الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 6 ديسمبر 2021

التعاقد بالمراسلة سامي أفندي الجريديني

مجلة المحاماة
السنة الأولى - 1920

التعاقد بالمراسلة
بقلم الأستاذ سامي أفندي الجريديني المحامي
مقدمة

لا يزال الإنسان يستعمل الكتابة من بدء وضعها لهذا اليوم للتعبير عن مقاصده وأفكاره وأكثر الناس استعمالاً لها جماعة المشتغلين بالتجارة وما شابهها من أعمال الأخذ والعطاء بين الناس في بلد واحد أو في بلدان مختلفة فهي عند المتراسلين مقام المشافهة لا بل إنهم يلجأون إليها مع استطاعتهم أن يتشافهوا ويتباحثوا ويجعلونها واسطة التعاقد بينهم. كانت هكذا في أيام الرومان وفي بدء الإسلام ولا تزال ليومنا هذا على ما هي عليه.
ولا يخفى على أحد ما يبرمه الناس وينقضونه بين بعضهم بالمكاتبة بواسطة البريد بما يسمونه رسائل أو كتب أو تحارير أو جوابات، فيكون إذًا من الأهمية بمكان البحث في العلاقة القانونية المتولدة من المكاتبة بين المكاتبين.
وما يصدق على رسائل البريد ينطبق على رسائل البرق (التلغرافات) أيضًا فإن الناس في معترك الحياة الهائل يطلبون السرعة في العمل وقد يعدون الدقائق من ذهب فللتلغراف في معاملاتهم القانونية شأن عظيم مثل شأن رسائل البريد على السواء.
وقد أضاف تقدم العلم والتمدن واسطة ثالثة للمخاطبة بين الناس البعيدين بعضهم عن بعض هي التلفون، وفي الواقع أن البحث في التعاقد بالتلفون لا يمتاز بشيء عن التعاقد بين شخصين جلس كل منهما في غرفة مجاورة للأخرى وأخذا بالمكالمة بدون أن يرى أحدهما الآخر، على أنه لا بد من ملاحظة أمرين في هذا النوع وهما محل وقوع خطأ في معرفة شخصية أحد المتعاقدين، فإنه لا يخفى أن أسلاك التلفون تربط المدن والبلدان بعضها ببعض فلا مندوحة من معرفة المكان المعتبر محلاً للعقد كما أنه قد يخطئ الرجل فيخاطب رجلاً آخر ليس بالمقصود فيفقد شرطًا من شروط التعاقد وهو معرفة حقيقة شخص المتعاقد معه، وفي هذه الحالة يرجع إلى القواعد الأولية المبينة بهذا الصدد في القانون المدني في أثناء الكلام على هذا النوع من الخطأ.
بحثنا في التعاقد بالمراسلة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - المراسلة البريدية.
2 - المراسلة التلغرافية.
3 - المراسلة التليفونية.
والنوع الأول أهم ما يتجه إليه النظر والبحث.

القسم الأول: في المراسلات البريدية

لسهولة البحث في هذا الموضوع لا بد من حصره في مباحث خمسة:
أولاً: جواز التعاقد بالمراسلة.
ثانيًا: شروط صحة هذا التعاقد.
ثالثًا: الوقت الذي يتم به التعاقد.
رابعًا: طرق إثبات هذا التعاقد.
خامسًا: تسجيل هذا النوع من التعاقد.
البحث الأول: جواز التعاقد بالمراسلة:
لا يخفى أن أساس كل تعاقد إيجاب وقبول فمتى توفر هذان الركنان عقد العقد صحيحًا، ولا يلزم لصحة العقد أن يكون المتعاقدان في مجلس واحد أو أن يختص كل منهما بنوع من الكلام بل يكفي أن تتحد إرادتهما وتتفق نيتهما على التعاقد فينتهي الأمر.
فاتحاد الإرادتين أو النيتين كما يكون بالمشافهة يكون بالمراسلة أيضًا، على أن التعاقد بالمراسلة لم ينل حظوة في عيون جميع رجال القانون لأن منهم من أنكر صحته ومنهم من حدد مدته فجعله ساريًا على المتعاقدين مدة حياتهما فإذا مات أحدهما لا يسري فعل العقد على الورثة، ولا يخفى ما في هذا القول من الضعف الذي لا يصح اتخاذه قياسًا كذلك ولهذا رفضه كبار الشراح وأجمعوا اليوم على أن التعاقد بالمراسلة مثله مثل كل تعاقد آخر على السواء فليس في القوانين ما يمنع هذا النوع من التعاقد أو ينقضه على أنه لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى اعتراض على هذا النوع من التعاقد أبداه العلامة توليه في مؤلفه في القانون المدني الفرنساوي عندما ذكر طرق إثبات التعاقد بين اثنين.
قال: إن القانون المدني يوجب في إثبات التعاقد المتبادل التعهدات أن يكون عدد صور العقد مطابقًا لعدد المتعاقدين فمهما كان عدد المتعاقدين يجب أن يكون عدد صور العقد بعددهم وليس الأمر كذلك في المراسلات المتبادلة بين تاجرين مثلاً فإنك إذا جمعت كلما كتب الفريقان جمعت عقدًا واحد مؤلفًا من أجزاء عديدة لا قيمة لأحدهما بدون الآخر فيكون لدينا حينئذٍ عقد عرفي لم يستوفِ الشروط القانونية فيما يختص بعدد الصور ولا يكون هناك ما يثبت هذا النوع من العقود.
على أن هذا الانتقاد على التعاقد بالمراسلة غير وجيه كما يظهر لأول وهلة لأنه ليس ما يمنع من إثبات هذا التعاقد بكل طرق الإثبات إذا لم يكن في اليد عدد من النسخ يطابق عدد المتعاقدين فيستطيع المكلف بالإثبات أن يحلف خصمه اليمين أو يثبت العقد بالبينة حاسبًا ما بيده من الأوراق بدء الثبوت بالكتابة.
وفضلاً عن ذلك فإن القانون المدني يوجب تعدد النسخ في (العقود العرفية المحتوية على تعهد متبادل بين الفريقين) ولا يوجب ذلك في التعهد نفسه الأمر الذي يدل بأجلى بيان على أن كل طرق الإثبات جائزة لإثبات العقد.
هذا فيما يختص بالعقود ذات الالتزامات المتبادلة وأما بقية التعهدات التي لا تفيد إلا فريقًا واحدًا فلا نزاع في أن المراسلات وحدها كافية لإثباتها.
على أنه لا يخفى أنه ليس من المحتم وجود توقيع الفريقين على عقد واحد لإلزامهما كليهما بمضمونه بل يكفي أن يكون عند كل منهما صورة بإمضاء الآخر وهذا كل ما يطلبه القانون إذ ليس من المعقول أن يحتم على صاحب الشأن أن يودع توقيعه على ورقة في حيازته هو حر في التصرف فيها، فما دام الأمر كذلك صح لنا أن نقيس الأمر على المراسلة بين الفريقين فإن لدى كل منهما شيئًا بتوقيع الآخر فإذا اجتمع الأمران كونا عقدًا واحدًا بين الاثنين.
صحيح أن ما في يد الواحد ليس صورة طبق الأصل لما في يد الآخر ولكن مضمون المراسلة يؤدي معنى الإيجاب من جهة والقبول من جهة أخرى وهذا كل المطلوب لصحة العقود فإن القانون لا يفرض ألفاظًا معينة في العقود بل يكتفي بالنية المراد بيانها والمعنى المطلوب إيراده وكل هذا متوفر على أتمه في المراسلة بين المتعاقدين.
بقي أمر آخر يكفي وحده لأن ينقض رأي (توليه) فإن المراسلة ليست من العقود العرفية أبدًا لأن العقد العرفي يحتوي وحده على كل التعهدات المتفق عليها ويوقع عليه المتعاقدان وليس الأمر كذلك في المراسلة لأن بيان ما يشترطه الواحد من المتعاقدين فقط يكون مكتوبًا وموقعًا عليه بإمضاء صاحبه، فالفريقان لم يقصدا بالمراسلة كتابة عقد بل توضيح الأفكار وعرض ما يقبله كل من الآخر، ولا نزاع بأن العقد العرفي نتيجة المباحثة وصفوة ما اتفق عليه المتعاقدان بعد طول الأخذ والعطاء.
بناءً على كل ما تقدم يرى المنصف أن المراسلة بالكتابة لم تكن مقصودة عندما اشترط الشارع المدني تعدد العقود بتعدد المتعاقدين لأنها ليست من العقود العرفية بل هي تكون تعهدًا إن لم يكن شفاهيًا فلفظيًا على الأقل.
ومما يزيد الأمر وضوحًا نصوص القانون التجاري في هذا الصدد فإنه يميز تمييزًا كليًا بين الإثبات بواسطة العقود العرفية وبين الإثبات بالمراسلة، ثم إنه ليس من المعقول أن يضع القانون حواجز منيعة في سبيل حرية التعاقد فيحدد ويحرم التعاقد بالمكاتبة أو يقلل اعتبارها، كلا بل الأمر بالعكس فإنه يجب تفسير روح التقنين تفسيرًا موافقًا لحرية التجارة وتنشيطها وملاحظة السرعة في التعاقد بالمراسلة تارة وبالتلغراف أخرى وكل هذه أمور لا يمكن أن يتوفر معها شرط وجود صورتين متماثلتين مع كل من المتعاقدين حتى يصح أن يكون عقدًا عرفيًا، وما دام القانون يجيز البيع الشفاهي مثلاً يجوز من باب أولى البيع بالمراسلة.
ولا يخفى أن مبدأ القانون التجاري ومبدأ القانون المدني واحد وكل ما في الأمر أن قانون التجارة أوضح بيانًا فيما يخص التعاقد بالكتابة فهو يعتبر مكاتبات التجار رابطة بينهم ويفرض فرضًا محتمًا وجوب أخذ صورة (كوبيا) من كل مراسلة تصدر وما ذلك إلا لجعلها دليلاً من أدلة الإثبات عند مضاهاتها على المراسلات التي ترد فلا نزاع إذًا في أنه يجوز للناس أن يتعاقدوا بالمراسلة كيفما شاؤوا، ولكن هل يجوز ذلك في كل العقود، فإننا إذا قررنا أن المراسلات المتبادلة بين المتعاقدين تحتوي على إيجاب وقبول الفريقين فيجب القول بأن كل عقد يشترط الإيجاب والقبول فقط لصحته كان صحيحًا فيخرج من ذلك العقود الرسمية فإنها لا يكفي فيها الإيجاب والقبول بل لا بد من وساطة موظف مختص ليكون العقد تامًا صحيحًا، فلا يجوز الرهن العقاري التأميني بالكتابة لأن القانون يقضي أن يكون هذا العقد رسميًا ومثله الهبة.
أما عقد الزواج فلا يصح بالمكاتبة عند الإفرنج الذين يسيرون على نصوص قانونهم المدني وأما التابعون للدولة العلية الخاضعون للقانون المصري فيجب اتباع نصوص الشريعة الإسلامية بالنظر للمسلمين منهم وأما المسيحيون فنصوص شرائعهم، أما الشريعة الإسلامية فتجيز التعاقد للزواج بالمراسلة شأن كل العقود المدنية، فإذا كتب رجل إلى امرأة يعرض عليها الزواج وأجابته راضية تم العقد صحيحًا (إذا توفرت فيه بقية شروط الزواج طبعًا) لا بل يجوز لوكيل الزوج أو الزوجة أن يتم العقد بالمراسلة أيضًا.
قلنا لا يجوز عقد الرهن العقاري التأميني بالمراسلة بل لا بد أن يكون رسميًا ولكن هل يجوز لأحد الناس أن يرسل كتابًا لآخر يوكله فيه بأن يعقد هذا الرهن.
إن محكمة النقض والإبرام في فرنسا قد قررت مبدأ عدم جواز هذا التوكيل وذلك بعد طول تردد وبحث والحجة على ذلك هي أن القانون يفرض وجوب تداخل موظف عمومي عند قبول الراهن بالرهن، ولا نزاع بأن قبوله وقع عند إرساله توكيلاً أو تفويضًا بالكتابة وما زال هذا القبول قد وقع مخالفًا للقانون أي أنه لم يقع في حضرة الموظف العمومي المختص فلا عبرة به.
ومن المبادئ القانونية العمومية أنه إذا حتم القانون وجوب الرسمية في عقد من العقود فالتوكيل الذي يؤدي إلى عمل هذا العقد يجب أن يكون رسميًا أيضًا.
وهذا المبدأ مقرر في محاكمنا المصرية بلا نزاع فإن وكلاء الشركات والمصارف يبيعون ويشترون بالنيابة عن الشركات والمصارف بموجب توكيل رسمي محرر أمام كاتب العقود الرسمية.
أما في كل الظروف الأخرى فيجوز توكيل الغير بالمراسلة لعقد العقود وقد صرح القانون بذلك (بالمادة (9185) مدني فرنساوي) متبعًا بذلك العادات التي سار الناس عليها في معاملاتهم وخصوصًا في كتابتهم الرسائل المؤمن عليها.
وما يقال في العقود العرفية يقال أيضًا في الضمانة فإنها جائزة بالمراسلة يسري فعلها على الضامن والمضمون فلو كتب رجل لدائن يقول له كن مطمئنًا فيما يخص دينك على فلان وأن لا شيء يضيع عليك يعد هذا القول ضمانًا للمدين يجيز للدائن أن يتقاضى الكاتب بصفته ضامنًا.
وأما في القانون التجاري فإن إعطاء ضمانة مستقلة وبمقتضى المراسلة أمر جائز يعمل به كل التجار وهو ما يسمونه Aval.
على أن هناك أمرًا اختلف القانونيون فيه وهو جواز قبول التحويل بالمراسلة أي بدون وضع كلمة القبول على التحويل نفسه بل برسالة ترسل للساحب - فالقائلون بجواز الأمر يستندون على المبدأ القانوني القائل بأن القبول ليس شرطًا في التحاويل بل كل ما يجب فيه أن يكون المسحوب عليه مبينًا ولا عبرة بقبوله أو بعدم قبوله، والحقيقة أن قانون التجارة يعتبر السندات تحت الإذن تنفيذًا لعقود التحويل نفسها وأن موافقة القابل للتحويل ليست ضرورية لتكوين العقد فإذا قبل المسحوب عليه التحويل فقبوله لا يعد إلا قبولاً جديدًا يضاف إلى قبول موجود من قبل فيصح والحالة هذه فصل القبول عن العقد.
وقد كان القانون الفرنساوي القديم يعترف بصحة القبول بواسطة كتابة مستقلة ولم يغير القانون الجديد شيئًا من هذا فوجب إذًا اتباع هذا المبدأ.
وزيادة على ذلك فإن القانون الفرنساوي خلافًا للقانون البلجيكي لا يشير إلى محل وضع القبول على التحويل نفسه أو على ورقة مستقلة فعدم إشارته هذه تدل على أنه لا يمانع في اعتبار القبول صحيحًا إذا جاء في ورقة التحويل نعم أن القانون يعترض أو بالحري يظن أن قبول التحويل يكون على ورقة التحويل نفسها ولكنه لا يحتم الأمر تحتيمًا ولا يجعله شرطًا لا يصح القبول بدونه إذ أنه شتان ما بين اشتراط الشيء وبين تخمين وقوعه.
وقد يعترض معترض فيقول إن التحويل لا يقع صحيحًا إلا إذا كان على الكمبيالة نفسها فلا يجوز في ورقة خارجة حالة أنه لا يوجد نص في القانون يقضي بذلك فيجب قياس قبول التحويل على التحويل ولكن الحقيقة أنه لا نسبة ولا شبه بين الأمرين فالتحويل إذًا لم يكن على ظهر الكمبيالة لا قيمة له لأن وجوده على الكمبيالة أصل في تعريفه وفي كيانه فإذا لم يكن هناك فلا يسمى تحويلاً.
ومن يراجع الأعمال التمهيدية التي كتبها الشراح قبل أن وضعوا القانون المدني الفرنساوي يجد فكرة جواز القبول على غير الكمبيالة نفسها سائدة.
وأما أصحاب الرأي المخالف لهذا فيقولون إن مثل هذه الأمور غير صالحة عمليًا وحاجزة لحرية التجارة وهذا ليس من غرض القوانين في شيء إذ لا يخفى كم يقتضي من الوقت والتعب إذا قبل التحويل على ورقة أخرى غير المكتوب التحويل عليها وما في ذلك من تقييد حركة المبادلة والأخذ والعطاء.
على أن أهم ما يتمسك به أنصار هذا الرأي قولهم إن القانون قد نص صراحةً على جواز الضمان بالمراسلة فلو كان قصده أن يجيز القبول كذلك لنص مثل هذا النص بيد أن معظم الثقات على الرأي الأول ولا شك أنه يوافق حالة بلاد مثل القطر المصري حيث الناس بعيدون عن الأصول التجارية بعدًا شاسعًا يعملون معظم أعمالهم على قاعدة ليست من القانون بشيء فيجب على القانون الموضوع في مثل هذه البلاد أن يراعي أحوال وعادات أهلية - لا أن يقنن في جهة والتجارة والناس على العموم يسيرون في جهة أخرى.

المبحث الثاني: في شرط صحة التعاقد بالمراسلة

إذا صح أنه يجوز للناس أن يتعاقدوا بالمراسلة فما هي شروط هذا التعاقد؟
لا شك أنها اجتماع الإيجاب والقبول، فيجب البحث حينئذٍ في الكيفية التي يقع بها الإيجاب والقبول ثم في كل منهما على حدة.
1 - كيفية اتحاد الإيجاب والقبول لتكوين العقد بالمراسلة:
إذا اجتمع الإيجاب والقبول تم العقد على أنه لا بد من أن يكون القبول واضحًا بسيطًا بدون شرط وإلا لما تم العقد، فإن من يقبل بقيد وشرط لا يعتبر قابلاً بالحقيقة بل إنما هو يعرض عقدًا آخر خلاف الذي عُرض عليه.
وعندما يتم القبول يرتبط بالعقد فريقا المتعاقدين ولا يستطيعان حل ما ربطاه، وعليه فإذا أرسل القابل تلغرافًا يقول فيه (نعم قبلت) لا يجوز له أن يلحق التلغراف بكتاب يقيد به قبوله أو يعدل عن الكلام الذي سبق صدوره منه (راجع داللوز 65 جزء 3 نوط 22).
ولا يفرض القانون شرطًا آخر لصحة العقد ما دام الغرض شخصيًا محضًا خلافًا لما كانت عليه الشريعة الرومانية في مثل هذه الأحوال بل يكفي أن تكون المراسلة محتوية على كل ما يريد أن يقوله الموقع عليه.
ولكن ربما سأل سائل فقال: هل من الضروري وجود التوقيع أو الإمضاء على الكتابة؟
والجواب أن الشراح القانونيين اختلفوا في ذلك شأنهم في كل الأمور فقال عدد منهم ليس بقليل إن التوقيع ليس من اللازم المحتم لصحة التعاقد، فإذا كان خط الكاتب معروفًا أو كان اسمه واردًا في الكتابة بما يفيد قبوله أو إذا لم يكن هناك شك في أنه هو الكاتب فلا شبهة في أنه مقيد بما كتب ولو لم يوقع بإمضائه.
قالوا: وإذا سلمنا بخلاف هذا الرأي جعلنا التعاقد بالتلغراف مستحيلاً لأنه لا يحمل خط الكاتب ولا توقيعه، وهذا هو الرأي الراجح المعمول به.
ولكن ما القول في تاريخ المراسلة وهل هي محتمة ؟
والجواب أنه إذا حدث اختلاف في تاريخ وصول المراسلة أو إرسالها فيجب البحث عن التاريخ وأما في غير هاتين الحالتين فلا يفيد وضع التاريخ أو عدم وضعه شيئًا لأن التاريخ يدل على الزمان من حيث السبق واللحوق وليس بدليل على الصحة.
2 – الإيجاب:
مهما كانت سرعة المخابرات بين المتعاقدين فلا بد من مضي زمن بين الإيجاب وبين القبول فقد يحدث أن يزول الإيجاب في هذه المدة فيقع القبول باطلاً، وزوال الإيجاب يكون إما بموت صاحبه أو فقده أهلية المتعاقد أو برجوعه عن كلامه أو بفوات المدة التي ضربها موعدًا للقبول.
فإذا مات الموجب قبل أن يتم العقد فلا فائدة للقبول الآتي بعد ذلك ولا يتم العقد، لأن الوفاة جاءت قبل تقرير الحق بينه وبين من كان شارعًا في التعاقد معه سواء كان الحق له أو عليه، ولذا فلا يلحق ورثته شيء من الحقوق التي لم تكن له عند وفاته، وكذلك الأمر فيما إذا جن قبل وقوع القبول، على أنهم قد زعموا بوجوب استثناء أمر من هذه القاعدة فقالوا لو عرض دائن على مدينه طريقة لوفاء دينه ثم توفي قبل أن يقبل المدين بما عُرض عليه فلا يمنع موت الدائن المدين من الوفاء بموجب الطريقة التي عرضت عليه.
بيد أنه يجب التروي في وجوب هذا الاستثناء.
صحيح أنه ما زال العرض في فائدة المدين فالقبول الضمني يكفي ولكن يجب أن يكون الإيجاب معروفًا جيدًا عند المدين قبل موت الموجب حتى يصح أن يؤول سكوت المدين قبولاً، فإنه ليس من المعقول ولا بالأمر المنطقي التسليم بهذا الاستثناء على عمومه بل يجب الاحتياط في التأويل.
وبالرغم من ذلك فالقانون الألماني التجاري يقرر وجوب استثناء قاعدة أقل إقناعًا من القاعدة السابقة إذ نص قائلاً:
(إن الإيجاب الصادر من تاجر في أعمال تجارية لا يزول بموته إلا إذا ثبت قصده المخالف لهذا إما بإقرار منه أو من ظروف الحال) وما قيل في الموت يقال في فقد الأهلية القضائية المتسببة إما عن جنون أو تفليس أو ما أشبه ذلك.
ويسقط الإيجاب إذا رجع الموجب عنه قبل القبول لأنه يكون قد وعد وعدًا ثم رأى أنه لا يستطيع إتمامه إما لضيق ذات يده أو لظروف جعلت ما وعد به غير موافق، ولكن لا بد في هذه الأحوال من معرفة ما إذا كان رجوع الموجب عن كلامه لا يكون سببًا لمطالبته بتعويض من الشخص الذي عرض عليه الإيجاب ومعرفة المدة التي يستطيع الموجب في أثنائها أن يرجع عليه إيجابه، ثم معرفة الأحوال التي لا يستطيع بها الموجب أن يرجع عن كلامه.
المطالبة بتعويض - ليس من المعقول أن يكون للإنسان ملء الحرية بأن يعد ويرجع عن وعوده حالاً لأننا إذا خولناه هذا الحق المطلق فإنه يسبب بسوء نيته أو إهماله أو عدم خبرته ضررًا عظيمًا للغير، فقد يكون هذا الغير تاجرًا اشترى بضاعة بناءً على طلب الموجب ثم يرى نفسه ملزمًا بهذه البضاعة عند رجوع الموجب عن إيجابه أو يكون قد استأجر مخازن لخزن البضائع أو أنفق مصاريف لإرسالها كما أنه قد يتأتى لمن عرض عليه الإيجاب أن يكون قد خسر بارتفاع سعر من الأسعار المتغيرة أو نزوله لأنه وثق بكلام الموجب فأوقف بيعه أو أسرع فيه.
ففي مثل هذه الأحوال لا بد لنا من القول بأن على الواجب دفع تعويض ما لحق بمن تعامل معه من الخسارة مراعين في ذلك ظروف الرجوع عن الإيجاب والظروف التي وجد فيها القابل فنقدر التعويض قدره أو لا نحكم بتعويضٍ ما.
ومن الشراح من يقول بأن ليس على الموجب من ملام ولا حرج برجوعه في كلامه فإنه لم يخرج عن دائرة حقوقه في هذه الأحوال لأن له حق الرجوع عن غرضه ما دام لم يقيد بالقبول ومن استعمل حقه لا يسأل عن نتيجة الاستعمال لأن الضرر اللاحق (إذا كان هناك ضرر) لم يكن متأتيًا عن خطأ ارتكبه الموجب بل كان من الواجب على من تعامل معه أن يحسب لهذا الرجوع حسابًا ولا يقيد نفسه.
أما القائلون بالتعويض فينسبون وجوبه إلى الغش الذي أتاه الموجب برجوعه عما عرضه في وقت غير لائق لأن القابل كان قد وثق به وحسب حسابًا لكلامه.
ولكن هذا الفرض - فرض الغش مردود لأنه لا يمكن أن يكون هناك غش تعاقدي إذا لم يكن العقد قائمًا ولا شك في أن العقد غير قائم لعدم التقاء الإيجاب بالقبول.
ويذهب فريق من القانونيين إلى أن في عدم قيام الموجب بكلامه ورجوعه عنه قبل وقوع القبول محلاً للتعويض استنادًا إلى أن الذي جاءته رسالة الموجب قد يكون شرع في التنفيذ قبل أن تجيئه رسالة الرجوع عن الإيجاب فإذا أحب الموجب أن يتخلص من مسؤولية التعويض كان عليه أن يعلن الآخر قبل أن يشرع هذا في التنفيذ وما زال لم يفعل حق عليه الخطأ وبالتالي التعويض (راجع المادة (147) من القانون المدني الفرنساوي).
والرد على هذا الرأي مثل الرد على ما تقدمه فليس أمامنا عقد تام حتى نقول بوجود خطأ في الأمر بل لدينا مشروع عقد يتم أو لا يتم فلا يصح قياس هذه الحال على ما جاء في القانون من وجوب إلزام من كان سببًا في بطلان البيع بالتعويض المناسب لأن التنفيذ في حالة بطلان البيع قد تم وانتهى ثم أبطل بعدئذٍ وأما في حالتنا فلم يتم شيء من ذلك.
فكل هذه النظريات القائلة بوجوب التعويض على الموجب لرجوعه عن كلامه هي خطأ إذا كان سببها العقد إذ ليس هناك عقد يوجب الرجوع عنه التعويض وللموجب الحق القانوني دائمًا أن يرجع عن إيجابه ما زال لم يقيد بقبول والمتعامل معه أهمل وأخطأ إذ لم يحسب حساب هذا الحق للموجب.
على أن التعويض الذي يسأل به الموجب لرجوعه عن كلامه ليس تعويضًا أصله الإخلال في العقد بل تعويض مبناه القاعدة القانونية العامة القاضية بأن كل من الحق بغيره ضررًا ملزم بتعويضه.
بقي علينا أن نقدر هذا التعويض ولا نطيل الشرح في ما قاله البعض في تقدير كميته فكلها أقوال متضاربة ليست في شيء من روح القانون والحقيقة أن للقاضي أن يقدر هذا التعويض كيف شاء ناظرًا إلى ظروف القضية وإلى الخسارة الواقعة أو الربح المفقود.
مدة الرجوع عن الإيجاب
من المقرر بالإجماع أن الرجوع عن الإيجاب جائز قبل أن تكون الرسالة الحاملة له وصلت إلى المرسل إليه فإنه لا عقد في هذه الحالة بل مجرد وعد طرف واحد.
فإذا قدر الموجب أن يصل إلى الرجل الموجهة إليه الرسالة قبل أن تصل الرسالة إليه يستطيع أن يلغي قبوله الوارد بتلك الرسالة.
وكانوا فيما مضى يقولون إنه إذا أرسلت الرسالة بطريق البر وأحب المرسل أن يرجع عما جاء فيها يجب أن يسير في البحر مسرعًا فيصل قبل رسالته ويلغي ما كان أثبته أما الآن فلا أسهل من كتابة تلغراف يرسله قبل أن تصل الرسالة.
ولكن إذا وضع الموجب رسالة الرجوع عن الإيجاب في البريد بعد أن يكون قد أرسل رسالة الإيجاب ووصل الكتابان معًا إلى المرسل إليه فهل يعد الإيجاب لاغيًا؟
يجيب بعضهم: نعم إن الإيجاب يعد لاغيًا لأن هنالك كتابين جاءا في وقت واحد فيكونان والحالة هذه مجموعًا واحدًا يحذف بعضه البعض الآخر لتناقضهما (راجع حكم محكمة بورود الصادر في 15 يونيو سنة 1853 المنشور في مجموعة دالوز العدد (55) الجزء (2) صفحة (322))، على أننا لا نرى الحق في جانب هذا الرأي إذ ليس لدينا في هذه الحالة كتاب واحد ذو صفحتين تناقض إحداهما الأخرى كما يزعم ذوو هذا الرأي بل الحقيقة أن لدينا كتابين غير متشابهين أُرسل أحدهما قبل الآخر، ولا يصح أن تعتبر الكتاب الذي قرئ أولاً حجة فنعمل بموجبه لأننا نكون قد تركنا للصدفة حق اعتبار وجود الإيجاب أو عدمه.
ولذا فلا بد لنا من أخذ تاريخ الكتابين قياسًا نمشي عليه بأقدمهما تاريخًا يحتوي على الإيجاب ويجب الأخذ به ولا عبرة بالذي جاء بعده ولكن قد يعترض معترض بقوله إن القاعدة تقضي بأنه ما زال الإيجاب على الطريق فالرجوع عنه ممكن فكيف حرم الموجب من الرجوع عن إيجابه.
والجواب: نعم إن القاعدة تخول الموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل القبول ولكن هذا الحق لا يخرج عن كونه من الحقوق الممكن استعمالها لا من الحقوق المحتم وجودها بدون دليل.
فسكوت الموجب عن الرجوع كل المدة التي مضت حتى وصل الكتابان معًا دليل عند القابل على إيجابه وأنه لا يرغب الرجوع، اللهم إلا إذا كان هذا الوقت المار طويلاً لدرجة أن يفترض فيه عدم إمكان بقاء الموجب راضيًا بما كتب بل بالعكس.
ولنضرب على ذلك مثلاً لسهولة تأدية المعنى المقصود: كتب تاجر في ليفربول في أول أكتوبر إلى عميله بإسكندرية يطلب منه ألف قنطار قطن ويطلب منه إرسالها بأول فرصة، ومضى على هذا الكتاب ستة أشهر ثم في 14 إبريل كتب التاجر السكندري لعميله يخبره بأنه شارع في تحضير القطن وإرساله ثم كتب له ثانيةً في أول مايو يقول إنه قد سلم القطن لإدارة المركب المسافرة فجاوبه العميل الإنكليزي لا أرغب في هذا القطن وأن قبولك إرسال القطن لي بعد مضي ستة أشهر على طلبي قد جاء متأخرًا فإنك لم تنفذ طلبي بأول فرصة لي كما طلب منك. ولكن قد يرد عليه بأنه كان من الواجب عليك أن تقول هذا القول عندما كتب إليك عميلك يخبرك بالشروع في تنفيذ الطلب فسكوتك يعد رضاءً بما فعل العميل، على أن مثل هذه الحالة لا تخلو من الصعوبة والحرج والحكم في مثل هذه المسألة ليس من الأمور المنصوص عليها في القوانين بل تتركه لرأي المحكمة التي تقدر الظروف والعادات التجارية قدرها وتفسرها التفسير اللائق.
وقد حكمت محكمة باريس التجارية مفسرة هذه العادات فقضت ببطلان الإيجاب إذا مضت عليه المدة اللازمة لوصول القبول ولم يصل، وقالت إنه على القاضي أن يبحث في كل هذه الظروف عن غرض الفريقين من عبارتهما وأن يراعي السرعة في تجهيز الطلبات، الأمر الذي يتوقف عليه تقدم التجارة.
أما الأحوال التي لا يستطيع بها الموجب أن يرجع عن كلامه فهي ما أجيز أن يبقى إيجابه معروضًا مدة من الزمن، ففي مثل هذه الظروف لا يقدر أن يقصر هذه المدة أو يغير فيها.
ومهما كانت المدة المعينة للدين فبانتهائها يستطيع الموجب أن يرجع عن عرضه ويكون في حل من توجيه العرض وجهة أخرى، فإذا جاء القبول بعد ذلك وقع متأخرًا ولم يتم العقد لمجيء القبول في زمن لا عرض فيه.
ورب سائل يقول: ما هي مدة العرض؟ وهل هي مفروضة بحكم القانون أو العادة أو مرتبطة بإرادة الموجب.
والجواب على ذلك أنها محددة في بعض القوانين كالقانون النمساوي وقانون ولاية لويزيانا في الولايات المتحدة أي أن المستغني ضرب موعدًا معينًا وحتم سقوط العرض بفوات الميعاد.
وأما في معظم البلاد المتمدينة الأخرى فالعرض خاضع لإرادة الموجب ولأحكام الظروف والأحوال ولكنه مقيد بالمدة أو الميعاد المحدد للقبول.
فالموجب الذي يكتب لشخص يعرض عليه أمرًا يقول في معظم الأحوال إنني مرتبط بما أعرض لمدة 15 يومًا مثلاً أو إنني مرتبط بما أعرض حتى يصلني رد منك، فينطوي تحت هذه المراسلة عقد ذو نيتين الأولى نية الموجب أن يرتبط بعقد والثانية أن لا يرجع عن هذا الارتباط مدة معلومة من الزمن.
على أن مثل هذا العرض الوارد في الرسالة يلغى أو يعدل بالتلغراف فإن الموجب يستطيع عقب إرسال رسالته أن يبعث بتلغراف يعدل في العرض أو يغير فيصير عمله قانونيًا لا عقاب عليه ولا يعد راجعًا في عرضه، لأن العبرة في تتميم العقد وقد تم القبول على الإيجاب فالتلغراف الذي يصل قبل الرسالة يزيل عرضًا محددًا في الرسالة فإذا وصلت هذه إلى الجهة المرغوبة وصلت وقد علم المستلم أن النية المعروضة فيها قد تبدلت بالتلغراف الذي سبقها، فإذا أرسل الموجب رسالته أو تلغرافه وجب عليه أن ينتظر القبول،
وهذا الانتظار تختلف مدته باختلاف العادة التجارية أو حكم القانون فإذا لم ينتظر وعدل في عرضه أو بدل كان عرضه لدعوى تعويض من القابل وما هو الحكم إذا مات أحد المتعاقدين أثناء مدة العرض؟
لا صعوبة في الإجابة على هذا السؤال إذا كان الميت هو الموجب فإن بموته يفض الأمر ولا يتم العقد النهائي أي أن الأمر يكون مقصورًا على الشطر الأول من العقد النهائي وهو عقد العرض Contrat de proposition وأما العقد النهائي المتمم للواجبات والحقوق المتبادلة فقد أصبح مستحيلاً لموت الموجب.
ولكن قد يموت الفريق الآخر فما حكم أمره؟ ولنضرب مثلاً على ذلك لتقريبه للأفهام:
كتب زيد إلى بكر يعرض عليه شراء بيته بثمن معين وضرب له موعدًا للرد.. أخذ بكر الرسالة ومات قبل أن يجيب وقبل أن يفوت الميعاد المضروب.
فهل يحل ورثته محله في حقه أم لا؟
في الرجوع إلى المبادئ القانونية الأساسية جواب على هذا السؤال.
إذا كان الموجب قد عرض عرضًا يستدعي عقدًا ومرتبطًا بشخصية المتعاقدين وهو ما يسمونه intuitn personce فلا شك أن الورثة لا يستفيدون من الأمر لأن شخصية مورثهم كانت قوام العقد، وهذه لا تنتقل إليهم.
وأما في سوى هذه الحال فالقاعدة أن الورثة تحل محل المورث في حقوقه وواجباته، فليس لهم أن يعتبروا العقد تامًا بل لهم حق القبول الآيل لهم من حق العرض الذي اكتسبه مورثهم، فإذا قبلوا تم العقد، على أنه يشترط في قبولهم أن يكون بالإجماع أي أن يصدر من الورثة جميعًا غير منقسمين لأن حق قبول العرض لا يتجزأ.
سواء حتم القانون ميعادًا للعرض أم كان ذلك متروكًا للعارض في رسالته أو للقاضي لتقديره فلا بد في كل هذه الحالات أن تصل رسالة الموجب للقابل، فهب أن الرسالة أرسلت إرسالاً دقيقًا لا خطأ فيه ولكن مصلحة البريد أو التلغراف لم تسلمها إلا بعد فوات الميعاد المضروب للقبول فهل تم العقد؟
أرسل زيد في مصر إلى عمرو في الإسكندرية رسالة يعرض عليه فيها بيع بضاعة معلومة بسعر معلوم وفرض عليه الإجابة (برجوع البوستة) فتأخرت الرسالة لسبب خارج عن إرادة المتعاقدين ولم تصل لعمرو إلا بعد إرسالها بخمسة أيام فأرسل عند استلامها يقول لزيد قبلت البضاعة وقبلت سعرك.
وارتفعت الأسعار في أثناء هذه الأيام فأجاب زيد يقول لعمرو إنك تأخرت في الرد كثيرًا فإن المدة بين إرسال رسالتي ووصولها إليك يجب أن لا تزيد عن يوم ولك يوم مثله لوصول رسالتك وقد فرضت عليك الرد مع البريد الراجع فما بالك تأخرت خمسة، إني أرفض قبولك وأرجع عن عرضي. عرضت قضية مثل هذه في لندن أمام المحكمة التجارية المدنية king’s Beach فحكمت بأن العقد تم بالرغم من التأخير الذي وقع، وقالت إن العرض حصل تحت شرط الإجابة برجوع البريد in course of post وقد تمت الإجابة بالبريد ولا عبرة بتأخير وقع من مصلحة البريد لا علاقة للقابل به ولا ذنب عليه فيه.
وقد يعترض على المبدأ المنطوي تحت هذا الحكم بأن الموجب (العارض) لم يصله القبول في الميعاد المعقول المحدد فكان مصيبًا في اعتقاده أنه في حل من عرضه فلا يصح إلزامه بتنفيذ عقد جاء القبول متأخرًا فيه.
صحيح أن القابل لم يخطئ ولكن العارض أيضًا لم يذنب فلا يصح إلقاء التبعة عليه.
أما محاكم فرنسا (محكمة ديجون - داللوز 67 - 66 - 1914) ومحاكم ألمانيا فقد اعتبرت العقد غير تام لأن القبول جاء بعد الميعاد وألقت تبعة عدم إتمام العقد على مرسل الكتاب.
ولا شك أن ما يعترض به على الحكم الإنكليزي يعترض به على هذه الأحكام أيضًا، ومحل البحث في المسؤولية الناتجة عن مثل هذه الأمور يقودنا إلى البحث في مسؤولية مصلحة البريد ومصلحة التلغراف مما سنبينه في ما بعد.

القبول

عندما يتعاقد رجلان بعيد أحدهما عن الآخر فالإيجاب يكون دائمًا بالكتابة فإن الموجب إما أن يرسل خطابًا يعرض فيه ما يرغب التعاقد عليه أو يرسل بيانًا بأسعاره أو ما شاكل من أنواع العرض التجاري.
أما القبول فلا يكون بالكتابة في كل الأحوال، فقد يعد قابلاً الشخص الذي نفذ عرض الموجب وقد يعد قابلاً أيضًا إذا سكت في بعض الظروف على عرض الموجب
فإذا أجاب القابل بالكتابة انتفى الإشكال ووقع العقد لتلاقي الإيجاب بالقبول.
على أن هناك صعوبة واحدة تطرأ في حال مرور الإيجاب بالقبول دون أن يلتقيا، فقد يكتب زيد يعرض على عمرو أن يبيعه منزله بألف جنيه وكان عمرو قبل أن يصله الكتاب قد كتب إلى زيد يسأله شراء المنزل نفسه بألف ومائة جنيه ووصل كتاب زيد لعمرو في ساعة وصول كتاب عمرو لزيد، فبأي ثمن تم البيع؟ أنه يقع بيعًا نافذًا تامًا بألف.
ولكن قد يعترض بعضهم ويقول إن الفريقين لم يتفقا على الثمن اتفاقًا تامًا ولم تلتقِ الرغبتان إلا عرضًا وعليه فلا يكون الموجب مقيدًا بثمنه ولا عبرة بالمبدأ القائل إن من يستطيع الكثير يستطيع القليل لأنه ليس بالمبدأ الساري في كل الأحوال.
على أن العدل ومبادئ العقل السليم تقضي بأن يكون البيع واقعًا بألف فإن عمرو الذي قبل أن يشتري بألف وماية يقبل بلا نزاع أن يشتري بألف، كما أن لا شك في أن زيدًا عندما وصله كتاب عمرو يعرض الشراء بألف وماية يقول في باله إن كتابي قد وصله الآن فيكون قد عدل عن الألف والماية وأخذ بما عرضته عليه أي بالألف فقط، وعليه كتاب عمرو قبولاً.
وأما القبول بتنفيذ شروط العرض بلا كتابة فكثير، وأعظم مثال له التوكيل، ولا تقع تحت حصر في المسائل التجارية، فقد يعرض أحدهم شيئًا للبيع بثمن محدود فيرسل الشاري الثمن من بلد آخر بعيد فيتم البيع.
وقد يكون السكوت في أحيان كثيرة قبولاً ولو لم يبدُ من القابل شيء يدل على التنفيذ وتفسير السكوت وعده قبولاً - موقوف على نوع المعاملة وسابقة علاقة المتعاقدين الواحد منهم مع الآخر حتى يدلل بها على القبول بالعقد بالسكوت.

متى يتم التعاقد بالمراسلة

لا نزاع أن لا تعاقد إلا بعد أن يقبل الذي يكون قد عرض عليه الأمر، وأما النزاع ففي الوقت الذي يعد في حكم القانون ميعادًا تم فيه العقد، فهل يتم العقد:
1 - عندما يكتب القابل أنه قبل.
2 - لا يتم إلا بعد أن يكون كتاب القبول قد فارقه.
3 - هل يتم بوصول الكتاب للعارض.
4 - هل يتم عند علم العارض بمضمون الكتابة.
هذه أحوال أربعة يصح أن يكون ميعاد العقد عند وقوع أي منها.
ففي ألمانيا مثلاً ترى معظم علماء القانون يأخذون بالنظرية المنطوية تحت الفرض الرابع أي أنهم يشترطون علم الموجب بقبول عرضه لكي يتم العقد، فلا بد إذًا من وصول الكتاب ليده وعلمه بمضمونه فإذا كان قد عرض أن يتعاقد مع كثيرين فيكون آخر كتاب قبول جاءه تاريخًا لإتمام العقد، ويقولون تفسيرًا لذلك إن لا بد لنية الموجب أن تتحد بنية القابل فيتضامان ويتعانقان، ولا يتم التعانق إلا بعلم الموجب بالقبول وتكون النيتان قبل العلم ساريتين متحاذيتين لا يكونان عقدًا إلا بالانضمام - وهو علم الموجب بقبول عميله، فإن النية وإن عبر عنها صاحبها لا تعد في حكم الموجود إلا إذا علمت وعلى ذلك قالوا إنه في حالة الشركة إذا كتب شريك يطلب الخروج من الشركة فلا تسقط عنه تعهداته إلا إذا علم الشركاء الآخرون بذلك، فشبهوا الكتاب بوكيل أخرس وجعلوا حكم كلامه حكم كل ما يوكل به أي أن التوكيل يبقى بلا أثر حتى ينفذ فإذا نفذ الوكيل توكيله سرى مفعوله على الشيء الذي وضع لأجله.
فالكتاب لا ينفذ مهمته إلا بعد أن يكون قد قرئ، فكما يصح للموكل أن يرجع بتوكيله قبل تنفيذ التوكيل، كذلك القابل له أن يرجع بقبوله ما دام الشخص الذي أُرسل إليه الكتاب لم يقرأه بعد - وما مثل الكتاب في هذه الحال إلا مثل عقد في مجلس حضور فإنه لا يتم إلا إذا سمع الموجب جواب القبول ولا يكفي أن يكون القابل قد فتح فاه ليقبل بل لا بد من وصول كلامه لأذن الموجب فالكتاب ليس إلا سلسلة ألفاظ مصورة على الحروف موجهة للأعين ولا تفقه إلا بإتمام التلاوة.
وقد ضرب أحد علماء القانون الفرنساوي (مرلن) مثلاً يستلفت النظر لتأييد هذا المبدأ فقال:
ابتدأت المفاوضة بين شخصين متواجهين أحدهما أصم وهو الموجب فعرض على مجالسه بيعًا فقبله ولكن الأصم لم يسمع ما أجاب به صديقه فطلب منه الجواب كتابةً فأخذ ورقًا وبعد أن كان قد قبل ولم يسمع كتب على الورقة لا أقبل، فلا شك أن العقد لا يتم وما هذا إلا دليلاً عمليًا من ألوف الأدلة التي تؤيد ما ذهبنا إليه من وجوب علم الموجب بالقبول حتى يتم العقد، فوقوع القبول بعد الإيجاب لا يكفي إن لم يعلم صاحب ذاك ما قاله صاحب هذا، على أن هذه النظرية لا تخلو من مواضع ضعف تجعلها عرضة للانتقاد، فإن تحتيم معرفة العارض بقبول عرضه يفتح الباب لطلب القابل أن يعلم هو أيضًا بقبول قبوله وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له فيتعذر على إنسان أن يعقد عقدًا بالكتابة.
ويردون على المثل الذي ضربه (مرلن) ويقولون أن لا تشابه بين حال الأصم الذي لم يسمع وحال الذي أرسل كتابه في البريد فإن العقل يأبى التسليم بصحة العقد إذا لم يسمع الموجب فإذا قال القابل (لا)، ثم رجع وكتب (نعم) فليس معنى ذلك أنه رجع فيما تعاقد عليه بل معناه أن كلمته الأولى اعتُبرت كأنها لم تكن لعدم تمكن المخاطب من سماعها.
وقالوا أيضًا في نقد هذه النظرية إنها تجعل القابل تحت رحمة الموجب وأمره وعرضة لكل مؤثرات سوء النية إذ تفرض وجوب علم الموجب بالقبول فتفتح لهذا الموجب بابًا واسعًا للهروب من العرض أو من تأخيره كأن لا يقرأ الكتاب أو لا يفتحه أو يهمل في أخذه من البريد توصلاً إلى القول بأنه لم يعلم القبول فيبني على ذلك نتائج لفائدته دون فائدة القابل، وهي تفرض فضلاً عما تقدم عبء إثبات العلم بالقبول على القابل نفسه وفي هذا ما فيه من الإجحاف بمبدأ العدل والمساواة.

العته الموجب للحجر أحمد نشأت

مجلة المحاماة - العدد الأول
السنة الرابعة - أكتوبر سنة 1923

العته الموجب للحجر

إن الكثيرين يعتقدون أن العته هو الجنون أو أخف قليلاً من الجنون أو الجنون الهادئ الذي لا يلحق صاحبه أذى بالناس، ولا يعدون الشخص معتوهًا إلا إذا كان ذاهب العقل، إذا سُئل عن اليوم لم يعرفه، وعن أولاده فلا يميز بينهم أو لا يذكر أسماءهم، لا يفرق بين ما حصل له في يومه وفي أمسه.
ولهم بعض العذر في ذلك لمعنى العته لغةً وحسب المتداول بين الناس مع ملاحظة أن المعنى اللغوي ليس قاصرًا على الجنون فقط أو فقد العقل من غير مس جنون بل قيل نقص العقل أيضًا (راجع مختار الصحاح ولسان العرب وأقرب الموارد وشرح القاموس المسمى تاج العروس).
ويجب طبعًا أن لا نتأثر بالمعنى اللغوي أو المتداول بين الناس، وكثيرًا ما يختلف المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لألفاظ كثيرة بل يجب الالتفات فقط إلى المعنى الاصطلاحي الذي تسهل معرفته من أحكام الشيء.
وقد يظهر للبعض أن المعنى اللغوي والعرفي قد أثرا حتى على كبار العلماء في وضع التعريف الاصطلاحي للمعتوه، فاختلفوا كثيرًا في تعريفه وأخيرًا قالوا إن أحسن ما قيل فيه هو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير إلا أنه لا يضرب ولا يشتم (راجع ابن عابدين جزء (5) صفحة (93) والفتاوى الهندية جزء (5) صفحة (54)) وقد يبدو أيضًا أن هذا التعريف أكثر من اللازم وأشد من الحقيقة إذا عرفنا أحكام المعتوه ولكن إذا صرفنا ذلك إلى المعاملات فقط كما يجب لأن الحجر لم يشرع إلا للمحافظة على المال، لم نجد لذلك التأثير قوة تذكر.
وعلى أي حال فإنه من السهل جدًا استنباط الحقيقة ناصعة لا غبار عليها من أحكام المعتوه ومن مثل هذا المصدر دائمًا يؤخذ التعريف الاصطلاحي، وسنرى من هذه الأحكام حسب آراء فقهاء الشريعة الإسلامية التي تعززها أبحاث شراح القانون الفرنسي ويعززها القانون الألماني أيضًا وتعليقاته أن المعتوه بعيد عن المجنون، وإنما ينقصه الفهم الكافي لإدارة أعماله وتقدير معاملاته لعجز طبيعي فيه أو لضعف طرأ عليه بسبب التقدم في السن، وقد يكون هذا النقص في الفهم ضعيفًا إلى درجة يأذن له القاضي معها بالعمل، بحيث إذا أقر بكسب أو إرث صح، وليس من الضروري أن تتناول قلة الفهم سائر المسائل العامة البسيطة كمعرفة الأيام والأبناء والأقارب والأمور المنزلية اليومية.
جاء في ابن عابدين جزء (5) صفحة (93) (وحكمه كمميز أي حكم المعتوه كالصبي العاقل) وجاء في صفحتي (113) و(114) في الهامش (وتصرف الصبي والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء وهذه العبارة صفة لكل من الصبي والمعتوه إن كان نافعًا محضًا كالإسلام والاتهاب صح بلا إذن وإن ضارًا كالطلاق والصدقة والقرض لا وإن أذن به وليهما، وما تردد من العقود بين نفع وضرر كالبيع والشراء يوقف على الإذن) ثم قال (فإن أذن لهما الولي فهما في شراء وبيع كعبد مأذون في كل أحكامه والشرط لصحة الإذن أن يعقلا البيع سالبًا للملك والشراء جالبًا له- زاد الزيلعي وإن يقصد الربح ويعرف الغبن اليسير في الفاحش) وجاء في صفحة (115) والهامش ولو أقر الإنسان أي الصبي والمعتوه المأذونان بما معهما من كسب أو إرث صح، وعن أبي حنيفة لا يصح في الإرث وجاء في المبسوط جزء (25) صفحة (26) (والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي في جميع ذلك لأنه مولى عليه كالصبي ولكنه يعقل التصرف وفي اعتبار عقله توفير المنفعة عليه، ويصح الإذن له في التجارة من الولي أو القاضي راجع صفحة (40) أيضًا) وجاء في الفتاوى الهندية جزء (5) صفحة (54) أن المعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته، وجاء في بدائع الصنائع جزء (7) صفحة (171) (وأما عندهما فحكمه وحكم الصبي العاقل والبالغ المعتوه سواء) وجاء في الفتاوى الأنقروية جزء ()2 صفحة (338) (المعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي) وجاء في صفحة (341) تصرف الصبي المأذون يصح وإن كان فيه غبن، وقال الزيلعي جزء (5) صفحة (191) فالمعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته، ولم يقف الأمر عند ذلك بل قال في صفحة (220) وكذا للصبي أو المعتوه أن يأذن لعبده في التجارة.
وجاء في الفتاوى الحامدية جزء (2) صفحة (168) أن المعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته وإنما تارة يتكلم كلام العقلاء وتارة كلام المجانين ولم يذكر غيره هذه العبارة الأخيرة التي لا تتفق مع الأحكام المتقدمة ولا التصرفات التي قد يسمح للمعتوه بها.
ويمكننا أن نخرج من ذلك بأنه من المتفق عليه بين الفقهاء أن المعتوه كالصبي العاقل المميز قد يعقل البيع والشراء، يعقل البيع سالبًا للملك والشراء جالبًا له بقصد الربح، ويعرف الغبن اليسير من الفاحش، يصح أن يأنس فيه القاضي رشدًا يكاد يكون كاملاً فيأذن له بالعمل حتى إذا أقر بكسب أو إرث أو بكسب فقط على رأي أبي حنيفة صح حتى لقد قيل إنه يستطيع أن يأذن لعبده في التجارة.
قد اختلف أيضًا شراح القانون الفرنسي في تعريف العته، فخلط بعضهم بينه وبين الجنون الهادئ، وقال بعضهم إنه ضعف الفهم أو اضطرابه بحيث لا يستطيع المرء القيام بأعماله أو ملاحظتها، وقيل أيضًا إنه ضعف الفهم الذي يسبب فقد قوة الفكر أو ذهابها بعد ترك بعض الآثار وقالوا أيضًا إن الحجر شرع لحماية الأشخاص الذين ليس عندهم الفهم الكافي لتقدير أعمالهم خشية أن يقعوا مع أشخاص ليس لهم ضمير (وكثيرًا ما هم الآن) فيبتزون أموالهم، ولكن يكاد يكون من المتفق عليه أن الأمر الذي يجب البحث فيه هل يمكن للشخص أن يدير أمواله بنفسه أم لا، فإذا كان لا يمكنه ذلك وجب الحجر وإذا لم تضعف عند المرء قوة الفهم وضعفت عنده قوة الإرادة فقط عين له مستشار أو مساعد قضائي، وكذلك في حالة الشيخوخة التي تمنع من مراقبة حفظ الثروة مراقبة كافية، وإنما إذا كانت الشيخوخة سببًا في أن لا تكون عند المرء قوة الفهم الكافية التي تسيره في حياته المدنية وجب الحجر (راجع بونت وماركاديه طبعة سابعة جزء (2) صفحة (314) و(334) وكابيتان طبعة 1921 جزء أول صفحة (571) و(585) و(601) و(603) وزكاريا المترجم عن الطبعة الخامسة الألمانية جزء أول صفحة (463) رقم (233) وصفحة (486) رقم (248) وبلانيول جزء أول طبعة 1906 رقم (2038) و(2039) و(2040) و(2041) و(2110) و(2111) وبودري المطول أحوال شخصية طبعة 1905 جزء (4) رقم (778) الفقرة الأخيرة وراجع أيضًا المادة (499) قانون فرنسي).
أما القانون المدني الألماني الذي صدر في 18 أغسطس سنة 1896 وعمل به من أول يناير سنة 1990 فقد بسط الأمر كثيرًا وجاء في المادة (6) أنه يحجر على الشخص إذا كان بسبب مرض عقلي أو ضعف في الفهم أو الذكاء أو الكفاءة لا يستطيع القيام بأعماله

prendre soin de ses affaires.

وجاء في التعليق على هذه المادة أن القانون ترك للقاضي مطلق الحرية في التقدير ولم يضع حدًا أو ضابطًا ما واشترط فقط أن يكون الشخص في حالة لا يمكنه معها تأدية أعماله (راجع القانون المدني الألماني المشار إليه الذي طبعته مع تعليقاته لجنة التشريع الأجنبي المؤلفة في وزارة الحقانية الفرنسية بالاشتراك مع جمعية التشريع المقارن).
ينتج مما تقدم مثلاً أن الشخص الذي لا يستطيع أن يعرف مقدار ثروته بالضبط أو التقريب ولا كذلك قدر غلتها ولا يثبت على قول في خبر عن تصرفات حصلت في بعض أملاكه ولا يمكنه أن يطرح أو يجمع أعدادًا بسيطة إلا بصعوبة أو يميز بين أوراق النقود ويقوم له بعض أقاربه أو أصهاره بأعماله الواسعة دون أن يفهمها أو أن يستطيع فهمها إذا أراد يجب الحجر عليه لأنه ليس عنده القدر الكافي من الفهم والكفاءة لإدارة أعماله وإذا وثق بقريب أو صهر فلا يمكنه أن يراقب أعماله ولو في أزمان متباعدة وفي الغالب تكون ثقته في مثل هذا الشخص في غير محلها إذ يسهل التأثير عليه ويمكنك أن تطبق عليه التعريف الشرعي المتقدم الذكر من جهة المعاملات قلة الفهم واختلاط الكلام وعدم إمكان تدبير الأمور لا تدبيرًا صالحًا ولا فاسدًا، ومثل هذا الشخص كثير بين الشيوخ المتقدمين في السن الذين قد يجعلهم ذلك كالصبيان الذين لا تستطيع عقولهم في أغلب الأحوال إلا ضبط المسائل البسيطة والمشاهدة كمعرفة الأيام والأقارب والمسائل المنزلية اليومية.
ويا حبذا لو وُجد عندنا نظام يبيح تعيين مستشار أو مساعد قضائي كتعيين الثقة في الوقف لملافاة حالات قلة الفهم التي يصعب على البعض اعتبارها عتهًا، ولو أن فقهاء الشرع الشريف في بيانهم لأحكام المعتوه قد وضحوا ذلك أحسن إيضاح وأباحوا الإذن بالتصرفات في بعض الأحوال ولكن وقع الحجر شديد على النفس والتفريق بين حالات المعتوه دقيق وأقل خطأ في استعمال هذا الحق قد يسبب لمثل هذا الشخص مضارًا عظيمة نفسية وقد تكون مالية أيضًا.

أحمد نشأت
رئيس مجلس مصر الحسبي

الأحد، 5 ديسمبر 2021

طبيعة الديون الناشئة عن المقامرة من الوجهة القانونية الفرنسية حمدي عبد الحميد

مجلة المحاماة
السنة الرابعة - 1923

أبحاث قانونية وشؤون قضائية
طبيعة الديون الناشئة عن المقامرة
من الوجهة القانونية الفرنسية

قبل أن ندخل في جوهر الموضوع نرى من المناسب أن نفرق بين المقامرة jeu - وبين المراهنة pari - وذلك نظرًا لشدة التشابه بينهما.
فالمقامرة والمراهنة تشتركان في أنهما من عقود الغرر aléatoires – والتراضي consensuels والتبادل synallagmatiques فأما كونهما من عقود الغرر أو العقود الاحتمالية فهذا ظاهر - لأن تحقق النتيجة في أيهما - يتوقف على حدوث أمر غير محقق événement incertain وأما كونهما من عقود التراضي فلأن العقد فيهما يتم بمجرد حصول الإيجاب والقبول - بدون حاجة إلى إجراءات أخرى كما في عقد الهبة التي يشترط لصحتها أن تحرر في صورة عقد رسمي acte authentiqueوكونهما من عقود التبادل ظاهر أيضًا - ففي البداية يتعهد كل طرف أن يدفع للآخر مبلغًا من النقود أو أي شيء غير ذلك من المنقولات أو الأشياء الثابتة الداخلة في دائرة التعامل عند تحقق الشرط المتفق عليه - أي أن الأمر يبتدئ بوجود دائنين ومدينين، ولكنه يؤول في النهاية إلى وجود دائن واحد هو الرابح gagnant - ومدين واحد هو الخاسر perdant.
ووجه الخلاف بينهما هو أن الشرط الذي يجب تحققه لكي يربح المقامر اللعب هو عمل يقوم به نفس المتعاقدين un fait â exécuter par les parties بينما ربح الرهان يتوقف على التثبت من أمر حقيقة حصلت في الماضي يؤكدها أحد الطرفين وينكرها عليه الطرف الآخر، وفي هذه الحالة فقط يجوز أن تكون تلك الحقيقة فعلاً صدر من أحد المتعاقدين - أما إذا كان الأمر المتراهن عليه لم يحصل بعد وإنما ينتظر حصوله بعد تمام عقد المراهنة فإنه لا يجوز أن يكون هذا الأمر من عمل المتراهنين.
وتنقسم المقامرة قسمين ثانويين. مقامرة يكون الفوز فيها نتيجة المهارة الخاصة بأحد الطرفين وتسمى ألعاب هذا النوع بالفرنسية jeux d'adressè ومقامرة لا يتوقف الفوز فيها على امتياز أحد الطرفين وتفوقه من جهة المهارة والتمرين وإنما يتوقف على ما سيأتي به القضاء والقدر ويسمى هذا النوع jeux de hasard والواقع أن معظم ألعاب المقامرة خليط من القسمين يتوقف الفوز فيها على مهارة اللاعب وعلى الظروف التي تكون لصالحه وفي جانبه.
والآن نطرق الموضوع الذي هو المقصود من هذا البحث.
إن النزاع لشديد في فرنسا في أحكام المحاكم وبين الشراح بالنسبة لتقرير طبيعة ديون الميسر، فرأي يقول إن هذه الديون طبعية، ورأى يقول إنها ديون باطلة، وثالث يتوسط في الأمر ويفرق بين حالتين: في حالة منهما يعترف بطبيعة هذه الديون، وفي الحالة الأخرى يقرر بطلانها وأخيرًا يوجد رأى يقول بأنها ديون قانونية وصحيحة.
الرأي الأول:
فالرأي الأول الذي يناصره (أوبري ورو aubry et Raa ) و(بودري وواهل Baudry et Wahl) و(جيلوارد Guillouard) وغيرهم من كبار شراح القانون الفرنسي يرى أن المقامرة قد أصبحت من الأمور العادية التي تحصل كل ساعة إذ لم يعد القانون يحرمها على وجه العموم فالالتزامات والديون الناشئة عنها صحيحة ومشروعة في ذاتها valables et licites en elles - mémes غاية الأمر أن الرغبة في نفع المجموع وتوخي خدمة الصالح العام دفعت المقنن إلى تجريد حق الدائن بدين ميسر من حمايته بدعوى يرفعها أمام المحاكم للحصول على حقه هذا، فالأصل أن هذه الديون كسائر الديون مكفولة بالدعوى أمام المحاكم، ولكن المشرع بناءً على رغبته السالفة الذكر نص من جهة بالمادة (1965) [(1)] مدني فرنسي على عدم إمكان رفع دعوى أمام المحاكم بالمطالبة بدين ميسر ونص من جهة أخرى بالمادة (1967) [(2)] على عدم جواز استرداد الخاسر بأي حال ما دفعه من هذه الديون - باختياره - لرابح اللعب ما لم يحصل من جانب هذا الأخير غش أو خداع أو نصب وبذلك دل صراحةً على أنه يعتبر هذه الديون من الديون الطبعية dettes naturelles لأن نص المادتين السابقتين ليس إلا نص وتقرير لظاهرتين من ظواهر هذا النوع من الديون.
وعلى هذا الرأي جرت محكمة النقض والإبرام الإيطالية، فقضت في حكمها الصادر في 15 أكتوبر سنة 1898 المنشور بصفحة (37) من الجزء الرابع من مجموعة (سيريه Sirey) لسنة 1899 أنه يستنتج من نص القانون المدني الإيطالي على أن الخاسر في المقامرة لا يمكنه أن يسترد المبالغ التي دفعها باختياره للاعب معه. إن المشرع يعتبر هذه الديون غير منافية للآداب وأنها من الديون الطبعية، وبناءً على ذلك رفضت تلك المحكمة أن تسمح للمدين أن يثبت بشهادة الشهود أن الدين الوارد بالسند الذي يطالب الخصم بقيمته إنما هو دين صوري وأنه في الواقع دين ناشئ عن المقامرة ليس لخصمه أن يطالبه به لأنه باطل وخالٍ عن السبب الصحيح.
وقد أنصفت المحكمة المذكورة في ما ارتأته ترتيبًا على رأيها لأن خرق قواعد الإثبات ومخالفة أصوله لا يسوغه في مثل هذه الحالة ألا أن يكون في السبب الحقيقي للدين ما يخالف النظام العام وينافي حسن الأخلاق وهي قد رأت في الأصل أن ديون الميسر كسائر الديون الطبعية، وأن السبب فيها لا ينافي الآداب ولا يخالف النظام العام.
وإذا تمشينا على الرأي القائل بطبعية ديون الميسر فلا بد لامتناع حق الاسترداد حسب نص المادة (1967) أن يكون الوفاء من جانب الخاسر حاصلاً باختياره volontairement وليس معنى حصول الوفاء بالاختيار أن يكون الدفع قد حصل بدون إكراه أو تدليس أو خطأ فقط بل معناه أولاً وقبل كل شيء أن المدين كان ساعة الوفاء يعلم أنه إنما يوفي بدين لا يلزمه القانون به ولا يستطيع خصمه أن يجبره على دفعه بحكم محكمة، أما إذا دفع الخاسر المبلغ وهو يعتقد خطأ منه أنه يؤدي دينًا يجب عليه قانونًا أداؤه فإنه يكون له حق استرداد ما دفعه.
ومن باب أولى يكون له هذا الحق إذا كان قد أُكره على الدفع أو كان الدفع قد حصل بناءً على التدليس أو الخطأ، وللمدين الخاسر حق الاسترداد على العموم بنص المادة (1967) الصريح إذا كانت خسارة اللعب ناشئة عن غش الطرف الآخر له أو خداعه أو نصبه عليه أثناء اللعب.
الرأي الثاني:
هذا الرأي يناقض الرأي السابق تمام المناقضة فيرى أنصاره ومن أكبرهم (بلانيول Planiol) أن السبب في ديون الميسر ينافي الآداب وأن في المقامرة كل الخطر وكل الفساد فإن الطمع في الحصول على أعظم الأرباح بأقل الوسائل عناءً وأخفها مشقة يصرف الرجل عن الجد والتعب لكسب عيشه من الطرق الشريفة المشروعة ويجعله ضعيف الهمة خائر العزم شغوفًا بالبطالة والكسل، وفي هذا ما يكفي لإفساد الأخلاق العامة والسير بالمجموع إلى هاوية الدمار والخراب، ولما كان المشرع حريصًا على مصلحة الأمة وكان يمقت كل عمل أو التزام يكون من شأنه إفساد الأخلاق العامة منع المحاكم من سماع دعوى الدائن الذي يطلب الحكم له بدين ميسر (مادة 1965) كما منعها من سماع دعوى المدين باسترداد ما دفعه (مادة 1967) عملاً بالمبدأ القائل بأنه لا توجد مطالبة ولا يوجد حق استرداد ما دام الطرفان قد اشتركا سواسيةً في القيام بالعمل المغاير لحسن الأخلاق المنافي لمصالح البلاد In pari causa turpitudinis cessat repetitio فكان في ترفع المشرع عن حماية هذه الدعاوى أكبر عقاب يستطيع من الوجهة المدنية أن يسوقه نحو أمثال هؤلاء المذنبين.
والمطلع على المحاضر التحضيرية لقانون نابليون Travaux préparatoires du code napolèon يرى أن فكرة المقنن الفرنسي عند وضع القانون في عام 1803 كانت ذاهبة هذا الاتجاه (انظر E. P. Walton "Obligations p. i. pg 29).
وفوق ذلك فإن فريق الشراح الفرنسيين الذي يتمسك بنظرية الطبعية في ديون الميسر يعترف صراحةً بوجود الفروق والاختلافات بين هذه الديون وسائر الديون الطبعية الأخرى، فإنه من المتفق عليه أن الديون القانونية لا يمكن إسقاطها عن المدين بها بطريق المقاصة مع ديون الميسر كما أن هذه الديون لا يمكن إيجاد ديون قانونية محلها بطريق الاستبدال ne peut être convertie par voie de novation وإلى جانب كل هذا فإن ديون الميسر لا تصح الكفالة لها كما أن عقد الرهن الضامن لأدائها باطل تبعًا لبطلانها هي نفسها.
فأما بطلان كفالتها فهو نتيجة طبعية لنص المادة (1965) من القانون المدني الفرنسي على عدم حماية الدين الناتج من المقامرة بأي دعوى وأننا لو قررنا عكس ذلك وقلنا بصحة الكفالة لوقعنا في تناقض بيّن، إذ أنه يكون من السهل على الدائن أن يحصل على دينه وبدعوى أيضًا وفقط بدلاً من أن يوجهها نحو المدين المقامر عليه أن يوجهها نحو كفيله.
ولكن ما هو الحل إذا دفع الكفيل دين المقامر؟ من المؤكد أنه لا يستطيع أن يسترده من رابح اللعب الذي دفع لأنه إنما وفى باختياره volontairement ولو كان المدين الأصيل قام بالدفع على هذا الوجه لما أمكنه الاسترداد عملاً بالمادة (1967) ولكن هل نقول بضياع حقه عليه بتاتًا؟ وهل ليس له من طريق لاسترجاع ماله؟ وإذا كان هذا الطريق موجودًا فمن هو الشخص الذي يقع عليه عبء الرد؟ وهل هذا الشخص ملزم بالدفع في جميع الأحوال على السواء؟ إن الجواب على جميع هذه الأسئلة يكاد يكون الاتفاق عليه عامًا، فإنه إذا كان الكفيل قد دفع الدين بالنيابة عن المدين وبطريق الوكالة عنه - فإنه لا محل للشك في أنه يكون له حق الرجوع على موكله، وأما إذا كان الكفيل قد وفى بالدين من تلقاء نفسه بغير وكالة عن المدين وبدون إذنه فالأمر بين حالين، فإما أن يؤدي له الخاسر المكفول ما دفعه وبذلك ينتهي الأمر وطبعًا لا يكون للخاسر حق استرداد ما دفعه للكفيل لأنه لا يمكنه أن يسترده لو كان هو الذي دفعه للمقامر الذي لاعبه فمن باب أولى لا يكون له هذا الحق إذا كان الدفع قد حصل منه لكفيل نفسه وأما إذا لم يؤدِ للكفيل ما دفعه فلا يستطيع هذا الأخير أن يرفع عليه دعوى ليكرهه بواسطة المحاكم على الأداء لأن الكفيل لا يستطيع بعمله الفضولي أن يفوت عليه حقًا وميزة منحهما له القانون، أو بعبارة أخرى لا يستطيع الكفيل بعمله هذا أن ينزع منه حريته الأصلية في الوفاء أو عدم الوفاء الآيلة له من نص المادة (1965).
قلنا فيما سبق إن عقد الرهن الضامن لدين ميسر باطل تبعًا لبطلان الدين الأصلي الذي يكفله، وهذا صحيح وواجب لنفس السبب الذي شرحناه تدعيمًا للقول ببطلان الكفالة ولمن قدم الرهن سواء أكان هو خاسر اللعب أو شخصًا ثالثًا أجنبيًا عن المقامرة tiers أن يرفع الدعوى لإبطال الرهن أو لاسترداد الأشياء التي رهنها.
ومما سبق يرى أن الرأي القائل بطبعية ديون الميسر ليس وجيهًا كالرأي القائل ببطلان هذه الديون.
وأخيرًا توجد شبهة - لا حجة - قد يستند عليها للقول بأن ديون الميسر لا يمكن أن يكون السبب فيها منافيًا للآداب ومخجلاً immorale et honteuse لأنها لو كانت كذلك فلماذا أطلق عليها اسم ديون الشرف dettes d'honneur؟ ولإزالة هذه الشبهة نقول إن الأصل في إطلاق هذه التسمية على ديون الميسر ليس طبعًا راجعًا إلى أن السبب فيها شريف أو غير شريف، وإنما منشأها في الحقيقة هو المادة (1965) التي لا تجيز رفع الدعوى لإكراه خاسر المقامرة على دفع المبلغ الذي تعهد بدفعه للفائز، لأن النتيجة الطبعية لنص هذه المادة أن يكون الخاسر - حرًا في الدفع - أو عدم الدفع - فإذا ما اختار الوفاء بما وعد به فإنما يكون وفاؤه بدافع من شرف نفسه عملاً بالمثل القائل (وعد الحر دين عليه).
الرأي الثالث:
يناصره (تروبلونج Troplong) - لم يأتِ هذا الرأي بشيء جديد غير ما سبق شرحه وكل ما فعله هو أنه توسط في الأمر وقال إنه إذا كانت المقامرة حاصلة داخل الحدود المعقولة renfermé dans les justes bornes فيكون الدين الناتج عنها ذا سبب حقيقي وشريف réelle et honnête ويعتبر في هذه الحالة دينًا طبعيًا، ولكن إذا كان اللعب حاصلاً خارج الدائرة السابقة وكان عبارة عن مضاربة ومقامرة بمعنى الكلمة فإنه يكون منافيًا لحسن الأخلاق ولا ينشأ عنه أي التزام طبعي.
الرأي الرابع:
هو الرأي الباقي في الموضوع، ومغزاه أن الديون الناشئة عن المقامرة هي ديون حقيقية وقانونية véritables et eiviles لأن المقامرة عقد من العقود المنشئة للالتزامات contrat générateur d'obligations فأما كون المقامرة عقد فذلك ظاهر من نص المادة (1964) التي تعتبرها هي والمراهنة من عقود الغرر [(3)] وهي منتجة للالتزامات لأن القانون يعتبر الوفاء بدين ميسر صحيحًا valable ولا يجيز لذلك لمن وفى أن يسترد ما دفعه اللهم إلا في حالتي التدليس والإكراه وإلى ذلك فإن هناك نوعًا من المقامرة هو المنصوص عنه بالمادة (1966) [(4)] قد كفل المشرع الالتزامات الناتجة عنه بالدعوى أمام المحاكم.
وترتيبًا على ذلك يرى (فرير جون دي سانت [(5)] Fréejouan Du Saint أحد كبار أنصار هذا الرأي أنه إذا دفع خاسر المقامرة المال الذي خسره وهو يعتقد خطأ وجهلاً بالقانون أنه ملزم بالوفاء فلا يمكنه استرداد مبلغه بعد ذلك بأي حال لأنه لم يوفِ التزامًا طبعيًا naturelle وإنما أدى دينًا قانونيًا dette civile.
ومما هو جدير بالذكر أن المادة (1965) لا تكون ذات قيمة في حالة اتفاق المتقامرين على أن يدفع كل منهما مبلغه مقدمًا وديعة تحت يد شخص أجنبي أو أن يضعه في مبدأ اللعب على مائدة القمار لأن هذا العمل من جانبهما يعتبر دفعًا بالاختيار paiement volontaire غاية الأمر أنه معجل، وموقوف على شرط anticipé et sous condition فإذا استرد الخاسر مبلغه بعد ظهور نتيجة اللعب أو امتنع المودع عنده من تسليم المبلغين للرابح يكون له حق رفع الدعوى لاستردادهما بالرغم من كون القانون لا يحمى ديون الميسر بأي دعوى وذلك مما يدعو إلى التناقض في الظاهر إلا أنه في الحقيقة لا يوجد تناقض مطلقًا لأن الدعوى التي يرفعها الرابح في هذه الحالة ليست بالمطالبة بدين ميسر وإنما هي دعوى الملكية لاسترداد مبلغه الذي لم يخرج عن ملكيته مطلقًا ولأخذ مبلغ خصمه الذي صار ملكًا له بمجرد ظهور نتيجة المقامرة.
وفضلاً عن ذلك فإنه إذا اختلس الخاسر مبلغه وهو في يد الأجنبي أو وهو على مائدة اللعب يعتبر سارقًا (cass. 23 fev. 92 Dalloz 18921. 472) ولا يرد على ذلك أنه لا يمكن اعتباره سارقًا لأن أحد أركان السرقة (مال الغير) يكون مفقودًا، إذ أن هذا المال الذي قدمه في مبدأ اللعب قد خرج عن ملكيته بمجرد تحقق النتيجة ويكون بنقله المبلغ بعد ذلك إلى حيازته قد اختلس مالاً مملوكًا للغير.
واستثناءً من القاعدة الواردة بالمادة (1965) اعتبر المشرع الفرنسي بالمادة (1966) الديون الناشئة عن المقامرات الرياضية jeux qui tiennent à I'adresse et à l’exercice dn corps كالسباق والسباحة ورفع الأثقال والتنس وكرة القدم ديونًا قانونية، بمعنى أن للفائز أن يطلب من المحاكم الحكم له على خصمه المقهور بالمبلغ الذي التزم به.
وقد استثنى المشرع هذه المقامرات وكفل ديونها بحمايته تشجيعًا للألعاب الرياضية، ولا يمكن لأحد أن يعيب عليه عمله هذا، بل إن الذي كان يعاب عليه هو عدم الإتيان بهذا الاستثناء وبالتالي عدم تشجيعه للرياضة البدنية التي لا تنكر فائدتها وأثرها في صحة الأبدان وسلامة العقول وتقوية الخلق بعكس المقامرات الأخرى التي تدعو إلى الكسل وتقعد بالهمم وتثبط العزائم فتكون جرثومة الفساد الناخرة في جسم الأمة وفي الأخلاق العامة.
ومن الواجب عدم التوسع وقصر نص هذه المادة على الألعاب الرياضية التي يستفيد منها الجسم، فلا يصح مثلاً أن نتوسع في الاستثناء وندخل تحته ألعاب الشطرنج والورق (الكتشينة) والضامة.
ولكن ما هو الحكم في لعبة البليارد ؟ مما لا شك فيه أنها تعود بالفائدة على جسم لاعبيها فضلاً عن أنها تمرن فيهم صحة الحكم وبعد النظر، ولكن المشاهد للأسف من جهة أخرى أن لاعبي البليارد لا يقصدون غالبًا من لعبهم الفائدة الرياضية بل جل همهم أن يحصلوا من ورائه على المبلغ المقامر عليه، لذلك اختلف بالنسبة لهذه اللعبة ولعل الرأي الراجح هو الذي يقول بأنها لا تدخل في دائرة الاستثناء الذي أتت به المادة (1966)، وعلى ذلك لا تكون الالتزامات الناشئة عنها مكفولة بالدعوى أمام المحاكم.
ولم يذهب المشرع بعيدًا في حماية ديون هذا النوع من المقامرة فقد أعطى المحاكم حق رفض الطلب بتاتًا، بدلاً من أن يعطيها الحق في إنقاصه إلى الدرجة العادلة المقبولة، في كل حال ترى المبلغ المطالب به باهظًا وفائقًا حد الاعتدال [(6)] والعلة في ذلك ظاهرة وهي أن المشرع وإن كان يعطف على الرياضة البدنية إلا أنه من جهة أخرى يمقت روح المضاربة والمقامرة والطمع في كسب المال من غير الطرق الشريفة المألوفة كما يكره في الوقت نفسه أن يجعل الاستثناء الذي أتى به مهربًا يخلص من بابه المتقامرون نحو تحقيق مقاصدهم المنافية لحرمة التشريع ومصالح البلاد.

حمدي عبد الحميد
موظف بمحكمة الاستئناف الأهلية

---------------
[(1)] C. C. F 1965 - La loi n’accorde aucune action pour une dette de jeu on pour le paiement d’un pari.
[(2)] C. C. F 1967 – Dans aucun cas, le perdant ne pent répéter ce qu’il a volontairement payé, â moins qu'il n’y ait en, de la part du gagnant, dol, supercherie ou escroquerie.
[(3)] C. C. F 1964 - Le contrat aléatoire est une cnvention réciproque dont les effets, quant aux avantages et aux pertes, soit pour toutes les parties, soit pour l’une ou plusieurs d’entre elles, dépendent d’un événement incertain.
Tels sont:
- le contrat d’assurance,
- le prêt a grosse aventre,
- le jeu et le pari.
[(4)] C. C. F 1966 - les jeux propres á exereer au fait des armes, les courses á pied ou á cheval, les courses de chariot le jeu de paume et autres jeux de même nature qui tiennent â l’adresse et á l’exercice du corps, sont exceptés de la disposition préeédente.


[(5)] هو محامٍ أمام محكمة الاستئناف بباريس la cour de paris له مؤلف في هذا الموضوع.

[(6)] C. C. F. 1967 Néanmoins le tribunal pent rejeter la demande, quand la somme lui parait excessive.

نظرية الجزاء التهديدي والجزاء القطعي نصيف زكي

مجلة المحاماة – العدد الخامس
السنة الرابعة - عدد فبراير

نظرية الجزاء التهديدي والجزاء القطعي
SYSTÈM DES ASTREINTES

عرف العلماء الـ ASTREINTE بأنه إلزام بمبلغ من المال يُقضَى به عن كل يوم أو زمن من أزمنة التأخير الغرض منه قهر المدين المتعنت على تنفيذ ما تعهد به بتهديده بجزاء مالي يمكن أن يزداد إلى الحد الذي يخضعه حتى يحترم تعاقده وينفذه.
وقد أحسن المسيو BERRYER تعريفه في رسالةDES ASTREINTES. THÈSE. PARIS 1903 فقال إنه قضاء مؤقت في المال الغرض منه الوصول بطريق غير مباشر إلى تنفيذ التزام عينًا وذلك بتهديد المحكوم عليه المتعنت بجزاء يكفي للقضاء على تعنته.
ولقد ابتكر القضاء الفرنساوي هذه النظرية القانونية وسار بها على وتيرة واحدة من زمن بعيد رغمًا عما ينهال عليها من انتقاد رجال القانون من الوجهة النظرية، فإن أول ما عرف عن تطبيق هذه النظرية في القضاء الفرنسي كان في سنة 1809 (DALLOZ REP V. CHOSE JUGÉE NO. 384 ETS.).
وقد ذكر المسيو اسمين ESMEIN في مقالته الممتعة عن الجزاء التهديدي التي نُشرت في REVUE TRIMESTRIELLE DE DROIT CIVIL 1903, P. 553 أن النظرية ترجع إلى عهد الـ SPECULUM JURIS الذي أصدره GUILLAUME DURAND وتعقب تطبيق هذه النظرية حتى وصل بها إلى تاريخ القانون الروماني.
ولكن محل النظر هنا أن المحاكم تأمر بإلزام المدين بأن يدفع مبلغًا معينًا عن كل زمن من أزمنة التأخير باعتبار أن هذا الأمر ليس قضاءً باتًا بل سبيلاً لقهر المدين على تنفيذ تعهد أو أمر أمرت به المحكمة فهو جزاء أو عقوبة يُقضَى بها لا على سبيل تقدير الحق بل لإرغام المدين كي يحترم أمر القضاء.
وبهذا جاز للمحكمة نفسها إن رأت إصرار المدين على تعنته أن تضاعف الجزاء حتى يقهر وينفذ ما أمرته المحكمة به، ولها الحق أيضًا أن ترفع عنه الجزاء، بعضه أو كله، إن أظهر امتثالاً للأمر، ولهذا فالجزاء لا يقوم مقام الضرر الناتج عن عدم الوفاء، فقد لا يكون بين المبلغ المقضى به وبين الضرر الفعلي أي تناسب بل قد لا يوجد أي ضرر وقع فعلاً، وإنما هي عقوبة يُقضَى بها حتى يخضع المحكوم عليه لما أمرت المحكمة به.
وكما يجوز للمحكمة التي أصدرت الأمر أن تزيد في الجزاء أو أن ترفعه كله أو بعضه يجوز كذلك لمحكمة الاستئناف إذا طرح الأمر أمامها

REQ 1ER DEC. 1897-D. P. 98. 1. 289; REQ 8 JAN 1896. D. P 97. 1.463; REQ 6 AVRIL 1900 D. P 1900. 1.167; CASS 20 JAN. 1913 D. P. 1913.1.387; SIREY, TABLE DÈCENNALE 1901 - 1910. V DOMMAGES INTÈRETS NO 66 D. P. 1917.1.115.

2 - ولكن علماء القانون LA DOCTRINE ينتقدون هذه النظرية انتقادًا شديدًا وحجتهم في ذلك:
( أ ) أن القانون قد نص في المادة (117) مدني المقابلة للمادة (173) و(174) مختلط وتقابل (1142) و(1143) و(1144) فرنساوي - أنه إذا امتنع المدين عن وفاء ما هو ملزم به بالتمام فللدائن الخيار بين فسخ العقد مع أخذ التضمينات وبين أن يطلب التضمينات عن الجزء الذي لم يقم المدين بوفائه فقط، ومع ذلك يجوز للدائن أن يتحصل على الإذن من المحكمة بعمل ما تعهد به المدين أو بإزالة ما فعله مخالفًا لتعهده مع إلزامه بالمصاريف - هذا وذاك مع مراعاة الإمكان بحسب الأحوال (المادة (117) أهلي).
فإذا اعتبرنا هذا الجزاء تعويضًا فالتعويض لا بد أن يكون مقابلاً للضرر الذي حل فعلاً بالدائن وللفائدة التي تفوته PRO TANTO في حين أن في تطبيق نظرية الـ Astreinte لا يتفق الجزاء مع الضرر مطلقًا ولا يتناسب معه.
(ب) فإن كان الإلزام جزاءً أو عقوبة فليس للمحكمة أن تقضي بجزاء بطريقة استبدادية غير عادلة، فإنه من المسلم به أن لا عقوبة بغير نص II N'EST PAS DE PEINE SANS TEXTE.
(جـ) على أن الغرض الحقيقي من الجزاء التهديدي الوصول إلى تنفيذ التعهد عينًاEN NATURE بخلاف الحكم بالتعويض، ولهذا تكون النتيجة الفعلية لحكم الجزاء التهديدي أن القاضي يشرع طريقة من طرق التنفيذ غير منصوص عليها قانونًاB. H. ET BARDE, 5ME EDIT. OBLIGATION T, 1 NO. 479 P 506 ET LUIS.
ودفعًا لبعض هذا الانتقاد نرى المسيو PLANIOL قد وضع نظرية الجزاء التهديدي تحت باب تنفيذ التعهدات لا تحت باب التعويضات.
(د) نضيف إلى هذا كله أن في إرجاع الحكم مرة ثانية وثالثة إلى القضاء لتعديله أو تخفيضه بين كل آنٍ وآخر فيه تعارض ظاهر مع نظرية قوة الأحكام الانتهائية

DEMOLOMBE T. 24 P 496 479 LAURENT. T. 16. N. 301 AUBRY ET RAU. T 4 5E ED. NO. 12 ET 12 QUATER P 64 – 66.
MASSIN. DE L’EXÉCUTION FORCÉE DES OBLIGATIONS DE FAIRE OU DE NE PAS FAIRE. THÉSE. PARIS 1893 P 429 - 438.
BERRYER. DES ASTREINTES 1903 THESE P 140 – 162 LA COSTE. DE LA CHOSE JUGÉE P37 ET S.

ولقد انضم المسيو دي هلتز في كتابه (القانون المدني المصري الجزء الأول صـ 280 و281 و282) إلى الذين انتقدوا هذه النظرية بشدة فقال إنها غير مشروعة ومخالفة كل المخالفة للقانون.
وقد انبرى للدفاع عن هذه النظرية المسيو ESMEIN دفاعًا مجيدًا وكذلك المسيو بلانيول والمسيو GRIOLET في كتابه DE L’AUTORITÉ DE LA CHOSE JUGÉE.
فقد ذكر المسيو ESMEIN في رسالته L’ORIGINE ET LA LOGIQUE DE LA JURISPRUDENCE EN MATIÉRE D'ASTREINTES. أن سلطة القاضي تنقسم قسمين، القضاء في الخصومات وإصدار الأوامر، ولهذا يجب أن نفرق بين الأحكام التي تسمى JUDICIÀ DECISORIA أو JURIDICTION وبين أحكام الأمر JUDICIA ORDINAORIAT أو COMMANDEMENT.
والقاضي الذي يملك سلطة الفصل في أصل الخصومة يملك حق إصدار الأوامر التي تؤدي إلى القضاء فيها، والغرض من هذا الأمر التوصل إلى حق اعتقد القاضي بوجوده وكان أمره سبيلاً إلى الوصول إلى هذا الحق.
فالقاضي في مثل هذه الحال يستعمل سلطته في إصدار الأوامر INJONCTIONS أو IMPERIUM حسب مقتضيات الأحوال بما يضمن به تنفيذ حكمه، وهذه القوة التي يختص بها القاضي يقول المسيو ESMEIN عنها إنه مسلم بها من القدم، حتى أن المشرع الفرنسي عندما وضع مواد القانون لم ينسخ هذه السلطة بل ذكر في المادة (1036) من قانون المرافعات (أن للمحاكم الحق - في الخصومة المطروحة أمامها - أن تصدر حتى من تلقاء نفسها ما تراه من الأوامر PRONONCER DES INJONCTIONS وأن تأمر بضبط الأوراق والمكاتبات طبقًا لخطورة الحال).
ومتى تقرر هذا فإنه من المسلم به أيضًا أن من يملك الأمر يملك حق الرجوع فيه.
وقد ذكر حضرة الأستاذ أبو هيف بك في كتاب قانون المرافعات الجزء الثاني أنه ليس من مقابل في قانوننا للمادة (1036) مرافعات فرنساوي وأنه يمكن أن تسند هذه النظرية في القانون المصري إلى النص الوارد في لائحة ترتيب المحاكم التي تجيز للقاضي إن لم يوجد نص صريح في القانون أن يحكم بمقتضى قواعد العدل، وأن من قواعد العدل أن يسعى القاضي في تسهيل تنفيذ ما أصدر من الأحكام العادلة ما دام لا يضر في ذلك بحقوق المدين، وفي هذا القول اجتهاد ظاهر.
وعلى أي حال فقد أصبحت هذه النظرية وطيدة الأركان متينة الدعائم في القضاء رغم الانتقادات العلمية التي لا تزال موجهة إليها، حتى أن المسيو بلانيول قال إنها باتت من أفضل الطرق العملية لقهر المتعنت الذي يريد الإخلال بتعهده، وذكر أن احترام هذه النظرية أصبح راسخًا وطيدًا لا يمكن لأي انتقاد أن يزعزعه لفوائدها العملية، فهي طريق ناجع وسهل لضمان تنفيذ التعهدات.
3 - ولقد كثر تطبيق الإلزام بالجزاء التهديدي في المحاكم الفرنساوية، ومن القضايا الهامة قضية المركيزة BAUFFREMONT التي قضت المحكمة فيها على الزوجة بتسليم ابنتها إلى والدها أو تلزم بغرامة يومية قدرها 500 فرنك، فلما امتنعت الزوجة عن تسليم البنت تدرج الجزاء إلى أن بلغ ألف فرنك يوميًا حتى سلمت الفتاة D. 78.2.125.
وقضية شركة الكهرباء المشهورة بباريس التي رفعتها إحدى النزل الكبرى بباريس تطالبها بإنارة النزل، فقد حكمت المحكمة بإلزام الشركة بالإنارة أو بأن تدفع مائة فرنك يوميًا وقد تدرج الجزاء إلى أن بلغ 10000 فرنك حتى خضعت الشركة وأنارت النزل.
ولم يقتصر تطبيق هذه النظرية على التعهد بفعل أمرٍ ما OBLIGATION DE FAIRE بل تعداه إلى OBLIGATION DE NE PAS FAIRE فقد حكمت المحاكم على المسيو COQUELIN الممثل الشهير بغرامة يومية قدرها 500 فرنك لأنه أخل في تعهده بأن لا يظهر على مسرح آخر غير مسرح الـ D 97. 2. 177. COMÉDIE FRANCAISE.
4 - هل يمكن تنفيذ أحكام الجزاء إذا ثبت تعنت المحكوم عليه عن تنفيذ أمر المحكمة، فإن الأمر المتبع أن الصادر لصالحه حكم الجزاء يعرض الأمر على المحكمة في دعوى يسجل على المدين تأخيره عن تنفيذ أمر المحكمة ويطلب من المحكمة أن تأمر بتنفيذ الجزاء نفسه أو أن تزيده أو أن ترفعه حسب الظروف وتقضي المحكمة قضاءها في ذلك وينفذ هذا الحكم الثاني حتى يخضع المدين لتنفيذ أمر المحكمة وقد لا يكون الجزاء اليومي المترتب في الحكم الثاني تعويضًا للضرر الذي حصل من عدم التنفيذ بل عقوبة على تعنت المحكوم عليه في تنفيذ أمر القاضي ولو لم يحصل ضرر فعلاً من عدم التنفيذ.
ولقد سارت بعض المحاكم المصرية على أن أحكام الجزاء غير قابلة للتنفيذ بالمرة بل يجب لذلك من رفع دعوى جديدة لتقدير التعويض الحقيقي الناجم عن عدم تنفيذ أمر المحكمة، وتبني رأيها هذا على أنه ما دامت هذه الأحكام تهديدية بطبيعتها فلا يجوز تنفيذها.
فقد حكمت محكمة الاستئناف الأهلية بحكم في 24 فبراير سنة 1914 نمرة (70) المجموعة الرسمية السنة الخامسة عشرة صـ 137- بأن التعويض الذي يُقضَى به عن كل يوم من أيام التأخير يعتبر مقاصة لا جزاء ومن ثم فلا يجوز المطالبة به إلا إذا أنشأ ضررًا فعلاً عن الاستمرار في تأخير التنفيذ، وأنظر حكم محكمة الزقازيق المنشور في المجموعة الرسمية السنة الخامسة عشرة صـ 213.
إن خطأ هذا الرأي واضح، فإن التهديد الذي لا يمكن تنفيذه مطلقًا لا يكون له الأثر المطلوب وهو قهر المتعنت على تنفيذ التعهد عينًا EN NATURE.
ولقد أحسن المسيو والتن ناظر مدرسة الحقوق في وصف التهديد الذي من هذا النوع بأنه سخافة BRUTUM FULMEN صـ 243 الجزء الثاني من كتابه OBLIGATION فقال إن بعض المحاكم المصرية لم توفق في الوصول بهذا المبدأ إلى الحد المنطقي الصحيح بأن رفضت تنفيذ حكم التهديد المالي رغم إصرار المدين على عدم الوفاء.
وذكر خطأ الأحكام التي كانت تقرر المبدأ الآتي:

QUE LES CONDAMNATIONS DE CETTE SORTE NE SONT QUE PUREMENT COMMINATOIRES ET QU’ELLES NE PEUVENT SORTIR À EFFET QUE DANS LA MESURE DU PRÉJUDICE REÉLLEMENT SOUFFERT C. A. 10 JANV. 1901. R. O. XXVI.

وكذلك الحكم الصادر من محكمة الاستئناف في 8 مايو سنة 1906 المنشور في المجموعة الرسمية السنة السابعة نمرة (115) صـ (79) بهذا المعنى، وانتقد في هذه الأحكام على أنها بُنيت على خطأ في فهم أساس نظرية الجزاء فقال إن المحكمة التي لها أن تمحو الجزاء التهديدي لها أيضًا الحق المطلق أن تقهر المدين المتعنت بأن ينفذ عليه حكم الجزاء وأن يزاد أيضًا بحكم آخر إن زاد في عناده حتى يخضع للأمر، ولا جدال أن التهديد الذي لا نتيجة له يضيع هباءً.
لم يمكن الوصول إلى تسليم الفتاة في قضية المركيزة BAUFFREMENT إلا بعد أن بلغ ما تنفذ به عليها مليونًا من الفرنكات حتى سلمت الفتاة، وبعد أن تدرج حكم الغرامة بأمر القاضي إلى ألف فرنك يوميًا (انظر القضية السالفة الذكر) وما كان هذا الجزاء مقابلاً للضرر الفعلي بل جزاءً مستمرًا لتنفيذ أمر القضاء، ولم تخضع شركة الكهرباء لإنارة النزل إلا بعد أن بلغ ما نفذ به عليها يوميًا عشرة آلاف فرنك - ولا جدال في أن للقاضي أن يرفع الغرامة إذا ما تقدم إليه المدين وأعلن خصمه وقدم الدليل على أنه يسير في التنفيذ أو أنه نفذ الأمر فعلاً ما دام كل غرض القاضي أن يقهر المدين على تنفيذ تعهده عينًا.
وقد حكمت محكمة مصر الاستئنافية برئاسة أحمد فتحي باشا وعضوية المستر ايموس في دعوى الحساب الشهيرة لورثة أحمد باشا صادق في أشكال أقيم أمامها في تنفيذ الحكم التهديدي الأول بما يأتي:
(حكمنا بإيقاف تنفيذ الحكم الصادر بالغرامة بتاريخ 5 يونيه سنة 1905 إيقافًا مؤقتًا حتى تحكم محكمة مصر في موضوع الإلزام نهائيًا بغرامة يبين مقدارها الواجب التنفيذ بمقتضاه) والحكم منشور في مجلة الاستقلال صـ 330 في حيثيات مطولة.
وقد رأى الأستاذ أبو هيف بك في كتابه الجزء الثاني صـ (17) و(18) طبقًا لآراء العلامة جارسون الوارد في الجزء الرابع الطبعة الثانية والعلامة جلاسون الجزء الثاني أن الحكم الذي يشتمل على تحديد مبلغ يدفعه المدين يوميًا هو حكم تهديدي ليس له قوة الشيء المحكوم به ولا ينفذ بنفسه ولو أصبح نهائيًا بل يجب لذلك من رفع دعوى جديدة بطلب ما تجمد من المبالغ (أي مبالغ الجزاء اليومي) ويكون حينئذٍ للقاضي الحق أن يرجع في أمره أو أن يزيد في المبلغ اليومي إذا ازداد التأخير، وأن هذا المبلغ لا يكون تعويضًا بل عقوبة على عدم الإذعان لأمر القضاء وأن للقاضي أن يبقي الحكم بالمبلغ الذي حدده كما هو حتى ولو لم يحصل ضرر مطلقًا من عدم التنفيذ كما يجوز له أن يحكم به وبالتعويض في آنٍ واحد.
5 - هذا ما استقر عليه رأي علماء التشريع، على أنه إذا سلمنا بأن الغرض من وضع النظرية هو الوصول إلى قهر المدين لينفذ التعهد عينًا فإنه من المحتمل جدًا أن يكون الحكم الثاني قد ازداد فيه الجزاء عن الحكم الأول حتى يرغم المدين على الوفاء ويكون في الحكم الثاني كل معنى التهديد أيضًا ولو أنه قطعي وواجب النفاذ، لهذا اعتقد أن المنطق يقضي بوجوب تنفيذ الحكم الأول إن تأخر المدين عن الموعد المضروب في الحكم وللمدين عند التنفيذ أن يرفع الأمر بصفة مستعجلة إلى القاضي بطلب إمهاله إلى أجل آخر لأن طارئًا أو سببًا عاقة عن الوفاء أو لأنه شرع في التنفيذ، وكذلك من الجهة الأخرى يكون للدائن الحق في الرجوع إلى القاضي لزيادة الجزاء إن تعنت المدين ولم يقهره بتنفيذ الجزاء وهكذا، فالمتضرر يعرض الأمر على المحكمة حتى يتنفذ ما أمرت به، وللقضاء أن يأمر بإيداع متحصل الجزاء في الخزانة.
إن للمحاكم أن تتبع في طريقة تنفيذ الجزاء التهديدي ما تراه ما دام الغرض منها الوصول إلى تنفيذ التعهد عينًا.
فإنه من المسلم به أن هذا الجزاء عقوبة ولا معنى للعقوبة إن كانت نتيجتها حتمًا الرجوع في توقيعها إلى دعوى جديدة فإنها تصبح بلا جدوى، وكذلك لا يكون للتهديد أثر قوي إذا كان لا بد من رفع دعوى لتنفيذه أو تنفيذ متجمده.
لهذا أخذت بعض القوانين تصحح في هذه النظرية بنصوص تجلي ما غمض منها.

نظرية الجزاء التهديدي في القوانين الأخرى

لقد أزال الشارع الألماني في قانونه الذي وضعه أخيرًا كل خلاف بأن وضع نصًا في قانون المرافعات (المادتين (887) و(888) منه) بأنه إذا كان يمكن لشخص ثالث أن يقوم بالالتزام نفسه فللدائن الحق أن يستصدر حكمًا بإلزامه بالقيام به على نفقة المدين (قارن هذا بنص المواد (117) و(173) و(174) مدني مصري) فإن لم يمكن لغير المدين القيام بالتعهد فللمحكمة أن تقضي عليه بغرامة أو بالحبس هذا فضلاً عن التعويضات التي يطلبها الدائن، أما في بلجيكا فالمبدأ كان يسير طبقًا للقضاء الفرنسي.
ولكن الرأي الأخير قضت به محكمة بروكسل انظر:

COLIN ET CAPITANT VII 3E EDIT P. 35 “LA JURISPRUDENCE BELGE À DONC, TRÈS CORRECTEMENT, CROYOUS NOUS, DECIDÉ QUE, SI EN CAS D’INEXÉCUTION D’UNE OBLIGATION DE FAIRE OU DE NE PAS FAIRE LES TRIBUNAUX PEUVENT ALLOUER UNE SOMME DÉTERMINÉE PAR JOUR DE RETARD, CE N’EST QU’ À TITRE D’INDEMNITÉ À RAISON DU DOMMAGE CAUSÉ ET NON À TITRE DE PURE CONTRAINTE ET POUR ASSURER L’EXÉCUTION D’UNE SENTENCE. BRUXELLES 1ER MAIS 1909 S 1909. 4. 18.

أما في إنكلترا فتجد الأمر أقرب للقانون الألماني منه للقضاء الفرنسي، فإذا ما عُرض على المحكمة طلب تنفيذ التعهد عينًا SPECIFIC PERFORMANCE وقضى به القاضي بحكم أو بأمر INJUNCTION وتوقف المدين عن طاعة الأمر جاز الحكم بحبسه

 HALSBURY LAWS OF ENGLAND V INJUNCTION SPECIFIC PERFORMANCE.

الجزاء القطعي

هل يمكن أن يقدر التعويض مقدمًا وبطريقة قطعية في جزاء يومي بالطريقة السالفة البيان بحكم ينفذ إذا ما قصر المدين عن وفاء تعهده في الأجل المحدد؟
الإجماع على جواز ذلك، فإن للمحكمة تقدير الضرر الذي يحيق بالطالب في كل يوم من الأيام إذا تأخر المدين عن الوفاء بتعهده متى كان لدى المحكمة من الأدلة ما يمكنها من تقدير الضرر الذي يحل يوميًا بالدائن في المستقبل ويكون القضاء به من التاريخ الذي تعينه المحكمة للوفاء بالتعهد (انظر جارسون الجزء الرابع صـ (66) الطبعة الثانية) فكما أن للمحكمة أن تقضي بإلزام المدين أن ينفذ تعهده في أجل معين فإن لها أن تبيح للدائن أن ينفذ التعهد على مصاريف المدين أو أن تقضي عليه أن يدفع في كل يوم تعويضًا بمقدار الضرر حتى يقوم بتعهده - انظر

LOCOSTE NO. 100 ET 101 LAURENT T 16 NO. 300 A. R. IV S299.

وقد يقع خلاف فيما إذا كان الحكم القاضي بالجزاء قطعيًا أو على سبيل التهديد وعندئذٍ يكون للقاضي حق النظر في تقدير الظروف والوقائع فيما إذا كان الحكم موضع النظر صدر على أي الاعتبارين.

COMMINATOIRE OU DIFINITIF A. R. F 4 P 16. NO. 16 5ME EDIT.

فإن كان الأول وجب عرضه على المحكمة طبقًا لما تقدم وإن كان الثاني أصبح قطعيًا واجب النفاذ لا يمكن الرجوع فيه (انظر أيضًا DALLOZ, ROP PRATIQUE V DOMMAGES - INTERETS طبعة سنة 1920 الفقرة (465)).
وقد سارت محكمة الاستئناف العليا على احترام هذه النظرية أيضًا في حكمها الصادر في 23 نوفمبر سنة 1916 نمرة (958) سنة 33 قضائية في الدعوى المرفوعة من الست زينب هانم كريمة حسن باشا الشريعي ضد أحمد باشا الشريعي وآخرين إذ قالت:
(وحيث إن الشراح والمحاكم اتفقت على أن الغرامة المحكوم بها على نوعين تهديدي أو بصفة تعويض قطعي، وأن النوع الثاني يستفاد من الحكم إذا قدرته المحكمة مساويًا للضرر الذي نتج من عدم تنفيذ الحكم في الميعاد المعين) إلى أن قالت (وحيث إن محكمة الاستئناف ترى أن المحكمة التي أصدرت الحكم بالغرامة قدرتها تقديرًا قطعيًا لا تهديديًا وفي مثل هذه الحالة لا يجوز لمحكمة أخرى أن تقدره بغير ذلك وللمستأنفة الحق في تنفيذ الحكم وبرفض الإشكال).
ومن النقط التي تستحق النظر حالة ما إذا قُضي ابتدائيًا بالجزاء يبتدئ بعد أجل معين ثم استؤنف الحكم ومضى زمن حتى انقضى هذا الأجل وحُكم بالتأييد فهل يحتسب الجزاء من تاريخ الأجل الذي قدرته المحكمة الابتدائية أو تُحتسب المدة بعد صدور الحكم الاستئنافي.
المتفق عليه أن الجزاء إذا كان تهديديًا فلا يبتدئ إلا من اليوم المحدد في الحكم النهائي القاضي بالتأييد، لأن الاستئناف مانع من تنفيذ الحكم الابتدائي، بخلاف ما إذا كان الجزاء قطعيًا بمثابة تعويض فإن الضرر الذي يقع يبتدئ في الميعاد الذي قدرته المحكمة الابتدائية انظر بلانيول جزء ثانٍ فقرة (211) وجارسون جزء (5) فقرة (954).

نصيف زكي
المحامي

في قانون الاسترداد الجديد وطريقة تطبيقه في المحاكم الأهلية سليم إبراهيم سلام

مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة السابعة – أكتوبر 1926

في قانون الاسترداد الجديد وطريقة تطبيقه في المحاكم الأهلية

دفعني إلى خوض هذا البحث ما يصدر كل يوم من أحكام المحاكم الأهلية تطبيقًا لهذا القانون وقلّ أن ترى بينها حكمين صادرين من محكمتين وبينهما توافق وإجماع على تطبيق هذا القانون حسب قصد الشارع منه، وقديمًا كانت دعوى الاسترداد عقبة كؤودًا في سبيل تنفيذ الأحكام وكان نقص النص في قانون المرافعات الأهلي مما يدعو إلى الأسف والنقد فبينما كان ذلك القانون يتطلب الحكم في هذه الدعوى على وجه الاستعجال لم يضع لها قواعد خاصة بالطعن في الحكم الصادر فيها ولا هو أعطى المحكمة حقًا خاصًا في أن تشمل حكمها بالنفاذ المعجل ولم يلتفت إلى إمكان رفع دعاوى أخرى لاسترداد نفس الأشياء التي استُردت من قبل وأوقف استردادها البيع وأيضًا كان الحكم في دعوى الاسترداد التي يجب أن يحكم فيها في أول جلسة قدمت إليها قابلاً للاستئناف بحسب النصاب وميعاد الاستئناف إما ثلاثون أو ستون يومًا بحسب الأحوال، وكانت المعارضة جائزة في الحكم الغيابي الصادر فيها ولا ينقضي ميعادها إلا بعد علم الخصم بالتنفيذ وتنفيذ الحكم الغيابي القاضي برفض دعوى الاسترداد يكون طبعًا بإعلان البيع فإذا عارض الغائب يوقف البيع لأن المعارضة توقف التنفيذ وميعاد الاستئناف بعد ذلك موقف للتنفيذ أيضًا فلما ضج المتقاضون من هذا النظام الذي لا يتفق مع مبدأ حسن سير العدالة واحترام الأحكام الواجبة التنفيذ تنبه الشارع إلى وضع القانون الصادر في 9 يوليه سنة 1925 المعدل لنص المادتين (478) و(479) مرافعات أهلي وأحاطه بسياج متين من القيود التي لا مطمع من ورائها لمشاكس غير جاد في دعواه، ولكن ظهر أن طريقة تطبيقه في مختلف المحاكم كما ذكرنا أثبتت أن العلاج لا يزال غير شافٍ للداء ولا وافٍ بالمرام وسنقتصر هنا على إيراد ما به من الغموض الذي جر إلى تضارب آراء القضاة وتباين مذاهبهم في تطبيقه وندع ما عدا ذلك من أوجه النقد إلى فرصة أخرى:
حتم القانون الجديد أنه (يجب أن تشتمل صحيفة دعوى الاسترداد على بيان دقيق لأدلة الملكية أو على صورة مستند التمليك إن كان وإلا كانت باطلة ولا يزول هذا البطلان بحضور الأخصام) فكان من أثر ذلك أن بعض المحاكم ترى القانون قد طُبق تطبيقًا صحيحًا إذا أتى المسترد في صحيفة دعواه ببيان موجز لمستنداته كذكر التاريخ والنص على إن كان ثابتًا أو غير ثابت وإن كانت مسجلة أم غير مسجلة وأسماء المتعاقدين وإشارة بسيطة إلى موضوع التعاقد (وهذا هو المعقول) ولكن بعض المحاكم من جهة أخرى يذهب بها التطرف إلى أقصى حد وأبعد مدى فتحتم نقل صورة المستند الذي يرتكن عليه المسترد وإثباته في صحيفة دعواه سطرًا سطرًا وكلمةً كلمة وإلا كانت الصحيفة في نظرها باطلة، وبعض المحاكم تكتفي إن ذكر المسترد بعريضة دعواه أنه يعتمد في إثبات ملكيته للمنقولات المستردة على البينة أو شهادة الشهود، وترى في هذا كل الكفاية لنفاذ قصد الشارع ولكن البعض من جهة أخرى ترى أن البينة أو شهادة الشهود (لفظ عام مبهم) ويجب تسمية الشهود وما سيشهدون به حتى يقال إن القانون قد طُبق تطبيقًا صحيحًا وإلا فصحيفة الدعوى باطلة، وما أغرب هذا الرأي الذي لا يدل إلا على استنتاج سقيم فإنه فضلاً عن أن ذلك لا يؤخذ من عبارة الشارع فإنه لا يمكن لأحد أن يتنبأ بما سيشهد به الشاهد إذ ربما اعتقد أن الشاهد عالم بحقيقة دعواه وسيشهد لمصلحته فتأتي النتيجة بالعكس (وكثيرًا ما يحصل ذلك) فضلاً عن الخطر في تعرف خصمه لشهوده إذ ربما يصل إلى التأثير عليهم وكثيرًا ما يحصل ذلك إذا كان للخصم نفوذ.
وكذلك نص هذا القانون أيضًا على أنه إن قُضي برفض دعوى الاسترداد فإن الكفالة المنصوص عليها في المادة (478) تصادر على سبيل الغرامة، فجرى كثير من المحاكم على اتباع ذلك حتى في حالة الحكم ببطلان صحيفة الدعوى مع أن ذلك لا يؤخذ من منطوق النص ولعل السبب راجع إلى فهم كثير من القضاة من أن القانون الجديد إنما وُضع لمصلحة الحاجز فقط لا لمصلحة العدالة أصلاً ثم تأتي مصلحة الحاجز تبعًا - فجرَّت المغالاة في تطبيقه بهذا الفهم إلى ما ترى من التناقض في الأحكام - والرأي عندي أنه ما دام المسترد قد برهن لآخر لحظة أنه جاد في دعواه غير مسخَّر وما دام قد قام بما فرضه عليه القانون من دفع جميع الرسوم والكفالة الباهظة التي ينوء بحملها الكثيرون وأشار إشارة واضحة إلى مستنداته أو إلى الطريق الذي سيتخذه في إثبات ملكيته ثم قام بعد ذلك بقيد الدعوى (لا كما كان يتبع قديمًا من أنه يرفع الدعوى ويترك الحاجز يقيدها) فيجب حتمًا بعد ذلك افتراض حسن النية فيه وتناقش مستنداته أو أدلته بروح من التساهل يتفق مع قصد الشارع كما ذكرت، وما أحوجنا والحالة هذه إلى إصدار قانون تفسير أو تعديل يقضي على الخلاف القائم ويضمن قيام العدل وصيانة الحقوق - والله الهادي إلى أقوم سبيل.

سليم إبراهيم سلام
المحامي بالمنصورة




التقادم الخمسي وقانون التسجيل الجديد حامد فهمي

مجلة المحاماة - العدد الثاني
السنة السابعة - نوفمبر سنة 1926

التقادم الخمسي وقانون التسجيل الجديد

نشرت لنا المحاماة مقالاً تحت عنوان تأثير قانون التسجيل على قضايا الشفعة قلنا فيه إن عقد البيع لم يصبح مطلقًا بعد صدور قانون التسجيل من العقود الشكلية التي أوجب القانون لانعقادها أو لصحتها إفراغها في شكل كتابي خاص كالهبة أو الرهن العقاري، بل بقي كما كان من عقود التراضي وإن اشتراط التسجيل لم يرد على حكم انعقاد البيع أو صحته ليكون شرط انعقاد أو شرط صحة وإنما ورد على حكم انتقال الملكية فجعله متراخيًا إلى ما بعد التسجيل بعد أن كان يقع فورًا بمجرد التراضي.
ونشرت المحاماة في العدد السابع من السنة السادسة مقالاً نفيسًا تحت عنوان (قانون التسجيل الجديد) للأستاذ عبد السلام بك ذهني أوضح به أن عقد البيع لا يزال كما كان من العقود الرضائية التي تتم وتفيد أحكامها من يوم العقد إلا حكم نقل الملكية فقد اشترط القانون له التسجيل بعد أن كان يقع فورًا بمجرد العقد ولكنه عند تطبيق هذا الأصل في أحكام التقادم الخمسي ألحق العقد غير المسجل بالعقود الباطلة بطلانًا مطلقًا فلم يجز اعتباره سببًا صحيحًا.
ونحن لا نستطيع موافقة الأستاذ في ذلك ويجب علينا قبل إبداء ما عندنا من الأسباب لمخالفته أن نقول إن الصورة التي نبحث فيها في وجوب اشتراط تسجيل العقد وعدم تسجيله هي الصورة التي يبيع فيها شخص غير مالك عقار لآخر ويضع المشتري يده عليه خمس سنوات معتقدًا أنه تلقاه عن مالكه ثم يجيء المالك الحقيقي فينازع المشتري ويتزاحمان هذا بسنده ويده وذاك بأصل ملكيته فيراد معرفة ما إذا كان للمالك أن يحتج على المشتري بعدم تسجيله عقده للوصول إلى عدم اعتباره سببًا صحيحًا يصح بناء وضع اليد عليه أم لا.
أما إذا بيع العقار لشخصين سجل أحدهما عقده ووضع الآخر الذي لم يسجل عقده يده على المبيع خمس سنوات فالأولوية بينهما تكون بالتسجيل لأنهما تلقيا الملك من عاقد واحد ولأن أحكام التقادم المبني على السبب الصحيح لا تطبق في هذه الصورة.
تنحصر إذن مسألتنا فيما إذا كان يجب أن يكون السبب الصحيح مسجلاً ليحتج به المشتري من غير مالك على المالك الحقيقي أم لا، وبعبارة أخرى هل كان يجب على هذا المشتري قبل صدور قانون التسجيل الجديد وأيام العمل بأحكام انتقال الملكية الواردة في القانون المدني أن يسجل عقده للاحتجاج به على المالك الحقيقي أم لا؟ وهل كان هذا المالك الحقيقي من الغير الذين يجوز لهم الاحتجاج بعدم التسجيل أم لا؟ وإذا أجبنا عن ذلك بالنفي فهل من شأن قانون التسجيل الجديد أن يغير هذا الجواب أم لا؟ ولما كان شارعنا المصري قد نقل أحكام التقادم الخمسي عن القانون الفرنسي وهو استمدها من القانون الروماني وجب أن ندرس المسألة فيهما وعلى نورهما.
كان للرومانيين تقسيم للأموال لا يرجع إلى طبيعتها كتقسيمها إلى (منقول وثابت وحسي ومعنوي) بل يرجع إلى أحكامها المتغايرة في قانونهم المدني وهو تقسيمها إلى أموال منيسبية (RES MANCIPI) وغير منسيبية (MANCIPI RES NEC) والأولى معروفة عندهم بالحصر بنص القانون وهي العقارات الموجودة بإيطاليا وحقوق الارتفاق الزراعية الخاصة بها والعبيد ودواب النقل والجر ومن فوائد هذا التقسيم الصناعي أن ملكية هذه الأموال المنسيبية لا تنقل إلا بطريقة الإفراغ العلني (MANCIPATIO) لا بمجرد المناولة (TRADITIO) (راجع ديدييه بابيه صحيفة 142 – 143 جزء أول).
ولم يكن للرومانيين في بادئ أمرهم إلا نوع واحد للملكية هو الملكية الرومانية وكانوا لا يعرفون من أسباب نقلها إلا تلك الطرق الشكلية المشتملة على أقوال وأعمال مخصوصة يعلنون بها للكافة نقلها وانتقالها من مالك لآخر ولكن الضرورة اضطرت قضاتهم إلى الاعتراف بنوع آخر من الملكية يمكن انتقاله بغير تلك الطرق الشكلية وإلى استنباط الوسائل القضائية لحمايته وقد أطلقوا على تلك الملكية (IN BANIS) إشارة إلى أن المالك يتمتع فيها تقريبًا بجميع حقوق الملاك إلا ما بقي من المزايا الضئيلة لاسم المالك ملكية رومانية، وفي الواقع فإنهم رأوا تعامل الناس في الأموال بغير اتباع الأوضاع الشكلية المعروفة وخروج هذه الأموال بالفعل من يد أصحابها إلى غيرهم برضائهم واستمرار هؤلاء على الانتفاع بها والتصرف فيها فاضطروا للاعتراف بهذه التصرفات وحموا واضعي اليد بما وضعوه لهم من وسائل دفع التعرض وأكسبوهم الملكية بالتقادم بشروط مخصوصة وخولوا لهم دعوى تشبه دعوى الاستحقاق أسموها (L’ACTION PUBLICIENNE) وأبقوا للمالك الأصلي مزايا قليلة الأهمية تبقى له تحت اسم مالك الرقبة (NUDUNA JUS QUIRITUM).
وكان مما استنبطوه أن اعتبروا المناولة (TRADITIO) المبنية على سبب صحيح إذا وقعت على مال من الأموال المنسيبية من أسباب اكتساب الملكية النافعة (IN BONIS) والمراد بالسبب الصحيح في باب المناولة نية الطرفين على الإفراغ والاكتساب المدلول عليها بعمل قانوني سابق لا تتعلق صحته بصحتها (راجع (167) إلى (170) من الكتاب المتقدم ذكره).
وكذلك كان من استنباطهم التقادم بالمدة القصيرة (USUCAPIO) وكان من شأنه أن يجعل المالك لشيء ملكية نافعة (IN BONIS) مالكًا ملكية رومانية سواء أكان واضع اليد تلقى المال المعدود من الأموال المنسيبية من مالكه بمجرد المناولة أم أي مال آخر بأي سبب آخر كما كان من شأنه عندهم أن يحيل وضع اليد القانوني ملكية نافعة إذا كان واضع اليد استلم المال المنسيبي من غير مالك.
وكان من شروط هذا التقادم عندهم أن يكون لواضع اليد سند صحيح والمراد به عندهم كل تصرف قانوني يدل بنفسه على رغبة المتعاقدين في الإفراغ والاكتساب ويفترضون فيه دائمًا أنه لا يجعل بنفسه المتصرف إليه مالكًا إما لوقوعه على مال منسيبي (RES MANCIPI) بغير الأوضاع المطلوبة أو لوقوعه من مناول لم يكن مالكًا ليكون التقادم سبيلاً إلى إفادة معنى جديد (صـ (183)، (184) من الكتاب نفسه).
وأنت ترى من كل هذا أن الرومان لم يشترطوا في السبب الصحيح الذي يجب أن يبنى عليه وضع اليد إلا أن يكون دالاً بنفسه على رغبة المتعاقدين في الإفراغ والكسب وأن لا يكون صادرًا من المالك الحقيقي بالأوضاع الحقيقية الناقلة للملكية بالفعل حتى يكون التقادم مفيدًا لمعنى جديد ومثمرًا، ولذلك لم يشترطوا في السبب الصحيح الوارد على مال منسيبي أن يقع بالأوضاع الشكلية الواجب اتباعها في نقل الملكية الرومانية.
وإلى مثل هذه النتيجة بلغ الفقهاء الشارحون للقانونين الفرنسي والمصري، فقد قالوا إن المراد بالسبب في باب التقادم الخمسي كل تصرف قانوني يكون بطبيعته لذاته صالحًا لنقل الملكية بقطع النظر عما إذا كان من أصدره مالكًا له ولاية التصرف بنقل الملك أم لا.
وقال بوتيه إن العقود المتضمنة الالتزام بإعطاء شيء من بيع أو هبة تصلح لأن تكون سببًا في هذا الباب وإن ليس المراد بكون السبب صحيحًا أن يكون سببًا صحيحًا مفيدًا لأحكامه وإنما المراد بكونه صحيحًا أن يكون صالحًا للاطمئنان به عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر.
وقال بودري ما معناه أن القانون لم يلاحظ عند تقرير حكم اكتساب الملكية بوضع اليد بالسبب الصحيح أن يكون السبب هو الذي ينقل الملكية على أن يكون سندها فيها وإنما ليصبغ به وضع اليد مدة الخمس سنوات فيكون له من القوة ما يجعله من أسباب التمليك.
ولذلك اكتفوا في التصرف أن يكون منعقدًا منع من إفادته الملك مانع هو بوجه عام كونه صادرًا من غير مالك (راجع دوهلس نوتة 117 و118 تحت كلمة التقادم).
ورأيتهم لا يعتبرون العقود غير المنعقدة أو الباطلة بطلانًا أصليًا سببًا صحيحًا ويعتبرون العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا كبيع القاصر والمكره لأن المانع فيهما من نقل الملك هو قصر المتصرف أو وقوع التصرف تحت سلطان الإكراه وكلاهما قائم بشخص المتصرف له وحده الاحتجاج به في طلب البطلان.
والأستاذ عبد السلام بك ونحن على اتفاق في أن عقد البيع غير المسجل هو عقد صحيح مفيد لجميع أحكامه إلا نقل الملك فهو إذن صالح لأن يطمئن به المشتري في تلقي العين ممن هي تحت يده لتضمنه الالتزام بنقل ملكيتها إليه وإن لم ينقلها له بالفعل.
على أنه لما أدخل قانون 23 مارس سنة 1855 في فرنسا نظام تسجيل العقود الناقلة للملكية لإمكان الاحتجاج بها على الغير بحث الفقهاء فيما إذا كان من شأن هذا القانون أن يوجب اشتراط تسجيل السبب الصحيح لإمكان الاحتجاج به في وجه المالك الحقيقي أم لا.
فذهب قليل من العلماء إلى اشتراط التسجيل محتجًا بنص المادة (3) من قانون (23) مارس سنة 1855 التي خولت حق الدفع بالاحتجاج بعدم التسجيل لكل من له حق عيني على العقار (راجع دومولب فقرة (462) الجزء الأول الخاص بالعقود وهو رأي لوران جزء (32) صـ 395).
ورجح أغلب الفقهاء عدم اشتراط التسجيل وحجتهم أن القانون لم يشترط في التملك بالتقادم إلا أن يكون لواضع اليد سبب صحيح فحسب وأن مقصود الشارع من اشتراط السبب الصحيح لم يكن لينقل به الملك (ولذلك أجاز أن يكون صادرًا من غير مالك) وإنما ليطبع به وضع اليد بطابع ظاهر من حسن النية وليسدل عليه به من الحل ما يؤبد به حالة واقعية ظاهرة مستمرة (راجع نوتة (674) و(677) من كتاب بودري في التقادم الطبعة الرابعة وأوبري ورو جزء (2) المسألة (209) في المتن والهامش (106)).
ولقد دفعوا حجة خصومهم بقولهم إن العقود المقصودة بقانون (1855) هي العقود التي يجب أن تنقل الملكية بنفسها وتكون وحدها سبب إفادة التمليك لمن صدرت إليهم ولم يكن السبب الصحيح في باب التقادم الخمسي هو سبب التمليك (وكيف يكون كذلك والمفروض فيه أنه صدر من غير مالك) وإنما كان السبب في اكتساب الملكية هو وضع اليد المبني على السبب الصحيح، أما اعتمادهم على ظاهر المادة (3) التي تجيز لكل ذي حق عيني حق الدفع بعدم تسجيل العقود الناقلة للملكية فغير صحيح لأن الغرض من إيجاب تسجيل العقود الناقلة للملكية هو توطيد الأمن والثقة بالمعاملات العقارية عند أولئك الذين نالوا حقًا عينيًا وحفظوه بالتسجيل ولا يمكن اعتبار المالك في مزاحمته لمن تملك بالتقادم الخمسي من أولئك الذين كان يهمهم تسجيل السبب الصحيح لإعلامهم بالتصرف الوارد به ليتقوا الدخول معه في تصرفٍ ما على هذا العقار لأن خروج العين من يده وتركه إياها تحت يد الغير كافيان لإعلامه وإنذاره (راجع أوبري ورو جزء (2) المسألة (209) في المتن والهامش (106) ومتن دالوز تحت كلمة تقادم فقرة (535) وراجع على الأخص أسباب حكم مونبيليه 8 نوفمبر سنة 1881 وحكم محكمة كان 17 مارس سنة 1891 المنشورين في هذا الكتاب الأخير صـ 185).
وقد رجع هذا الرأي موسوعات دالوز والبنديكت وكارينتيه وهو رأي جويار جزء (2) نمرة (529) وبواليه جزء (7) على المادة (2265) ولرودي بريتاني جزء (2) نمرة (892) في مؤلفه في التسجيل) وهو رأي كولان وكابيتان صـ (968) طبعة ثالثة.
وهو المجمع عليه فقهًا وقضاءً في مصر (راجع هالتون جزء أول 200 – 201 دوهلس فقرة (127) وكامل بك مرسي صـ 400 من مذكراته في الملكية والأحكام الكثيرة المنشورة في مجموعات المحاكم الأهلية والمختلطة).
وأنت ترى أن فقهاءهم وفقهاءنا وقضاءهم وقضاءنا مع ما يعلمون من حكم القانون من إيجاب تسجيل العقود الناقلة للملكية العقارية والحقوق العينية لإمكان الاحتجاج بها على الغير لم يروا مع ذلك وجوب تسجيل السبب الصحيح في باب التقادم الخمسي لعدم اعتبارهم المشتري من الغير الذين يسمح لهم القانون بالاحتجاج بعدم التسجيل.
فهل جاءنا قانون التسجيل بجديد في هذا الباب؟ وهل يصح الآن للمالك الحقيقي أن يحتج على من يدعي اكتساب ملكه بالتقادم الخمسي بعدم تسجيل سببه الصحيح أم لا؟
لا نظن ذلك للاعتبارات الآتية:
أولاً: لأن قانون التسجيل الجديد وهو قانون خاص بأحكام انتقال الملكية العقارية بالعقود لم يلغِ من أحكام القانون المدني إلا ما كان من مواده متعلقًا بذلك ولهذا كانت المواد التي ألغاها لا تندرج إلا تحت أحكام الفصول المنعقدة لاكتساب الملكية بالعقود كالمادة (47) من الفصل الأول المنعقد للعقود والمادة (52) من الفصل الثاني المنعقد لعقد الهبة و(550) من الباب العاشر الخاص بالرهن والمواد (606) و(609) و(611) و(612) و(613) و(615) و(616) و(617) و(618) و(619) من الباب الثاني المنعقد لإثبات الحقوق العينية في حق مالكها السابق وحق الغير بالعقد الناقل للملكية (راجع المادة (606) التي تقرأ فيها (في جميع المواد تثبت الملكية أو الحقوق العينية في حق مالكها السابق بعقد انتقال الملكية... إلخ).
ولذلك لم تكن المادة (76) الخاصة بحكم انتقال الملكية بالتقادم الخمسي من هذه المواد الملغاة ولا يمكن لقانون التسجيل أن يلحقها بأي تأثير من إلغاء ضمني أو فسخ جزئي لمخالفة موضوعها لموضوعه.
وقد بينّا فيما سبق أن ليس السبب الصحيح في التقادم الخمسي هو الذي يكسب الملكية لصاحبه (فكيف يكون سندًا للملكية والمفروض فيه أنه لا ينقلها بالفعل لصدوره من غير المالك) وأن الذي يكسبه إياها هو وضع اليد المدة القانونية مبنيًا على سبب صحيح اشترطه القانون لتقرير حالة غير شرعية مستمرة زمنًا.
ثانيًا: لأنه ظاهر من مطالعة المواد الملغاة والمواد الجديدة أن الشارع لم يقصد إلا تقرير أحكام العقود الصادرة على الملكية العقارية من مالكيها فيما بين المتعاقدين وبالنسبة للغير ولا يمكن أن يتعرض لتسجيل أحكام العقود الصادرة من غير الملاك لأنه قرر بطلانها من قبل بالمادة (264) فلا يمكن أن نأخذ إذن من قانون التسجيل حكم إيجاب لتسجيل السبب الصحيح الصادر من غير المالك.
ثالثًا: ولا يقال إن قانون التسجيل أوجب تسجيل جميع العقود الصادرة بين الأحياء على الملكية والحقوق العينية ورتب على عدم تسجيلها عدم اعتبارها ناقلة ولا منشئة ولا مغيرة ولا مزيلة للحقوق العينية لا بين المتعاقدين ولا بالنسبة لغيرهم وأن لا يكون لها من الأثر إلا التزامات شخصية بين المتعاقدين - لا يقال إن قانون التسجيل الذي أوجب هذه الأحكام هو الذي أوجب تسجيل السبب الصحيح بعد أن لم يكن واجبًا لأنه يحاجج به المالك الحقيقي وهو من أصحاب الحقوق العينية على العين التي وضع صاحب السبب اليد عليها مدة الخمس سنوات.
لا يقال ذلك لأن الغرض من إيجاب تسجيل التصرفات الواقعة على العقار هو إذاعتها وإعلامها لمن يتعاملون عليها حتى يستطيع من يرغب قبول أي تصرف فيها أن يتعرف من أقلام التسجيل ما يوجد عليها من التسجيلات العقارية - وقد عين هذا الغرض لهم معنى الغير قانونًا في باب التسجيل فقالوا إنهم أولئك الذين تلقوا من عاقد واحد الملكية أو أي حق عيني آخر وحفظوه بالتسجيل من مشترٍ أو مرتهن أو صاحب اختصاص حتى تمكن المزاحمة بينهم ويتفاضلون بالتسجيل ولذلك أخرجوا أولئك الذين قد تكون لهم مصلحة في الدفع بعدم تسجيل العقد ممن لم يكن لهم حق عيني أصالةً أو كان لهم حق وتلقوه من عاقد آخر غير الذي تصرف فيها لصاحب العقد غير المسجل فلم يخولوا للدائن العادي عند التنفيذ على عقار مدينه حق الدفع بعدم تسجيل عقد من تلقاه من مدينه بشراء غير مسجل كما لم يجيزوا لمن تلقى عقارًا من زيد على أنه ملكه أن يحتج على من تلقاه من بكر على أنه مالكه بعقد غير مسجل وجعلوا الفصل في ذلك لمن تثبت له ملكية العقار في الواقع ونفس الأمر.
ولهذا لم يجيزوا للمالك الحقيقي أن يدفع بعدم تسجيل السبب الصحيح لأنه لا يمكن اعتباره مع صاحب السبب الصحيح خليفتين لعاقد واحد يتزاحمان على عقار واحد بعقدين متعارضين.
وبعد فهل فوت عدم تسجيل السبب الصحيح على المالك الحقيقي العلم به حقيقةً ثم دخل بسبب عدم إذاعته بالتسجيل مع (المتصرف بالسبب الصحيح) في معاملة جديدة تتعلق بالعقار؟ اللهم لا:
( أ ) لأن المالك الحقيقي لم يتلقَ من البائع حقًا عينيًا على العقار كان لا يتلقاه منه إذا علم بالسبب الصحيح.
(ب) ولأنه لا حاجة به إلى العلم بالسبب الصحيح من طريق التسجيل لأن انتزاع العين منه ووضع يد الغير عليها واستمراره على ذلك خمس سنوات أبلغ في الإعذار إليه من العلم بالتصرف من طريق التسجيل.
(جـ) على أنه مع ذلك لا يستطيع التثبت من خلو ملكه من التسجيلات الواقعة عليه من غيره لاستغراق هذا الغير ولأن الشهادات العقارية لا تزال تحرر من أسماء المتصرفين لا من العقار نفسه.
وكيف نوجب تسجيل السبب الصحيح لمجرد اشتراط القانون التسجيل لإفادة حكم نقل الملكية بين المتعاقدين وغيرهم ونحن نعلم أن السبب الصحيح لا ينقل ملكًا ما حتى إذا سجل لأنه صادر من غير مالك ولأن العقد لا ينقل للمشتري أكثر من حقوق البائع ألا يكون اشتراط تسجيل السبب الصحيح لإفادة الملك من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه الفقيه إذ لا التسجيل ولا السبب الصحيح لا مجتمعين ولا منفردين يفيدان الملك لواضع اليد والذي أكسبه إياه هو في الواقع وضع اليد مدة الخمس سنوات.

حامد فهمي
المحامي

الفروق العلمية بين المحاكم المختلطة والأهلية عبد الكريم رؤوف المحامي

مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة السابعة - مارس سنة 1927

أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الفروق العلمية
بين المحاكم المختلطة والأهلية
4 - مقارنة أنواع القضايا

إذا نظرنا إلى القضايا الجنائية يصح أن نقول إنها تكاد تكون معدومة بالمحاكم المختلطة وكثيرة كثرة هائلة بالمحاكم الأهلية.
ولكن إذا قورنت هذه القضايا الجنائية بمثيلاتها بالمحاكم الأوروبية كالفرنساوية مثلاً نجد الفرق هائلاً، فهناك أغلب الجرائم له أهمية إما من حيث شخص المجرم أو بالنسبة لفظاعة جرمه، وفي الغالب تكون أهمية هذه القضايا في الدافع إليها فإنك غالبًا تجد المجرم هناك يكتسب عطف المحلفين خصوصًا إذا كان الباعث له على الأجرام - كما هو الواقع في أغلب الأحوال - شريفًا.
أما هنا فإن أغلب القضايا تتراوح بين السرقات والمضاربات، والمجرمون فيها ليست لهم شخصية هامة إلا بعض قضايا نادرة وهذه يكفيها بعض المحامين الذين اشتهروا بحق بإتقان الدفاع الجنائي.
أما باقي القضايا فإن العمل فيها لا يلذ القاضي ولا المحامي إما لصغر الدعوى أو لصغر نفس المتهم أو لدناءة الجريمة في حد ذاتها.
نعتذر عن الخروج عن الموضوع الذي رسمناه لأنفسنا وهو المقارنة بين المحاكم الأهلية والمختلطة فقط، وبما أننا قد انتهينا من مقارنة الأعمال الجنائية نقول إن هناك فروقًا عظيمة بين نوعي العمل المدني والتجاري بين القضائين.
فالعمل التجاري يكاد يكون معدومًا في المحاكم الأهلية بينما تجد له دوائر وأقلام كتاب خاصة بالمحاكم المختلطة، وربما كان هذا موضوع مقال خاص.
كذلك تجد أقلامًا لا أثر لها بالمحاكم الأهلية مثل أقلام التفاليس والمزادات والتوزيعات والأمور المستعجلة وغيرها مما سيكون أيضًا موضوع مقالات خاصة.
وعلى ذكر القضايا التجارية نقول إن المحامي المصري نصيبه منها في المحاكم المختلطة قليل لأنه ويا للأسف لا يحتك مصري بأجنبي إلا ويكون دائمًا الأول مدينًا والثاني دائنًا، وبصرف النظر عن الكفاءة يميل المتقاضون إلى المحامين الذين من جنسياتهم، فالموكل المصري دائمًا مدين ومركز الدفاع عنه صعب لدرجة أنك تجد دائرة مخصوصة لقضايا الكمبيالات بالمحاكم المختلطة تصدر كل أسبوع نحو أربعين حكمًا (هذا بخلاف القضايا الجزئية) وأكثر من ثلاثة أرباع هذه الأحكام على مصريين لأجانب.
بقيت القضايا المدنية فإذا قارنتها ببعضهما تجد النتيجة الآتية وهي أن القضايا الأهلية أكبر عددًا بالنسبة لعموم القطر ولكن القضايا المختلطة أكثر قيمة.
مرجع ذلك الوحيد هو أن الأجانب هم وسط الثروة والمعاملات الكبرى وقلما تجد عملاً هامًا ليس لأجنبي يد فيه.
تجد هناك مثلاً قضايا توزيع كثيرة تتراوح قيمتها بين 10.000 جنيه و30.000 جنيه فما فوق، تجد قضايا ناشئة عن إجراءات نزع ملكية بكميات عظيمة من الأطيان كلها مرهونة لبنوك أجنبية.
تجد قضايا المحلات التجارية العظمى التي تطالب في الغالب أعيان المصريين بمبالغ باهظة.
تجد قضايا الأجانب ضد الحكومة بالنسبة لمنازعات هامة.
- قضايا الإيجار المطلوب لشركات عقارية اختصاصها استثمار الأطيان وبيعها بالتقسيط.
- قضايا المسؤولية على الشركات الأجنبية مثل شركة الترامواي وغيرها.
- القضايا الخاصة الشهيرة مثل: قضية الضرائب ضد شركة هليوبوليس - قضية صندوق الدين ضد الحكومة بخصوص مصاريف حملة السودان - قضية توت عنخ آمون - قضية أسهم قنال السويس - أسهم شركة هليوبوليس - الويركو - قضية مدام فولك بخصوص استقلال مصر - قضية معمل الغزل لما ضربت عليه الحكومة ضريبة أيام كرومر - قضية مسؤولية حادث السباق التي رُفعت على الحكومة المصرية والنادي - قضية البحث عن المسؤول في حريق هائل حصل بمخازن القطن بإسكندرية... وغير ذلك مما يطول عدده.
بالأسف في أغلب هذه القضايا العنصر المصري مدين والمحامي المصري يضعف مركزه بضعف مركز موكله المصري.
خذ مثلاً جلسة المزادات بالمحاكم المختلطة تجد محامي البنك العقاري كل مأموريته في هذه الجلسة أن يحضر ويطلب البيع أو تأجيله أو إيقافه أما خصمه فهو في الغالب محامٍ يطلب عن مصري إما إعطاء مهلة أو بطلان الإجراءات أو إيقاف البيع لرفع دعوى استحقاق ومأموريته هذه شاقة بينما رد محامي البنك العقاري لا يكلفه أقل عناء لأن المحاكم تعلم أن هذا البنك له أقلام منتظمة تبحث العقود بحثًا دقيقًا قبل تتميمها، فضلاً عن أنه في الغالب لا يكون لطلب خصم البنك أي وجاهة - على هذا القياس يمكنك أن تقارن بين عمل المحامي المصري وزميله الأجنبي بالمحاكم المختلطة.
أما في المحاكم الأهلية فإنك وإن وجدت قضايا عديدة إلا أنك لا تجد قضايا ذات قيمة تشجع على دقة البحث وعناية الخدمة مثلما تجد بالمحاكم المختلطة - يرجع ذلك إلى فقر الأهالي وإلى أن رقي مختلف الطبقات وطوائف الأمة سلسلة مرتبطة بعضها ببعض ومعقدة يصعب إصلاحها إن لم تدركها العناية الإلهية.
يضاف إلى ذلك توسع المحاكم المختلطة في نظرية الصالح الأجنبي، وقبولها بلا استثناء نظرية المسخر الذي يحول له دين قابل للتحويل بقصد تحصيله.
وتضاف الطرق التي يتبعها المحامون بالمحاكم المختلطة لخلق صالح أجنبي مثل إدخال صاحب رهن عقاري أو غير ذلك من الأسباب التي تسلب من المحاكم الأهلية عددًا عظيمًا من القضايا.
أضف إلى ذلك وجود أقلام العقود الرسمية بالمحاكم المختلطة والتي لم أفهم لغاية الآن ما هي العلة في عدم وجودها بالمحاكم الأهلية، وربما كان ذلك موضوع مقالة خاصة.
هذه بعض مقارنات مختصرة عن أنواع العمل بالمحكمتين، وأرى أنه لن يتغير الحال إلا إذا تغيرت أحوالنا جميعها وأصبحنا أصحاب ثروات وهيهات أن يكون هذا إلا بعد زمن بعيد.

عبد الكريم رؤوف
المحامي

أوجه النقض التشريعي لقانون التسجيل الجديد عبد السلام بك ذهني

مجلة المحاماة

أبحاث قانونية وشؤون قضائية
في أوجه النقض التشريعي
لقانون التسجيل الجديد
في كيفية سد هذا النقص وطريقة علاجه
بيان إلى لجنة الحقانية بالبرلمان المصري

الحقوق العينية العقارية والإطلاق فيها بالمادة الأولى من قانون التسجيل - الوصية - التنازع بين المشتري من المورث (ولم يسجل عقده) وبين المشتري من الوارث (وقد سجل عقده) - تنبيه نزع الملكية - التخارج - التملك بالإرث - الحكر والخلو وعقد الإجارتين - حجة الوقف - ورقة الضد - الالتزامات الشخصية ومرماها القانوني الصحيح - تسجيل عرائض الدعاوى والمادة (7) من قانون التسجيل - عيوب المادة (7) المذكورة وضرورة معالجتها - دعوى إبطال تصرفات المدين الصورية، والمادة (7) - الالتزامات الشخصية والمادة (7) - المادة (7) ودعاوى طلب الحكم بصحة التعاقد، وإثبات التوقيع إمضاءً أو ختمًا أو بصمة إصبع والتسليم
قد أفضنا القول في بيان قانون التسجيل الجديد وإيضاح غوامضه، وكتبنا في غير موطن واحد من مواطنه، ونشرنا ذلك كله في كتب ورسائل لنا خاصة، وبالمجلات العلمية الدورية باللغة العربية والفرنسية (مجلة جازيت المحاكم المختلطة عدد أكتوبر الماضي سنة 1926 ورقم العدد (192) صفحة 299 - 300) وأخذ القضاء الأهلي والمختلط يؤيدنا فيما ذهبنا إليه من تقرير الأحكام الأولى لذلك القانون، بعد أن أبدى القضاء أولاً رأيًا مخالفًا لرأينا (انظر مجلة جازيت المحاكم المختلطة المجلد (16) صـ 301 - 306 رقم 299 - 307) وأخذ الفقه في مصر يؤيدنا أيضًا في وجهة النظر التي اعتمدنا عليها في شرح هذا القانون (انظر المجلة المذكورة صـ 297 - 299).
أما وقد ألممنا بهذا القانون ووقفنا على دقائقه فقد آن لنا الآن أن نبين هنا أوجه النقص فيه من الوجهة التشريعية، وكيفية معالجة هذا النقص، حتى تستطيع لجنة الحقانية بالبرلمان المصري الوقوف على ما حف هذا القانون من أوجه النقص والعيوب المختلفة، وحتى يخرج لنا قانون معدل صالح لأن يكون أداة تشريعية في تقويم المعوج من النظم العقارية، بحيث لا تضطرب معه الأحكام القضائية والآراء الفقهية بما رأيناه بشأن هذا القانون المعروض الآن على لجنة الحقانية بالبرلمان المصري.
وأملنا في برلماننا المصري أن يعير أوجه النقد المختلفة لهذا القانون جانب الرعاية، وأن يقسطها بقدر ما حام حول القانون هذا من مختلف الآراء وأوجه النظر، حتى يقطع بذلك دابر الخلافات المقلقة في تفسير قانون ترتكز إليه الحركة العقارية المصرية، وبيان ذلك:

الحقوق العينية العقارية

قضت المادة الأولى بتسجيل العقد الخاص بحق عيني عقاري حتى يكون حجة على العاقدين وعلى الغير معًا، وعند عدم تسجيله فلا يكون له من الأثر بين العاقدين سوى تقرير التزامات شخصية.
فمن حيث إطلاق القول في الحقوق العينية العقارية، بما فيها الملكية العقارية حتمًا، فقد أحسن الشارع المصري في هذا الإطلاق، بحيث يتناول هذا التعميم كل حق عيني عقاري يتقرر للأفراد على العقارات، ولم يفعل الشارع ما فعله بالمادة (611) مدني القديمة الملغاة التي عينت الحقوق العينية العقارية الخاضعة للتسجيل، ولكن بقيت مع ذلك حقوق أخرى يشتبه في عقاريتها أو تجعل قريبة جدًا من الحقوق الأخرى الخاضعة للتسجيل، وذلك:
إن الشارع في قانون التسجيل الجديد لم يقرر خضوع الحقوق الآتية للتسجيل:
1 - حق انتقال الملكية بالإيصاء:
نعم وإن كانت الوصية يرجع في أحكامها إلى ملة الموصي (المادة (55) أهلي) أي إلى الأحكام المقررة بقوانين الأحوال الشخصية، إلا أن لائحة المحاكم الشرعية الأخيرة الصادرة سنة 1910 قررت بالمادة (100) بأنه لا تسمع أمام المحاكم الشرعية دعوى الوصية أو الرجوع فيها بعد وفاة الموصي عند الإنكار، إلا إذا وجدت أوراق رسمية أو مكتوبة جميعها بخط المتوفى وعليها إمضاؤه، وعلى ذلك فلا بد فيها من الكتابة عند الإنكار، ومتى لا تثبت إلا بالكتابة وهي في ذاتها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع (المادة (86) من مرشد الحيران والمادة (530) من الأحوال الشخصية لقدري باشا) وهي تقرر حقًا عينيًا عقاريًا، بما يدخل في ذلك أيضًا الملكية ذاتها، فكان يجب على ذلك كله أن تكون خاضعة للتسجيل، حمايةً للغير على الأقل، وهو الغير المعرض لخطر الوصية وهو لا يعلم بها، وذلك أنه يحصل أن يتصرف الوارث في العقار الذي أوصى به مورثه وهو يجهل الوصية، إلى شخص حسن النية لا يعلم بها أيضًا، وكل ما يستطيع المشتري عمله إنما هو التأكد فقط مما يأتي:
أولاً: أن البائع له وارث، ويثبت ذلك بالإعلام الشرعي المثبت للوراثة أو بالحكم الشرعي القاطع فيها.
ثانيًا: أن العقار مملوك للمتوفى حتى الوفاة، ولم يتصرف فيه المتوفى قبل الوفاة تصرفًا عينيًا عقاريًا.
ويثبت ذلك بالاطلاع على سجلات التسجيل العامة فإذا تأكد المشتري من ذلك كله (نقول المشتري، إيجازًا في البيان، والصحيح أن يقال بأن الغير هو كل من يتقرر له حق عيني عقاري، مشتريًا كان أو متبادلاً أو مرتهنًا رهنًا عقاريًا حيازيًا أو غير حيازي، الرهن الرسمي، أو صاحب اختصاص) صحت عزيمته على الشراء، والطمأنينة تحف به، ولكن لا يلبث أن يفاجأ من شخص آخر يدعي أنه موصى إليه بالعقار محل البيع، والمشتري لا يستطيع قانونًا معرفة الوصية ومبلغ مرماها على عقارات المورث ما دام أنها غير خاضعة للتسجيل.
لذا نرى ضرورة خضوع الوصايا بالحقوق العينية العقارية للتسجيل، مع الاحتفاظ حتمًا بأحكام المادة (55) مدني من حيث ضرورة الرجوع إلى أحكام ملة الموصي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، ونرجو إلى اللجنة البرلمانية، لجنة الحقانية، مراعاة ذلك فيما تعده الآن من مشروع النظر في قانون التسجيل الجديد.
ويؤيدنا في وجهة نظرنا من ضرورة خضوع الوصية العقارية للتسجيل، فوق ما أشرنا إليه من خطر عدم التسجيل من الوجهة العملية، ما يأتي:
أولاً: أن مشروع السجلات العقارية الذي أقرته اللجنة الدولية المختلطة سنة 1904 قرر هذه القاعدة (المادة (28) منه والمادة (14) - انظر في ذلك كتابنا في الأموال صـ 857 ن 587 - وعلى الأخص صـ 869 ن 593 الفقرة 5).
ثانيًا: أن القانون المختلط جرى على قاعدة حماية الغير بقدر ما يمكن، حتى تخف وطأة الأضرار الناشئة عن عيوب القانون فيما يتعلق بنقل الحقوق المدنية العقارية.
ومن ذلك ما قررته المادة (78) مدني مختلط بأن (... الأحكام المتعلقة بفسخ الملكية في الأموال الثابتة ورد ما لمستحقيها بسبب تجاوز الواهب حق النصاب (légitime réserve، ويراد بالواهب هنا الموصي) أو عدم إبقائه لورثته المفروض لهم شرعًا quotité disponible أو نحو ذلك، فلا تضر بحقوق من انتقلت إليهم ملكية الأموال المذكورة من الموهوب له أو الموصى إليه) وإذا كان الشارع المختلط قد حمى هنا المشتري من الموصى إليه، فإن الحماية ضرورية أيضًا للمشتري من الوارث، ولعل حماية هذا الأخير أكثر ضرورة، لأنه لا يعلم بالوصية في ذاتها لأنها غير مسجلة، وأما المشتري من الموصي فإنه من المفروض عليه أن يعرف أحكام التصرف بالإيصاء المقررة بقانون الأحوال الشخصية للموصي، ولكن الشارع المختلط راعى تعدد هذه القوانين واختلافها فعمل على حماية المشتري من الموصى إليه، من الطريق الأقرب، مراعاةً للاعتبارات العملية، ولم يقف الشارع المختلط في رغبته الأكيدة في حماية حملة الحقوق العينية العقارية، عند الإيصاء، بل أخذ بها في مواطن أخرى (انظر في ذلك مثلاً ظاهرًا فيما قررته المادة (107) مدني مختلط من حيث عدم تأثر حقوق الغير بفسخ وإبطال العقود المملكة للغير: راجع في ذلك كتابنا في التأمينات صـ 123 ن 119 وما بعدهما، وراجع فصلاً خاصًا أفردناه لهذا الغرض برسالتنا (في التسجيل وحماية المتعاقدين والغير) صـ 85 ن 103 تحت عنوان (البطلان والتشريع المختلط) - وانظر الأموال لنا صـ 830 فقرة 4).
2 - في التنازع بين المشتري من المورث وبين المشتري من الوارث:
قامت ضجة قضائية وفقهية بشأن هذا التنازع، وذلك فيما إذا كان المشتري من المورث لم يسجل عقده، والمشتري من الوارث قد سجل عقده، وفي أيهما أفضل من الآخر، ولقد تناحرت الآراء في هذا الموطن، فقال رأي بتفضيل عقد المشتري من المورث ولو أنه غير مسجل، وقال رأي آخر بتفضيل عقد المشتري من الوارث، وهو العقد المسجل، وقد أخذنا بالرأي الثاني (انظر في ذلك كتابنا في إثبات الالتزامات ج 2 صـ 295 - 298 - كتابنا في الأموال صـ 937 ن 641 - وعلى الأخص الهامش 3) وعللناه بالاعتبارات العملية المقررة الآن في التسجيل.
ونرى هنا لفت نظر لجنة الحقانية بالبرلمان إلى ضرورة الإشارة إلى هذا الإشكال عند تعديل قانون التسجيل، ولو أن تكون الإشارة بالأعمال التحضيرية، أي تقرير اللجنة التي ترفعه إلى البرلمان، ولو أن في تقرير قاعدة عدم انتقال الملكية بين الطرفين قد أجهز على هذا النزاع، إلا أن هناك احتمالات جدلية للنزاع، بما أشرنا إليه في كتابنا في الأموال (صـ 938).
3 - تسجيل تنبيه نزع الملكية:
احتدمت الآراء هنا وهناك بشأن ما إذا كان تسجيل تنبيه نزع الملكية قد يترتب عليه تقرير حق عيني عقاري على العقار المنزوعة ملكيته أم لا، وقد رجحنا نحن ضرورة اعتبار تسجيل التنبيه هذا حجة على الغير (راجع الشرح الوافي لهذه المسألة في كتابنا في إثبات الالتزامات ج 2 صـ 412 و414 - الأموال لنا صـ 940 ن 641) ونرى ضرورة الإشارة إلى ذلك بنص التعديل الجديد لقانون التسجيل.
4 - التخارج:
هو عقد يتخارج به الوارث لبقية زملائه عما يملكه بالإرث منقولاً كان أو عقارًا، في مقابل ما يتقاضاه نقدًا من الورثة، ويرى القضاء المختلط عدم خضوع عقد التخارج للتسجيل فيما إذا انصب على نصيب الوارث المتخارج برمته، ويقول بالتسجيل فيما إذا انصرف التخارج إلى عقار أو عقارات معينة بالذات، أما نحن فإنا نقرر ضرورة التسجيل في الحالتين لأن الخطر على الغير فيهما واحد (الأموال لنا - صـ 828 الحالة الثالثة).
5 - التملك بالإرث:
قرر مشروع السجلات العقارية الذي أقرته اللجنة الدولية سنة 1904 ضرورة إخضاع إعلام الوراثة للتسجيل حمايةً للغير، وبقيود وأوضاع معينة، بحيث لا يترتب على عدم التسجيل سوى مجرد غرامة بسيطة (الأموال صـ 869 ن 593).
ونحن وإن كنا نرى ضرورة إخضاع التخارج لعملية التسجيل، بصرف النظر عن النظرية المختلطة، من حيث التفرقة بين التصرفين المشار إليهما، ولكنا لا نقر خضوع التملك بسبب الإرث للتسجيل، وعلى هذا نقر نظرية الوارث الظاهر hériltier apparent، وهي النظرية القائلة بصحة التصرف الحاصل ممن لم يكن في الحقيقة وارثًا، ولكنه ظهر أمام الجماهير، باعتباره وارثًا، واعتقد فيه الناس ذلك، فإذا جاء الوارث الحقيقي وطعن في التصرف الحاصل ممن لم يكن وارثًا، وجب رفض طعنه والحكم بصحة التصرف، والتعليل القانوني لصحة هذا التصرف أن الوارث الحقيقي قد أخطأ في عدم الإعلان عن نفسه، وعليه أن يجبر الضرر الذي لحق الغير وهو مشتري العقار من غير الوارث الحقيقي، أي أصبحت ذمته مشتغلة بالتزام، وهو جبر الضرر. وبما أن الأصل في الوفاء بالالتزام أن يكون بنفس الالتزام نفسه أي يكون الوفاء عينيًا، ما دام لا يمس الحرية الشخصية، فإنه يُقضَى في هذه الحالة بصحة التصرف باعتبار ذلك وفاءً أصليًا عينيًا (الأموال لنا صـ 847 ن 0484 - الالتزامات لنا، في النظرية العامة صـ 169 ن 180) ويحسن الإشارة إلى هذه النظرية بتقرير لجنة الحقانية البرلمانية، ولو أن الأخذ بها بمصر وبفرنسا متفق عليه إجماعًا فقهًا وقضاءً.
6 - الحكر والخلو وعقد الإجارتين:
الحكر عقد إيجار عن أرض بناء موقوفة أو غير موقوفة، لأجل معين أو غير معين في مقابلة أجرة شهرية أو سنوية، وأحكامه مستقاة من الشريعة الإسلامية، وأقرها القضاء المصري أهليًا ومختلطًا (الأموال لنا صـ 390 ن 275 وما بعدهما) ولما كانت الحقوق الخاضعة للتسجيل واردة بالقانون على سبيل الحصر والتعيين (الأموال لنا صـ 836 ن 577) ولم يرد الحكر بها، فلا يصح القول في عهد القانون المدني، ولا في عهد قانون التسجيل الجديد، بخضوع الحكر للتسجيل، وإنا نرى أنه من الضروري خضوع هذا العقد للتسجيل، أخذًا من طريق القياس بما قررته المادة (613) مدني والمادة (2) من قانون التسجيل الجديد، من ضرورة خضوع عقود الإيجار للتسجيل إذا زادت مدتها عن تسع سنوات، على أن مشروع اللجنة الدولية المختلطة الموضوع سنة 1904 بشأن السجلات العقارية، قد أقر هذه القاعدة أيضًا (الأموال صـ 869 ن 593).
والخلو أو خلو الانتفاع يحاكي الحكر، وهو عقد إجارة لزمن غير محدد عن أرض موقوفة مبنية أو غير مبنية أو زراعية، وتختلف عن الحكر في بعض أحكامه (الأموال صـ 392 ن 276) ونرى ضرورة خضوعه للتسجيل أيضًا أخذًا من طريق القياس بالحكر.
وأما عقد الإجارتين فهو عقد تؤجر به جهة الوقف مكانًا مبنيًا إجارة مستمرة لأجل غير مسمى، ويدفع المستأجر مبلغين، أولهما معجل وثانيهما مؤجل، وأقرت هذا العقد الإرادة الشاهانية الصادرة في 7 صفر سنة 1284 (10 يونيو سنة 1867، أي في نفس يوم صدور الإرادة الشاهانية الصادرة بالإجازة للأجانب بالدولة العثمانية بتملك الحقوق العينية العقارية فيها - شرح القانون المدني لفتحي باشا زغلول صـ 0291 - قاموس الإدارة والقضاء لجلاد بك، النسخة الفرنسية ج 6 صـ 576 - 577 تحت كلمة Wahf - القانون الدولي الخاص للمرحوم الدكتور أبو هيف بك صـ 531 ن 386 هامش 16 - دي هلس ج 4 صـ 386 ن 04 - الأحوال لنا صـ 393 ن 277) ونرى خضوعه للتسجيل أيضًا أخذًا بالقياس في الحكر والخلو.
7 - حجة الوقف:
الوقفية خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية من حيث أصلها، وخاضعة لأحكام لائحة المحاكم الشرعية الأخيرة الصادرة سنة 1910 من حيث شكلها، أي يجب أن تكون حاصلة أمام القاضي الشرعي، أي رسمية، ثم تسجل بالمحكمة الشرعية بما هو معروف، وقد رأت اللجنة الدولية المختلطة في مشروعها الأول الخاص بتوحيد أقلام التسجيل بمصر سنة 1904 ضرورة خضوع الوقفية إلى مبدأ التسجيل العام، أي السجلات العامة المعروفة، ولم يرَ قانون التسجيل الأخذ بهذا الرأي، والذي نراه ضرورة خضوع الوقفية للتسجيل العام المقرر بشأن السجلات العامة، وذلك توفيرًا على الباحثين من تشعب طرق البحث لديهم وتنوع مواطن التسجيل عندهم.
8 - ورقة الضد:
قام خلاف بين القضاء الفرنسي من جانب، والفقه الفرنسي من جانب آخر، بشأن ما إذا كان تسجيل ورقة الضد يعتبر حجة على الغير أم لا، وعلة الخلف ترجع إلى ما إذا كانت هذه الورقة تعتبر في ذاتها قد ردت الملكية إلى صاحبها الأول، فتخضع للتسجيل، باعتبارها ناقلة للملكية، أم أنها لا تعتبر ناقلة للملكية، فلا تخضع للتسجيل، ويكون تسجيلها وقتئذٍ غير نافذ على الغير، باعتبار أن الأوراق الخاضعة للتسجيل قد وردت على سبيل الحصر، وقد أثار هذا الخلاف حكم النقض الفرنسي الصادر في 18 مايو سنة 1897 الذي قال بالرأي الأول، وانتصر له فيه (دي لوان)، وقال بعكسه (تيسييه وبارد) وقال بالرأي الأول القضاء المصري، وقلنا نحن بالرأي الثاني (راجع إثبات الالتزامات لنا ج 1 صـ 333 وما بعدها، سنة 1914) ولكنا في رسالة التسجيل سنة 1926 عدلنا عن هذا الرأي وأخذنا بالرأي الأول القائل بنفاذ ورقة الضد المسجلة على الغير، ورجعنا في العدول إلى الاعتبارات الجديدة التي أقرها التسجيل الجديد، وراعتها النزعة التشريعية الجديدة، وعلى الأخص فيما يتعلق بتسجيل عقد الإيجار في العقار المرهون رهنًا عقاريًا حيازيًا (قانون 11 ديسمبر 1923 رقم (49) أهلي و(50) مختلط) وفي تسجيل عرائض الدعاوى بقانون التسجيل الجديد (رسالتنا في التسجيل صـ 124 ن 130 مكرر 2 وما بعدهما).
مما تقدم نرى أن عبارة الإطلاق في الحقوق العينية العقارية الواردة بالمادة الأولى من قانون التسجيل، عبارة لا زالت توجد الخلاف القديم قائمًا، ونرى قطعًا لدابر هذا الخلاف في مسألة دقيقة مثل مسألة التسجيل أن يضاف إلى المادة الأولى من قانون التسجيل عبارة أخرى تشير إلى المسائل الثمانية التي ذكرناها هنا كالوصية والتخارج، إلى آخر ما أوردناه.

الالتزامات الشخصية

أما الالتزامات الشخصية فقد أفضنا بشأنها القول في أكثر من موطن واحد من المواطن القانونية، وأقرب العهد ما كتبناه برسالتنا (في التسجيل وحماية المتعاقدين والغير) (صـ 14 ن 2 وما بعدهما)، وما كتبناه باللغة الفرنسية بمجلة جازيت المحاكم المختلطة (المجلد 16 صـ 299 - ..) وقررنا، وأقرنا عليه القضاء المصري الأخير أهلي ومختلط، بأن الالتزامات الشخصية المنوه عنها بالمادة الأولى من قانون التسجيل ليست هي مجرد المطالبة بتعويضات نظير عدم تمكين البائع للمشتري من تسجيل عقد البيع، إنما هي الالتزامات الناشئة عن طبيعة العقد الخاص بالحق العيني العقاري، وعلى ذلك تجوز المطالبة قضائيًا بالحكم بصحة العقد في ذاته وهو غير مسجل، وتجوز المقاضاة بشأن إثبات صحة التوقيع بالختم أو الإمضاء أو بصمة الإصبع أيضًا، وتجوز المطالبة بتسليم العقار ولو أن العقد غير مسجل، وكل ذلك يرجع إلى أن الالتزامات الناشئة عن طبيعة العقد، التزامات مستقاة من نفس العقد، باعتبار أن البائع هو بائع ملتزم بواجبات وله حقوق، وباعتبار أن المشتري ملتزم هو الآخر بواجبات وله حقوق باعتباره مشتريًا، وأما تسجيل العقد فإنه لا ينصرف، ولا ينصرف فقط، إلا لنقل الملكية من حيث هي، وقد بينّا ذلك برسالة التسجيل بيانًا كافيًا، أوردنا فيه شيئًا من المقارنة بين العقد الحاضر غير المسجل، والملكية الحيازية عند الرومان (رسالتنا في التسجيل صـ 8 ن 13 وما بعدهما) وأجزنا الشفعة في عقد المشتري غير المسجل، وأيدنا القضاء في ذلك ما عدا بعض أحكام ذهبت إلى عكس ما قررناه، وهي قليلة جدًا بجانب الأحكام الأخرى التي رأت رأينا (انظر مجلة جازيت المحاكم المختلطة المجلد 16 صـ 301 - 306 - مجلة المحاماة المجلد (7) عدد نوفمبر سنة 1926 صـ 144 رقم (103) وانظر حكمًا لم يُنشر بعد صادر من محكمة الاستئناف بمصر في 10 يونيه سنة 1926 ومنشور بمجلة المحاماة في العدد (3) من المجلد (7) وهو عدد ديسمبر سنة 1926).
وعلى ذلك نرى أن نلفت نظر لجنة الحقانية البرلمانية، إلى ضرورة أن يذكر بالمادة الأولى من قانون التسجيل عبارة تشير في جلاء ووضوح، إلى أن الالتزامات الشخصية، هي الالتزامات الناشئة عن طبيعة العقد، وبذا يقطع خط الرجعة على هذه الخلافات المزعجة القائمة الآن في أحكام المحاكم، حتى يطمئن الناس على حقوقهم، من طريق الإفلات من التناقض في الأحكام، ذلك التناقض الذي يذهب بأكبر خصيصة للحق، وهي خصيصة الطمأنينة لدى صاحب الحق.
ومن نتائج الأخذ بما قررناه بشأن الالتزامات الشخصية، أن يترتب عليه أن العقد إذا تسجل، كان له أثر رجعي على الماضي، بحيث يعتبر المشتري مثلاً مالكًا من يوم صدور العقد، لا من يوم تسجيله (الأموال لنا صـ 917 ن 927) على شرط عدم المساس بحقوق الغير حسن النية، فيما إذا ترتب له مصلحة عقارية على العقار قبل تسجيل عقد المشتري.
وعلى ذلك نأمل أن تشير اللجنة إلى ضرورة الأخذ بالأثر الرجعي للتسجيل قطعًا لما يحتمل أن يقع من الخلافات المستقبلة.

تسجيل عرائض الدعاوى

لما كانت الأوراق الخاضعة للتسجيل واردة على سبيل الحصر، فكانت تخرج عرائض الدعاوى منها، لعدم ورودها ضمن مواد القانون المدني الخاصة بتسجيل الأوراق المتعلقة بالحقوق العينية العقارية (الأموال لنا صـ 836 ن 577 - انظر مع ذلك مقالاً بإمضاء M. P بمجلة جازيت المحاكم المختلطة المجلد الأول سنة 910 صـ 143) ولكن جاء القانون الجديد للتسجيل ورأى تقرير قاعدة تسجيل عرائض الدعاوى، حتى تكون الأحكام الصادرة فيها نافذة على الغير من يوم التسجيل، وقررت في ذلك المادة (7) من القانون الجديد ما يأتي: (يجب التأشير على هامش سجل المحررات واجبة التسجيل بما يقوم ضدها من دعاوى البطلان Annulation أو الفسخ Résolution أو الإلغاء Révocation أو الرجوع فيها rescision فإذا كان المحرر الأصلي لم يسجل فتسجل تلك الدعاوى، وكذلك دعاوى استحقاق revendication أي حق من الحقوق العينية العقارية يجب تسجيلها أو التأشير بها كما ذكر) وهذه الدعاوى المذكورة بهذه المادة هي خمس، وهي البطلان والفسخ والإلغاء والرجوع والاستحقاق، وقد أفضنا برسالتنا في التسجيل وحماية المتعاقدين والغير (صـ 127 ن 134 وما بعدهما) في بيان نقص هذه المادة وما أصابها من شوائب قانونية وفنية، وما حفها من غموض أيضًا، بشأن المذكرة الإيضاحية، ونرى أن نوجز ذلك هنا:
1 - أن الشارع لم يحسن في اختيار الألفاظ الأربعة الأولى المقابلة للدعاوى الأربع الأولى، وهي البطلان والفسخ والإلغاء والرجوع وكان الأولى به أن يقول بالبطلان annulation اكتفاءً به عن بقية الألفاظ الثلاثة التي نقدها الشارحون الفرنسيون والتي عابوا على شارعهم ذكرها، لأنها كانت تستعمل في عصور سابقة وكانت تتفق مع الحالات الاجتماعية السالفة (راجع رسالتنا في التسجيل صـ 62 ن 67 وما بعدهما) ولا معنى مطلقًا لاستخدام الكلمات الثلاث هذه، وهي الفسخ والإلغاء والرجوع، ما دام أن البطلان يؤدي إلى المعنى المرجو.
2 - وقد يوهم نص المادة (7) المذكورة أنه لا يشمل دعوى إبطال تصرفات المدين، ودعوى الصورية، وقد جاءت المذكرة الإيضاحية وأيدت هذا الوهم (المحاماة المجلد (3) صـ 463 العمود الثاني في آخره - جازيت المحاكم المختلطة المجلد (13) صـ 84 العمود الثاني في أوله) وقد اضطربت هذه المذكرة الإيضاحية في أصلها الفرنسي، وجاءت ترجمتها العربية مضطربة أيضًا (رسالتنا في التسجيل صـ 133 الهامش الأول) وكان من الواجب على الشارع أن يجعل دعويي إبطال تصرفات المدين والصورية خاضعتين لحكم المادة (7) المذكورة أي لأجل أنه يكون الحكم فيهما نافذًا على الغير، يجب تسجيل عرائض الدعوى فيهما، ويكون النفاذ من وقت التسجيل وأما القول من جانب المذكرة الإيضاحية بأن العمل يبقى بشأن هاتين الدعويين كما كان من قبل، أي قبل صدور قانون التسجيل الجديد فهو قول لا يتفق مع الغرض المرجو من التسجيل الجديد، لأن العمل السابق على قانون التسجيل جرى لدى القضاء الفرنسي والمصري أيضًا، على اعتبار العقد الصوري غير موجود، وأنه يترتب على عدم وجوده، إبطال كل تصرف حاصل للغير حسن النية، وهو الغير الذي اشترى من المشتري الصوري، وهو لا يعلم بما يشوب عقد المملك له، وقد انتقدنا برسالتنا في التسجيل (صـ 79 ن 93 وما بعدهما) هذا القضاء الغريب، ورأينا ضرورة حماية الغير حسن النية، وأيدنا ذلك بأدلة قانونية واعتبارات عملية.
ولذا نرى أنه لا بد وأن يدخل في البطلان بالمادة (7) المذكورة، دعويا إبطال تصرفات المدين والصورية.
3 - وإذا كان لا بد حينئذٍ من إدخال هاتين الدعويين، إبطال تصرفات المدين والصورية، ضمن الدعاوى التي تخضع العرائض فيها للتسجيل، فإنه يجب أن تصاغ المادة (7) المذكورة بصيغة أخرى تلتئم مع التعميم الذي نقول به، إلا إذا اكتُفي وقتئذٍ بكلمة البطلان باعتبارها تتمشى لغويًا أيضًا على دعويي إبطال تصرفات المدين والصورية.
4 - رأينا في تحديد المعنى الصحيح لعبارة (الالتزامات الشخصية) الواردة بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد، أنه يجوز للمشتري مثلاً الحق في رفع دعوى الحكم بصحة التعاقد أو طلب الحكم بصحة التوقيع، إمضاءً أو ختمًا، وهو التوقيع المنسوب للبائع الذي أبى على المشتري تمكينه من التسجيل، أو طلب الحكم بتسليم العقار إليه، وهذه الدعاوى الثلاثة وهي من الأهمية بقدر ما رأينا، لا تدخل ضمن الدعاوى التي تخضع فيها عرائضها للتسجيل، ويترتب حينئذٍ على عدم خضوع هذه الدعاوى للتسجيل، وعلى عدم إخبار الغير بوجودها لدى القضاء، أن هذا الغير يشتري العقار أثناء قيام الخصومة القضائية، ويشتري وهو مطمئن، لأنه لا يعلم بوجود الدعاوى، ما دام لم تتسجل العرائض فيها.
وبناءً على هذا الخطر الذي يداهم المدعي في الدعاوى الثلاثة المتقدمة، وهي دعوى صحة التعاقد وإثبات التوقيع والتسليم، نرى ضرورة وضع المادة 7 وضعًا قانونيًا بحيث يشمل بلا ريب هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى.
هذه هي أهم المسائل البارزة في قانون التسجيل الجديد، أوردناها هنا بشيء من الإيجاز، نرجو فيه إلى لجنة الحقانية بالبرلمان، أن تتفضل وتعيرها جانب الرعاية، من النظر التشريعي، حتى يخرج لنا قانون معدل، تطمئن معه الحقوق لدى أصحابها والله الموفق.


عبد السلام بك ذهني
القاضي بمحكمة مصر الأهلية