جلسة 15 من نوفمبر سنة 1958
برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني وعلي إبراهيم بغدادي والدكتور محمود سعد الدين الشريف ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.
-----------------
(12)
القضية رقم 859 لسنة 3 القضائية
(أ) معاش
- القانون رقم 80 لسنة 1944 بإنشاء صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة - حظره الجمع بين التمتع بحقوق الاشتراك في الصندوق المنشأ بموجبه وبين التمتع بحقوق الاشتراك في صندوق المعاشات والإعانات المنشأ بموجب قانون المحاماة أمام المحاكم الوطنية - خلوه من نص يحظر الجمع بين التمتع بحقوق الاشتراك في هذا الصندوق وبين المتمتع بالمعاشات المستحقة لمن كان موظفاً أصلاً ثم اشتغل بالمحاماة أو المستحقين عنه - صدور القانون رقم 192 لسنة 1954 ونصه على حل صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة وتولى وزارة المالية مباشرة الاختصاصات الموكولة له - عدم مساس هذا القانون بمواد القانون رقم 80 لسنة 1944 التي حددت أوجه حظر الجمع بين التمتع بحقوق الاشتراك في الصندوق وغيره من الحقوق الأخرى - مفاد ذلك أنه لا يقع تحت هذا الحظر جواز الجمع بين حقوق الاشتراك في هذا الصندوق وبين الإفادة من معاشات مستحقة بالتطبيق لقوانين المعاشات الخاصة بموظفي الحكومة والمستحقين عنهم - حجة ذلك.
(ب) معاش
- الحظر الوارد في الفقرة الأخيرة من المادة 60 من القانون رقم 59 لسنة 1930 بعدم الاستيلاء على أكثر من معاش واحد من خزانة الدولة - لا يقع حكمه إلا إذا كان المعاشان كلاهما مستحقين بالتطبيق لقوانين المعاشات الحكومية الخاصة بموظفي الحكومة أو المستحقين عنهم - عدم سريان هذا الحظر على من يستحق معاشاً بالقوانين لأحد قوانين المعاشات الحكومية وآخر بالتطبيق للقانون رقم 80 لسنة 1944.
إجراءات الطعن
في 25 من يونيه سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة عريضة طعن أمام هذه المحكمة قيد بجدولها تحت رقم 859 لسنة 3 القضائية في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الرابعة "ب") بجلسة 29 من أبريل سنة 1957 في القضية رقم 1583 لسنة 9 القضائية المقامة من الدكتور محمد علي نجيب ضد وزارة المالية, القاضي "باستحقاق المدعي لمعاشه الاستثنائي الممنوح له بموجب قرار مجلس الوزراء في 27 من يونيه سنة 1946, مع ما يترتب على ذلك من آثار, وإلزام الحكومة بالمصروفات". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين - للأسباب التي استند إليها في عريضة الطعن - "قبول الطعن شكلاً, وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه, والقضاء برفض الدعوى، مع إلزام المدعي المصروفات". وأعلنت وزارة المالية بالطعن في 6 من يوليه سنة 1957, وأعلن به المطعون عليه في 14 من يوليه سنة 1957, وقبل انتهاء المواعيد أودع هذا في 25 من يوليه سنة 1957 مذكرة بدفاعه, ثم عين لنظر الطعن جلسة 5 من أبريل سنة 1958, وأبلغ الطرفان في 8 من مارس سنة 1958 بميعاد الجلسة, وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه المبين بمحضر الجلسة, ثم أرجأت النطق بالحكم إلى جلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة, حسبما يستفاد من أوراق الطعن, تتحصل في أن المطعون عليه أقام الدعوى رقم 1583 لسنة 9 القضائية ضد وزارة المالية أمام محكمة القضاء الإداري بعريضة أودعها سكرتيرية المحكمة في 25 من مارس سنة 1955 طلب فيها الحكم "بإلغاء القرار رقم 1043 الصادر من وزارة المالية (إدارة المعاشات) بتاريخ 17 من نوفمبر سنة 1954 والقاضي بقطع معاش المدعي الاستثنائي الممنوح له بمقتضى قرار مجلس الوزراء الصادر في 27 من يونيه سنة 1946, وأحقيته في ذلك المعاش, مع ما يترتب على ذلك من آثار, وذلك مع المصاريف ومقابل أتعاب المحاماة". وقال بياناً لهذه الدعوى إن والده المرحوم البكباشي علي نجيب الذي كان ضابطاً بالجيش أحيل إلى المعاش في سنة 1923 توفى في 13 من فبراير سنة 1946، وأنه لما كان - بالرغم من حيازته لدرجتي الليسانس والدكتوراه في القانون من جامعة لوزان وشهادة المعادلة في القوانين المصرية من جامعة القاهرة وقيده بناء على ذلك بجدولي المحامين لدى المحاكم الوطنية والمختلطة - صاحب عاهة هي فقدان بصره الذي حرمه ثقة المجتمع بقدرته على الاشتغال بالمهنة فقد منحه مجلس الوزراء بقراره الصادر في 27 من يونيه سنة 1946 معاشاً استثنائياً مدى الحياة, مع علمه بأنه يعمل بالمحاماة, وذلك وفقاً للمادة 37 من المرسوم بقانون رقم 59 لسنة 1930 الخاص بالمعاشات العسكرية. وفي سنة 1954 أصيب بمرض عصبي أقعده عن العمل, فطلب التقاعد بنصف معاش طبقاً للفقرة الثانية من المادة 14 من قانون معاشات المحامين المختلط رقم 80 لسنة 1944, وقبل طلبه ابتداء من أول أغسطس سنة 1954, ثم قال إن صندوق معاشات المحامين أمام المحاكم المختلطة حل بمقتضى القانون رقم 192 لسنة 1954 وضمت أمواله إلى خزانة الدولة التي حلت محله في كافة حقوقه والتزاماته, ولما كانت الفقرة الأخيرة من المادة 60 من قانون المعاشات العسكرية سالف الذكر تحرم الاستيلاء على أكثر من معاش واحد من خزانة الدولة, وكان هذا الأمر هو حال المدعي, فقد تشابه الأمر على وزارة المالية, فرأت - بناء على فتوى الشعبة المالية للرأي بمجلس الدولة - عدم جواز الجمع بين المعاشين وضرورة اختيار المدعي للمعاش الأصلح له, ورغماً عن اعتراض المدعي على هذا الرأي فإن إدارة المعاشات أصدرت القرار رقم 1043 بتاريخ 17 من نوفمبر سنة 1954 بقطع المعاش الاستثنائي نهائياً, ولما تظلم من ذلك القرار أعلن في 8 من فبراير سنة 1955 برفض التظلم. وقال المطعون عليه إن القرار المشار إليه مخالف للقانون, وقد أقيم على فتوى خاطئة استندت إلى ظاهر نص الفقرة الأخيرة من المادة 60 من قانون المعاشات العسكرية رقم 59 لسنة 1930 التي تحرم الاستيلاء على أكثر من معاش واحد من خزانة الدولة, كما قامت على فكرة أن المعاشات المقررة طبقاً للقانون رقم 80 لسنة 1944 تصرف مما تدرجه الحكومة في ميزانيتها سنوياً من اعتمادات لازمة لأدائها طبقاً للمادة الرابعة من القانون رقم 192 لسنة 1954 بحل صندوق معاشات المحامين أمام المحاكم المختلطة, وكذلك على ما قررته المادة 37 من قانون المعاشات العسكرية من أن المعاشات الاستثنائية التي تمنح بناء على هذه المادة يجري عليها أحكام هذا القانون. وعقب على هذه الأسانيد بأن الدولة لا تدفع معاش التقاعد بوصفها مديناً أصلياً بل بوصفها خلفاً لصندوق معاشات المحامين أمام المحاكم المختلطة الذي ساهم فيه بما أداه من رسوم واشتراكات, فإذا عجز هذا الصندوق عن أداء التزاماته, ورأت الدولة لاعتبارات قدرتها الحلول محله فيما عليه من التزامات وما له من حقوق بمقتضى القانون رقم 192 لسنة 1954, فليس معنى هذا أن يكون للخلف من الحقوق أكثر مما للسلف, وبعبارة أوضح إن القانون رقم 80 لسنة 1944 الذي كان يحكم وينظم الصندوق والذي لم يلغ بصدور القانون رقم 192 لسنة 1954 إذا كان لا يشتمل على نص يحرم الجمع بين معاش التقاعد الذي يمنح بالتطبيق له وبين أي معاش حكومي آخر, فإن وزارة المالية لا تملك التحريم بمقتضى قانون أخر. ولا يغير من هذا الوضع كون خزانة الدولة هي التي تدفع حالياً المعاشين؛ لأنها تدفع معاش التقاعد لا بوصفها خزانة الدولة, بل بوصفها خلفاً لصندوق معاشات المحامين أمام المحاكم المختلطة والوارثة له. ويترتب على ما تقدم أنه لا يتقاضى من خزانة الدولة بهذا الوصف فقط غير معاش واحد وهو المعاش الاستثنائي الموروث عن والده, أما معاش التقاعد فإنه ما زال يتقاضاه من صندوق معاشات المحامين ممثلاً في خزانة الدولة. ثم اعترض على ما استندت إليه شعبة الرأي من ناحية استمساكها بالفقرة الأخيرة من المادة 60 من قانون المعاشات العسكرية باعتبار أن حكمها يجري حتى على المعاشات الاستثنائية بالقول بأن هذه الفقرة قد ختمت بعبارة "مع عدم الإخلال بما قد يقرره مجلس الوزراء من الأحكام الخاصة", ومؤداها أن لمجلس الوزراء سلطة مخالفة أحكام قانون المعاشات العسكرية حتى فيما يتعلق بحكم حظر الاستيلاء على أكثر من معاش واحد من خزانة الدولة, وأن هذه السلطة قد مارسها مجلس الوزراء فعلاً في 27 من يونيه سنة 1946 عندما قرره له المعاش الاستثنائي موضوع المنازعة؛ إذ أدخل في اعتباره الملابسات التي أحاطت بإصدار هذا القرار. وبيان ذلك أن القانون رقم 80 لسنة 1944 بإنشاء صندوق معاشات للمحامين أمام المحاكم المختلطة صدر بداهة قبل قرار مجلس الوزراء موضوع الدعوى, فإذا قرر المجلس له معاشاً استثنائياً مدى حياته فمعنى هذا أنه رتب له هذا المعاش يتقاضاه حتى لو تقرر له فيما بعد معاش تقاعد طبقاً للقانون رقم 80 لسنة 1944؛ من أجل ذلك كان قرار مجلس الوزراء المشار إليه منطوياً على قرار باستثنائه من حكم الفقرة الأخيرة من المادة 60 من قانون المعاشات العسكرية.
ومن حيث إن وزارة المالية دفعت الدعوى بأنه على أثر وفاة والد المطعون عليه في 13 من فبراير سنة 1946, وكان ضابطاً متقاعداً, استحقت أرملته معاشاً زهيداً, ولم يستحق نجله المطعون عليه معاشاً لتجاوزه سن الثامنة عشرة وقت وفاة والده, ونظراً لإصابته بعاهة مستديمة تمنعه من كسب عيشه, ولأن قانون المعاشات لا يسعفه في استحقاق معاش, فقد قرر له مجلس الوزراء معاشاً استثنائياً قدره 500 م و5 ج لا يتوارث من بعده. ولما كان القانون رقم 192 لسنة 1954 الخاص بحل صندوق معاشات المحامين أمام المحاكم المختلطة قد قضى بتصفية أموال الصندوق كما قضت مادته الرابعة بأن "يضاف الفائض من تصفية الصندوق إلى إيرادات الدولة وتدرج الحكومة سنوياً في ميزانيتها الاعتماد اللازم لأداء المعاشات والمرتبات والإعانات المقررة والتي تقرر بمقتضى القانون سالف الذكر (القانون رقم 80 لسنة 1944 بإنشاء صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة)", وكان الدكتور محمد علي نجيب يتمتع فوق معاش التقاعد الذي استحقه كمحام أمام المحاكم المختلطة بمعاش استثنائي عملاً بأحكام قانون المعاشات العسكرية, وكانت الفقرة الأخيرة من المادة 60 من قانون المعاشات العسكرية رقم 59 لسنة 1930 تنص على أنه "لا يجوز بحال من الأحوال الاستيلاء على أكثر من معاش واحد من خزينة الدولة فإذا كان لشخص حق في أكثر من معاش فله أن يختار المعاش الأكثر فائدة له", فإن الوزارة قد ارتأت بعد استفتاء مجلس الدولة عدم جواز الجمع بين معاش استثنائي ومعاش التقاعد للمحامين أمام المحاكم المختلطة من تاريخ بدء العمل بالقانون رقم 192 لسنة 1954, ثم أضافت الوزارة إلى ما تقدم أن المطعون عليه قبل بكتابه المؤرخ 6 من نوفمبر سنة 1954 تقاضي المعاش الأنفع له وهو معاش تقاعد المحاماة المختلطة.
ومن حيث إنه بجلسة 29 من أبريل سنة 1957 قضت محكمة القضاء الإداري (الهيئة الرابعة "ب") "باستحقاق المدعي لمعاشه الاستثنائي الممنوح له بموجب قرار مجلس الوزراء في 27 من يونيه سنة 1946, مع ما يترتب على ذلك من آثار, وإلزام الحكومة بالمصروفات". وأقامت قضاءها على أن "تصفية صندوق المعاشات والمرتبات المختلطة وتولى وزارة المالية صرف المعاشات المستحقة للمحامين لم يجعل من وزارة المالية مديناً أصلياً بهذه الالتزامات, وإنما هي لا تعدو أن تكون خلفاً عاماً لصندوق المعاشات المذكور الذي كان يعتبر مؤسسة قائمة بذاتها لها كيانها الخاص واستقلالها الذاتي باعتبارها شخصاً من الأشخاص الاعتبارية؛ ومن ثم فإن وزارة المالية إذ تتولي مباشرة الاختصاصات التي كانت موكولة لهذا الصندوق، إنما تقوم مقام الصندوق المذكور في تولي هذه الاختصاصات, فهي تتمتع بما كان له من حقوق, وتفي بما عليه من التزامات وفقاً لحكم القانون رقم 80 لسنة 1944", وعلى "أن التزام الحكومة بإدراج المبالغ اللازمة لأداء المعاشات والمرتبات والإعانات المقررة بموجب القانون رقم 80 لسنة 1944 إنما هو نتيجة حتمية لكونها خلفاً لصندوق المعاشات والمرتبات المختلطة؛ ذلك أن الأصل أن تنصرف جميع الآثار المترتبة على الالتزام القانوني إلى الخلف؛ ومن ثم فإن التزام الحكومة بأداء الالتزامات التي كان يتحملها هذا الصندوق ليس مقصوراً على فائض تصفية أموال الصندوق, وإنما يمتد هذا الالتزام إلى أموالها العامة في حدود الاعتمادات المقررة لمواجهة هذه الالتزامات, ومع ذلك فإن النص في المادة الرابعة من القانون رقم 192 لسنة 1954 على أن يضاف الفائض من تصفية الصندوق إلى إيرادات الدولة وتدرج الحكومة سنوياً في ميزانيتها الاعتماد اللازم لأداء المعاشات والمرتبات والإعانات المقررة بمقتضى القانون رقم 80 لسنة 1944 لا يعدو أن يكون تأكيداً لمبدأ انصراف أثر الالتزام القانوني للخلف", وعلى أن حظر الجمع بين معاشين على الوجه الوارد في الفقرة الأخيرة من المادة 60 من القانون رقم 59 لسنة 1930 "إنما هو مقصور في الواقع على الحالات التي تكون فيها الحكومة ملتزمة أصلاً بأداء هذه المعاشات؛ ومن ثم فإنه يتعين ألا يكون تقرير الحق في المعاشات مصدر ربح للموظف أو لورثته, ولكن مثل هذه الحكمة تنتفي في الدعوى الحالية؛ ذلك أن الدولة إذ تلتزم بأداء المعاشات للمحامين أمام المحاكم المختلطة إنما تقوم مقام شخص مستقل هو صندوق المعاشات المنشأ بالقانون رقم 80 لسنة 1944, وعلى ذلك فإن قيامها بأداء هذه المعاشات لا يعدو أن يكون وفاء بالالتزامات التي كان يتحملها الصندوق المذكور؛ ومن ثم فإن مثل هذا الالتزام لا يعتبر معاشاً بالمعنى المقصود بالفقرة الأخيرة من المادة 60 من القانون رقم 59 لسنة 1930 سالف الذكر؛ ذلك لأن القانون رقم 192 لسنة 1954 الذي حل محل القانون رقم 80 لسنة 1944 قد أبقى على المعاشات التي تصرف وفقاً لهذا القانون الأخير", كما أسست هذا القضاء أخيراً على أن القانون رقم 80 لسنة 1944 الخاص بصندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة لم يتضمن نصاً يقضي بعدم جواز الجمع بين المعاش الذي يقرره هذا القانون والمعاش المستحق طبقاً لأحكام أي قانون آخر.
ومن حيث إن الطعن يقوم على أن "ماهية معاش التقاعد الذي يتقاضاه المدعي باعتباره محامياً سابقاً أمام المحاكم المختلطة ليست مناط المنازعة حتى يجري حكم الفقرة الأخيرة من المادة 60 من القانون رقم 59 لسنة 1930؛ أو ينحسر عن واقعة الدعوى, وإنما المناط الصحيح قيام العلة في صرف المعاش الاستثنائي أو انتفاؤها", وعلى "أن الفقرة الثانية من المادة الخامسة والعشرين من قانون المعاشات العسكرية تخول مجلس الوزراء سلطة إعطاء بعض الأولاد الذين جازوا السن معاشاً استثنائياً إذا كانوا مصابين بعاهات تمنعهم قطعياً من كسب معاشهم, وإذن فالعلة في تقرير المعاش الاستثنائي العجز القطعي عن التكسب, فإذا انتفت هذه العلة, أو وجد مورد عيش لصاحب المعاش انتفى الاستحقاق, وأصبح من حق جهة الإدارة أن تمنع المعاش الاستثنائي, ولما كان المدعي قد تقاعد عن العمل, وتقرر له معاش على مقتضى أحكام القانون رقم 80 لسنة 1944, فقد زال السبب في منحه المعاش الاستثنائي طبقاً لقانون المعاشات العسكرية, وبالتالي يكون القرار الصادر بمنع هذا المعاش عن المدعي قراراً مطابقاً للقانون. وإذ أخذ الحكم المطعون فيه بغير هذا النظر فإنه يكون مخالفاً للقانون.
ومن حيث إنه قد تبين لهذه المحكمة من الأوراق أن والد المطعون عليه المرحوم البكباشي علي نجيب كان من ضباط الجيش الذين أحيلوا إلى المعاش اعتباراً من أول سبتمبر سنة 1923, وقد استحق وقتذاك معاشاً شهرياً قدره 933 م و32 ج عن مدة خدمته وفقاً لأحكام قانون المعاشات العسكرية رقم 28 الصادر في 14 من يوليه سنة 1913. ولما توفى في 12 من فبراير سنة 1946, واستحق أرملته والدة المطعون عليه معاشاً شهرياً قدره 977 م و10 ج طبقاً للمادة 32 من القانون سالف الذكر, قدم المطعون عليه إلى وزارة المالية طلباً أوضح فيه أنه بالرغم من فقدانه جزءاً كبيراً من بصره جاهد حتى نال درجة الدكتوراه في القانون من جامعة لوزان, ثم حصل على شهادة المعادلة في القوانين المصرية من جامعة فؤاد الأول حتى لا يعيش عالة على أحد ولكن القدر شاء أن توصد دونه أبواب الوظائف, وأن لا يجد لدى الناس الثقة به خلال ممارسته المحاماة, وكان والده لهذا السبب يمده بنفقة شهرية من معاشه, والتمس أن تشمله الحكومة بعطفها فتمنحه بصفة استثنائية جزءاً من معاش والده المتوفى, وقد أحيل فور تقديم هذا الطلب على القومسيون الطبي العام للكشف عليه طبياً وإيضاح الأمراض والعاهات المصاب بها, فإذا بنتيجة الكشف الطبي الموقع عليه في 19 من مارس سنة 1946 تسفر عن إصابته بأمراض البول السكري والضغط العالي وتكشف عن زوال إبصار عينه اليمنى وضعف اليسرى (6/ 60) مع وجود عتامة ملتصقة بها وكتراكتا قطبية أمامية وحول اهتزازي, وحيال ذلك قرر القومسيون أن حالته الصحية غير قابلة للشفاء, وأنها تمنعه قطعياً من كسب معاشه, وأوصى بمنحه المعاش الذي يئول إليه مدى الحياة. ولما عرضت هذه النتيجة على وزير المالية رفع إلى مجلس الوزراء مذكرة نوه فيها بأن المطعون عليه يشتغل بمهنة المحاماة أمام المحاكم المختلطة, ولكن بما أنه ضعيف النظر فإنه لا يكتسب من هذه المهنة ما يقوم بمعيشته هو وزوجته, وأن المرحوم والده كان العائل الوحيد له, وأن المطعون عليه لا يستحق معاشاً عن والده طبقاً لحكم الفقرة الثانية من المادة 35 من قانون المعاشات العسكرية رقم 28 الصادر في 14 من يوليه سنة 1913؛ لأنه كان يجاوز الثامنة عشرة من عمره يوم وفاة والده. ولكن المشرع عندما سن قانون المعاشات العسكرية رقم 59 لسنة 1930 أعطى الأولاد الذين جاوزوا السن الحق في معاش إذا كانوا مصابين بعاهات تمنعهم قطعياً عن كسب معاشهم (الفقرة الثانية من المادة 25 من هذا القانون), وختم وزير المالية مذكرته بالقول بأن حالة المطعون عليه جديرة بعطف الحكومة وباقتراح منحه معاشاً استثنائياً لمدى الحياة مقداره 489 م و5 ج. وقد بحثت اللجنة المالية هذا الاقتراح فرأت الموافقة عليه, ورفع الأمر إلى مجلس الوزراء فوافق على رأى اللجنة المالية بجلسة 27 من يونيه سنة 1946, كما تبين لهذه المحكمة أن المطعون عليه عرض له في سنة 1954 ما اقتضى تقدمه بطلب تقاعده عن ممارسة مهنة المحاماة المختلطة, فصدر له قرار من وكيل وزارة المالية والاقتصاد في 10 من نوفمبر سنة 1954 باستحقاقه معاش تقاعد مقداره اثنا عشر جنيهاً بواقع نصف المعاش الكامل ابتداء من أول أغسطس سنة 1954, وذلك بالتطبيق لأحكام القانون رقم 80 لسنة 1944 بإنشاء صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة المعدل بالقانون رقم 127 لسنة 1951 وبالمرسوم بقانون رقم 143 لسنة 1952. وفي 17 من نوفمبر سنة 1954 أصدرت وزارة المالية قراراً بقطع معاش الدكتور محمد علي نجيب (المطعون عليه) استناداً إلى حكم المادة 60 من قانون المعاشات العسكرية رقم 59 لسنة 1930, فأقام الدعوى الحالية.
ومن حيث إن الحكومة تدفع الدعوى بالفقرة الأخيرة من المادة 60 من المرسوم بقانون رقم 59 لسنة 1930 الخاص بالمعاشات العسكرية التي تنص على أنه "لا يجوز بحال من الأحوال الاستيلاء على أكثر من معاش واحد من خزينة الدولة، فإذا كان لشخص حق في أكثر من معاش فله أن يختار المعاش الأكثر فائدة له", ولكن يتعين تفسير هذا الحظر بحسب قصد الشارع من وضعه, وبمراعاة عدم التوسع في تأويله باعتبار أن القيود الواردة على استحقاق المعاش - ومثلها أسباب سقوط الحق في هذا الاستحقاق - هي من الاستثناءات على أصل الاستحقاق فلا يجوز التوسع فيها أو القياس عليها.
ومن حيث إن مقصود الشارع من هذا الحظر إنما هو تحريم الجمع بين معاشين أو جملة معاشات رتبت لموظفين أو لمن يستحقون عنهم بمقتضى قوانين المعاشات التي تحكم هؤلاء. لذلك يتعين البحث فيما إذا كان الوضع في خصوصية المنازعة الحالية ينطبق عليه أو لا ينطبق مثل هذا الحظر, ولا شبهة في أن المعاش الذي رتب للمطعون عليه في 27 من يونيه سنة 1946 قد قرره له مجلس الوزراء استناداً إلى سلطته الاستثنائية باعتباره من المستحقين أصلاً عن والده, وأن لديه عاهة جزئية تمنعه من كسب معاشه وتيسير أسبابه, أما المعاش الذي استحقه من أول أغسطس سنة 1954 فلا يعتبر معاشاً حكومياً مقرراً أصلاً لموظفين أو لمستحقين عنهم بالتطبيق لقوانين المعاشات, بل له طبيعة خاصة لأنه استحق للمدعي من صندوق المعاشات والمرتبات للمحامين أمام المحاكم المختلطة بوصفه محامياً غير موظف؛ ومن ثم يستحقه من اشتغل بمهنة المحاماة سواء كان موظفاً سابقاً ثم مارس المحاماة بعد انفصام رابطة التوظف أو لم يكن من قبل كذلك. ومن المقرر أن هذا الصندوق كانت له ذاتيته وذمته المستقلة وموارده وأغراضه الخاصة, فقد أنشئ بالقانون رقم 80 لسنة 1944 وسمى صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة, وخصصت أمواله لتقرير معاشات تقاعد أو مرتبات مؤقتة أو إعانات للمحامين المقيدة أسماؤهم بجدول المحاماة أمام الحاكم المختلطة أو الذين رتبت لهم معاشات قبل صدور هذا القانون, أي أن هذا الصندوق الجديد حل محل صندوق المعاشات والادخار للمحاماة المختلطة؛ ولذا نص القانون على أن يتكون رأس مال الصندوق الجديد من موارد الصندوق السابق سالف الذكر التي انتقلت إلى الصندوق الجديد بمجرد العمل بالقانون الجديد, كما يتكون من مواد أخرى فصلتها المادة الثانية ومن بينها تحت (تاسعاً) "ما تقدمه الحكومة إلى الصندوق من مساهمة منها في تكاليف يراعى في تحديدها أنها تكفي مع الموارد الأخرى المنصوص عليها بهذه المادة لتأدية المعاشات والمرتبات والإعانات المقررة عن السنة المالية والمحددة وفقاً لأحكام هذا القانون". ومفاد ذلك أن الحكومة تكفل كفاية الموارد بالقدر الذي يسمح بتحقيق تلك الأغراض, كما نصت المادة الثالثة منه على أن "يكون للصندوق شخصية معنوية ويكون له الأهلية الكاملة للتقاضي وقبول التبرعات التي ترد إليه بشرط أن لا يتعارض ذلك مع الغرض الأصلي من إنشائه", ونصت المادة 17 منه على مستحقي المعاش في حالة وفاة المحامي وأنصبة هؤلاء المستحقين بما يغاير القواعد المتبعة في قوانين المعاشات الخاصة بموظفي الحكومة, ولم تحظر المادة 26 منه إلا الجمع بين التمتع بحقوق الاشتراك في الصندوق المنشأ بموجب هذا القانون وبين التمتع بحقوق الاشتراك في صندوق المعاشات والإعانات المنشأ بموجب قانون المحاماة أمام المحاكم الوطنية دون النص على حظر الجمع بين التمتع بحقوق الاشتراك في هذا الصندوق وبين التمتع بالمعاشات المستحقة لمن كان موظفاً أصلاً ثم اشتغل بالمحاماة أو المستحقين عنه, كما نصت المادة 28 منه على أنه يصرف صندوق المعاشات للمحامين أمام المحاكم المختلطة المرتب لهم معاشات - المعاش الذي كان يدفع لهم من قبل, وهذا يؤكد مقصود الشارع من عدم المساس بالحقوق المكتسبة.
ومن حيث إنه قد صدر بعد ذلك القانون رقم 192 لسنة 1954 بحل صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة المنشأ بالقانون المتقدم الذكر ناصاً في مادته الأولى على أن "يحل الصندوق المذكور وتلغي المواد من 3 إلى 11 والمواد 19 و20 و24 من القانون رقم 80 لسنة 1944", وهذه المواد هي الخاصة بتعيين موارد الصندوق السابقة وبتشكيل مجلس الإدارة القائم عليه وبتنظيم هذه الإدارة وما إلى ذلك مما أصبح غير ذي موضوع بعد قيام وزارة المالية والاقتصاد مقام الصندوق المشار إليه فيما له من حقوق وما عليه من التزامات, وتوليها مباشرة الاختصاصات الموكولة إليه حسبما نصت على ذلك المادة الثانية من القانون رقم 192 لسنة 1954، ولم يمس القانون المذكور بالنسخ أو التعديل سائر مواد القانون رقم 80 لسنة 1944 التي حددت أوجه حظر الجمع بين التمتع بحقوق الاشتراك في هذا الصندوق وغيره من الحقوق الأخرى, مما يستفاد منه أنه لا يقع تحت هذا الحظر جواز الجمع بين التمتع بحقوق الاشتراك في هذا الصندوق وبين الإفادة من معاشات مستحقة بالتطبيق لقوانين المعاشات الخاصة بموظفي الحكومة والمستحقين عنهم كما سلف البيان, وأنه لم يمس الحقوق المكتسبة لذويها من قبل.
ومن حيث إنه فضلاً عن أن هذا المعنى هو على أتم الوضوح في مواد القانون رقم 192 لسنة 1954 فإن المذكرة الإيضاحية التي تقوم منه مقام الأعمال التحضيرية تزيده وضوحاً وبياناً؛ فقد جاء فيها ما نصه "وقد ظلت هذه الإيرادات (أي إيرادات الصندوق) تتضاءل بعد إلغاء المحاكم المختلطة سنة بعد أخرى إلى أن أصبحت في سنة 1953 مقصورة على مساهمة وزارة المالية والاقتصاد التي نص في الفقرة التاسعة من المادة الثالثة من القانون على أن يراعى في تحديدها أنها تكفي مع بقية موارد الصندوق الأخرى لتأدية المعاشات والمرتبات والإعانات المقررة عن السنة المالية, كما اتضح من مراجعة ميزانية الصندوق عن السنة المذكورة أيضاً أن الفوائد التي يحصلها من استثمار سنداته تبلغ قيمتها السنوية 1650 ج، بينما تبلغ مصروفات إدارة الصندوق 2600 ج.... وقد دلت هذه الأرقام دلالة واضحة على أنه لم يعد هناك موجب للإبقاء على الصندوق كمؤسسة, كما أنه لم تعد هناك فائدة من استثمار السندات, ومن المصلحة بيع السندات وتصفية أعمال الصندوق, على أن تتولى وزارة المالية والاقتصاد صرف المعاشات المستحقة للمحامين. وقد وافقت وزارة المالية والاقتصاد على إجراء هذه التصفية, على أن تتولى هي صرف هذه المعاشات". وظاهر من ذلك أن القانون المذكور إنما استهدف تصحيح الوضع وترجمته بما يطابق الواقع بعد أن تضاءلت موارد الصندوق وأصبحت الحكومة هي القائمة بتنفيذ الالتزامات فعلاً بالتطبيق للفقرة التاسعة من المادة الثالثة من القانون رقم 80 لسنة 1944, ولم يتوخ القانون المذكور أغراضاً أخرى تنطوي على تغيير الأحكام الموضوعية الأخرى, وبوجه خاص المساس بالحقوق المكتسبة لذويها من قبل.
ومن حيث إنه ينتج من جميع ما تقدم أنه لا وجه لأن يطبق في حق المدعي الحظر الوارد في الفقرة الأخيرة من المادة 60 من قانون المعاشات العسكرية رقم 59 لسنة 1930 ما دام أحد المعاشين مستحقاً بالتطبيق لأحد قوانين المعاشات الحكومية والآخر مستحقاً من صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة، بينما الحظر لا يقع حكمه إلا إذا كان المعاشان كلاهما مستحقين بالتطبيق لقوانين المعاشات الحكومية الخاصة بموظفي الحكومة أو المستحقين عنهم حسبما سلف إيضاحه؛ ومن ثم يتعين استحقاق المدعي لأن يصرف له المعاش الأول بالتطبيق لتلك القوانين, وأن يقتضي المعاش الثاني بالتطبيق للقانون رقم 80 لسنة 1944 بإنشاء صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة, نزولاً على حكم القانون رقم 192 لسنة 1954 الذي يلزم وزارة المالية والاقتصاد في مادته الثانية بالقيام مقام الصندوق في الوفاء بالتزاماته.
ومن حيث إنه لما تقدم يكون الحكم المطعون فيه قد أصاب الحق في قضائه فيما انتهى إليه من إلغاء القرار رقم 1043 الصادر من وزارة المالية في 17 من نوفمبر سنة 1954 بقطع معاش المدعي الاستثنائي الممنوح له بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في 27 من يونيه سنة 1946, واستحقاقه لهذا المعاش المقرر له مدى الحياة؛ لجواز أن يجمع قانوناً بينه وبين المعاش الذي يستحقه من صندوق المعاشات والمرتبات للمحاماة المختلطة كما سلف البيان, ويكون الطعن - والحالة هذه - قد قام على غير أساس سليم من القانون متعيناً رفضه.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً, وبرفضه موضوعاً.