة التي ترغم المتعاقدين على تنفيذ التزاماتهم، كما أن قانون التسجيل نفسه يرتب على العقود العرفية غير المسجلة التزامات شخصية ومن أظهر هذه الالتزامات الالتزام بالتوقيع من جانب صاحب الإمضاء أسوة بتسليم العقار وغير ذلك.
أما عن البيانات المشترطة في العقود ولإمكان تسجيلها فلا خوف من هذه النقطة أولاً لأن القاضي لا يتعرض في حكمه بصحة التوقيع لغير البحث في حصول التوقيع من عدمه - وثانيًا - لأن قانون التسجيل نص في المادة السابعة على وجوب تسجيل عرائض الدعاوى التي تمس الحقوق العينية، ولذلك تحتم أقلام كتَّاب المحاكم ضرورة مراجعة هذه العرائض والتأشير عليها من مصلحة المساحة لاستيفاء كافة البيانات التي يشترطها قانون التسجيل ولا يمكن قبول تلك الدعاوى للإعلان أو القيد ما لم تؤشر عليها مصلحة المساحة، وإذن تكون تلك الأحكام بعد صدورها قابلة للتسجيل بعد مراجعتها ومطابقتها لعريضة الدعوى ولا تختلف عن نتيجة مراجعة العقد نفسه بمعرفة أقلام التسجيل.
وبيَّن حضرة الأستاذ أوجه الاعتراض على نظريته وهذه الاعتراضات هي:
1 - أن الحكم بعدم قبول دعوى صحة التوقيع مخالف لصريح المادة (251) مرافعات) ورده على هذا أن نطاق تلك المادة محدود فإذا تجاوزه المدعي إلى حالة لا يسمح بها القانون كانت دعواه غير مقبولة - وأرى أن هذا رد غير مقنع وأن نص المادة مطلق غير مقيد فلم تحرم دعوى صحة التوقيع في أحوال وتجيزها في أحوال أخرى، والقول بعدم قبول دعوى صحة التوقيع لا أساس له من القانون ما دامت المادة (251) مرافعات قائمة بل أن هذه المادة رحمة وعلاج لمن بيده عقد ويأبى خصمه التوقيع نكثًا بعهوده.
2 - يرى حضرة الأستاذ ضرورة رفع دعوى صحة التعاقد بدلاً من دعوى صحة التوقيع وأرى أن ما أبديته بالنسبة للمراجعة للعرائض على يد من المساحة كافٍ لزوال كل اعتراض، ولا يمكن إجبار المدعي على طرح عقده برمته على القضاء وله أن يقتصر على طلب الحكم بصحة التوقيع.
3 - أن التسجيل لا يصحح العقد الباطل فلا خوف من الحكم بصحة التوقيع وبتسجيله - ويرد حضرته على هذا الاعتراض بقوله إن هذا التسجيل عبث إذا كان العقد سيبطل إذ لا محل لإجازة تسجيل عقد رغم أنف المتعاقد وهو يطعن عليه بما يبطله.
وردنا على ذلك أنه لا خطر من التسجيل ما دامت البيانات الشكلية مستوفاة بالمرور من مصلحة المساحة وما دامت الإمضاءات مصدقًا عليها أمام القاضي نفسه على أن التصديق أمام الكاتب لا يمنع كل الطعون الخاصة بموضوع العقد كما هو واقع أمامنا كل يوم فلكل طرف أن يطعن بالصورية أو بالغش أو بالخطأ في البيانات الخ – فما يخشاه حضرة الأستاذ في حالة الحكم بصحة التوقيع واقع أيضًا في حالة التصديق أمام قلم الكتاب.
4 - أنه يمكن جعل الحكم قاصرًا على صحة التوقيع دون الإشارة إلى الإذن بالتسجيل - ويرد حضرته على هذا الاعتراض بقوله إن هذا الحكم يسجل برغم عدم النص على الإذن بالتسجيل في الحكم - ونقول أن أغلب الأحكام لا تنص على الإذن بالتسجيل قائلة أن ذلك ليس من شأن المحكمة بل مرجعه استيفاء إجراءات شكلية بمعرفة أقلام التسجيل وهذه لا تسجل الحكم إلا إذا كانت البيانات كلها مستوفاة.
ومن رأيي أنه لا محل لحرمان القاضي من سلطة الحكم بصحة التوقيع المخولة له بالمادة (251) مرافعات بغير إلغاء هذا النص وحرمان المتمسك بالعقد من الانتفاع بهذه المادة ولا محل لإلزام المتعاقد بسلوك طريق دعوى صحة التعاقد إذ لا شك أن دعوى صحة التعاقد لها من الأسانيد القانونية والأحكام المقررة ما يجعلها غوثًا للمنكوبين وعقابًا للمتعنتين.

عباس محمد الدسوقي
المحامي