جلسة 29 من يونيه سنة 1964
برياسة السيد المستشار/
عادل يونس، وبحضور السادة المستشارين: أديب نصر، ومحمد صبري، ومحمد محمد محفوظ،
ومحمد عبد المنعم حمزاوي.
-------------
(103)
الطعن رقم 486 لسنة 34
القضائية
(أ، ب) مسئولية جنائية.
موانع العقاب. "الجنون والعاهة في العقل". محكمة الموضوع. حكم.
"تسبيبه. تسبيب غير معيب".
(أ) المرض العقلي الذي
يوصف بأنه جنون أو عاهة في العقل وتنعدم به المسئولية الجنائية قانوناً: هو الذي
من شأنه أن يعدم الشعور والإدراك. سائر الأمراض والأحوال النفسية التي لا تفقد
الشخص شعوره وإدراكه لا تعد سبباً لانعدام المسئولية.
(ب) تقدير حالة المتهم
العقلية. من الأمور الموضوعية. استقلال محكمة الموضوع بالفصل فيها. ما دامت تقيم
تقديرها على أسباب سائغة.
(ج، د) إثبات.
"خبرة". دفاع. "الإخلال بحق الدفاع. ما لا يوفره".
(ج) متى تلتزم المحكمة
بالالتجاء إلى أهل الخبرة؟ في المسائل الفنية البحتة التي يتعذر عليها أن تشق
طريقها فيها.
(د) عدم التزام المحكمة
بندب خبير آخر في الدعوى تحديداً لمدى تأثير مرض المتهم على مسئوليته الجنائية.
طالما أن الدعوى قد وضحت لها.
(هـ) حكم. "تسبيبه.
تسبيب غير معيب".
التناقض الذي يبطل الحكم:
هو الذي من شأنه أن يجعل الدليل متهادماً متساقطاً لا شيء فيه باقياً يمكن أن
يعتبر قواماً لنتيجة سليمة يصح معه الاعتماد عليها والأخذ بها.
(و) حكم. "تسبيبه. ما
لا يعيب الحكم في نطاق التدليل".
تزيد الحكم فيما استطرد
إليه. لا يعيبه. طالما أنه لا أثر له في منطقه أو في النتيجة التي انتهى إليها.
------------
1
- من المقرر أن الحالات
النفسية ليست في الأصل من حالات موانع العقاب كالجنون والعاهة في العقل اللذين
يجعلان الجاني فاقد الشعور والاختيار في عمله وقت ارتكاب الجريمة وفقاً لنص المادة
62 من قانون العقوبات. وقد جرى قضاء محكمة النقض على أن المرض العقلي الذي يوصف
بأنه جنون أو عاهة في العقل وتنعدم به المسئولية الجنائية قانوناً هو ذلك المرض
الذي من شأنه أن يعدم الشعور والإدراك أما سائر الأمراض والأحوال النفسية التي لا
تفقد الشخص شعوره وإدراكه فلا تعد سبباً لانعدام المسئولية.
2 - الأصل أن تقدير حالة
المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت
تقيم تقديرها على أسباب سائغة.
3 - لا تلتزم المحكمة
بالالتجاء إلى أهل الخبرة إلا فيما يتعلق بالمسائل الفنية البحتة التي يتعذر عليها
أن تشق طريقها فيها.
4 - لا تلتزم المحكمة
بندب خبير فني آخر في الدعوى تحديداً لمدى تأثير مرض المتهم على مسئوليته الجنائية
طالما أن الدعوى قد وضحت لها.
5 - التناقض الذي يبطل
الحكم هو الذي من شأنه أن يجعل الدليل متهادماً متساقطاً لا شيء فيه باقياً يمكن
أن يعتبر قواماً لنتيجة سليمة يصح معه الاعتماد عليها والأخذ بها.
6 - تزيد الحكم فيما
استطرد إليه لا يعيبه طالما أنه لا أثر له في منطقه أو في النتيجة التي انتهى
إليها.
الوقائع
اتهمت النيابة العامة
الطاعن بأنه في 3 ديسمبر سنة 1961 بندر المحلة الكبرى محافظة الغربية: قتل منير
تادرس فام عمداً بأن أطلق عليه عياراً نارياً قاصداً من ذلك قتله فأحدث به
الإصابات الموصوفة بتقرير الصفة التشريحية والتي أودت بحياته. وقد اقترنت هذه
الجناية بجناية أخرى هي أنه في المكان والزمان سالفي الذكر: أولاً - قتل بولين
نقولا زيتوس عمداً بأن أطلق عليها عياراً نارياً قاصداً من ذلك قتلها فأحدث بها الإصابات
الموصوفة بتقرير الصفة التشريحية والتي أودت بحياتها. ثانياً - شرع في قتل نادية
تادرس فام عمداً بأن أطلق عليها عياراً نارياً قاصداً من ذلك قتلها فأحدث بها
الإصابات الموصوفة بالتقرير الطبي وخاب أثر الجريمة لسبب لا دخل لإرادته فيه هو
تدارك المجني عليها بالعلاج. ثالثاً - شرع في قتل مجدي تادرس فام عمداً بأن أطلق
عليه عياراً نارياً قاصداً من ذلك قتله فأحدث به الإصابات الموصوفة بالتقرير الطبي
وخاب أثر الجريمة لسبب لا دخل لإرادته فيه وهو تدارك المجني عليه بالعلاج. رابعاً
- شرع في قتل مجدي إبراهيم إسحاق عمداً بأن أطلق عليه عياراً نارياً قاصداً من ذلك
قتله فأحدث به الإصابات الموصوفة بالتقرير الطبي الشرعي وخاب أثر الجريمة لسبب لا
دخل لإرادته فيه هو تدارك المجني عليه بالعلاج الأمر المنطبق على المواد 45/ 1 و46
و234/ 1 من قانون العقوبات. وطلبت إلى غرفة الاتهام إحالته إلى محكمة الجنايات
لمحاكمته بالمادة 234/ 2 من قانون العقوبات. فقررت الغرفة ذلك. وقد ادعى زاهر
إبراهيم تادرس بصفته وصياً على جيزيل منير تادرس وفخري منير تادرس قاصري القتيلين
بحق مدني قبل المتهم وطلب القضاء له قبله بمبلغ سبعة آلاف جنيه إلى الأولى ومبلغ خمسة
آلاف جنيه إلى الثاني على سبيل التعويض. كما ادعت آمال منير تادرس ابنة القتيلين
(الرشيدة) قبل المتهم أيضاً بمبلغ أربعة آلاف جنيه. وادعى أيضاً متياس فارة نيان
ابن المجني عليها بولين نقولا بحق مدني قبل المتهم بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه وذلك على
سبيل التعويض. ومحكمة جنايات طنطا قضت حضورياً بتاريخ 6 من فبراير سنة 1964 عملاً
بمواد الاتهام مع تطبيق المادة 17 من قانون العقوبات: أولاً - بمعاقبة المتهم
بالأشغال الشاقة المؤبدة. ثانياً - إلزامه بأن يدفع لزاهر تادرس بصفته وصياً على
القاصرة جيزيل منير تادرس الشهيرة بلوليتا مبلغ خمسة آلاف جنيه. وله أيضاً بصفته
وصياً على القاصر مجدي منير تادرس مبلغ ألفين من الجنيهات وأن يدفع لآمال منير
تادرس الشهيرة بنينيت مبلغ خمسمائة جنيه وأن يدفع ليناس ميتياس فارتانيان الشهير
بهاجوب أوبوبول مبلغ مائتين من الجنيهات وذلك كله على سبيل التعويض المدني لكل
منهم مع إلزام المتهم المصروفات المدنية المناسبة لكل مبلغ من المبالغ المذكورة
ومبلغ عشرة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة. فطعن الطاعن في هذا الحكم بطريق النقض...
إلخ.
المحكمة
حيث إن مبنى الطعن هو أن
الحكم المطعون فيه إذ دان الطاعن بجريمة القتل العمد المقترن بجنايات القتل
والشروع فيها قد خالف القانون وانطوى على إخلال بحق الدفاع كما شابه قصور وتناقض
في التسبيب وفساد في الاستدلال ذلك بأن ما ذهب إليه الحكم من أن الأمراض النفسية
لا تؤدي إلى فقدان الشعور أو الإدراك بمقولة إنها لا تعد من أمراض العقل التي
يترتب عليها انعدام المسئولية الجنائية يتنافى مع ما هو ثابت علمياً وما أجمع عليه
الشراح في بيان مدلول عبارة "عاهة في العقل" التي أشار إليها نص المادة
62 من قانون العقوبات من أنها عبارة عامة تتسع لكل ما يستجد في عالم الطب العقلي
أو النفسي من أحوال الاختلال العقلي أو الأمراض النفسية التي تعدم الشعور أو
الاختيار، هذا فضلاً عن أن المحكمة بعد أن استجابت في أول الأمر إلى ما طلبه
الدفاع من فحص حالة الطاعن النفسية والعقلية وأصدرت قراراً بتحقيقه عادت واكتفت
بما جاء خلواً بتقرير الأطباء الثلاثة الذي انتهى إلى عدم إصابة الطاعن بحالة
عقلية مرضية أو بنوبات صرعية وأنه يعتبر مسئولاً عما صدر منه في حين أن هذا
التقرير جاء خلواً من فحص حالة الطاعن من الناحية النفسية التي أصر الدفاع على
وجوب فحصها بواسطة المختصين الفنيين في الأمراض النفسية والتفت الحكم عن هذا
الدفاع بحجة أنه سبق فحص حالة الطاعن العقلية وأن هذا الطلب غير منتج قولاً منه
بأن الأمراض النفسية لا تؤدي إلى انعدام الشعور أو الاختيار وهو قول يكشف عن فساد
استخلاص الحكم لمرامي الدفاع وما أثاره في هذا الخصوص من أن الطاعن مصاب بحالة
نفسية شاذة كامنة من شأنها أن تفقده الوعي والسيطرة على إرادته في لحظة ارتكابه
الجريمة ولا يتأتى كشف هذه الحالة إلا بواسطة أخصائي في الأمراض النفسية وخصوصاً
أن تقرير الأطباء الشرعيين الثلاثة أشار إلى ظواهر نفسية تنم عن إصابته بهذه
الحالة فضلاً عن أن ما رد به الحكم على ذلك الدفاع لا يستقيم مع ما هو من أنه لا
يجوز للمحكمة أن تحل نفسها محل الخبير الفني في شأن مسألة فنية. هذا إلى أن تقرير
الأطباء المذكورين شابه التناقض وجاء مبنياً على الظن والاحتمال في صدد ما انتهى
إليه من قول بسلامة إدراك الطاعن وهو ما حدا بالدفاع إلى التمسك بطلب ندب أخصائي
في أبحاث علم النفس والتحليل النفسي لفحص حالة الطاعن وقت ارتكاب الحادث لاحتمال
إصابته بحالة عقلية غير عادية لم يتسن للأطباء الشرعيين الثلاثة كشفها، كما أن ما
استند إليه الحكم علاوة على ما جاء في هذا التقرير من الوقائع التي سردها في تبين
حالة الطاعن العقلية هو استدلال غير سليم، ذلك لأن تلك الوقائع وإن كانت تنم عن
سلامة تصرفات الطاعن عقب الحادث إلا أنها لا تدل على سلامة حالته العقلية وقت
ارتكابه مما يعيب الحكم المطعون فيه ويستوجب نقضه.
وحيث إن الحكم المطعون
فيه حصل واقعة الدعوى بما مجمله أن الخلاف الذي كان قد نشب بين أسرتي الطاعن
وزوجته وتعددت مظاهره قد تطور حتى أفضى إلى تبادل والديهما الضرب وتقديم الشكاوى
كل في حق الآخر وأدى إلى إساءة الطاعن معاملة زوجته حتى أنه استولى على مصاغها لكي
يمنعها من السفر إلى القاهرة لزيارة ذويها وما أن سمع والداها بذلك حتى قصدا في
صباح يوم الحادث إلى المحلة الكبرى ومعهما ابنهما مجدي وابنتهما الصغيرة جيزيل
لاصطحاب زوجة الطاعن - ابنتهما - معهم إلى القاهرة. وما أن دخلوا إلى مسكن الطاعن
حتى القوه جالساً مرتدياً ملابسه المنزلية بعد أن عاد من عمله الرسمي فقابلهم
بجفاء. وما أن أفضت الزوجة بشكواها منه إلى والديها حتى أمرها والدها بارتداء
ملابسها لاصطحابها معهم إلى القاهرة فاعترض الطاعن على ذلك وحدثت مناقشة بينه وبين
والدها تطورت إلى أن أخرج الطاعن مسدسه الحكومي وشهره في وجه حميه وصوبه نحوه
منتوياً أن يتخذ منه ومن باقي أفراد أسرته غرضاً لرصاصه وما كاد صهره يتحداه بأن
يطلق النار حتى أمطره وأفراد أسرته بوابل من رصاص مسدسه وبدأ بصهره فأطلق عليه
عياراً قاصداً قتله فأصابه في بطنه ونفذ المقذوف من وحشية إليته اليمنى فخر على
أرض الصالة مضرجاً بدمائه. ثم عاجل حماته بطلق آخر قاصداً به قتلها فأصابها في
بطنها ونفذ من ظهرها وأصاب في الوقت نفسه الطفل مجدي ابنه الذي كانت تحمله وقت
إصابتها وما أن وثب نحوه مجدي نجل القتيلين ليمنعه من متابعة إطلاق النار حتى
أصابه بطلق ثالث قاصداً قتله، دخل من وحشية فخذه اليسرى ونفذ من أنسية تلك الفخذ
ثم دخل بأنسية فخذه اليمنى وخرج من وحشيتهما وقد هرعت زوجته عندما سمعت صوت
العيارات من حجرة النوم لترى ما حل بأهلها فتلقاها الطاعن بطلق رابع بنية قتلها
نفذ من بطنها وقتل جنيناً في أحشائها في شهره السابع الرحمي فسقطت تتلوى إلى جانب
أهلها على أرض الصالة وقد تحاملت والدتها رغم جراحها مسرعة إلى شقة مجاورة في طلب
سيارة الإسعاف التي وصلت بعد دقائق وقامت بنقلها هي وباقي المصابين إلى المستشفى
الأميري بالمحلة الكبرى، وقد أسرع الطاعن قبل وصول سيارة الإسعاف إلى مقر الشرطة
ومعه مسدسه الحكومي المستعمل في الحادث وقدمه لمأمور القسم ومعه بضع عشرة طلقة حية
علاوة على طلقة أخرى وأبلغه بأن أفراد أسرة الزوجة أصيبوا بيده من هذا المسدس وكان
ذلك بإهمال منه أثناء قيامه بتنظيف المسدس في حضورهم عقب وصولهم إلى مسكنه فطير
المأمور نبأ الحادث إلى الجهات المختصة. وفي اليوم التالي توفى والدا الزوجة
متأثرين بإصاباتهما بعد أن أدلى كل منهما بأقواله إلى وكيل النيابة المحقق وشفي
باقي المصابين من إصاباتهم بعد تداركهم بالعلاج. وأورد الحكم على ثبوت الواقعة
لديه على هذه الصورة في حق الطاعن أدلة مستمدة مما حصله من أقوال المجني عليهم
والدي زوجته وشقيقيها وزوجته ومما دلت عليه المعاينة. ومن الكشوف الطبية وتقارير
الصفة التشريحية، وبعد أن أورد الحكم ما استخلصه من اطلاعه على محضر الجنحة رقم
6527/ 1961 قسم أول طنطا لإثبات النزاع المستمر السابق على الحادث بين والد الطاعن
ووالد زوجته وما حصله من أقوال الطاعن في التحقيق في شأن إنكاره تعمد إطلاقه النار
على المجني عليهم وأن إصاباتهم وقعت منه نتيجة لإهماله وعدم احتياطه في أثناء
محاولته إخراج المشط من المسدس عقب وصولهم إلى مسكنه وما رواه في هذا الشأن من
تعليلات مختلفة سبباً لانطلاق المقذوفات من مسدسه وإنكاره في البداية الخلاف بينه
وبين أهل زوجته ثم اعترافه به عرض لما أثاره الدفاع من انعدام شعور الطاعن وتمييزه
وقت وقوع الحادث لخلل في قواه العقلية وللاضطراب النفسي "القلق العصبي"
الذي أصيب به قبل الحادث فاستعرض أسس انعدام المسئولية الجنائية بسبب الخلل في
القوى العقلية وحكم القانون فيها طبقاً لنص المادة 62 من قانون العقوبات وما كان
عليه هذا النص قبل تعديله ومقارنته بما هو منصوص عليه في هذا الخصوص في التشريع
المقارن وما قاله الشراح في هذا الصدد من أنواع الأمراض العقلية التي تعدم الشعور
والاختيار والفرق بينها وبين الأمراض النفسية التي لا تنتج الأثر نفسه الذي
للأمراض العقلية في انعدام المسئولية الجنائية واستطرد إلى ما استخلصه من
التقريرات العلمية في هذا الصدد من تفرقة بين الاضطراب العقلي وغيره من الاضطرابات
النفسية التي مردها اختلال الغرائز والعواطف مما لا صلة له بالتمييز والإدراك،
وبعد أن استعرض مراحل العمليات النفسية وأثارها أثبت مؤدى ما قاله الأطباء
الشرعيين الثلاثة في تقريرهم الذين ندبتهم المحكمة لفحص حالة الطاعن العقلية بناء
على طلب الدفاع المؤسس على ما أجروه من تحقيقات وفحص طبي وملاحظاتهم في هذا الخصوص
والنتيجة التي انتهوا إليها من أن الطاعن يتمتع بصحة عادية عامة وبسلامة جهازه
العصبي وأنه لم تسبق إصابته بمرض عقلي أو نوبات صرعية أو نوبات إيهام في حالة
الوعي في الماضي والحاضر ولا توجد عنده أفكار اضطهادية أو هلوسة أو معتقدات
هذيانية وأنه يعتبر مسئولاً جنائياً عما صدر منه من أفعال مشيراً إلى الأسانيد
والحقائق التي ركن إليها تقرير أولئك الأطباء تدعيماً لما وصلوا إليه من نتيجة عول
عليها الحكم وتبناها بالإضافة إلى ما لاحظته المحكمة بنفسها عملاً بحقها الموضوعي
من توافر ملكات الوعي لديه أخذاً من أقواله وأفعاله كما تضمنتها الأوراق وأنهى من
ذلك إلى أن مسلك الطاعن وأقواله وأفعاله عقب الحادث تفصح عن توافر الملكات الواعية
لديه وقت وقوع الحادث وتكشف عن توافر التمييز لديه وعلى قدرته على حسن التفكير
وسلامة التدبير العقلي مما يجعله واقعا تحت طائلة المسئولية الجنائية، ثم خلص
الحكم من كل أولئك إلى رفض الدفع بانعدام المسئولية الجنائية تأسيساً على ما أثاره
الدفاع من إصابة الطاعن بخلل في قواه العقلية، وعرج الحكم بعد ذلك إلى ما تمسك به
الدفاع من أن الطاعن مصاب بمرض نفسي وأن تقرير الأطباء الثلاثة قد خلا من بحث
حالته النفسية وما أصر عليه من استدعاء خبير نفسي لفحص حالة الطاعن النفسية، ورد
عليه بما محصله أن ما يطلبه الدفاع في هذا الخصوص متعين الرفض لعدم توافر شروطه
الهامة ومنها أن يكون هذا الطلب منتجاً في الدعوى ثم مضى الحكم إلى استعراض
الشواهد المؤيدة لسلامة استخلاصه في هذا الصدد بما مؤداه أنه وإن كان الدفاع قد
ذهب إلى أن انعدام المسئولية الجنائية لا يقتصر في خصوص تطبيق المادة 62 من قانون
العقوبات على مجرد إصابة المتهم بمرض عقلي بل تشمل إصابته بمرض نفسي أيضاً إذا كان
من شأن هذا المرض الأخير أن يفقده الشعور والإدراك وأن بحث هذا المرض النفسي لم
يجر ولم يكن من شأنه أن يجرى بمعرفة الأطباء الثلاثة الذين حرروا التقرير الخاص
بفحص الحالة العقلية وإنما يتعين أن يكون فحصه على يد خبير نفساني وطلب استدعاء
خبير كالأستاذ محمد فتحي، إلا أن المحكمة ترى أن الطلب لا محل لإجابته ولا جدوى من
ورائه لمخالفته للمقررات العلمية المجمع عليها في الوقت الحاضر والتي تحصر انعدام
المسئولية الجنائية في المرض العقلي وحده دون النفسي وكل ما لهذا المرض النفسي من
أثر هو التخفيف من المسئولية الجنائية إلى حد ما وهو عين ما ينادي به الخبير الذي
طلب الدفاع استشارته. ثم استطرد الحكم وهو بسبيل رفضه لهذا الطلب إلى مجابهة
الحقائق الطبية والواقعية فقال إن المحكمة ترى من مؤدى أقوال الدكتور عادل زكي
الأخصائي النفساني بمستشفى طنطا والدكاترة أعضاء القومسيون الطبي في التحقيقات
وتقاريرهم في تحديد نوع مرض الطاعن بأنه مرض خارج عن دائرة الأمراض العقلية وتحديد
أثره بأنه لا يعدم المسئولية الجنائية ثم أشار الحكم إلى التقرير القانوني في شأن
الأمراض النفسية التي لا تفقد الشعور والإدراك كالسيكوباتية والتي لا تعد سبباً
لانعدام المسئولية الجنائية في نظر القضاء واختتم الحكم وهو بمعرض رده على الدفاع
المتقدم قوله، ولذا لا يكون ثمة محل لما ذهب إليه الدفاع من أن انتفاء المرض
العقلي المعدم للشعور لدى المتهم الحالي طبقاً للتقرير الطبي الخاص بفحص حالته
العقلية لا يترتب عليه حتماً سلامته من المرض النفسي المعدم للشعور أو الإدراك لا
محل ذلك لأنه متى بلغ المرض المبلغ الذي ينعدم به الشعور والإدراك فإنه يخرج من
قائمة الأمراض النفسية ويدرج في عداد الأمراض العقلية ومن ثم لا تعول المحكمة على
ما نعى به الدفاع على التقرير الطبي سالف الذكر من خلوه من بحث الحالة النفسية
المعدمة للشعور لدى المتهم لأن إغفال التقرير لبحث الحالة النفسية ليس إغفالاً
لعامل يعتد به القانون في القول بانعدام المسئولية الجنائية. ثم عرض الحكم وهو في
معرض تبريره لرفض طلب الدفاع الخاص بالفحص النفساني إلى الناحية الموضوعية للدعوى
فأشار إلى أن الطاعن قد استوفى حقوق دفاعه كاملة وأنه حين طلب تأجيل القضية مع
التصريح له بتقديم تقرير استشاري أجيب إلى طلبه ثم عاد وأكد هذا الطلب بجلسة أخرى
ثم طلب بجلسة تالية الاطلاع على التقرير الطبي العقلي مع التصريح له بتقديم تقرير
استشاري فصرح له بذلك مع تأجيل القضية إلى جلسة أخرى وفي هذه الجلسة الأخيرة لم
يتقدم الدفاع من جانبه بالتقرير الاستشاري الذي وعد به مراراً وتكراراً على توالي
الجلسات ومن ثم يكون عدم تقديم هذا التقرير أمراً لا دخل للمحكمة به وإذا كان
الدفاع قد استبدل في جلسة المرافعة الأخيرة بهذا الطلب طلباً آخر هو تأجيل القضية
ثانية لفحص الأمراض النفسية للطاعن وإحالته إلى خبير نفساني لإجراء هذا الفحص وكذا
مناقشة الطبيب النفساني الدكتور عادل زكي الذي أوقع الكشف النفساني على الطاعن في
أوائل سنة 1961 فإن المحكمة لا ترى إجابة هذا الطلب لانعدام الجدوى من ورائه وعدم
إنتاجه في الدعوى أو تنوير وجه الحق فيها لأن المرض النفساني الذي يدعيه على فرض
ثبوته لا يؤثر في سلامة عقله وإدراكه وبالتالي لا يعدم المسئولية الجنائية عما
ارتكبه من أفعال. وخلص الحكم من ذلك إلى القول بثبوت سلامة القوى العقلية للطاعن
وإلى توافر مسئوليته الجنائية وقت الحادث عن الأفعال التي ارتكبها. لما كان ما
تقدم، وكان الحكم المطعون فيه قد بين واقعة الدعوى بما تتوافر به كافة العناصر
القانونية لجريمة القتل العمد المقترنة بجرائم القتل والشروع فيها التي دين بها الطاعن
وأورد على ثبوتها في حقه أدلة من شأنها أن تؤدي إلى ما رتبه عليها وكان الحكم قد
انتهى إلى توافر مسئولية الطاعن الجنائية مستنداً في ذلك إلى الأخذ بما جاء
بالتقرير الطبي عن فحص حالة الطاعن من الناحية العقلية وعن مسئوليته عما صدر منه
من أفعال وكان ذلك على أساس أن فيصل التفرقة بين المرض العقلي والمرض النفسي إنما
هو انعدام الشعور والإدراك الذي هو من خصائص المرض الأول دون الأخير ومن ثم فإن
أثر المرض الأول في المسئولية يعدمها بنص القانون في حين أن المرض الثاني لا يؤثر
فيها قانوناً وإن كان يجوز اعتباره مسوغاً لتخفيف العقاب. هذا إلى أن المرض النفسي
إذا بلغ المرحلة التي بمقتضاها ينعدم به الشعور والإدراك فإنه يخرج من عداد
الأمراض النفسية ويندرج في قائمة الأمراض العقلية وهو تقرير سائغ وصحيح في القانون
ذلك بأنه من المقرر أن الحالات النفسية ليست في الأصل من حالات موانع العقاب
كالجنون والعاهة في العقل اللذين يجعلان الجاني فاقد الشعور والاختيار في عمله وقت
ارتكاب الجريمة وفقاً للقانون، ومن ثم فلا محل لمسايرة الطاعن فيما ذهب إليه من
أنه إلى جانب الأمراض العقلية التي تعدم الإدراك والتمييز توجد الأمراض التي قد
تصيب النفس فتأخذ حكم الاختلال العقلي. ذلك لأن التشريع الجنائي المصري الحالي لا
يعرف هذه التفرقة ولم ينص عليها وكل ما في الأمر أن قانون العقوبات قد نص في
المادة 62 منه على أنه لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت
ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل وبالتالي فإن هاتين الحالتين اللتين
أشارت إليهما هذه المادة دون غيرهما ورتبت عليهما الإعفاء من العقاب هما اللتان
يجعلان المصاب بهما وقت ارتكاب الجريمة فاقداً للشعور أو الإدراك في عمله. لما كان
ذلك، وكان قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن المرض العقلي الذي يوصف بأنه جنون أو
عاهة في العقل وتنعدم به المسئولية الجنائية قانوناً هو ذلك المرض الذي من شأنه أن
يعدم الشعور والإدراك أما سائر الأمراض والأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص شعوره
وإدراكه فلا تعد سبباً لانعدام المسئولية ولما كانت المحكمة قد مكنت الطاعن من
استيفاء حقوق دفاعه كاملة فصرحت له بتقديم تقرير استشاري ولكنه لم يقدمه وأحالته
إلى خبراء شئون الأمراض العقلية والعصبية وتم فحصه فعلاً، وكان الحكم قد أثبت أن
الطاعن خال من أي مرض عقلي وأنه مسئول عما وقع فيه أخذاً بالتقرير الطبي العقلي
الذي اطمئن إليه في حدود سلطته التقديرية، وكان يبين من محضر جلسة المحاكمة أن ما
طلبه الدفاع من إجراء فحص نفساني للطاعن كان مبناه القول بإصابته بقلق عصبي من
شأنه أن يعدم مسئوليته الجنائية، وكانت المحكمة قد رفضت هذا الطلب للأسباب السائغة
التي أوردتها والتي من شأنها أن تبرر رفضه. لما كان ذلك، وكانت المحكمة غير ملزمة
بندب خبير فني آخر في الدعوى تحديداً لمدى تأثير مرض الطاعن. بفرض وجوده. على
مسئوليته الجنائية بعد أن وضحت لها الدعوى والأصل أن تقدير حالة المتهم العقلية من
الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت تقيم تقديرها على
أسباب سائغة كما هي واقع الحال في الدعوى المطروحة. هي لا تلتزم المحكمة بالالتجاء
إلى أهل الخبرة إلا فيما يتعلق بالمسائل الفنية البحتة التي يتعذر عليها أن تشق
طريقها فيها، وما دام أن المحكمة قد انتهت في منطق سليم لا مخالفة فيه للقانون إلى
أن المرض النفسي الذي يدعيه الطاعن لا أثر له على سلامة عقله وصحة إدراكه، فإن ما
ينعاه الطاعن على الحكم من دعوى مخالفة القانون والإخلال بحق الدفاع لا يكون له
محل. لما كان ما تقدم، وكان ما ينعاه الطاعن على الحكم من قالة التناقض بين فقرات
التقرير الطبي العقلي الذي عول عليه الحكم تأسيساً على أنه بعد أن أثبت أنه لا
يوجد ما يشير إلى إصابة الطاعن بحالة عقلية مرضية أو بنوبات صرعية يتأثر فيها وعيه
سواء في الوقت الحاضر أو في الماضي عاد وذكر بأن تصرفاته وكيفية ارتكابه الجريمة
وتسليمه نفسه للشرطة بعد ذلك وإن كانت تدعو إلى الشك في أنه لم يكن في حالة عقلية
عادية وقت الحادث إلا أنه باستعراض تاريخ الطاعن المرضي ونتيجة فحصه الطبي العقلي
لا يسفر عن التوصل إلى ما يشير إلى إصابته بحالة عقلية مرضية أو بنوبات صرعية...
إلخ. ما أورده التقرير فيما تقدم لا تناقض فيه. واستناد الحكم إلى الدليل المستمد
منه لا يقدح في سلامته ذلك لأن التناقض الذي يبطل الحكم هو الذي من شأنه أن يجعل
الدليل متهادماً متساقطاً لا شيء فيه باقياً يمكن أن يعتبر قواماً لنتيجة سليمة
يصح معه الاعتماد عليها والأخذ بها. ولما كان التقرير قد خلا من شبهة التناقض الذي
يسقطه وكان الحكم قد عول عليه فيما انتهى إليه من الجزم بتوافر المسئولية الجنائية
لدى الطاعن وبأنه مسئول عما وقع منه وبين أسانيده التي أقيم عليها والتي أخذ بها
وذكر مؤداه بطريقة وافية لا تناقض فيها يبين منها مدى تأييده للقول بتوافر
المسئولية الجنائية في حق الطاعن كما اقتنعت بها المحكمة وكانت العبارة التي يستند
إليها الطاعن في طعنه من رمى التقرير الطبي بعدم الجزم بحالة الطاعن العقلية وقت
ارتكابه الجريمة واستطراده بعد ذلك في نتيجة إلى القطع بمسئوليته عن الحادث لا
تفيد المعنى الذي حصله الطاعن منها، ذلك لأن كل ما تفيده تلك العبارة هو أن بادرة
الشك التي قد تتبادر إلى الذهن في سلامة قوى الطاعن العقلية نتيجة لوجه الغرابة في
الحادث قد أضحت منتفية بعد أن أثبت الفحص الطبي سلامة قواه العقلية وقت الحادث وهو
ما قطع به التقرير في صلبه ورتب عليه ما خلص إليه من نتيجة من مسئولية الطاعن
جنائياً عما وقع منه ومن ثم يكون استناد الحكم إلى التقرير الطبي كدليل في الدعوى
يشهد على توافر مسئولية الطاعن الجنائية لا يعيبه، لما كان ذلك، وكان ما يثيره
الطاعن من دعوى خطأ الحكم في الاستدلال بأقوال الطاعن وتصرفاته التي صدرت منه بعد
الحادث على سلامة قواه العقلية وقت وقوعه ما يثيره من ذلك مردود بأنه استدلال سليم
لا غبار عليه ما دام يبين من الحكم أنه اتخذ من هذه التصرفات وتلك الأقوال بعد
الحادث قرينة يعزز بها النتيجة التي انتهى إليها التقرير الطبي عن حالة الطاعن
العقلية وكان هذا التقرير كافياً وحده لحمل قضاء الحكم في تقرير توافر مسئولية
الطاعن الجنائية عن الحادث وبفرض تزيد الحكم فيما استطرد إليه من ذلك فإنه لا
يعيبه طالما أنه لا أثر له في منطقه أو في النتيجة التي انتهى إليها، لما كان ما
تقدم كله، فإن الطعن برمته يكون على غير أساس متعيناً رفضه موضوعاً.