جلسة 22 مايو سنة 1941
برياسة سعادة محمد فهمي حسين باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات: عبد الفتاح السيد بك وعلي حيدر حجازي بك ومحمد زكي علي بك ومحمد كامل مرسي بك المستشارين.
------------------
(118)
القضية رقم 11 سنة 11 القضائية
(أ) إثبات.
كفاية الأدلة القائمة في الدعوى للحكم فيها. إصدار الحكم بناء على هذه الأدلة.
دعوى لا يوجب القانون لثبوتها دليلاً معيناً. تكوين القاضي رأيه من القرائن والأدلة المقدّمة فيها دون التفات إلى من قدّمها (المدّعي أو المدّعى عليه).
إنكار ختم أو إمضاء على ورقة عرفية. إحالة الدعوى على التحقيق ليثبت المتمسك بالورقة صحة الختم أو الإمضاء. لا إلزام.
سلطة القاضي في الأخذ بالورقة من غير تحقيق. الإحالة على التحقيق. لا يتقيد القاضي بنتيجة التحقيق. سلطته بعد إجراء التحقيق في الحكم بصحة الورقة بناء على الأدلة القائمة في الدعوى من الأصل أو من الأدلة التي أسفر عنها التحقيق أو من الاثنين معاً.
الاستناد إلى دليل قدّمه الخصم الغير المكلف بالإثبات. جوازه.
متى يصح النعي على المحكمة بأنها قلبت الأوضاع في الإثبات؟ عدم ثبوت الدعوى. قولها بثبوتها لعجز المدّعى عليه عن إثبات مدّعاه. تبرع الخصم بإثبات دعوى خصمه. لا يتعين إطراح دليله. إنكار ختم. تعليل هذا الإنكار بسبب معين. حق المتمسك بالورقة في تفنيد هذا السبب. سلطة المحكمة في تقدير الأدلة.
(المادة 254 مرافعات)
(ب) حكر.
دوران النزاع حول ما إذا كانت اليد على الأرض المتنازع عليها يد مالك أم يد محتكر. الحكم لوزارة الأوقاف بملكيتها للأرض المحكرة. ليس فيه خروج عن ولاية المحكمة. الحكم في أصل الوقف هو الخارج عن ولايتها.
---------------
1 - إنه لما كان المقرّر أنه إذا رأى القاضي أن الأدلة القائمة في الدعوى تكفي للحكم فيها فإنه يصدر حكمه بناء على هذه الأدلة، وأنه إذا كانت الدعوى مما لا يوجب القانون لثبوتها دليلاً معيناً فيكوّن القاضي عقيدته من جميع الأدلة والقرائن القائمة فيها دون أن يلتفت إلى من قدّمها إن كان هو المدّعي أو المدّعى عليه، ولما كان القاضي غير ملزم في حالة إنكار الختم أو الإمضاء على الورقة العرفية بأن يحيل الدعوى إلى التحقيق ليثبت المتمسك بالورقة صحة الختم أو الإمضاء، بل له - إذا كان في وقائع الدعوى وأدلتها ما يقنعه بأن الختم أو الإمضاء صحيح - أن يرد على المنكر إنكاره ويأخذ بالورقة من غير إجراء تحقيق - لما كان كل ذلك كان من حق القاضي بعد أن تعود إليه الدعوى من التحقيق، إذا كان قد أمر به، أن يحكم بصحة الورقة كلما تبين ذلك: سواء من الأدلة القائمة فيها من الأصل أو من الأدلة التي أسفر عنها التحقيق أو من الاثنين معاً؛ لأن الإحالة إلى التحقيق لا تقتضي دائماً إلزامه بأن يأخذ بنتيجة هذا التحقيق ويرتبط به، بل يجوز له ألا يعوّل على شيء منها إذا لم يطمئن إليه، وأن يجعل عماد حكمه الأدلة التي كانت قائمة في الدعوى أوّلاً. ولا يصح في هذه الحالة النعي على المحكمة بأنها قلبت الأوضاع في الإثبات إذ استندت في قضائها إلى دليل قدّمه الخصم غير المكلف بالإثبات، لأن النعي بذلك لا يصح إلا إذا كانت الدعوى غير ثابتة وتقول هي بثبوتها على أساس أن المدّعى عليه هو الذي عجز عن إثبات مدّعاه. أما إذا كانت الأدلة قد قدّمت للمحكمة، وأصبحت الدعوى ثابتة أمامها، فلا يلتفت إلى من قدّمها؛ فإن الخصم إذا تبرع بإثبات دعوى خصمه لا يتعين إطّراح دليله وعدم الأخذ به. وإذن فإذا كان منكر الختم أو الإمضاء لم يقف عند حدّ الإنكار المطلق الذي يقتضي من المتمسك بالورقة تقديم الأدلة التي تقنع المحكمة بصحة الختم أو الإمضاء، بل علل إنكاره وبناه على سبب معين، وقدّم شهوداً لإثبات صحته، فإن للمتمسك بالورقة في هذه الحالة أن يفند هذا السبب، وللمحكمة بما لها من السلطة المطلقة في تقدير الأدلة أن تأخذ بما تراه.
2 - إذا لم يكن الموضوع المطروح على المحكمة متعلقاً بنزاع خاص بوقف الأرض المتنازع عليها وإنما كان دائراً على أن المدّعى عليهم لم تكن يدهم على الأرض يد مالك بل يد محتكر فقط، فإن المحكمة إذا فصلت في الدعوى على هذا الأساس الذي لا تعرض فيه لأية ناحية من نواحي أصل الوقف وحكمت - بعد أن اقتنعت بصدور ورقة الحكر من مورّث المدّعى عليهم، واستدلت بذلك على أن يده لم تكن يد مالك - بأن الملكية لم تكن لمورّث المدّعى عليهم كما يدّعون ولا لهم من بعده، وبأن المدّعية (وزارة الأوقاف) على حق في طلبها تثبيت ملكيتها للأرض المحكرة، فلا تثريب عليها في ذلك، إذ أصل الوقف هو وحده الخارج عن اختصاص المحاكم الأهلية.
الوقائع
تتلخص وقائع هذا الطعن - على ما يؤخذ من الحكم الابتدائي والحكم المطعون فيه وسائر الأوراق والمستندات المقدّمة والتي كانت من قبل تحت نظر محكمة الاستئناف - فيما يأتي:
في 19 من مايو سنة 1926 رفعت وزارة الأوقاف الدعوى رقم 1584 سنة 1926 أمام محكمة دمياط ضدّ عبده إبراهيم العلمي (الطاعن الأوّل) ومحمود إبراهيم العلمي (مورّث باقي الطاعنين) وقالت فيها إن لأوقاف الحرمين والمعينى الخيرية المشمولة بنظرها 4 أفدنة وقيراطاً و12 سهماً بغيط ابن طي بشط محب والسيالة بشطوط دمياط محكرة لهما، وكان مقرّراً عليها حكر سنوي قدره 610 مليمات، وقد رفعه قومسيون تقدير الأحكار إلى 518 جنيهاً و290 مليماً. ولامتناع المدّعى عليهما عن دفع الحكر طلبت الحكم عليهما بمبلغ 3 جنيهات و50 مليماً حكر السنوات الخمس السابقة على رفع الدعوى بواقع 610 مليمات سنوياً وبما يستجد بواقع 18 جنيهاً و290 مليماً سنوياً، وارتكنت في دعواها على إقرار قالت بصدوره من مورّث المدّعى عليهما بتاريخ 28 من أكتوبر سنة 1891. فأنكر المدّعى عليهما معرفتهما هذا الإقرار ودفعا بملكية العين لهما وبأن مورّثهما توفى منذ 38 سنة لم يدفعا في أثنائها شيئاً للوزارة. فقضت المحكمة في 26 من أكتوبر سنة 1927 بوقف الدعوى حتى يفصل في النزاع على الملكية. وفي 25 من أغسطس سنة 1928 رفعت وزارة الأوقاف الدعوى رقم 235 سنة 1928 أمام محكمة المنصورة الابتدائية على الطاعنين طالبة الحكم بتبعية الأرض موضوع النزاع لأوقاف الحرمين، واستندت إلى الإقرار المتقدّم ذكره فأنكر الطاعنون توقيع المورّث وقالوا إنه لم يكن له ختم وكان يوقع بإمضائه. وفي 27 من ديسمبر سنة 1928 قضت المحكمة بإحالة الدعوى على التحقيق لتثبت المدّعية (المطعون ضدّها) بكافة الطرق القانونية بما فيها البينة أن إبراهيم العلمي مورّث المدّعى عليهما (الطاعنين) هو الذي وقع بختمه على الإقرار المقدّم منها، وللمدّعى عليهما النفي بالطرق عينها. وفي 24 من يناير سنة 1939 صدر الحكم: (أوّلاً) بصحة الإقرار وبتغريم المدّعى عليهم 400 قرش. (وثانياً) بملكية الوزارة بصفتها للقدر موضوع النزاع. وأسست المحكمة قضاءها هذا على ما يأتي:
"حيث إن المدّعى عليهما أنكرا توقيع مورّثهما على الإقرار المؤرّخ 28 أكتوبر سنة 1891 فلما أحيلت الدعوى إلى التحقيق ولم تستشهد المدّعية (المطعون ضدّها) بأحد لإثبات حصول التوقيع لأن الموظفين اللذين باشرا تحرير الإقرار وتحصيل الأحكار، وهما المعاون والجابي، انفصلا من خدمة المدّعية من زمن طويل اتخذ المدّعى عليهما (الطاعنان) هذا السبب وسيلة لتأييد دفاعهما قولاً منهما بأن المدّعية عجزت عن إثبات صدور الإقرار من مورّثهما".
"وحيث إن أهم ما استند إليه المدّعى عليهما في إنكارهما أن مورّثهما كان ملماً بالقراءة والكتابة، وكان يوقع بإمضائه، ولم يكن له ختم يستعمله في معاملاته، وهذا الأمر كان مدار شهادة الشهود الذين استشهدا بهم. غير أنه ثبت من الصورة التي استخرجتها المدّعية من سجلات قلم رهون محكمة المنصورة المختلطة أن مورّث المدّعى عليهما باع حصة في بستان في 13 مايو سنة 1879 ووقع على عقد البيع بختمه، وأسفر التحقيق الذي قامت به المحكمة أنه لم يكن في البلدة التي يقيم بها المورّث شخص آخر باسمه، ومن ثم يكون القول بأن المورّث لا يستعمل الختم في محرّراته لإلمامه بالقراءة والكتابة مخالفاً للواقع، ولا يمكن الركون إلى شهود يشهدون على واقعة تبين عدم صحتها".
"وحيث مما تقدّم ترى المحكمة أن الإنكار في غير محله، ويتعين لذلك الحكم بصحة الإقرار وإلزام المنكرين بالغرامة القانونية...".
"وحيث إنه ما دام قد ثبت أن الإقرار صحيح وفيه اعتراف صريح بأن المقرّ مستحكر لأرض النزاع فتكون يده هو ومن تلقى وضع اليد عنه باعتباره مستحكراً لا مالكاً. ويتعين لذلك الحكم للمدّعية بالملكية". وفي أوّل يونيه سنة 1939 استأنف الطاعنون الحكم أمام محكمة استئناف مصر وطلبوا في صحيفته إلغاء الحكم المستأنف ورفض الدعوى. وفي 21 من مايو سنة 1940 قضت المحكمة برفض الاستئناف وتأييد الحكم المستأنف وإلزام المستأنفين بمصاريفه وبمبلغ 300 قرش مقابل أتعاب المحاماة، مؤسسة قضاءها على: "أنه تبين من الاطلاع على ملف الدعوى وما اشتمل عليه من الأوراق والمذكرات أن محكمة أوّل درجة أصابت فيما قضت به للأسباب المدوّنة بالحكم المستأنف والتي تأخذ بها هذه المحكمة، وتضيف عليها أنه باطلاعها على دفتر الأحكار المقدّم من الوزارة صفحة 35 تبين أنه وارد به ضمن الأعيان الجارية في وقف الحرمين 3 أفدنة و17 قيراطاً و12 سهماً بغيط ابن طي محكرة لإبراهيم العلمي بحكر سنوي قدره 610 مليمات، وأن حكرها تسدّد لغاية سنة 1905 الأمر الذي ينكره المستأنفون في مذكرتهم الأخيرة. فإذا أضيف إلى ذلك أيضاً أنهم سلموا في تلك المذكرة بصحة الوارد في الدفتر المذكور صفحة 45 من تحكير 7 قراريط و10 أسهم بغيط ابن عوين وداير السكن إلى إبراهيم العلمي ترتاح المحكمة إلى الأخذ بما في ذلك الدفتر واعتباره قرينة على صحة الإقرار الذي ينكره المستأنفون. أما ورود القدر موضوع النزاع في تكليف مورّث المستأنفين، واستنتاج ذلك من الرد المقدّم منهم عن سنة 1896 فإن التكليف لا يدل على الملكية كما لا يستفاد منه إنكار حق الوزارة في الحكر وظهور المورّث بمظهر المنكر لهذا الحق، خصوصاً والثابت من دفتر الأحكار أن الحكر تسدد إلى سنة 1905. فيكون ما ذهبت إليه محكمة أوّل درجة في محله ويتعين تأييد الحكم المستأنف".
أعلن هذا الحكم للطاعنين في 21 من يناير سنة 1941 فطعنوا فيه بطريق النقض في 18 من فبراير سنة 1941 بتقرير أعلن للمطعون ضدّها في 20 من ذلك الشهر... إلخ.
المحكمة
ومن حيث إن الطاعنين ينعون على الحكم المطعون فيه: (أوّلاً) مخالفته للمادة 227 من القانون المدني وللمادتين 254 و270 من قانون المرافعات بمقارنتها بالمواد 279 وما بعدها من هذا القانون. (ثانياً) مخالفته للمادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية.
ومن حيث إن الطاعنين يقولون في بيان الوجه الأوّل إنه مما لا جدال فيه أنه لا يحتج بورقة على من نسبت إليه أو على وارثه من بعده إلا إذا أقرّ هو أو أقرّ وارثه من بعد موته بإمضائه أو ختمه عليها. فإذا أنكره أو أنكره الوارث ألزم المتمسك بالورقة بإثبات صحة التوقيع، فإن أعياه هذا ردّها عليه القاضي ومنعه المحاجة بها. ولا يطالب المنكر بتسبيب إنكاره أو بالتدليل على صحته، بل يقع عبء الإثبات على المتمسك بالورقة. ولكن الحكم المطعون فيه إذ استند إلى أسباب الحكم الابتدائي يكون قد اتخذ من عجز الطاعنين عن إثبات صحة ما ادعوه من أن مورّثهم لم يتعامل مع أحد بختمه، وأنه كان ملماً بالقراءة والكتابة، وأن كل معاملاته كانت بالتوقيع بالإمضاء، دليلاً على صحة الإقرار. ومن ثم يكون قد خلط الإنكار بدعوى التزوير الفرعية، فتصوّر المنكر مدّعياً والمتمسك بالسند مدّعى عليه. وفضلاً عن خطأ الحكم من هذه الناحية فإنه أخطأ أيضاً في الاستدلال على صحة التوقيع:
1 - لأنه استند إلى شهادة عقارية على أنه ثبت منها بيع من المورّث لآخر في سنة 1879 مع أنه موقع على العقد بختم مجهول لأن أصل هذا العقد غير موجود. واتخذ الحكم من ذلك دليلاً على صحة الختم المعين الموجود على الورقة المنكرة مع انعدام الشهود والأوراق المعترف بها واستحالة المضاهاة.
2 - لأنه استند كذلك إلى ما قاله من أنه ظهر من التحقيق عدم وجود شخص ببلدة المورّث باسمه سواه في حين أنه ثبت من شهادة التصرفات السابق ذكرها أن ابنه كان يسمى باسمه، كما ثبت بجريدة سجل الأحكار المقدّمة من المطعون ضدّها بصفحة 45 ذكر استحكار 7 قراريط و10 أسهم وأن المستحكر هو إبراهيم العلمي الصغير مع أن هذا المقدار وارد بالإقرار مما يستفاد منه - لو صح - أن إبراهيم العلمي الصغير هو غير إبراهيم العلمي الكبير المنسوب إليه الإقرار المذكور. وقد أغفل الحكم المطعون فيه كل هذا باستناده إلى أسباب الحكم الابتدائي فيما استدل به على خلو بلدة المورّث من شريك له في اسمه.
ومن حيث إنه من المقرّر أنه إذا رأى القاضي أن الأدلة القائمة في الدعوى تكفي للحكم فيها أصدر حكمه بناء على هذه الأدلة، وأنه إذا كانت الدعوى مما لا يوجب القانون لثبوتها دليلاً معيناً كوّن القاضي عقيدته من جميع الأدلة والقرائن القائمة فيها. وذلك بغير التفات إلى من قدّمها إن كان المدّعي أو المدّعى عليه.
ومن حيث إنه لما كان القاضي غير ملزم في حالة إنكار الختم أو الإمضاء على الورقة العرفية بأن يحيل الدعوى إلى التحقيق ليثبت المتمسك بالورقة صحة الختم أو الإمضاء فإن له، إذا كان في وقائع الدعوى وأدلتها ما يقنعه بأن الختم أو الإمضاء صحيح، أن يردّ على المنكر إنكاره ويأخذ بالورقة بغير إجراء تحقيق. ومتى كان هذا من سلطته فيكون من حقه أيضاً، بعد أن تعود إليه الدعوى من التحقيق الذي يأمر به، أن يحكم بصحة الورقة إذا ما رأى ذلك: سواء من الأدلة القائمة فيها من الأصل، أو من الأدلة التي أسفر عنها التحقيق، أو من الاثنين معاً. لأن الإحالة إلى التحقيق لا تقتضي إلزام القاضي بأن يأخذ بنتيجة هذا التحقيق ويرتبط بها، فيصح له ألا يعوّل على شيء منها إذا لم يطمئن إليه وأن يجعل عماد حكمه الأدلة التي كانت قائمة في الدعوى أوّلاً.
ومن حيث إنه متى كان هذا واضحاً فإن المحكمة إذ اعتمدت في حكمها بصحة الختم على الأدلة التي أوردتها، ومنها ما قدّمه منكر الختم، لا تكون قد أخطأت في شيء. ولا يصح النعي عليها في هذه الحالة بأنها قلبت الأوضاع في الإثبات، لأن محل ذلك أن تكون الدعوى غير ثابتة وتقول هي بثبوتها على أساس أن المدّعى عليه هو الذي عجز عن إثبات مدّعاة. أما إذا كانت الدعوى ثابتة أمامها فلا محل لما يزعمه الطاعنون. لأن الدليل متى قدّم لا يلتفت إلى من قدّمه. وإذا تبرع خصم بإثبات دعوى خصم آخر فلا محل لإطراح دليله وعدم الأخذ به. ولما كان الطاعنون لم يكتفوا بإنكار ختم مورّثهم إنكاراً مطلقاً يقتضي من المتمسك بالورقة تقديم كل الأدلة التي تقنع المحكمة بصحة الختم، بل عللوا إنكارهم وبنوه على سبب معين وقدّموا شهوداً لإثبات صحته، فإن للمتمسك بالورقة في هذه الحالة أن يفند هذا السبب، ويكون للمحكمة بما لها من السلطة المطلقة في تقدير الأدلة أن تأخذ بما تراه.
ومن حيث إنه وقد تبين هذا فإن باقي ما يثيره الطاعنون بوجه الطعن لا يقبل منهم. لأن الغرض منه في مجموعه لا يعدو التشكيك في قوّة الأدلة التي اعتمدت عليها المحكمة في اقتناعها واكتفت بها في تكوين عقيدتها بأن الختم هو لمورّث الطاعنين. وما دامت هذه الأدلة من شأنها أن تصلح أساساً لاستخلاص النتيجة التي انتهت إليها المحكمة فإن التشكيك فيها للتقليل من قيمتها في الإثبات لا يقبل أمام محكمة النقض لتعلقه بما هو من صميم الموضوع الذي تختص محكمة الدعوى به دون رقابة عليها من محكمة النقض.
ومن حيث إن الطاعنين يقولون في بيان الوجه الثاني إن المحكمة في إصدارها الحكم المطعون فيه قد تجاوزت ولايتها لأنها قضت في وجه من أوجه النزاع الخاصة بأصل الوقف مما يدخل في ولاية القضاء الشرعي. وذلك لأن الدعوى هي دعوى ملكية وليست دعوى حكر، وأن المطعون ضدّها لم تقدّم حجة الوقف أو أي حجة أو ورقة رسمية أو حكم شرعي يقوم مقام الحجة. وخصوصاً أن تاريخ الإقرار لا يدل على قدم الوقف وأسبقيته على دكريتو 6 ذي الحجة سنة 1283 (11 إبريل سنة 1867) الذي أوجب أن يكون الوقف بحجة رسمية، وأن الإقرار المذكور لم يصدر في مجلس القضاء ولا من ذي شأن، واللوائح القديمة والحديثة لا تجيز اعتباره إقراراً بوقف أو استحقاقاً في وقف يجوز معه سماع الدعوى.
ومن حيث إن ما جاء في هذا الوجه مردود بأن الموضوع الذي كان مطروحاً أمام المحكمة لم يكن متعلقاً بنزاع خاص بوقف الأرض، بل كان متعلقاً بأن المدّعى عليهم لم تكن يدهم على الأرض يد مالك، بل يد محتكر لها فقط، والمحكمة إذ فصلت في الدعوى لم تفصل فيها إلا على هذا الأساس بغير أن تتعرّض لأية ناحية من نواحي أصل الوقف الذي هو وحده خارج عن اختصاصها. ولما كانت المحكمة قد اقتنعت بصدور ورقة الحكر من مورّث الطاعنين واستدلت بذلك على أن يده لم تكن يد مالك فلا تثريب عليها إذا هي حكمت في الدعوى المطروحة أمامها بأن الملكية لم تكن له ولا لورثته، وبأن الوزارة بصفتها على حق في طلبها تثبيت ملكيتها للأرض المحكرة. ومتى كان الأمر كذلك فلا محل للبحث فيما يثيره الطاعنون حول كفاية الورقة المقدّمة في إثبات الوقف.