جلسة 7 من يناير سنة 1967
برئاسة السيد الأستاذ الدكتور محمود سعد الدين الشريف رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة الأساتذة الدكتور أحمد أحمد موسى وعادل عزيز زخاري ويوسف الشناوي وعباس فهمي محمد بدر المستشارين.
---------------
(54)
القضية رقم 1157 لسنة 9 القضائية
(أ) دعوى. "الحكم فيها. حجية الأحكام". "الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع. حجيتها".
الحكم باستمرار صرف المرتب كله أو بعضه مؤقتاً والحكم بوقف التنفيذ الصادرين بالتطبيق للمادة 21 من قانون مجلس الدولة رقم 55 لسنة 1959 - مدى حجيتهما بالنسبة إلى ما فصلا فيه من مسائل فرعية قبل البت في موضوع الطلب - أساس ذلك قاعدة حجية الشيء المقضي تسمو على قواعد النظام العام.
(ب) المحكمة الإدارية العليا "الطعن أمامها". مرافعات.
نص المادة 404 من قانون المرافعات بشأن استئناف جميع الأحكام التي سبق صدروها تبعاً لاستئناف الحكم الصادر في الموضوع ما لم تكن قبلت صراحة - لا محل لإعمال هذا النص على الطعن في الأحكام أمام المحكمة الإدارية العليا.
(ج) جزاء تأديبي. "سببه"
عدم صحة بعض القرائن المسوقة للتدليل على سبب الجزاء لا يؤثر في سلامته أو قيامه على كامل سببه - متى كان في القرائن الأخرى ما يكفي للتدليل عليه.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
ومن حيث إن الطعن استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة - على ما يبين من أوراق الطعن - تخلص في أن المدعي كان يعمل موظفاً ببنك التسليف الزراعي والتعاوني، وفي 14 من مايو سنة 1960 صدر قرار من المدير العام للبنك بفصله من وظيفته لإخلاله بالتزاماته الجوهرية استناداً إلى المادة 76 من قانون العمل.. فأقام الدعوى رقم 364 لسنة 7 القضائية ضد البنك أمام المحكمة الإدارية لوزارة الخزانة طالباً الحكم مؤقتاً باستمرار صرف مرتبه، فدفع البنك بعدم اختصاص القضاء الإداري بنظر الدعوى على أساس أن البنك شركة مساهمة ولا يعتبر موظفوه من الموظفين العموميين، وبجلسة 22 من يناير سنة 1961 قضت المحكمة برفض الدفع بعدم الاختصاص الولائي وبرفض الدعوى مع إلزام المدعي بالمصروفات وبصحيفة مودعة سكرتيرية المحكمة الإدارية لوزارة الخزانة في 11 من سبتمبر 1960 أقام المدعي الدعوى 428 لسنة 7 القضائية ضد بنك التسليف الزراعي والتعاوني طالباً "الحكم بإلغاء القرار الصادر في 14 من مايو سنة 1960 من مدير بنك التسليف الزراعي والتعاوني بفصل المدعي من وظيفته وما يترتب على ذلك من آثار وإلزام البنك بمصروفات الدعوى ومقابل أتعاب المحاماة" وبجلسة 12 من يونيه قضت المحكمة الإدارية لوزارة الخزانة "بعدم اختصاصها بنظر الدعوى وبإحالتها بحالتها إلى المحكمة الإدارية الخاصة بشئون رياسة الجمهورية وأبقت الفصل في المصروفات وأمام المحكمة الأخيرة دفع البنك بعدم اختصاص القضاء الإداري بنظر الدعوى. وبجلسة 17/ 3/ 1963 أصدرت المحكمة الإدارية لرياسة الجمهورية حكمها المطعون فيه والقاضي برفض الدفع بعدم الاختصاص وباختصاصها وبقبول الدعوى شكلاً ورفضها موضوعاً وألزمت المدعي بالمصروفات.
وقال المدعي في بيان دعواه إنه كان يعمل أميناً لمخزن الدقيق والسكر بفرع بنك التسليف الزراعي والتعاوني بمدينة بنها وكان يتولى تسليم الدقيق الفاخر لأصحاب المخابز المقرر صرف الدقيق لهم كل حسب حصته. وفي يوم 18 من مايو 1959 قدم إليه ثلاثة من أصحاب المخابز لصرف حصصهم - على ما أثبت في حوافظ الصرف - محمد مرسي سلام الذي صرف جوالين، وغريب زلطة الذي صرف 22 جوالاً وعلي محمد نوار الذي صرف 11 جوالاً وقال إن الأخير استلم حصته وأن الأول وعد بالحضور مرة أخرى لاستلامها أما الثاني غريب زلطة فقد استلم عشرة أجولة وترك الباقي ريثما يعود لمرة أخرى ثم فوجئ بأحد مفتشي التموين يفد إلى فرع البنك ومعه عربة نقل تحمل خمسة عشر جوالاً من الدقيق الفاخر وأربعة أجولة من الفول يقودها المدعو فهمي محمود عيسى وقال إن مفتش التموين سأله عن الكميات التي قام بصرفها في هذا اليوم فذكر له أسماء أصحاب المخابز المشار إليهم والكميات التي صرفها لكل منهم وأطلعه على كشف التسليم وتوقيعات هؤلاء عليه بما يفيد الاستلام كما سأله عما إذا كان قد صرف دقيقاً لمن يدعى عبد الخالق الصيفي أو أن فهمي محمود عيسى قام ينقل هذا الدقيق على عربته فنفى ذلك أيضاً وأضاف أن غريب زلطة لم ينكر توقيعه بما يفيد استلامه 22 جوالاً من الدقيق وإن زعم بأنه لم يستلم غير 12 جوالاً فقط وقال إن غريب تردد في أقواله غير مرة وتناقض فيها وأنه أي المدعي حصل منه على إقرار يفيد شراءه الكمية بأكملها وقدم هذا الإقرار في التحقيق الذي أجري بمعرفة النيابة ولم ينكر غريب زلطة توقيعه على هذا الإقرار. وقال إن النيابة العامة لم تر في الأمر ما يشكل جريمة وأنه فوجئ بعد مدة بصدور قرار من مدير عام البنك بفصله إلا أنه لم يعرف على وجه التحديد حقيقة ما نسب إليه فأقام دعواه أمام المحكمة الإدارية طالباً إلغاء هذا القرار باعتبار أن بنك التسليف الزراعي التعاوني من المؤسسات العامة وأن موظفيه من الموظفين العموميين. وقد دفع بنك التسليف الزراعي بعدم اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بنظر الدعوى ارتكاناً على أن البنك لا يعدو أن يكون شركة من شركات القانون التجاري ولا يعد من المؤسسات العامة، وظاهرت هيئة المفوضين البنك في التمسك بالدفع بعدم الاختصاص لانعدام الولاية وذهبت إلى أنه لا يقدح في ذلك أنه سبق للمحكمة الإدارية لوزارة الخزانة أن قضت بصدد الطلب الوقتي باستمرار صرف المرتب - برفض الحكم بعدم الاختصاص لأن هذا الحكم قد صدر في دعوى مستعجلة وفي نزاع آخر وطلبات مغايرة فلا تتقيد المحكمة في دعوى الإلغاء بهذا الحكم ويتعين عليها أن تفصل في الدفع ومن حق البنك أن يردد هذا الدفع في كل منازعة وعلى المحكمة أن تفصل فيه في كل مرة يثار الدفع أمامها.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه فيما يتعلق بالفصل في الدفع بعدم الاختصاص على أن للمحكمة أن تحكم بعدم الاختصاص المتعلق بالولاية من تلقاء نفسها وفي أية حالة كانت عليها الدعوى، وأن بنك التسليف الزراعي يعد - وفقاً للقواعد التي تحكمه من المؤسسات العامة لتوافر مقومات المؤسسة العامة فيه، فهو يقوم على مرفق عام هو مرفق التسليف الزراعي وكان إنشاؤه ثمرة تفكير الدولة وتوجيهها وبغيتها منه خدمة الاقتصاد الزراعي في بلد للزراعة فيه المقام الأول بين موارد الثروة القومية، وقد خولته الدولة سلطات وحقوق وامتيازات من نوع ما تخوله جهات الإدارة العامة كما أخضعته الدولة لإشرافها ورقابتها واتخذ هذا الإشراف مظاهر عدة في تشكيل الهيئات التي تتولى إدارته وفي رقابة وزير المالية على ما تصدره تلك الهيئات من قرارات وفي خضوعه لرقابة ديوان المحاسبة. ويضاف إلى ذلك أن الدولة بسطت عليه حماية مالية واسعة النطاق تمثلت في مساهمتها بنصف رأسماله وفي ضمانها للمصارف المساهمة فيه ربحاً قدره 5% وفي القروض الكبيرة التي تقدمها الحكومة للبنك على أن لا تستردها إلا عند تصفية البنك هذا فضلاً عن تمتعه بالشخصية الاعتبارية وأنه لا يغير من هذا النظر إنشاء البنك في شكل شركة مساهمة تساهم فيها الدولة بنصف أسهم رأس المال لأن هذا الشكل يعبر عن الوسيلة التي تم بها تحويل مرفق التسليف الزراعي عند تشكيله في صورة مشروع دون أن يرفع عن هذا المشروع وصف المؤسسة العامة ما دامت عناصرها والسمات المميزة لها متوافرة فيه وعلى الأخص إشراف الدولة ورقابتها سواء باختيار القائمين على المشروع الذي يدير المرفق أو بالتعقيب على ما يتخذونه من قرارات ثم حقوق السلطة العامة المخولة له. وأشار الحكم إلى أنه ليس ثمة ما يمنع من أن تتخذ المؤسسة العامة شكل شركة من شركات الاقتصاد المختلط كما هو الحال بالنسبة إلى بنك التسليف الزراعي والتعاوني.
وفيما يتعلق بالموضوع ذهب الحكم المطعون فيه إلى أن فصل المدعي قد بني على أن المدعي قد أخل بالتزاماته الجوهرية المنصوص عليها في عقد العمل وأن إدارة البنك قد ذكرت في معرض التدليل على إخلال المدعي بالتزاماته الجوهرية أنه ارتكب ما يلي:
أولاً: أنه سلم إلى أحد أصحاب المخابز (غريب زلطه) عشرة أجولة من الدقيق الفاخر وقيد في دفاتره أنه باعه 22 جوالاً ليتصرف في الباقي لحسابه.
ثانياً: أنه صرف كميات من الدقيق لأشخاص ووقع بالاستلام عنهم أشخاص آخرون دون توكيل بالمخالفة للتعليمات.
ثالثاً: أنه صرف كميات دقيق بأسماء أصحاب المخابز ولم يوقعوا على كشوف الصرف بالاستلام.
رابعاً: أن توقيعات بعض أصحاب المخابز على حوافظ الصرف مغايرة وتختلف في كل مرة عن الأخرى.
خامساً: أنه صرف كميات من الدقيق لبعض أصحاب المخابز بالزيادة عن الكميات المقررة لهم أسبوعياً.
سادساً: أنه لم يلصق طوابع الدمغة على صور كشوف حوافظ الصرف بالرغم من وجود توقيعات عليها.
واستطرد الحكم المطعون فيه إلى أنه متى ثبت أن المدعي قد ارتكب مخالفة تشكل إخلالاً بالتزاماته الجوهرية فإن القرار الصادر بفصله يكون قراراً سليماً قائماً على سببه المبرر له، بمعنى أن انتفاء صحة بعض الوقائع المتقدمة التي نسبت إليه لا يؤثر على سلامة القرار. وقالت المحكمة إن ما نسب إلى المدعي من أنه سلم لغريب زلطة عشرة أجولة وقيد في دفاتره أنه باعه 22 جوالاً صحيح مما أدلى به غريب زلطة وما قرره فهمي محمود عيسى قائد عربة النقل ولأنه من غير المعقول أن يقوم غريب بدفع ثمن 22 جوالاً ثم لا يقوم بنقلها وأنه لا يقدح في ذلك أن يوقع غريب بما يفيد الاستلام بعد أن ثبت عدم إجادته القراءة والكتابة. وأما فيما يتعلق بما نسب إليه من صرف كميات دقيق لأشخاص وتوقيع آخرين منهم بالاستلام دون توكيل، وما نسب إليه من صرف كميات دقيق بأسماء أصحاب المخابز دون أن يوقعوا على كشوف الصرف بالاستلام فإنها ثابتة من إقرار المدعي كذلك فإن الثابت أنه لم يقم بلصق طوابع الدمغة على صور كشوف حوافظ الصرف. أما فيما يتعلق بما نسب إليه في رابعاً وخامساً فقد ذهبت المحكمة إلى عدم ثبوته وانتهت إلى القول بأنه يبين أن المدعي قد ارتكب المخالفات المشار إليها في أولاً وثانياً وثالثاً وسادساً التي نسبها إليه بنك التسليف وهي تكفي للقول بأن المدعي قد أخل بالتزاماته الجوهرية ويكون السبب الذي بني عليه قرار الفصل صحيحاً ويكون القرار قد صدر سليماً مطابقاً للقانون.
ومن حيث إن الطعن يقوم على أن الحكم قد أخطأ في تطبيق القانون إذ جانب ما استقر عليه قضاء المحكمة العليا في شأن كفاية السبب الذي يقوم عليه قرار الجزاء وإنه كان من المتعين على المحكمة وقد انتهى بحثها إلى بطلان واقعتين من الوقائع التي أقيم عليها قرار الجزاء أن تلغي القرار وتعيد الأمر إلى المدعى عليه ليعيد مجازاة الطاعن بما يتناسب والقدر الذي ثبت في حقه، كما أن الحكم أخطأ في الحكم على باقي المخالفات، فالمخالفة الأولى ينفضها أن غريب زلطة أقر كتابة بأنه دفع ثمن 22 جوالاً وتسلم منها عشرة ثم طلب تسليمه الاثنى عشر الباقية، وفيما يتعلق بالمخالفة الثانية فإن المدعي قدم إلى المحقق التوكيلات إلا أنه أثبت بعضها ولم يثبت البعض الآخر، وفيما يتعلق بالمخالفة الثالثة قدم المدعي إقرارات من التجار بما يفيد استلام كل منهم حصته من الدقيقة أما المخالفة السادسة الخاصة بعدم إلصاق طوابع الدمغة على صور حوافظ الصرف فإن المدعي غير ملزم بإلصاقها.
ومن حيث إن البنك حول إلى مؤسسة عامة بمقتضى القانون رقم 105 لسنة 1964 باسم المؤسسة المصرية العامة للائتمان الزراعي والتعاوني فقد حلت المؤسسة محله في الخصومة ودفع الحاضر عنها بعدم اختصاص القضاء الإداري بنظر الدعوى على أساس أن بنك التسليف كان إلى أن تم تحويله بالقانون المشار إليه شركة تجارية خاضعة لأحكام القانون التجاري، وأيدت هيئة المفوضين هذا الدفع، وقد أجاب المدعي بأن ذلك يصطدم بحجية حكم نهائي لم يطعن فيه أمام المحكمة الإدارية العليا وهو الحكم الذي صدر من المحكمة الإدارية لوزارة الخزانة في الطلب المستعجل والذي قضى برفض الدفع بعدم الاختصاص.
وعقبت المؤسسة على ذلك بقولها إن البنك لم يكن يملك الطعن في الحكم المشار إليه بعد أن صدر القضاء في الطلب المستعجل وفي الموضوع لصالحه لانقضاء مصلحته في هذا الطعن هذا فضلاً عن أن الطعن في الحكم من جانب المدعي ينقل النزاع برمته إلى المحكمة العليا التي يكون لها أن تتعرض للاختصاص، وفيما يتعلق بالموضوع قالت المؤسسة إنه لا وجه للنعي على الحكم بمخالفة القانون بمقولة إنه أن ثبوت بطلان بعض أسباب القرار موجب لإلغائه ذلك أن المخالفة المنسوبة إلى المدعي واحدة وسببها واحد وإن تعددت مظاهره، فالمخالفة المنسوبة إليه هي التلاعب فيما في عهدته من الدقيق، أما وسيلة التلاعب فيكفي التحقق من إحدى الوسائل حتى تثبت وقوع المخالفة قي حقه، فإذا تيقنت المحكمة من وقوع التلاعب لأربعة أسباب فإن هذا كاف لثبوت المخالفة.
ومن حيث إنه مهما يكن النظر الصحيح في شأن اختصاص القضاء الإداري بنظر طلب إلغاء قرار الفصل المقدم من المدعي في الدعوى الراهنة فإن الفصل في سند هذا الاختصاص وهو من أمور النظام العام ينبغي أن يتقيد بواقع ماثل في ظروف الدعوى لا مناص من إدخاله في الاعتبار وتغليبه على أي أمر آخر ذلك أن ثمة حكمها صادراً قبل الفصل في الموضوع برفض الدفع بعدم اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بنظر الدعوى وبات هذا الحكم نهائياً وحائزاً حجية الأحكام بل وقوة الأمر المقضي مما لا معدى معه من النزول عليه وبالتزام مقتضاه.
ومن حيث إنه يساند ما تقدم أن الحكم باستمرار صرف المرتب كله أو بعضه بصفة مؤقتة لحين إلغاء القرار الصادر بالفصل بالتطبيق للفقرة الثانية من المادة 21 من قانون مجلس الدولة رقم 55 لسنة 1959، شأنه شأن الحكم بوقف التنفيذ الوارد بالفقرة الأولى من هذه المادة، وإن كان لا يقيد المحكمة عند نظر أصل هذا الطلب موضوعاً، إلا أنه يظل مع ذلك حكماً قطعياً له مقومات الإحكام وخصائصها وينبني على ذلك أنه يحوز حجية الأحكام في خصوص موضوع الطلب ذاته ولو أنه مؤقت بطبيعته طالما لم تتغير الظروف، كما يحوز هذه الحجية من باب أولى بالنسبة لما فصلت المحكمة فيه من مسائل فرعية قبل البت في موضوع الطلب كالدفع بعدم اختصاص القضاء الإداري أصلاً بنظر الدعوى لسبب يتعلق بالوظيفة إذ قضاء المحكمة في هذا ليس قطعياً فحسب بل هو نهائي وليس مؤقتاً، فيقيدها عند نظر طلب إلغائه، فما كان يجوز للمحكمة الإدارية - والحالة هذه - بعد أن فصلت بحكمها الصادر في 22 من يناير 1961 برفض الدفع بعدم الاختصاص لانتفاء الولاية أن تعود عن نظر طلب الإلغاء فتفصل في هذا الطلب من جديد لأن حكمها الأول كان قضاء نهائياً حائزاً لحجية الأحكام ثم قوة الشيء المحكوم به، ولو أنها قضت على خلاف ما قضت به أولاً لكان حكمها معيباً لمخالفته لحكم سابق حائز قوة الشيء المحكوم به أما وقد انتهت المحكمة في هذا الدفع إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها حكمها الأول فإن الحكم المطعون فيه يتمخض في هذا الخصوص نافلة وتزيداً فمتى حاز الحكم قوة الأمر المقضي فإنه يكون حجة فيما فصل فيه ويعتبر عنواناً للحقيقة حتى ولو كان قد تنكب وجه الصواب في مسائل تتصل بالنظام العام كرفض الدفع بعدم الاختصاص المتعلق بالوظيفة ذلك أن حجية الأمر المقضي تسمو على قواعد النظام العام فلا يصح إهدار تلك الحجية بمقولة إن الاختصاص المتعلق بالولاية يتصل بالنظام العام.
ومن حيث إنه لا ينال من حجية الحكم الصادر من المحكمة الإدارية برفض الدفع بعدم الاختصاص أن يكون ممتنعاً على الطرف الآخر الطعن فيه لصدور الحكم في الموضوع لصالحه متى كان القانون هو الذي أغلق باب الطعن لانعدام المصلحة كذلك فإنه ليس في قانون مجلس الدولة ولا في قانون المرافعات بشأن حالات وإجراءات الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا نص مماثل لنص المادة 404 من قانون المرافعات الوارد بشأن استئناف الأحكام الذي تقضى بأن استئناف الحكم الصادر في الموضوع يستتبع حتماً استئناف جميع الأحكام التي سبق صدورها ما لم تكن قبلت صراحة والذي ذهبت المذكرة الإيضاحية لقانون المرافعات في تبيانه إلى أن الاستئناف يتناول جميع الأحكام التي سبق صدورها ولو كانت قد صدرت لمصلحة المستأنف بحيث يجوز للمستأنف عليه أن يثير كل ما كان قد أبداه من دفوع ووجوه أمام محكمة الدرجة الأولى دون حاجة إلى استئناف الأحكام الصادرة برفضها قبل الفصل في الموضوع - لا محل لإعمال هذا النص الذي ورد في قانون المرافعات بشأن استئناف الأحكام إذ لا تتسع لحكمه حالات الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا التي وردت في المادة 15 من قانون مجلس الدولة رقم 55 لسنة 1959 وهي المقابلة للمادتين 425 و426 من قانون المرافعات بشأن الطعن بالنقض.
ومن حيث إنه يخلص مما تقدم أنه إزاء سبق صدور حكم المحكمة الإدارية برفض الدفع بعدم اختصاص المحكمة لانتفاء الولاية يكون ممتنعاً نظر الدفع لسبق الفصل فيه، وذلك مهما يكن الرأي في سلامة هذا الدفع.
ومن حيث إن الوقائع التي انتهت بفصل الطاعن من الخدمة تخلص - على ما استظهرته تحقيقات النيابة العامة في الشكوى رقم 26 لسنة 1960 إداري بندر بنها ومحاضر التحقيقات الإدارية في أن السيد/ محمد يونس مفتش تموين بنها شاهد يوم 18 من مايو سنة 1959 عربة نقل يقودها على الطريق السائق فهمي محمود عيسى محملة بخمسة عشر جوالاً في الدقيق الفاخر وجوالين من الفول، وبسؤاله عن مصدر هذا الدقيق قال إنه نقله من شونة بنك التسليف الزراعي والتعاوني ببنها لحساب شخص يدعى عبد الخالق الصيفي الذي كلفه بنقلها من مخزن البنك ببنها إلى بلدته سبك الثلاثاء وإذا كان صرف الدقيق الفاخر غير مصرح به إلا للتجار المسجلة أسماؤهم بالبنك، فقد ساق قائد العربة إلى مخزن الدقيق الذي يتولى العمل فيه محمد حسانين عبد الله "الطاعن" وتبين من الاطلاع على الأوراق وحوافظ الصرف أن عبد الخالق الصيفي ليس من بين الأشخاص المصرح لهم بصرف الدقيق كما تبين أن - الطاعن أثبت أنه لم يصرف في هذا اليوم دقيقاً إلا لثلاثة أشخاص هم محمد مرسي سلام وقد أثبت أنه ابتاع جوالين، وغريب زلطه وقد أثبت أنه اشترى اثنين وعشرين جوالاً، ومحمد نوار الذي اشترى أحد عشر جوالاً وبسؤال قائد العربة فهمي محمود عيسى قال إن عبد الخالق الصيفي كلفه بنقل خمسة عشر جوالاً من الدقيق الفاخر من مخزن البنك إلى بلدته فتوجه معه إلى الشونة، وهناك دفع عبد الخالق إلى الطاعن ثمن ما اشتراه ثم صرح له بنقل الأجولة فحملها على العربة وخرجا سوياً إلى حيث عرجا على متجر التاجر غريب مصطفى السخن فاشترى عبد الخالق جوالين من الفول وحملهما على العربة أيضاً، ومضى هو في طريقه حيث لقيه مفتش التموين وسأله عن وجهته فأعلمه بما حدث وبمواجهة الطاعن وعبد الخالق الصيفي بذلك أنكرا واقعة صرف الدقيق من الأول إلى الثاني وكذلك أنكر عبد الخالق الصيفي شراءه فولاً من غريب السخن إلا أن غريب أكد حضور فهمي محمود عيسى وعبد الخالق الصيفي يوم الحادث إلى متجره وشراء الثاني جوالين من الفول وقال إن الأول حملهما على عربته. وقال الطاعن إنه لم يبع دقيقاً فاخراً في يومه إلا للثلاثة الذين سبق ذكرهم وزاد أن غريب زلطه دفع ثمن اثنين وعشرين جوالاً ونقل عشرة منهم وترك الباقي رثيما يعود لنقله وأن محمد مرسي سلام دفع ثمن جوالين ولم ينقلهما أما محمد نوار فقد دفع الثمن ونقل الأجولة وأن الثلاثة وقعوا على حوافظ الصرف بما يفيد الشراء ودفع الثمن. وبسؤال غريب زلطه أنكر على الطاعن أنه ابتاع 22 جوالاً وقال إن كل ما اشتراه ودفع ثمنه 12 جوالاً فقط وأنه كان قد وقع على الدفاتر إلا أنه لم يقرأ ما وقع عليه لعدم إلمامه بالقراءة والكتابة إلماماً كافياً وأضاف أن الطاعن يتلاعب في الدقيق ويتصرف في المقادير الزائدة في السوق السوداء حيث يباع الدقيق الفاخر بأسعار باهظة وفي 21 من مايو سنة 1960 قدم الطاعن للمحقق إقراراً مذيلاً بتوقيع غريب زلطه يؤيد فيه دفاع الطاعن وبمواجهة غريب بهذا الإقرار قال إن الطاعن ولفيف من زملائه الحوا عليه في توقيع هذا الإقرار درءاً للاتهام عن الطاعن فلم يسعه غير توقيعه مجاملة لهم وأكد مرة أخرى أنه لم يدفع غير ثمن 12 جوالاً فقط وأن العربة التي كانت محملة بهذه الأجولة لم تزايل الشونة بسبب قدوم مفتش التموين ولم يتم صرف هذه الكمية إليه إلا في 21 من مايو 1960.
وانتهت النيابة العامة من التحقيق إلى إحالة الأوراق إلى البنك للنظر في أمر الطاعن إدارياً استناداً إلى أنه وإن كان لا يمكن القول بوقوع تزوير على وجه قاطع إلا أن المستفاد من التحقق أن أمين الشونة محمد حسانين عبد الله يتلاعب بهذا النوع من الدقيق ويبيعه إلى أشخاص غير مصرح لهم بصرفه من شونة بنك التسليف الأمر الذي يستوجب مؤاخذته إدارياً عما هو منسوب إليه من تلاعب في الدقيق وقد استتبع ذلك فحص أعمال الطاعن وإجراء تحقيق إداري تبين منه أنه يقوم بصرف كميات من الدقيق بأسماء أصحاب مخابز المقرر صرف الدقيق لهم دون أن يوقعوا على كشوف الصرف بما يفيد الاستلام وأنه يقوم بصرف كميات دقيق بأسماء أشخاص ويوقع بالاستلام عنهم أشخاص آخرون دون توكيل به ونوه المحقق عند استجوابه إلى أن ذلك يفتح للطاعن الباب للتلاعب في صرف الدقيق. وفي 5 مايو 1960 أصدر السيد مدير عام البنك قراراً بفصل الطاعن بالتطبيق للمادة 76 من قانون العمل الموحد والتي تجيز لرب العمل فصل العامل دون إخطار ودون تعويض أو مكافأة إذا أخل بالتزاماته الجوهرية المنصوص عليها في العمل وفي 8 من مايو 1960 أخطر الطاعن بموجب إخطار بإنهاء رابطة العمل "بقرار السيد مدير عام البنك بفصله تطبيقاً للمادة 76 من قانون العمل".
ومن حيث إن ما نسب إلى الطاعن من التلاعب في صرف الدقيق مدلول عليه من ضبط خمسة عشر جوالاً من الدقيق محملة على عربة نقل يقودها فهمي محمود عيسى الذي قرر في أعقاب ضبطه بأنه ينقل الدقيق لحساب تاجر يدعى عبد الخالق الصيفي وأنه نقل الدقيق من مخزن فرع البنك بمدينة بنها الذي يعمل الطاعن أميناً له، وأن عبد الخالق الصيفي دفع أمامه ثمن الدقيق إلى الطاعن الذي صرح له بنقله إلى العربة.
ومن حيث إنه ليس في أقوال قائد عربة النقل ما يثير الشك، فهو قد أدلى بهذه الأقوال فور ضبطه ويؤيدها أنه من محترفي النقل وليس تاجراً وأنه لم يقم أدنى دليل على أن ثمة ما يدعوه إلى الكيد لأي من الطرفين أو التجني عليهما، يساند ذلك ما شهد به غريب السخن من قدوم عبد الخالق الصيفي وقائد عربة النقل إلى متجره يوم الحادث وشراء الأول جوالين من الفول حملهما قائد العربة على عربته في حين أنكر عبد الخالق الصيفي كل شيء مما يرجع صدق رواية فهمي محمود عيسى. يضاف إلى ذلك ما شهد به غريب زلطه من أن الطاعن دأب على الاحتفاظ لنفسه بكميات من الدقيق المقررة لأصحاب المخابز والاتجار بها في السوق السوداء وما أكده من أنه لم يدفع يوم الحادث إلى الطاعن غير ثمن 12 جوالاً فقط لا 22 على نحو زعم الطاعن، ولا يزعزع من شهادته أنه وقع باستلام 22 جوالاً أو أنه وقع إقراراً يؤيد دفاع الطاعن، بعد أن تبين أنه غير ملم بالقراءة والكتابة ولما أبداه من أن الطاعن وزملاءه تكاثروا عليه بعد أن أدلى بأقواله في التحقيق ورجوه في أن يوقع هذا الإقرار درءاً لمسئولية الطاعن فلم يسعه إلا توقيعه مجاملة لهم إذ لا مرية في أن توقيع الشاهد لهذا الإقرار ينم بذاته عن الظروف التي أشار إليها والتي دعته إلى التوقيع ويكشف عن زيف دفاع الطاعن. ليس هذا فحسب بل أن محمد سعيد نوار قد شهد هو الآخر بأن الطاعن سعى إليه يطلب توقيعه على استلام أحد عشر جوالاً زاعماً بأن والد سعيد النوار كان قد حصل منه على هذه الأجولة في يوم سابق. فإذا أضيف إلى ذلك ما كشف عنه فحص أعمال الطاعن وما أقر به من أنه يقوم بصرف كميات من الدقيق بأسماء أشخاص ويوقع بالاستلام عنهم آخرون دون توكيل كما يثبت صرف كميات لبعض التجار دون توقيع منهم - دل ذلك في مجموعه على صحة ما عزى إليه من تلاعب في صرف الدقيق، الأمر الذي يشكل إخلالاً بالتزاماته الجوهرية على نحو ما ذهب الحكم المطعون فيه ويجعل قرار الفصل قائماً على سببه المبرر له.
ومن حيث إنه يبين من ذلك أن فصل الطاعن إنما يستند في الواقع من الأمر على ما استخلصته النيابة العامة من التحقيقات التي أجرتها من أنه يتلاعب في صرف الدقيق الفاخر ويبيعه لأشخاص غير مصرح لهم بصرفه من شونة البنك مما رأت معه النيابة العامة مجازاته إدارياً عما نسب إليه من تلاعب، فرأت إدارة البنك أن ما فرط منه على هذا النحو يشكل إخلالاً بالتزاماته الجوهرية المنصوص عليها في المادة 78 من قانون العمل وانتهت إلى فصله، وعلى ذلك يكون السبب الذي بني عليه الجزاء التأديبي هو وقوع تلاعب من الطاعن في صرف الدقيق، أما ما ساقته إدارة البنك في معرض دفاعها من سرد لبعض الوقائع التي كشف عنها فحص أعماله فإنها لا تعدو أن تكون قرائن أو شواهد على وقوع هذا التلاعب الذي هو سبب القرار، ومن ثم فإنه لا يؤثر في سلامة الجزاء أو قيامه على كامل سببه أن تكون بعض هذه القرائن غير سليمة متى كان في القرائن الأخرى ما يكفي للتدليل على وقوع التلاعب من الطاعن وبذلك يكون غير سديد ما رمى به الحكم المطعون فيه من مخالفة القانون لعدم ثبوت هذه الوقائع بمقولة إن القرار لم يعد قائماً على كامل سببه.
ومن حيث إنه لما تقدم فإن الطعن يكون غير قائم على أساس سليم من القانون، ويكون الحكم المطعون فيه قد أصاب وجه الحق فيما انتهى إليه من رفض الدعوى.
"فلهذه الأسباب"
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وبرفضه موضوعاً وألزمت المدعي بالمصروفات.