الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 3 ديسمبر 2021

تأثير قانون التسجيل الجديد على قضايا الشفعة حامد فهمي

مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الخامسة - عدد يونيه سنة 1925

تأثير قانون التسجيل الجديد على قضايا الشفعة
من المسائل التي ابتدأ المشتغلون بالقانون ببحثها والمحاكم بالنظر فيها ما ترتب على صدور القانون نمرة (18) سنة 23 من التأثير على حق الشفعة وقضايا الشفعة.
وقد قرأت بمجلة المحاماة بالعدد الرابع من سنتها الخامسة حكمًا أصدرته محكمة مصر الابتدائية في 3 من نوفمبر سنة 24 ذهبت فيه إلى أن البيع الحاصل بعقد عرفي غير مسجل وغير ثابت التاريخ لا يصلح أن يكون أساسًا لطلب الشفعة لأن المادة الأولى من القانون نمرة (18) سنة (23) رقم (26) يونيه سنة 1923 صريحة في ضرورة تسجيل العقود الناقلة للملكية ولأنه جاء في الفقرة الثالثة أنه لا يكون للعقود غير المسجلة من الأثر سوى الإلزامات الشخصية بين المتعاقدين ولأن حق الشفعة لا يترتب قانونًا إلا على عقد بيع صحيح ناقل للملكية مستوفٍ للشرائط القانونية (راجع هذا الحكم بالصحائف (333)، (34)، (35) من السنة المذكورة).
شوقني هذا الحكم إلى دراسة المسألة فانتهيت من دراستها على غير ما ذهبت إليه محكمة مصر.
والظاهر أن هذه المحكمة رأت الشريعة الإسلامية الغراء تشترط في البيع الذي تثبت فيه الشفعة أن يكون صحيحًا نافذًا أو فاسدًا انقطع فيه حق الفسخ خاليًا من خيار شرط للبائع فاشترطتها هي أيضًا فكانت النتيجة ما رأيت من مذهبها.
ولذلك كان واجبًا عليّ قبل بحث المسألة أن ألفت القارئ إلى أن الشريعة الإسلامية قد أوجبت هذه الشروط تفريعًا على ما قررته للبيع من الأصول والأحكام المخالفة لنظائرها في القانون.
فالبيع في الشريعة الإسلامية هو تمليك البائع في الحال مالاً للمشتري بمال يكون ثمنًا للمبيع وهي تشترط أن يكون المبيع موجودًا وأن يكون مالاً متقومًا مقدور التسليم ولا تجيز إضافته إلى وقت مستقبل ولا تعليقه بشرط أو حادثة مستقبلة وتمنع مشتري المنقول من التصرف فيه قبل قبضه لتوهم الغرر بعجزه عن التسليم بحبس البائع إياه وتجيز لمشتري العقار الذي لا يخشى هلاكه التصرف فيه قبل قبضه بناءً على أن الغرر بهلاكه ممتنع وأن الغرر بظهور الاستحقاق فيه لا يمكن الاحتراز عنه وتجيز تأجيل الثمن ولا تجيز تأجيل المبيع لما يدخله من بيع الدين بالدين ومن الغرر بعدم التسليم - ولم تجز البيع بشرط الخيار للبائع في الثلاثة الأيام المقدرة أجلاً للخيار إلا على اعتبار دخول الشرط على حكم ثبوت الملك لا على نفس البيع لأن البيع عندهم على ما قالوا هو من قبيل الإثباتات التي لا تحتمل الخطر المؤدي للقمار وفي جعل البيع متعلقًا بالشرط خطر تام كان مقتضى القياس أن لا يجوز إلا أن الشارع قد أجازه ضرورة دفع الغبن فيتقدر بقدر الضرورة وهي تندفع بجعل الشرط داخلاً على حكم ثبوت الملك دون سببه الذي هو نفس البيع (راجع صـ 597 من المجلد الثاني من كتاب كشف الأسرار على أصول الأمام البزدوي).
ومن حق فقهائنا وهذه أحكام البيع عندهم أن يشترطوا لثبوت الشفعة أن يكون المبيع عقارًا مملوكًا وأن يكون بيعه صحيحًا أو فاسدًا انقطع فيه حق الفسخ خاليًا عن خيار شرط للبائع حتى إذا سلم المشتري بالشفعة ورضي بها أو قضى القاضي بها تملك الشفيع العقار حالاً لأنهم لما لم يجيزوا إلا بيع الموجود المملوك ولم يسمحوا بإضافته إلى الزمن المستقبل ولا تعليق وجوده أو فسخه على الشرط (إلا شرط الخيار) وخافوا الغرر اليسير في احتمال الفسخ في كثير من أنواع البيوع أوجبوا شروطهم المتقدم ذكرها في البيع الذي يثبت فيه الشفعة تمشيًا مع هذه الأحكام.
وأنتم عالمون بأن أحكام البيع في القانون المدني تخالف هذه الأحكام فالقانون المدني يجيز المواعدة بالبيع والشراء وإضافة البيع إلى الزمن المستقبل وتعليقه على الشرط الموقف والفاسخ وتصرف المشتري قبل قبض المبيع بكافة أنواع التصرفات ولا يخاف الغرر الكثير فضلاً عن اليسير ويحلل كثيرًا من البيوت التي حرمتها الشريعة الإسلامية للغرر أو للجهالة أو للربا ويجيز الأجل في المبيع والثمن على السواء.
ينبغي إذن أن ندرس المسألة على نور القانون المدني وأقوال فقهائه لأن حلها يجب أن يتمشى على أحكامه التي خالف فيها الشريعة الإسلامية مخالفة ظاهرة.
ما هي حقوق المشتري بعقد بيع غير مسجل؟
- كان عقد البيع من حقوق التراضي التي تتم بالإيجاب والقبول ولم تكن الكتابة شرطًا من شروط صحته وإنما كانت أداة لإثباته وفق قواعد الإثبات العامة وقد بقي كذلك من عقود التراضي حتى بعد أن صدر القانون المدني وأوجب تسجيله حتى يمكن الاحتجاج به على الغير لأن هذا الوجوب وارد على حكم انتقال الملكية في حق الغير لا على نفس انعقاد البيع.
وقد بقي كذلك من عقود التراضي بعد أن صدر القانون نمرة (18) سنة 23 الذي جعل التسجيل شرطًا أساسيًا في حق المتعاقدين وغيرهم ولم يصبح مطلقًا من العقود الشكلية التي أوجب القانون لانعقادها أو لصحتها إفراغها في شكل كتابي خاص كالهبة أو الرهن العقاري.
يدلكم على ذلك الفقرة الأخيرة في المادة الأولى من القانون المذكور ونصها:
(أنه لا يكون للعقود غير المسجلة من الأثر سوى الإلزامات الشخصية بين المتعاقدين) وما جاء في المذكرة الإيضاحية من أن الغرض من إيجاد التسجيل جعله شرطًا أساسيًا لانتقال الملكية والحقوق العينية بالنسبة للمتعاقدين ولغير المتعاقدين على السواء فأصبح العقد الذي يتعهد الشخص بموجبه بنقل الملكية كالبيع والهبة لا ينشأ عنه إلا حق شخص أو دين لمصلحة من اكتسب هذا الحق يجوز له بموجبه أن يلزم من صدر منه التصرف بتنفيذ ما تعهد به أي أن ينقل له الملكية فعلاً ولا يتم هذا النقل إلا بالإجراءات القانونية اللازمة لإشهار هذا التصرف.... إلى أن قال... أما من صدر منه التصرف فليس عليه أن يمتنع عن أي عمل يعرقل هذا التسجيل فإذا حال من صدر منه التصرف دون قيام الطرف الآخر بهذا الإجراء اللازم لنقل الملكية فيكون عرضة لرفع دعوى شخصية عليه.
فها أنتم ترون أن اشتراط التسجيل لم يرد على انعقاد البيع فيكون شرط انعقاده أو صحته كاشتراط الرسمية في الرهن العقاري وإنما ورد على حكم انتقال الملكية فجعله متراخيًا إلى ما بعد التسجيل بعد أن كان يقع فورًا بمجرد التراضي.
وعلى هذا يترتب قانونًا على العقد الصحيح غير المسجل:
1 - أنه يلزم البائع بنقل الملكية بعمل الإجراءات القانونية اللازمة لذلك.
2 - ويلزمه بتسليم المبيع للمشتري وبضمانة عدم المنازعة فيه.
3 - ويلزم المشتري بدفع الثمن.
وهذه الحقوق والدعاوى الشخصية التي خولها القانون للمشتري للمطالبة بها هي حقوق مالية يجوز له التصرف فيها بالتنازل عنها بمقتضى القواعد المدونة في باب بيع الديون والمزاعم ويجوز أن يحل القانون فيها شخصًا آخر محله.
ولا تفهمن أن الدعوى الشخصية التي يملكها المشتري على البائع في مطالبته بنقل الملكية تنتهي حتمًا بالحكم على البائع بتعويض مالي بناءً على أن هذا الإلزام هو إلزام بعمل شيء لأن القاضي ملزم أصلاً بالحكم بالوفاء عينًا ما دام حكمه بذلك لا يمس حرية المدين الشخصية وإذا امتنع البائع عن تحرير العقد الذي تم بالتراضي أو التوقيع عليه جاز للمحكمة أن تحكم بإجباره بالحكم عليه بتهديد مالي وأن تقضي بثبوت حصول البيع وبإقامة الحكم في ذلك مقام العقد فيستطيع المشتري تسجيله.
ولسنا مبتدعين في ذلك فهو ما ذكره بودري في مؤلفه في باب البيع فقرة (65) و(66) عند كلامه على الوعد بالبيع وتمامه بقبول الموعود له وامتناع الواعد عن تحرير عقد البيع فقد قال إن الواعد ملزم بتعهد شخصي بإمضاء البيع.
ويجوز للموعود إجباره على الوفاء به بعد أن أصبحت المواعدة بيعًا وشراءً.
وللقاضي أن يحكم بإثبات حصول البيع واعتبار حكمه بمثابة عقد البيع نفسه (وهو رأي بلانيول جزء (2) فقرة (1406) ورأي جرانمولان في كتابه العقود فقرة (228)) (ورأي دوهلس تحت كلمة بيع فقرة (114) وحلمي عيسى فقرة (206)) ولم نرَ لفقيه آخر رأيًا يخالف هذا الرأي.
لنبحث الآن فيما هو حق الشفيع وما هو الأخذ بالشفعة فنقول إن فقهاء الشريعة الإسلامية صرحوا بأن الذي يثبت للشفيع بمجرد البيع هو مجرد الرأي والمشيئة بين أن يأخذ أو يترك ولذلك لا يورث عندهم كما تورث الأملاك والحقوق اللازمة. [(1)].
والشفيع ليس يتملك شيئًا على المشتري لا بطلب التقرير والمواثبة، ولا بطلب الخصومة ولذلك إذا سلم الشفعة على مال فالتسليم جائز ويرد المال على صاحبه لأن تسليم الشفعة ترك التصرف منه للمالك في ملكه وهو لا يستحق المال إلا بمقابلة ملك له ولا ملك له. (راجع المبسوط صحيفة (116) و(118) جزء (14)).
والأخذ بالشفعة على المختار عندهم هو فسخ في حق إضافة العقد إلى المشتري مع بقاء أصله ليقوم الشفيع مقام المشتري كأن البائع باعه وخاطبه بالإيجاب وإذا أثبتوا للشفيع خيار الرؤية والعيب فلأن العقد قد أضيف إليه وهو يقتضي السلامة فيكون له حق الرد بهما (البحر الرائق جزء (8) صـ (131)) وإذا أوجبوا على الشفيع أن يأخذ من المشتري بثمن حال إذا كان الثمن مؤجلاً فلأن الأجل ثبت بالشرط وليس من لوازم العقد واشتراطه في حق المشتري لا يكون اشتراطًا في حق الشفيع لتفاوت الناس فيه ((135) البحر الرائق جزء (8)).
ومن تفريعاتهم (مريض باع دارًا بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف درهم ولا مال له غيرها ثم مات وابنه شفيع الدار فلا شفعة للابن فيها لأنه لو باعها من أبيه بهذا الثمن لم يجز لأنه إما أن يأخذها كما أخذها المشتري فيكون ذلك وصية من المريض لوارثه ولا وصية لوارث أو يأخذها بثلاثة آلاف وذلك لا يستقيم لما فيه من إثبات ثمن في حق الشفيع ليس بثابت في حق المشتري (راجع المبسوط في شفعة المريض صـ (150) جزء (14)) وهذا المعنى واضح في المادة الثالثة عشر من قانون الشفعة التي نصها (يحل الشفيع بالنسبة للبائع محل المشفوع منه في كافة ما كان له وعليه من الحقوق على أن المشتري إذا استحصل على تأجيل الثمن لا ينتفع الشفيع من هذا التأجيل إلا برضاء البائع وإذا ظهر بعد الأخذ بالشفعة أن العقار المشفوع مستحق للغير فليس للشفيع أن يرجع إلا على البائع).
والمحاكم المختلطة تصرح في كثير من أحكامها بأن ليس للشفيع أثناء قيام دعوى الشفعة حق في العقار المشفوع (jus in re) وأن دعوى الشفعة ليست إلا دعوى المطالبة بإحلال الشفيع محل المشتري في الصفقة (jus ad rem) وأنه لا يملك العقار المشفوع إلا بالتراضي أو بحكم القاضي (حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 20 ديسمبر سنة 1906 مجلة (البلتان) سنة 19 صـ (42) وحكمها في 6 يونية سنة 1907 سنة 19 صـ (298) وحكمها في 17 إبريل سنة 17 سنة 29 صـ (372)).
وما دام لا يكون للشفيع عند طلب الشفعة وعند قيام دعوى الشفعة حق عيني في العقار المشفوع وما دامت دعوى الشفعة ليست إلا دعوى المطالبة بإحلال الشفيع محل المشتري في حقوقه وواجباته وجب أن تصح دعوى الشفعة في عقار بيع بعقد عرفي غير مسجل سواء أكان منجزًا أم معلقًا وجوده أو فسخه على شرط (راجع دوهلس تحت كلمة شفعة فقرة (15)، (17)) فيخلف الشفيع المشتري في جميع حقوقه وواجباته عند التراضي أو عند حكم القاضي.
ويكون للشفيع مطالبة البائع بالقيام بالإجراءات اللازمة لإشهار التصرف وإجباره على الوفاء بها وللمحكمة أن تحكم عند امتناعه بإثبات حصول البيع واعتبار حكمها بمثابة عقد على ما أسلفناه.
- هذا ومما يؤنسك في الاعتقاد بصحة ما أوردناه أن فقهاء القانون الفرنسي عند شرحهم للمادة (841) من القانون المدني التي تقرر أحكام الاسترداد الوراثي (المقابلة للمادة (462)) اعتبروا دعوى الاسترداد دعوى حلول تفسخ إضافة العقد للمشتري ليعتبر الشفيع ملتقيًا المبيع من البائع مباشرةً (راجع بودري فقرة (1670) الجزء الثالث في المواريث).
وفرعوا على ذلك فقالوا بأنه ليس من الضروري أن يكون عقد البيع صحيحًا وجوزوا الاسترداد في البيع الباطل وفي البيع المعلق على شرط توقيفي أو فاسخ على أن يبقى حكم الشفعة خاضعًا لحكم عقد البيع نفسه (راجع بودري نوتة (1612) و(1614) من الكتاب عينه).
ولذلك قالوا إنه لا محل لتسجيل حكم الاسترداد لأنه فسخ والقانون لا يوجب تسجيل الفسوخ.
ومن هذا ترون أن جميع القواعد القانونية المدونة في باب البيع وجميع المبادئ المقررة في فقه القوانين تسمح بأن يستنتج أن القانون نمرة (18) سنة 1923 لا يوجب اشتراط كون البيع صحيحًا ناقلاً للملكية خاليًا من خيار شرط للبائع كما اشترطت الشريعة الإسلامية ومحكمة مصر في حكمها السابق الذكر.

حامد فهمي
المحامي
-----------------
[(1)] الشفعة عند الحنفية من الخيارات التي لا تورث ولا تباع لأن الأصل عندهم هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال وهي تورث عند المالكية والشافعية لأن الأصل عندهم أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليله على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال (176 من الجزء الثاني من بداية المجتهد لابن رشد في بيع الخيار).

تنازع الاختصاص بين المحاكم المختلطة والمحاكم الأخرى عبد الحميد أبو هيف

مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الخامسة - عدد يوليه سنة 1925

تنازع الاختصاص بين المحاكم المختلطة والمحاكم الأخرى
النظريات والملاحظات العامة

1 - المحاكم المختلطة هي أهم المحاكم الموجودة في مصر وأوسعها سلطةً ونفوذًا:
أولاً: من حيث عدد الأشخاص الذين يخضعون لاختصاصها وذلك لكونه يشمل الأجانب كما يشمل الأهالي.
ثانيًا: من حيث المواد الداخلة في اختصاصها وذلك لأننا إذا استثنينا المواد المحصورة الخارجة عن اختصاصها فإن جميع أنواع القضايا مهما اختلف موضوعها وتشعب أصلها داخل ضمن اختصاص هذه المحاكم [(1)].
ومحل التساؤل الآن هو متى ينقطع اختصاص المحاكم المختلطة ويثبت الاختصاص لغيرها؟ ومتى ينقطع اختصاص المحاكم الأخرى ويثبت الاختصاص للمحاكم المختلطة؟
رأينا أن اختصاص هذه المحاكم كثيرًا ما يتوقف على وجود عنصر معين - وجود أجنبي مثلاً أو وجود حق لأجنبي على عقار - كما أن اختصاصها قد ينقطع إذا ما زال هذا العنصر من القضية، وقد تتغير جنسية أحد الطرفين في أثناء نظر القضية وقد يتنازل أحد الطرفين عن صفة كانت له وقت رفع الدعوى أو تزول عنه تلك الصفة كما أنه قد يحصل على صفة جديدة في أثناء سير الدعوى وقد ينبني على ذلك زوال الاختصاص أو ثبوته وقد يحدث أن الاختلاف في تفسير النصوص القانونية قد يجعل القضية الواحدة من اختصاص محكمتين مختلفتين أو قد يرفعها من اختصاص المحكمتين على السواء.
2 - لا بد من تقرير حقيقة أولية هامة هي أن المحاكم المختلطة قررت دائمًا أن القوانين المنظمة لشؤون وظائف المحاكم تعتبر متعلقة بالنظام العام فيجب مراعاتها بالدقة ولذلك قضت بعدم صحة الاتفاق على رفع القضايا أمامها إذا كانت من اختصاص المحاكم الأهلية أو القنصلية أو الشخصية وأنه يجوز للخصوم أن يتمسكوا بعدم الاختصاص في هذه الأحوال في أية حالة كانت عليها القضية [(2)] أما إذا صدر الحكم النهائي منها ولم تبحث مسألة الاختصاص فلا محل بعد ذلك للتمسك ببطلان الحكم بسبب عدم الاختصاص [(3)].
ومع ذلك فلا ريب أن هناك أحوالاً كثيرة يحيط بها الشك وأنه يترتب على ذلك أنها تقابل بحلول تختلف بحسب ما إذا كانت الجهة القضائية التي تنظرها هي المحاكم المختلطة أو محاكم أخرى تجلس للحكم في مصر. وتتضاعف الصعوبات في هذا الموضوع بسبب طموح كل محكمة إلى السعي في توسيع اختصاصاتها على حساب المحاكم الأخرى ولأن الشارع المصري لم يضع - أو ما كان يستطيع أن يضع - قواعد عامة لحل المنازعات التي تحصل بسبب تنازع الاختصاص بين المحاكم المختلفة في مصر اللهم إلا في أحوال قليلة جدًا وفي مسائل تفصيلية قليلة الأهمية [(4)].
وسبب قعود الشارع المصري هو بلا شك ضعف سلطة الحكومة المحلية وتقديسها لحقوق الأجانب تقديسًا يفوق الوصف وتهاونها في المحافظة على سيادتها الأهلية في بلدها وقد كانت مرغمة على ذلك لحدٍ ما أثناء الاحتلال البريطاني والحماية البريطانية الظاهرة ولكن هذه الحال يجب أن تتبدل الآن حتى تتفق مع شعور الأمة المصرية بالاستقلال.
وتزداد الحالة خطورة بسبب عدم وجود أدنى أثر للتضامن أو للتعاون أو للتفاهم بين المحاكم المختلفة التي تتنازع الحكم في هذا القطر [(5)].
ولا ينتظر مثل ذلك منها وهي على حالتها الراهنة وعلى الخصوص لا ينتظر ذلك من المحاكم المختلطة التي وقفت دائمًا موقفًا جافًا تمثلت فيه الأنانية وحب الذات تجاه المحاكم الأخرى فوضعت سلسلة قواعد هدمت بها كيان اختصاص غيرها من المحاكم في مسائل شتى ووسعت بها اختصاص نفسها على حساب المحاكم الأخرى، حيث لم تقتصر على الافتيات على اختصاص المحاكم الأهلية بل تعدته إلى المحاكم القنصلية وإلى محاكم الأحوال الشخصية، ولم تكتفِ بالحكم باستبقاء اختصاصها عند زوال أحد العناصر التي كانت المسوغ الوحيد لاختصاصها - كما لو زال العنصر الأجنبي أو العنصر الوطني – بل إنها قررت كذلك أنه إذا ظهر في أية قضية مرفوعة أمام محكمة أخرى أي عنصر من العناصر التي كانت تجعل الاختصاص من شأن المحاكم المختلطة لو وجد هذا العنصر من قبل رفع الدعوى فإن اختصاص المحكمة الأخرى يزول بمجرد ظهور العنصر المختلط فيها وتصبح القضية من اختصاص المحاكم المختلطة دون غيرها وبهذه الوسيلة تنتزع هذه المحاكم القضايا التي رُفعت بطريقة صحيحة أمام المحاكم الأخرى المختصة فتحرمها حق النظر فيما هو من اختصاصها وذلك بمجرد حدوث عنصر جديد.
وأخيرًا فإن المحاكم المختلطة كثيرًا ما تستهين بالأحكام التي تصدرها المحاكم الأخرى فلا تقيم لها وزنًا ولا تعتبرها حجة فاصلة فيما قضت فيه وكان داخلاً في اختصاصها متى أريد التمسك بتلك الأحكام ضد أجنبي [(6)] أو إذا كانت تلك الأحكام جنائية وأريد التمسك بما جاء فيها أمام المحاكم المختلطة في الدعوى المدنية الناشئة عن العمل الذي حكم فيه جنائيًا من لدن المحاكم الأهلية أو القنصلية [(7)].
3 - هنا يصح التساؤل عما سلكته المحاكم الأخرى من السبل تلقاء تعسف المحاكم المختلطة وافتياتها على حقوق غيرها. الجواب أن المحاكم الأخرى كثيرًا ما كانت تخالف المحاكم المختلطة في نظرياتها وتحكم بما قد تحفظ به كرامتها ومنها من كان يحكم أحكامًا شديدة جدًا ضد تصرفات المحاكم المختلطة [(8)] ولكن المحاكم الأهلية كانت دائمًا أقل تحمسًا من غيرها في المحافظة على كرامتها أمام المحاكم المختلطة غير أنها ما كانت تستطيع أن تعلي كلمة السيادة الإقليمية المصرية في جو سياسي تختنق فيه الحركة الوطنية اختناقًا باحتلال أجنبي يعمل عملاً متواصلاً للقضاء على كل سيادة وطنية وعلى إزالة كل سيادة إقليمية للحكومة المحلية، والسبب المباشر لانتصار المحاكم المختلطة في كل ما قالت به من النظريات هو أن لهذه المحاكم الكلمة الأخيرة دائمًا في كل خلاف يحصل بينها وبين غيرها من المحاكم فنظامها نظام دولي لدرجة عظيمة وهو مستقل بنفسه عن الحكومة إلى حد كبير جدًا ولذلك تمكنت من إسكات من يقاوم نظرياتها حتى الحكومة المحلية نفسها خذلتها وأخضعتها المحاكم المختلطة محافظة على الحقوق التي تدعيها للأجانب في مصر.
وضعت المحاكم المختلطة قواعد في الاختصاص بالنسبة للأجانب وصلت فيها إلى حد حمايتهم رغم إرادتهم واتفاقاتهم الصريحة حيث قررت أنه من مبادئ النظام العام التي لا يمكن التجاوز عنها أنه لا يجوز لأجنبي مهما كانت الظروف أن يخضع لاختصاص المحاكم الأهلية ولو رضي بذلك صراحةً وخولت نفسها حق إلغاء الأحكام الأهلية وجعلها غير ذات أثر مطلقًا متى مست أية مصلحة لأجنبي سواء في ذلك أتلقى الحق عن الوطني الذي كان خصمًا لوطني آخر في قضية أمام المحاكم الأهلية أم كان هو الذي رفع الدعوى بإرادته واختياره أمام المحاكم الأهلية على خصمه الوطني، أو قبل الخصومة أمام هذه المحاكم صراحةً أو ضمنًا [(9)].
وبذلك قد رفعت المحاكم المختلطة شأن الأجنبي في مصر إلى مقام أرفع مما هو مقرر للملوك المتوجين أو السفراء والمعتمدين أمام محاكم العالم المتمدين [(10)].
4 - هذا وسنستعرض فيما يلي ما قررته المحاكم المختلطة من النظريات بشأن اختصاصها واختصاص غيرها من المحاكم فيما يصح أن يكون محلاً للنزاع وهذه النظريات يمكن حصرها في خمس:
الأولى: نظرية استبقاء اختصاص المحاكم المختلطة بالرغم من زوال أحد أركانه.
الثانية: نظرية زوال اختصاص المحاكم الأخرى إذا استجد عنصر مختلط.
الثالثة: نظرية الصالح المختلط.
الرابعة: نظرية التفرع أو التبعية.
الخامسة: نظرية عدم الإيقاف في مسائل الأحوال الشخصية.
5 - النظرية الأولى: استبقاء اختصاص المحاكم المختلطة بالرغم من زوال أحد أركانه:
تطبق المحاكم المختلطة هذه النظرية في حالتين حالة خروج خصم من القضية وحالة تغيير جنسية خصم أثناء سير القضية وتلحق بهما حالة ثالثة هي ظهور عدم الاختصاص بعد الحكم.
6 - الحالة الأولى: حكمت المحاكم المختلطة دائمًا بأن القضية المرفوعة إليها بطريقة صحيحة وهي تملك الاختصاص تستمر خاضعة لاختصاصها حتى لو خرج منها الأجنبي أو الوطني الذي كان سببًا في الاختصاص ولم يبقَ فيها غير خصمين من الوطنيين أو خصمين من الأجانب متحدي الجنسية [(11)] أو كانت القضية أمام الاستئناف ولم يكن الأجنبي أو الوطني المذكور طرفًا في الاستئناف [(12)] وحجة هذه المحاكم في استبقاء اختصاصها تمسكها بالعدالة فإنه ليس من العدل بعد أن ترفع الدعوى طبقًا لقواعد الاختصاص ويمر عليها زمن ما أمام المحاكم المختلطة وتصرف المصاريف لذلك، أن تنزع القضية منها ويكلف الخصوم رفعها من جديد أمام المحاكم الأخرى [(13)].
ولما كان هذا المبدأ خطرًا على اختصاص المحاكم الأخرى وكان تطبيقه بصفة مطلقة قد يبيح رفع أية قضية أمام المحاكم المختلطة متى وجد فيها عنصر أجنبي ولو في الظاهر سواء كان وجوده فيها ضروريًا أو مفيدًا أو مقصودًا به مجرد جلب الخصوم الآخرين أمام المحاكم المختلطة، فقد اشترطت المحاكم المذكورة، لاستبقاء اختصاصها في حالة زوال العنصر الأجنبي أن يكون ثمت صلة ظاهرة أو ارتباط واضح بين الخصوم يسوغ وجودهم جميعًا في قضية واحدة فإذا اختصم وطني أجنبيًا ووطنيًا آخر أمام المحاكم المختلطة وطلب من كل منهما طلبًا مستقلاً لم يكن بينهما رابطة اتصال فإن رفض الدعوى ضد الأجنبي لا يبقي في الميدان غير الوطنيين وبذلك لا تكون المحاكم المختلطة مختصة بالفصل بينهما [(14)] كذلك إذا رفع الدعوى أجنبي وتنازل عنها قبل الدخول في موضوعها فإن طلبات الدخول المقدمة من أي شخص ثالث تسقط جميعها تبعًا لسقوط الدعوى الأصلية طبقًا لقواعد التدخل المعروفة ولا يجوز النظر فيها أمام المحاكم المختلطة متى كان كل الخصوم من الوطنيين أو من أجانب متحدي الجنسية [(15)].
وأخيرًا إذا كان وجود الأجنبي في الدعوى مقصودًا به مجرد جعل القضية من اختصاص المحاكم المختلطة مع أنها يجب أن لا تكون من اختصاصها إذا نظرنا إلى المصالح الحقيقية لكل الخصوم وخرج الأجنبي فإن المحاكم المختلطة لا تختص بنظرها [(16)] مثال ذلك إذا حول الدين لشخص لمجرد حرمان الخصم من محكمته الطبيعية المرفوعة أمامها الدعوى وجلبه أمام المحاكم المختلطة بحجة إيجاد صالح مختلط وهمي فإن الحوالة لا تنتج أثرها من حيث الاختصاص وتصبح المحكمة المختلطة غير مختصة بعد ظهور الحقيقة [(17)].
ومع ذلك لا بد أن نلاحظ هنا أن المحاكم المختلطة تقر بنتائج التسخير أي تعيين المسخر constitution d’un prête - nom وتعتبره عاملاً من حيث تحديد الاختصاص بدلاً ممن سخره [(18)] ولكنها تشترط لذلك ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون هناك تصرف قد حصل لمصلحته يخول له المطالبة بصفته المالك الوحيد الحقيقي للحقوق التي يريد التمتع بها [(19)] الثاني يجب ألا يظهر أصحاب الحق الأصليون في الدعوى لا بصفتهم أصحاب الحقوق كلها أو بعضها فلا يعتبر مسخرًا يعتد بجنسيته في الاختصاص الوكيل الذي لم يحول إليه إلا جزء من الحقوق والذي يطالب منضمًا إلى موكليه ومن حولت إليهم حقوقه [(20)] الثالث ألا يترتب على التسخير جعل مركز المدعي أسوأ مما كان عليه من حيث الوقائع أو من حيث القانون وذلك يحصل إذا كان للمدعى عليه مصلحة ظاهرة في استمرار الدعوى أمام المحاكم الأهلية مثلاً لأنه حصل تحقيق أمامها بشأن وضع اليد على عقار متنازع فيه وحكم له من جانبها فيكون من مصلحته أن تحكم هذه المحاكم نفسها فيما يتعلق بالنزاع على الملكية وخصوصًا إذا اتصل بالموضوع مسائل تتعلق بنظام الوراثة بين الأهالي وقيمة الإعلامات الشرعية الصادرة بشأنه فإن المحاكم الأهلية تكون في مركز أحسن من مركز المحاكم المختلطة للفصل في النزاع إلى النهاية [(21)].
7 - الحالة الثانية: حكمت المحاكم المختلطة دائمًا بأن تغيير جنسية أحد الخصوم أثناء الدعوى المرفوعة أمامها ليس له تأثير مطلقًا في الاختصاص متى كانت مختصة بها وقت رفعها كما أن حلول ورثة مختلفين في الجنسية عن مورثهم محله لا يؤثر في الاختصاص [(22)].
مبدأ عام: وقد قررت المحاكم المختلطة هذا المبدأ بصفة عامة بالنسبة للمحاكم الأخرى حيث قضت بأن تغيير الجنسية الطارئ أثناء القضايا المرفوعة أمام محاكم أخرى وهي تملك الاختصاص في بدء القضية لا ينزع الاختصاص من تلك المحاكم وهو مبدأ عادل ومقرر في جميع قوانين العالم ويرتكز على قاعدة احترام الحقوق المكتسبة [(23)].
8 - الحالة الثالثة: ظهور عدم الاختصاص بعد الحكم: حكمت المحاكم المختلطة أيضًا بأنه إذا نظرت الدعوى أمامها ولم يدفع أحد من الخصوم بعدم الاختصاص لعدم وجود عنصر مختلط فإن الحكم لا يكون معرضًا للإلغاء لهذا السبب بل يبقى صحيحًا ولازمًا [(24)].

عبد الحميد أبو هيف
ناظر مدرسة الحقوق سابقًا

[(1)] راجع س م 30 يناير سنة 1908 مج ت م 20 صـ (80) الذي قرر أن اختصاص المحاكم المختلطة في القضايا المختلطة يمتد إلى جميع المواد التي لم تنزع من اختصاصها بنص صريح لتُعطَى إلى محاكم أخرى، وعلى الخصوص في الأحوال التي تكون فيها مسألة الاختصاص أمرًا مشكوكًا فيه، وذلك لكونها المحاكم العادية في المواد المدنية والتجارية - زد على ذلك أنه حتى في المسائل التي نص على عدم اختصاصها بها كالأحوال الشخصية قد تجد وجهًا للحكم فيها.
[(2)] س م 26 مارس سنة 1896 مج ت م 8 صـ (181) و(س م 7 مارس سنة 1895) مج ت م 7 صـ (181) و(س م 19 يناير سنة 1899) مج ت م 11 صـ (102) و(س م 8 مارس سنة 1900) مج ت م 12 صـ (152) و(س م 26 مارس سنة 1903) مج ت م 15 صـ (217) الذي قرر أيضًا أن تدخل أجنبي في الخصومة فيما بعد ليجعل للمحاكم المختلطة اختصاصًا في القضية لا يغير المركز متى اتضح الغرض و(س م 11 نوفمبر سنة 1914) مج ت م 27 صـ (14) و(س م 28 فبراير سنة 1917) مج ت م 29 صـ (260) والجازيت 7 صـ (88) نمرة (263) الذي استند إلى عدة أحكام سابقة وقرر مبادئ عديدة نذكرها هنا لأهميتها بصفتها من القواعد المهمة المتبعة عملاً أمام المحاكم المختلطة وهي:
1 - أن وظائف المحاكم المختلطة في مصر في الدعاوى الشخصية أو المتعلقة بمنقول تتوقف على جنسية الخصوم، والدفع الفرعي الناشئ عنها يتعلق بالنظام العام.
2 - المحاكم المختلطة لا تختص إلا في حالة اختلاف الجنسية ويجب عليها الحكم بعدم الوظيفة إذا كان النزاع بين خصوم من جنسية واحدة وذلك برغم أي اتفاق آخر يخالف الامتيازات الأجنبية ويخالف تنازل الدول جزئيًا عن اختصاص محاكمها القنصلية.
3 - أن قواعد الاختصاص المعروفة بالنسبة للأجانب في البلاد الأوروبية لا تنطبق في البلاد التي يتمتع فيها الأجانب بالامتيازات الأجنبية مثل مصر، وأن المعاهدات لا تسمح إلا بتنازل جزئي عن اختصاص القناصل وأن المحاكم المختلطة محاكم مصرية وسلطتها على الأهالي مقبولة أكثر من سلطتها على الأجانب وأنها ليست مكملة للنظام القنصلي.
4 - أن المحاكم المختلطة أجازت المقاضاة باسم من حصل له تنازل صوري بقصد إدخال عنصر أجنبي في الخصومة (بند 437) ولكنها لا تجيز نظر القضية كما هي بدون عنصر مختلط فيها.
5 - أنه لا يصح قبول العنصر المختلط من بعد رفع الدعوى ولمجرد تصحيح الاختصاص.
[(3)] راجع كتاب المرافعات بند (538) و س م 16 مايو سنة 1894 مج ت م 6 صـ (294) وراجع بندي (439) و(493) فيما يلي.
[(4)] راجع فيها كتاب المرافعات بند (381)، وبخصوص محاولة الحكومة المصرية الاتفاق مع الدول بشأن حل مسائل تنازع الاختصاص وعدم نجاحها في ذلك راجع تقرير المستشار القضائي عن سنة 1901 صـ (48).
[(5)] راجع مثلاً ما حكمت به محكمة الاستئناف المختلطة في 18 مارس سنة 1891 مج ت م 3 صـ (253) حيث قررت أن المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية محاكم مختلفة لكل منها نظام وترتيب خاص ولذلك فلا محل للتمسك أمام إحداها بأن القضية منظورة أمام الأخرى أو أن أمرًا مقضيًا فيه نهائيًا من إحداها بناءً على إجراءات اتخذت أمامها أو أحكام صدرت منها يصح التمسك به ويجب قبوله أمام الأخرى، ونحوه حكم المنصورة المدنية في 12 إبريل سنة 1921 جازيت 12 صـ (11) نمرة (25) ثالثًا، الذي قرر بناءً على ذلك عدم الإيقاف مع وجود قضية في المحاكم الأهلية بخصوص صفة أحد الخصوم - وقارن ذلك بما تحكم به محاكم النوع الواحد بالنسبة لفروعها المتعددة، مثال ذلك أن المحاكم المختلطة تقضي بأن رفع الدعوى أمام محكمة مدنية بدلاً من رفعها أمام محكمة تجارية أو بالعكس، يقطع التقادم ويجعل الفوائد تجري من يومه (س م 10 يناير سنة 1924 جازيت 14 صـ (102) نمرة 155) وهو تضامن تُحمد عليه المحاكم التي تقرره رغم عدم وجود نص عليه وكان يجب أن يكون التضامن عامًا بين جميع محاكم القطر، وقارنه بما حكمت به محكمة التجارة بإسكندرية في 9 يناير سنة 1922 جازيت 12 صـ (152) نمرة 266 بالنسبة لقضية مرفوعة أمام محكمة فرنسية!!!
[(6)] راجع س م 28 فبراير سنة 1894 مج ت م 6 صـ (172) الذي قضى بأن الأحكام الأهلية لا تكون حجة على الأجانب لأنها صادرة من محاكم غير مختصة بالنسبة إليهم ونحوه س م 16 مايو سنة 1893 مج ت م 5 صـ (247).
[(7)] راجع س م 12 إبريل سنة 1893 مج ت م 5 صـ (186) الذي قضى بأن المحاكم المختلطة ليست مقيدة بما حكمت به المحاكم الأهلية أو أي محاكم أخرى تحكم في مصر ولكن يصح لها الاسترشاد بها لتستنير قبل تكوين رأيها.
[(8)] مثال ذلك حكم القنصلية البريطانية في قضية الكابلي.
[(9)] راجع مثلاً س م 16 مايو 1894 مج ت م 6 صـ (294) الذي قرر أن المحاكم الأهلية التي لا يجوز للأجانب أن يتقاضوا أمامها بحال من الأحوال ليس لها بالنسبة للأجانب أدنى اختصاص بل إنها محرومة بشكل مطلق من أن يكون لها أي حق ولو احتمالي في الحكم ضد أي أجنبي بأي شكل من الأشكال، وينبني على ذلك بالضرورة أن الأحكام التي تصدر من هذه المحاكم بسبب الخطأ أو السكوت من جانب الخصوم أو حتى بمقتضى إرادتهم واختيارهم تكون مطبوعة بطابع البطلان المطلق ولا يمكن أن تحوز قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا، وهذا بعكس المحاكم المختلطة بالنسبة للأهالي فإنها ليست ممنوعة من الحكم بالنسبة إليهم بشكل مطلق. راجع بقية الحكم.
[(10)] راجع في الخضوع في القانون الدولي الخاص بند (336) مكررًا وراجع أيضًا الموضوع نفسه بكتاب المرافعات بند (533).
[(11)] س م 29 إبريل سنة 1896 مج ت م 8 صـ (253) الذي قرر بأن القضية المرفوعة بشكل صحيح أمام المحاكم المختلطة يجب أن تنتهي أمامها، وس م 13 ديسمبر سنة 1895 مج ت م 7 صـ (328) الذي قرر استبقاء الاختصاص حتى لو خرج العنصر الأجنبي بتغير سير الإجراءات ونحوه س م 18 ديسمبر سنة 1902 مج ت م 15 صـ (69) وس م 24 يناير سنة 1918 مج ت م 30 صـ (173)، وقرر س م 18 مارس سنة 1897 مج ت م 9 صـ (218) أن استبقاء الاختصاص بالنسبة للخصمين الباقيين ذوي الجنسية الواحدة يحمي أحد الخصمين من سقوط حقوقه ضد الطرف الآخر في الإجراءات التي اتخذها أمام المحاكم المختلطة بعكس ما إذا اضطر إلى رفع دعوى جديدة أمام محكمة أخرى فإنه يكون معرضًا لسقوط حقه بمضي المدة أو بفوات الميعاد، وقضى س م 23 ديسمبر سنة 1891 مج ت م 4 صـ (69) بأن التغيير الذي يعتري شخصية الخصوم في الدعوى لا يؤثر على الاختصاص فإذا حكم برفض دعوى أحد الخصوم ضد الخصم الذي كان السبب في الاختصاص فلا يترتب على ذلك قانونًا حرمان المحاكم المختلطة من الحكم بالنسبة للخصم الآخر وذلك لأن الدعوى قد رفعت إليها بشكل صحيح وهي مختصة فلا تأثير لما يحدث بعد ذلك ونحوه س م 18 يونيه سنة 1908 مج ت م 20 صـ (292) وس م 22 مايو سنة 1913 مج ت م 25 صـ (403) وس م 24 إبريل سنة 1913 مج ت م 25 صـ (334) الذي ألغى حكم أول درجة واستبقى الاختصاص للمحاكم المختلطة، كذلك حكم بأن زوال حق الاختصاص الذي كان لأجنبي على العقار وكان سببًا في اختصاص المحاكم المختلطة لا يؤثر على بقاء إجراءات نزع الملكية أمام المختلط متى كانت قد ابتدأت أمامه صحيحة (س م 23 فبراير 1911 مج ت م 23 صـ 194) وحكم باستمرار دعوى القسمة المرفوعة من وطني على شريكه الأجنبي ولو باع الأجنبي حصته الشائعة إلى وطني (س م 10 أكتوبر سنة 1923 محاماة 4 صـ (288) نمرة 228) وأخيرًا س م أول مايو سنة 1923 جازيت 24 صـ (181) نمرة (291) وشرحه س م أول إبريل سنة 1924 جازيت صـ (181) نمرة (292) بشأن استبقاء الاختصاص.
[(12)] س م 3 يناير سنة 1901 مج ت م 13 صـ (30) الذي قرر أنه إذا لم يستأنف الأجنبي الذي كان سببًا في الاختصاص ولم يكن من خصوم في الاستئناف غير طرفين من جنسية واحدة فيجب استمرار الاختصاص إلى أن يحكم نهائيًا وكذلك س م 4 إبريل سنة 1917 مج ت م 29 صـ (344) الذي قرر بأن غياب الأجنبي المدعي في أول درجة، لا يجعل محكمة الاستئناف غير مختصة بالحكم في الاستئناف الحاصل بين طرفين من جنسية واحدة.
[(13)] راجع س م أول إبريل سنة 1924 جازيت 14 صـ (181) نمرة (292) وقد ألغي حكم محكمة أول درجة الذي قضى بعدم الاختصاص لزوال العنصر الأجنبي ونحوه 17 إبريل سنة 1923 جازيت 14 صـ (170) نمرة (273) وكانت الدعوى بقسمة عقار كان فيه أحد الشركاء أجنبيًا ولكنه باع لوطني قبل رفع الدعوى ولم يكن المدعي ليعلم ذلك فقررت المحكمة في الاستئناف استبقاء الاختصاص وقالت إن الحالة تختلف لو كان يعلم وكذلك س م 23 أكتوبر سنة 1923 جازيت 14 صـ (181) نمرة (290) وشرحه الحكم نمرة (291) إلا أنه يستثني حالة اختفاء الصالح المختلط قبل مناقشة الدعوى أي قبل بدء المرافعة في الموضوع وراجع التعليق على الحكم نمرة (292) السابق ذكره وفيه بيان فائدة استبقاء الاختصاص، وتوجد الآن نزعة للحكم بعدم الاختصاص من آثارها ما ذهب إليه حكم محكمة مصر المدنية رقيم 10 يناير سنة 1924 جازيت 14 صـ (180) نمرة (289) الذي خالف عمدًا المبدأ المتبع وقضى مع بعض الأحكام الأخرى القليلة، بأن زوال العنصر الأجنبي يجب أن يخرج القضية عن اختصاص المحاكم المختلطة مهما كان سبب الزوال سواء كان بتنازل الأجنبي أو إخراجه من الدعوى أو بسبب عدم صفته وعدم وجود مصلحة له فيها كما هي الحال في القضية التي صدر فيها هذا الحكم فإن الأجنبي الذي حول إليه سند تجاري لقبضه، رفع الدعوى أمام المختلط ثم دخل المحول الوطني في الدعوى فظهر أن الأجنبي لم يكن إلا وكيلاً بالقبض فقط، وبظهور الأصيل في القضية حكمت المحكمة بعدم اختصاصها وقررت أن هذا المبدأ يضمن احترام قواعد الاختصاص بين المحاكم الأهلية والمختلطة ومع ذلك فلا يمكن للآن الركون إلى هذا الرأي من الوجهة العملية لأن الغالب هو القضاء بعكسه كما اعترف الحكم نفسه بذلك.
[(14)] س م 31 مارس سنة 1892 مج ت م 4 صـ (188) بعكس ما إذا كانت الدعويان قائمتين أمام المحكمة وطلب منها أن تحكم بفصلهما وكان بينهما ارتباط فلا محل للتنحي عن نظر الدعوى الحاصلة بين الأهالي لأن ذلك يعتبر بمثابة سكوت عن الحق لا يصح إجازته مطلقًا. س م 9 ديسمبر سنة 1909 مج ت م 22 صـ (39).
[(15)] ص م 17 ديسمبر سنة 1914 مج ت م 27 صـ (72) وراجع كتاب المرافعات بند (1032).
[(16)] قارن س م 4 نوفمبر سنة 1914 مج ت م 27 صـ (7) الذي قرر بأن اختصام شخص في الدعوى لمجرد جعل المحاكم المختلطة مختصة وصدور الحكم بإخراجه منها يجعل هذه المحاكم غير مختصة بنظر طلب التعويض المقدم من شخص ضد آخر من جنسيته وشرحه س م 25 إبريل سنة 1922 جازيت 13 صـ (43) نمرة (77) إلا أن الأجنبي هنا خرج من الدعوى من تلقاء نفسه وقد ألغى الاستئناف حكم أول درجة ونبه إلى أنه كان يجب الحكم بعدم الاختصاص من تلقاء نفس المحكمة - ونحوهما س م 2 يونيه سنة 1904 مج ت م 16 صـ (311) الذي قرر بأنه إذا تبين من ظروف القضية أن ليس للعنصر المختلط أدنى مصلحة ولا ارتباط قانوني بالخصوم الآخرين الذين هم من جنسية أجنبية فإن الدعوى لا تكون من اختصاص المحاكم المختلطة وس م 21 مارس سنة 1912 مج ت م 24 صـ (211) الذي قضى بعدم الاختصاص متى كان سببه وجود دائن أجنبي ليس له مصلحة ولم يختصم إلا ليجعل المحاكم المختلطة مختصة بين اثنين من الوطنيين وكذلك إسكندرية الجزئية في 19 يناير سنة 1924 جازيت 14 صـ (82) نمرة (293).
[(17)] س م 6 يونيه سنة 1912 مج ت م 24 صـ (397) - راجع في تأثير الحوالة على الاختصاص.
[(18)] س م 3 ديسمبر سنة 1913 مج ت م 26 صـ (64) وس م 17 نوفمبر سنة 1910 مج ت م 23 صـ (27) وس م 8 يناير سنة 1924 جازيت 14 صـ (182) نمرة (296) الذي يقرر أن التسخير ليس فيه ما يعتبر غير مشروع وأنه يصح لوطني أن يستعمله وسيلة لرفع دعواه على وطني آخر أمام المحاكم المختلطة إلا في الحالة التي يصبح فيها مركز المدين أسوأ مما كان ونحوه س م 29 يناير سنة 1924 جازيت 4 صـ (182) نمرة (295) وس م 28 فبراير سنة 1923 جازيت 14 صـ (183) نمرة (297) الذي قرر مشروعية التسخير ولو حصلت الحوالة لمجرد جعل المحاكم المختلطة مختصة بدلاً من المحاكم القنصلية غير أنه يجب على القاضي المختلط في هذه الحالة أن ينظر في أي القانونين يطبق: القانون المختلط أم القانون الشخصي الخاص بجنسية المتقاضين الأصليين.
[(19)] قارن س م 28 فبراير سنة 1917 مج ت م 29 صـ (260) وقارن حكم محكمة مصر المختلطة في 10 يناير سنة 1924 جازيت 14 صـ (180) نمرة (289) الذي قضى بأنه إذا تبين أن المحول إليه السند لم يكن إلا مجرد وكيل في القبض وتدخل في الدعوى الدائن الأصلي وكان هو والموقعون على السند جميعًا من الأهالي ولم يكن بذلك صالح لأجنبي في الدعوى، لأن التوكيل قد انتهى بظهور الموكل وإقراره بالحقيقة، فالمحكمة تحكم بعدم اختصاصها بالرغم من أن القضية كانت من اختصاصها في أول الأمر. وراجع نقد هذا الحكم في الجازيت نفسها وقولها إنه مخالف للقواعد الثابتة في استبقاء الاختصاص.
[(20)] س م 6 يونيه سنة 1912 مج ت م 24 صـ (397).
[(21)] س م 29 يناير سنة 1924 جازيت 14 صـ (182) نمرة (295) وشرحه 8 يناير سنة 1924 جازيت 14 صـ (182) نمرة (296).
[(22)] س م 16 إبريل سنة 1890 مج ت م 2 صـ (309) وس م 12 فبراير سنة 1903 مج ت م 15 صـ (143) وس م 17 يناير سنة 1918 مج ت م 30 صـ (163) وكذلك س م 29 إبريل 1891 مج ت م 3 صـ (255) وس م 7 نوفمبر سنة 1901 مج ت م 14 صـ (6) وس م 6 مايو سنة 1903 مج ت م 15 صـ (291) فيما يتعلق بوفاة أحد الخصوم وحلول ورثة من جنسية أخرى أو تبعية أخرى محله وس م 22 ديسمبر سنة 1910 مج ت م 23 صـ (88) فيما يتعلق بزوال الحماية الأجنبية عن أحد الخصوم.
[(23)] س م 27 مايو سنة 1921 جازيت 12 صـ (5) نمرة (1) وقد أيد حكم أول درجة وكانت القضية مرفوعة أمام المحاكم الأهلية وطرأ التغيير على جنسية المدعي الذي كان عثمانيًا وأصبح يونانيًا بحكم الاتفاق الذي حصل سنة 1918 بين الحكومتين المصرية واليونانية فقضت المحكمة المختلطة بصحة حكم المزاد الصادر من المحكمة الأهلية عقب رفع دعوى القسمة وبعد أن اعترف الاتفاق المذكور بجنسيته اليونانية ولكن ذلك لم يحصل إلا بعد رفع دعوى القسمة وإن حصل قبل صدور الحكم، لذلك تبقى المحاكم الأهلية مختصة ويكون حكمها صحيحًا.
[(24)] راجع س م 16 مايو 1894 مج ت م 6 صـ (294) الوارد الجزء الأول من ملخصه في حاشية (2) بند (434) حيث يقول مسترسلاً وليست الحالة كذلك بالنسبة للمحاكم المختلطة فإنها ليست موصدة الأبواب في وجه الأهالي بل يدخل في تشكيلها قضاة من الأهالي وهي تقضي باسم الحكومة المصرية وبتفويض منها وهي وإن كانت غير مختصة مبدئيًا بقضايا الأهالي فيما بينهم إلا أن عدم الاختصاص هذا مما يهم الأشخاص فقط ratione personae وهو نسبي جدًا ويزول في أحوال عديدة نص عليها القانون وشملها بحكم خاص وعلى هذه الحال تعتبر الأحكام التي تصدرها بين الأهالي، رغم عدم اختصاصها بها، قابلة لأن تحوز قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا خصوصًا، كما في القضية التي انتهت بهذا الحكم، إذا قبل الشخص اعتباره أجنبيًا واتخذ لنفسه صفة الأجنبي أثناء الدعوى ثم جاء بعد الحكم بزمن طويل يدعي أنه وطني بقصد الحصول على إلغاء الحكم النهائي الصادر ضده، لذلك يصح تنفيذ الحكم المختلط الصادر في هذه الظروف بواسطة نفس السلطة القضائية التي أصدرته باعتباره أحد أحكامها ولو كان صادرًا بين خصوم كلهم من الأهالي ما دام أنه أصبح نهائيًا فإنه يكون غير قابل للطعن فيه بأي طريق حتى ولو كان ذلك لعدم الاختصاص.

بحث في قانون الشفعة وقانون التسجيل عبد الوهاب محمد المحامي

مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الخامسة –– يوليه سنة 1925

أبحاث قانونية وشؤون قضائية
بحث
في قانون الشفعة وقانون التسجيل

على أثر صدور القانون الخاص بالتسجيل قضى بعض المحاكم بعدم قبول دعاوى الشفعة التي لم يسجل المشترون فيها عقودهم مع إلزام رافعيها بالمصاريف وحفظ الحق لهم في العودة إلى الطلب في ظرف خمسة عشر يومًا من التاريخ الذي يسجل فيه المشتري عقده، وهذا بحجة أن القانون المذكور نص على عدم انتقال الملكية حتى بالنسبة للمتعاقدين إلا بالتسجيل وهذا رأي خطأ معطل لحق الشفعة الذي أقره الشرع والقانون معًا ومخالف للمبادئ والنصوص القانونية الصريحة، ويظهر هذا للقارئ بأجلي وضوح من البيانات الآتية:
( أ ) أن البيع شيء وانتقال الملكية للمشتري شيء آخر، فالبيع هو اتفاق إرادتي البائع والمشتري أحدهما على البيع والآخر على الشراء مع توافقهما على المبيع وثمنه. وأما انتقال الملكية للمشتري فهو نتيجة للبيع الذي يتم بتوفر أركانه المذكورة أي أنه ليس منه ولا ركنًا فيه بل ولا شرط صحة، وهذا متفق عليه من العلماء أجمع فضلاً عن النص عليه صريحًا في المادتين (236) و(266) مدني حيث بينت الأولى أركان البيع ونصت الثانية على أن انتقال الملكية للمشتري إنما هو نتيجة للبيع، ومن هذا يظهر خطأ المحاكم المذكورة مجسمًا فيما ذهبت إليه من تعليق الحكم بالشفعة على انتقال الملكية للمشتري بتسجيله عقده لأن الشفعة إنما تترتب على البيع وتوجد بوجوده لا على نتيجته التي هي انتقال الملكية ولا عن الاثنين مجتمعين كما ستراه بعد، ولو فرقت بينهما طبقًا لأحكام القانون وللمبادئ المتفق عليها من علماء الدنيا وتعرفت من طريق الشرع والقانون أن حق الشفعة يوجد من حيث يوجد البيع لا من حيث يوجد التسجيل الذي هو من عمل المشتري وحده لما وقعت فيما وقعت فيه من الخطأ.
(ب) كان انتقال الملكية يحصل بالنسبة للمتعاقدين بمجرد العقد وبالنسبة للغير بالتسجيل فجاء قانون التسجيل مسويًا بين الجميع في الحكم حيث نص على عدم انتقال الملكية حتى بالنسبة للمتعاقدين إلا بالتسجيل. وهذا النص لا يفهم منه البتة أن الشارع أراد أن يزيد على أركان البيع المعروفة ركنًا آخر جديدًا لا يتم ولا يقع بدونه وهو التسجيل حتى كان يصح القول بعدم وجود حق الشفعة لعدم وجود البيع بفقدانه ركنًا من أركانه، بل الذي يفهم منه هو أن الشارع أراد تعليق انتقال الملكية للمشتري على قيامه هو بتسجيل عقده أي أنه أراد تعليق نتيجة البيع على التسجيل حثًا للمشتري على التسجيل حتى تمتنع المنازعات التي كانت تنشأ من عدم التسجيل أو نقل، ويؤيد هذا من القانون المذكور أنه لم يحدد موعدًا للتسجيل بل ترك المشتري حرًا في اختيار الوقت الذي يسجل فيه عقده، ومعنى هذا أن البيع تام وحصل من قبل التسجيل وإلا لما أباح له التسجيل في الوقت الذي يختاره أو لحتم حصول التسجيل في مجلس العقد، على أن جواز التسجيل للمشتري في أي وقت شاء معناه أن التسجيل ليس ركنًا في البيع وأن انتقال الملكية بالتسجيل شيء غير البيع، وإذًا تكون المحاكم المذكورة مخطئة في رأيها لأن الشفعة مترتبة كما تقدم على البيع لا على انتقال لملكية.
(جـ) أن تعليق حق الشفيع على تسجيل المشتري خطأ لأنه في حالة القضاء له بالشفعة يعتبر متلقيًا للعين المشفوعة عن البائع لا عن المشتري وكل ما له من الضمانات القانونية يثبت له قانونًا على البائع دون المشتري ويكون حكمه بمثابة عقد بيع مبتدأ صادر له من البائع ومتى سجل هذا الحكم انتقلت الملكية إليه سواء كان المشتري سجل عقده أو لم يسجله.
(د) أن في الأخذ برأي المحاكم المذكور تعطيلاً للشفعة لأن التسجيل موكول لمشيئة المشتري، وهذا قد لا يسجل عقده حتى تمضي المواعيد المقررة لسقوط حق الشفعة وقد لا يسجل بالمرة لثقته بالبائع واكتفاءً بوضع يده حتى تمضي الخمس سنين المنصوص عليها في المادة (76) مدني فتنتقل له الملكية من هذا الطريق بدلاً من طريق التسجيل وفي كلتا الحالتين يكون حق الشفعة قد قضى نحبه.
(هـ) وفي أحكام المحاكم المذكورة مخالفة ظاهرة لقانون الشفعة وقضاء عليها حيث حفظت الحق للشفيع في العودة إلى الطلب في ظرف خمسة عشر يومًا من تاريخ التسجيل إذا حصل، ومفهوم ذلك أنه لا شفعة إذا لم يحصل التسجيل، وهذا خطأ لأن قانون التسجيل لم يشر إلى تعديل قانون الشفعة أو تقييده يقيد التسجيل، كما أنه لم يشر إلى تعديله من جهة جعل الخمسة عشر يومًا المقررة لإبداء الرغبة وعرض الثمن مبتدأة من تاريخ التسجيل بدلاً من أن تكون مبتدأة من تاريخ العلم بالبيع كما قضت المادة (19) وفي مقدور المشتري في حالة رفع الدعوى الجديدة بعد التسجيل أن يدفع بسقوط حق الشفيع في الشفعة لمضي خمسة عشر يومًا من تاريخ العلم بالبيع ولا يحولن بينه وبين هذا الدفع حفظ الحق للشفيع في الحكم السابق من رفع دعوى جديدة لأن عبارة حفظ الحق ليست من الأحكام في شيء ولا يتقيد بها القضاء في الدعوى الجديدة، ومن الخطأ في هذه الأحكام أيضًا أنها ألزمت رافعيها بالمصاريف مع أنها مرتكزة على عدم حصول التسجيل الذي هو من عمل المشتري وكان يجب لهذا السبب إلزامه بجميع المصاريف حتى غير الرسمية.
هذا ما عنَّ لي في هذا الموضوع أعرضه على حضرات المشتغلين بالقانون ليبدوا رأيهم فيه فيتبين وجه الصواب والله ولي التوفيق.

عبد الوهاب محمد
المحامي

المرافعات المدنية والتجارية والنظام القضائي في مصر محمد صبري أبو علم

مجلة المحاماة - عدد فبراير
السنة الثالثة

أبحاث قانونية وشؤون قضائية
المرافعات المدنية والتجارية والنظام القضائي في مصر

وضع الدكتور عبد الحميد أبو هيف بك منذ عشر سنوات كتابه في المرافعات المدنية فاهتم به رجال القانون وكتبوا عنه كثيرًا في الصحف السيارة والمجلات ورأوا فيه بحق أنه طليعة مباركة من طلائع نهضة القانون والفقه بمصر، ولسنا مغالين إذا قلنا بأن مرافعات أبو هيف بك قد عبرت طريقًا كان قبلها وعر المسلك وأزاحت عن أسرار المرافعات ستارًا وأطلعت على ليلها المظلم صبحًا ونهارًا فوجد الطالب على نورها هدى، ورأى فيها رجال القانون بين شارح له ومطبق لأحكامه ضالتهم التي ظلوا ينشدونها من يوم إنشاء المحاكم بمصر.
هذا رأي رجال القانون في الطبعة الأولى، واليوم نرى بين أيدينا (الطبعة الثانية) فنجد كتابًا جديدًا.. جديدًا في حجمه جديدًا في مادته جديدًا في مواضيعه، جديدًا في المجهود العظيم الذي وفره مؤلفه الكبير على إظهاره بثوب قشيب، ولكن الذي لم يتغير في الكتاب هو ذلك الطابع المخصوص الذي تمتاز به كتابات الأستاذ (أبو هيف بك).. دقة في البحث، عمق في الفكرة، طلاوة في الأسلوب، تحرٍ في التعبير، عدم الجمود على النصوص، مجاراة الحركة التشريعية في العالم وما تؤتيه كل يوم من رأي مبتكر وفكر جديد، نظرة شاملة وعين محيطة بكليات الموضوع بحيث لا تغادر منه جزئية ولا كلية إلا بسطتها وألقت عليها من شعاع فكرها نورًا لامعًا ومن ضوء عقلها سراجًا ساطعًا.
كانت الطبعة الأولى موجزًا في المرافعات أما الطبعة الثانية فمطول يغني عن الرجوع إلى سواه، وعلم له خواصه ومميزاته عما عداه فمن مميزات الطبعة الثانية:
أولاً: تلك التعليقات الضخمة التي ذيل بها المؤلف صحائف كتابه وجمع فيها كل ما صدر من الأحكام في مسائل المرافعات خلال السنوات العشرة الأخيرة وناقشها ونقدها وعلق عليها حتى أصبح بها كتابه جامعًا لنظريات الفقهاء وآراء القضاة.
ثانيًا: ما أحدثه من التوسع في شرح كثير من أبواب الكتاب نذكر منها، نقده لنظامنا القضائي (صـ 58 -60) وشرحه نظرية الصوالح المختلطة (صـ 250) والباب الذي عقده لشرح وظائف المحاكم (صـ 394 - 400) والآراء التي علق بها على اختصاص قاضي التحضير (صـ 560) في القضايا المستعجلة وبحث مسألة استئناف أحكام قاضي التحضير (صـ 567) والأحكام الغيابية (صـ 842 - 845).
ثالثًا: ما عقده من الأبواب الجديدة كشرحه نظرية القضاء المستعجل شرحًا وافيًا (صـ 741 - 755).
رابعًا: هذا كله عدا ما ألحقه بكتابه من الفهارس العربية والإفرنجية والجداول الموضحة لمواد القوانين والإشارة إلى الصحائف الواردة فيها.
هذا ما وسعنا أن نشير إليه بعد نظرة سريعة في هذا الكتاب القيم لم نأتِ على كل محتوياته ولم نتناول كل مباحثه العديدة الجديدة التي لا يخلو منها باب من أبوابه.
وإن (المحاماة) لتدون لحضرة الدكتور أبو هيف بك فخره الخالد الباقي بوضع هذا الكتاب الذي سيظل المرجع الذي يرجع إليه الطالب والقاضي والمحامي فيجد فيه كل حاجته وطلبته، يجد فيه الطالب المادة المكونة للفكرة القانونية لديه، ويجد فيه القاضي الحل الصحيح لعويصات المسائل، ويجد فيه المحامي خير مرشد يرجع إليه في رفع دعواه وتسييرها وإدارتها.
أما المشرع فما أحوجه إلى الرجوع إلى ما فيه من ضروب النقد ومشروعات الإصلاح حتى يتطهر قانون المرافعات من عيوبه ومفاسده، وتتخلص الإجراءات في أمام الحكم من ضروب التعقيد التي تشل سير القضاء ولا يزال يجد فيها المبطل من الخصوم وسيلة لكيد لخصمه وإرهاقه عدوانًا وظلمًا.

محمد صبري أبو علم
المحامي


قوة الأحكام الجنائية أمام المحاكم المدنية مرقس فهمي

مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة الثالثة - عدد مايو

قوة الأحكام الجنائية أمام المحاكم المدنية

البحث الأول: أثر الحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية:
يتناول بحثنا في هذا الموضوع بيان المسائل الآتية:
الأولى: فقه المحاكم المصرية فيه.
الثانية: آراء علماء القانون الفرنسوي وفقه المحاكم الأفرنسية.
الثالثة: مذهب القانون المصري وكيف يجب تطبيقه في هذا المقام.

1 - فقه الأحكام المصرية

قد يندفع المترافعون مع مصلحتهم فيرى كل منهم أن هذه مسألة بسيطة، الرأي الصحيح فيها ما كان موافقًا لطلباته، فإذا عثر على حكم يؤيد رأيه قال إن هذا ما أجمعت عليه الأحكام، وفي هذا من النقص في البحث وتعقيد مأمورية القاضي ما لا يسهل معه [(1)] وجهها الصحيح.
الواقع أن المسألة دقيقة معقدة، وقد اختلفت فيها الأحكام اختلافًا بينًا، بل قد اختلفت فيها الدائرة الواحدة، فقضت برأي ثم عدلت إلى نقيضه.
في 31 أكتوبر سنة 1901 قررت محكمة الاستئناف (دائرة المستر بوند) أن الحكم الجنائي لا أثر له أمام المحكمة المدنية وهذا نص أسباب الحكم حرفيًا:
(حيث إنه لا يوجد نص في القانون يقضي بجعل المحاكم المدنية مرتبطة بالأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية فيسوغ إذن لهذه المحكمة أن تنظر في دعوى تزوير العقد بالطرق المدنية).
(وحيث إن عبد الحافظ محمد أحد المستأنفين لم يطلب من هذه المحكمة الحكم بتعويض كما طلب أمام محكمة الجنح بصفته مدعيًا بحق مدني بل إن غاية ما يطلبه هو تزوير العقد) (المجموعة الرسمية السنة 4 عدد (15) صحيفة نمرة 37 – 39).
ظاهر من هذا البيان أن واقعة الدعوى التي صدر فيها الحكم أن دعوى التزوير الجنائية كانت قد تعلقت أمام القضاء الجنائي وأن النزاع فيها كان منظورًا بين المتمسك بالعقد وبين المدين فيه، وكان هذا الأخير داخلاً في الخصومة مدعيًا بحق مدني، فصدر الحكم بالبراءة في وجه الخصمين، ثم لما جاء دور المرافعة المدنية طعن المحكوم ضده بالتزوير مرة أخرى أمام المحكمة المدنية فقررت محكمة الاستئناف أن الحكم الجنائي الصادر في الدعوى العمومية وفي الدعوى المدنية معها لا قيمة له أمامها، لا لأنه صادر بالبراءة وأحكام البراءة هي وحدها التي لا يحتج بها أمام المحاكم المدنية كما يقول البعض استدلالاً بأقوال علماء القانون الفرنسوي، بل بناءً على ذلك المبدأ العام المقرر في الحكم بكل جلاء ووضوح وهو استقلال كل من القضائين الجنائي والمدني عن بعضهما استقلالاً لا يجعل لأحكام أحدهما أثرًا أمام الثاني لاختلاف الخصومة موضوعًا وسببًا، وإذا رجعنا إلى هذا المبدأ الأصلي في تحديد أركان الأحكام الانتهائية فلا فرق بين أحكام البراءة وأحكام العقوبة.
في سنة 1904 عرض الموضوع نفسه على جلسة أخرى (دائرة سعد زغلول) فذهبت إلى نقيض ما ذهبت إليه الدائرة السابقة، بل وبالغت في الرأي إلى حد الاحتجاج بالحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية وخضوع هذه المحكمة له وأن صدر بالبراءة خضوعًا مطلقًا في جميع تقريراته، حتى في ما خرج عن اختصاص المحكمة الجنائية كالتقرير بصورية العقد.
غير أن هذا الحكم وحيد في نوعه بل لا نجد له مثيلاً لا في الأحكام الأفرنسية ولا في آراء العلماء هناك فإنهم يرجحون كما سنرى الارتباط بالحكم الجنائي إذا صدر بالعقوبة، أما حكم البراءة فلا يعتد به، ثم إنهم مع اتفاق جمهورهم على هذا المبدأ يحددونه بأن يكون ما حكم فيه القاضي الجنائي داخلاً ضمن اختصاصه المحدد بوقائعه المعروفة وليست صورية العقد منها.
في 13 فبراير سنة 1909 عرضت المسألة على محكمة النقض والإبرام (رئاسة المستر بوند أيضًا) فاضطرب رأيها في الموضوع، فقررت في الحكم مبدأ ثم خرجت في التطبيق عن قبول نتائجه القانونية، لهذا رأينا الحكم لا يقبل من المدعي المدني الرجوع إلى دعوى التزوير أمام محكمة الجنح بعد الحكم فيها مدنيًا بناءً على استقلال القضائيين، بل قضى بأن المحكمة الجنائية يجب عليها أن تحترم الحكم المدني ولكن في علاقات الخصمين المترافعين وحدهما فللحكم قوة الشيء المحكوم فيه فيما يختص بالحق المدني، أما فيما يختص بالتزوير الجنائي وهو موضوع الدعوى العمومية فالحكم المدني لا أثر له بناءً على استقلال القضائين فقبلت الدعوى العمومية وقضت بعدم قبول الدعوى (1).
قد يفهم أن هذا ليس عدولاً عن مبدأ الحكم الأول، لأن في قبول الدعوى العمومية تأييدًا لاستقلال المحكمة الجنائية وعدم خضوعها لحكم المحكمة المدنية، وهذا معنى استقلال القضائين عن بعضهما ذلك الاستقلال المقرر في حكم سنة 1901.
غير أن هذا خطأ لأن حكم سنة 1901 قبل النزاع المدني بين نفس الخصمين اللذين ترافعا أمام المحكمة الجنائية وصدر الحكم في خصومتهما، وفي الموضوع المتفرع عن نفس الواقعة التي كانت محلاً للمرافعة الجنائية فكان يجب على هذا أن تقبل مرافعة المدعي المدني أمام المحكمة الجنائية رغمًا عن مرافعته أمام المحكمة المدنية فعدم قبول الدعوى قيد من قيود الاستقلال الذي تقرر في الحكم الأول.
وأظهر من هذا أن المبدأ المقرر في حكم سنة 1901 إنما سببه القضائي اختلاف الخصومتين أمام القضاء الجنائي والمدني موضوعًا وسببًا، فإن الخصومة الجنائية موضوعها تعويض والمدنية موضوعها نفس الحق المدني المتنازع عليه في ذاته، وسبب الخصومة الجنائية واقعة وسبب الخصومة المدنية رابطة قانونية مستفادة من عقد متنازع فيه، ووضع النظرية على هذا الأساس – وهو أساس متين - يقتضي أن لا يكون للحكم المدني أثر أمام المحكمة الجنائية.
على أن قبول الدعوى الجنائية بناءً على استقلال القضائين كان يترتب عليه حتمًا قبول الدعوى المدنية لأن كل واقعة جنائية إذا ثبتت تقتضي حتمًا وبمجرد إثباتها حق التعويض لمن وقعت عليه، وليس من الممكن أن يقرر القضاء أن جناية وقعت على زيد ثم يقضي في الوقت ذاته أن المجني عليه لا تعويض له فليس من الجنايات ما لا يجوز تعويض ضرره أو إزالة آثارها المدنية الظالمة.
الذي نفهمه أن لا جناية بغير مجني عليه وأن انعدام شخص المجني عليه يجعل الجناية مستحيلة فالدعوى العمومية مستحيلة الوجود بل مستحيلة التصور لأنه لا يمكن تعليق واقعتها في الهواء أو حصرها في حيز الفكر والوهم النظري.
لهذا قلنا إن الحكم مضطرب وما عنينا بشأن اضطرابه إلا بيانًا لخطورة المسألة وأهميتها، وتعلقها بمبادئ عديدة قد يغيب على ذهن الباحث بعضها ويحضره البعض، فيثبت رأيه على ما لا يوافق الأحكام المقررة في القانون أو المستفادة من مبادئه، ويكفي مطالعة أسباب الحكم ليتبين كيف أن المسألة دقيقة وكيف أن هذه الأسباب تدل على عدم اتفاق الحكم مع المبدأ الذي تقرر في حكم سنة 1901.
يقول الحكم ما نصه:
(وحيث إن هذه الدعوى قد توفرت فيها كافة الشروط المطلوبة لتطبيق مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا على الدعوى المرفوعة من المدعين بالحق المدني لأن الخصوم هم أنفسهم في كل من الدعويين ويعتبر أن المطلوب في الدعويين واحد، والسبب فيهما واحد أيضًا متى كانت الدعويان مختصتين بشيء واحد ولو اختلف وصفهما والمسألة المطلوب الفصل فيها نهائيًا من المحكمة هي وذاتها مبنية على السبب ذاته. المجموعة الرسمية سنة 10 صحيفة 167).
الفرق واضح بين هذا وبين قوله في حكم سنة 1901 أن المدعي لا يطلب من المحكمة المدنية الحكم بتعويض كما طلب أمام محكمة الجنح، بل هو يطلب الحكم بتزوير العقد نفسه مدللاً بذلك على اختلاف الخصومتين موضوعًا وسببًا، أما هنا فقد أصبحت الخصومتان المختلفتان خصومة واحدة لمجرد تعلقهما بواقعة واحدة وهي الواقعة الجنائية المطروحة أمام القضائين.
في 21 يناير 1913 حكمت محكمة الاستئناف (دائرة يحيى باشا) على خلاف حكم سنة 1901 وعلى خلاف حكم سنة 1909 من حيث المبدأ والنتيجة فقررت أن الحكم بالبراءة ترتبط به المحكمة المدنية فيمنع من الرجوع إلى دعوى التزوير مدنيًا.
يقول الحكم ما نصه:
(وحيث بناءً على ذلك تكون تهمة التزوير قضي فيها نهائيًا والدعوى الحالية المطلوب فيها إلغاء عقد الرهن ومحو التسجيلات المتوقعة مبنية فقط على الادعاء بتزوير هذا العقد الذي يرجع فيه إلى الحكم الصادر في دعوى التزوير. مجموعة سنة 14 عدد (50).
عُرضت المسألة أخيرًا على محكمة النقض في أول يوليو سنة 1918 فأيدت من جديد مبدأ حكم سنة 1901 القائل باستقلال القضائين، واختلاف الخصومتين موضوعًا وسببًا وعدم جواز تقيد أحد القضائين بحكم الآخر ورجعت عن حكم سنة 1909 رجوعًا صريحًا.
جاء في حكم النقض ما نصه:
(وحيث بناءً على ذلك تكون الدعوى الحالية المؤسسة على الضرر المادي والأدبي الذي لحق بالمدعي المدني أثناء سير القضية المدنية لسبب التزوير تعتبر دعوى يختلف موضوعها اختلافًا تامًا عن دعوى المطالبة بالدين التي حكمت فيها المحكمة المدنية كما أن القيمة المطالب بها في كليهما مختلفة أيضًا فلا يصح القول والحالة هذه بسبق الفصل في دعوى التعويض الحالية. مجموعة سنة 20 عدد 2).
وإذا جاز بعد بيان أحكام محكمة الاستئناف وأحكام محكمة النقض والإبرام أن نذكر على سبيل إتمام البحث ما نشر من أحكام المحاكم الابتدائية التي رأت إدارة المجموعة نشرها لأهمية مباحثها، فإن في المجموعة حكمين صادرين من محكمة بني سويف بصفة استئنافية وهذا بيان كل منهما.
حكم 6 يناير سنة 1910 جاء في بحث مطول ما نصه:
إن مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا المنصوص عنه في المادة (232) مدني لا يمنع من إقامة الدعوى العمومية مباشرةً لأن الأحكام المدنية فصلت في حقوق مختلف موضوعها وسببها عن موضوع وسبب الحق المطلوب في الدعاوى الجنائية. مجموعة سنة 11 عدد 46).
وحكم 3 فبراير سنة 1912 جاء فيه ضمن بحث مستفيض أيضًا ما نصه:
(حيث إنه ليس يوجد في القوانين المصرية نصوص تشير إلى أن للأحكام الجنائية قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا على الدعاوى المدنية المتفرعة من الجرائم مثل النصوص الموجودة في القوانين الفرنسوية. المجموعة سنة 1913 عدد 118).
واضح إذًا من هذا أن فقه المحاكم وإن اعتراه شيء من الضعف والاضطراب، إلا أن أكثر مظاهره ومعها حكم النقض والإبرام الأخير (يونيو سنة 1918) صريحة في تقرير مبادئ الاستقلال بين السلطتين المدنية والجنائية، والاختلاف بين الخصومتين المدنية والجنائية اختلافًا يلحق بالموضوع وبالسبب، وعلى هذا فلا يحتج أمام إحداهما بقوة الشيء المحكوم فيه بناءً على حكم الأخرى، بل كل سلطة إنما تتقيد بالحكم الذي يصدر منها، وكل سلطة حرة في بحث الموضوع المطروح أمامها من جديد كأنه لم يصدر فيه قضاء، وذلك حتى بين الخصمين اللذين قامت خصومتهما أمام القضاء الجنائي ثم رجعا للمرافعة أمام المحكمة المدنية أو بالعكس.

2 - علماء القانون الأفرنسي

إذا كان قانوننا منقولاً عن القانون الأفرنسي وكان من الواجب أن نرجع إلى ما أجمع عليه العلم والعمل هناك لحل النقط الغامضة وهي كثيرة، فمما لا خلاف فيه أنه يجب أن لا تكون هذه المراجعة قاصرة على مجرد حفظ ما ورد في تلك المطولات وتطبيقه على قانوننا بدون ملاحظة الفوارق بين القانونين إن وُجدت.
نقول هذا لأننا لاحظنا في كل بحث في هذا الموضوع اقتصار الباحثين على نقل ما ورد في داللوز وأحكام المحاكم المنشورة فيه، فيقولون إن الإجماع مقرر هناك على أن للأحكام الجنائية أثر قطعي أمام المحكمة المدنية، خصوصًا إذا قامت الخصومة الجنائية بين المتهم وبين المدعي المدني فيجب أن يكون القضاء عندنا على هذا المبدأ لاتفاق القانونين.
الواقع أن بين القانون الأفرنسي وبين القانون المصري خلاف كبير في النصوص وما كان هذا الخلاف عفوًا.
ففي فاتحة قانون تحقيق الجنايات نص صريح (المادة 3) يقضي أن الجنائي يوقف المدني، وفيه نص أيضًا (المادة 463) يقضي صراحةً بأن المحكمة الجنائية عند الحكم بالتزوير ولو في غيبة المدعي المدني يجب عليها أن تعدم الورقة المزورة.
استنتج العلماء هناك من هذه النصوص الصريحة - وجرى العمل على استنتاجهم - أن المحاكم المدنية ملزمة أن تحترم الأحكام الجنائية، لأن الشارع لو لم يرد ذلك لما أوقف الدعاوي المدنية حتى يفصل في الدعاوي الجنائية، ولأنه إذا لم يرد ذلك لما أعطى للمحكمة الجنائية حق إعدام الورقة وفي هذا من قطع طريق البحث أمام المحكمة المدنية ما هو واضح.
على أن وجود هذين النصين مع قوة الحجة المستفادة منهما لم يمنع بعض العلماء هناك ومن أكابرهم (توليه Toullier) و(أرمان داللوز Arman Dalloz) أن يذهبا إلى أن أحكام المحاكم الجنائية لا قيمة لها أمام المحاكم المدنية إذا كان في الخصومة شخص لم يكن خصمًا في الحكم الجنائي، وقد قامت في هذا الموضوع مناظرة مشهورة لا محل لبيانها تفصيلاً.
كذلك لم يكن لهذين النصين أثر يجعل المبدأ المستفاد منهما واجب التطبيق على إطلاقه، فذهب بعض الأحكام إلى الأخذ بمبدأ الاستقلال بين القضائين الجنائي والمدني بسبب الاختلاف بين الخصومتين المدنية والجنائية موضوعًا وسببًا.
جاء في داللوز جزء (8) باب (الشيء المحكوم فيه) صحيفة (458) فقرة (549) ما تعريبه:
(ومع هذا فقد حكم طبقًا لرأي توليه وداللوز...
2 - أن الواقعة التي تثبت في حكم جنائي لا تنهض حجة أمام القاضي المدني.
3 - وأن الحكم الجنائي ليس له قوة الشيء المحكوم فيه أمام المحكمة المدنية لكنه يعتبر قرينة يجوز للقضاة إذا ضموها إلى قرائن أخرى أن يعتبروا المجموع مؤديًا لتوجيه اليمين المتممة).
ثم قال:
(ومن رأينا أيضًا أنه يجوز لمن حكم عليه بتقليد اختراع غيره أن يرجع أمام المحكمة المدنية إلى النزاع في هذا الموضوع بناءً على أدلة لم تُطرح أمام المحكمة الجنائية).
كذلك لم تكن هذه النصوص بمانعة من اتفاق جمهور العلماء هناك على أن أحكام البراءة لا قيمة لها أمام المحكمة المدنية إلا في أحوال خاصة ففرقوا بين أحكام البراءة المبنية على أن الواقعة لم تحصل أصلاً، وبين الأحكام المبنية على أن المتهم لم يرتكب الواقعة أو أن الأدلة غير كافية، وجعلوا لكل حالة حكمًا.
على أن عيوب هذه النظرية في جملتها لا تخفى ولا يلزم لتفنيدها كثير من التعمق في المسائل القانونية:
فأولاً: أن التفرقة بين حكم العقوبة وبين حكم البراءة والقول إن الأول حجة والثاني لا أثر له إنما هي تفرقة لا مبرر لها من جهة القانون ثم لا يمكن قبولها لا عقلاً ولا قانونًا، لأنه لا يمكن أن يكون عمل السلطة الواحدة نافذًا في حالة وغير نافذ في أخرى، وهي تعمل في الحالتين بصفتها سلطة قانونية مختصة لا يمكن الطعن على عملها بتجاوز حد الاختصاص ولا بالبطلان، فلو كانت أحكام لها حجة قاطعة لوجب أن تكون كذلك سواء صدرت بالعقوبة أو بالبراءة.
وثانيًا: لأن البحث في معرفة سبب البراءة والخضوع إلى هذا السبب خروج بالمحاكم والمترافعين عن كل مبادئ القانون فإن قوة الشيء المحكوم فيه محددة برواية الحكم وحدها، أما أسباب الأحكام سواء كانت واقعية أو قانونية فهي آراء لا يتقيد بها أحد، ولا نفس القاضي الذي كتبها بيده فهي من باب أولى لا تقوم حجة على محكمة أخرى وفي خصومة غير الخصومة التي صدرت فيها.
وقد لاحظ هذه العيوب كل من A. Dolloz وToullier استدلالاً على أن مبدأ التمسك بالحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية، إذا كان صادرًا بالعقوبة، مبدأ مشكوك في صحته بل مخالف لأحكام القانون العامة.
هذا مركز المسألة التي نبحثها في قانون قرر بصريح العبارة في مادتين مختلفتين ما يفيد على رأي الجمهور أن للقضاء الجنائي أمام المحكمة المدنية رأى نهائي لا يقبل النزاع بوجه من الوجوه، فلم يبقَ علينا إلا بيان المسألة وفقًا للقانون عندنا.

3 - حكم القانون المصري

يتناول الشارع المصري القانون الأفرنسي ليقتبس منه (بعد أن جرب تشريعه قرنًا إلا قليلاً فأظهرت الحوادث عيوب بعض نصوصه ودل العلماء بأبحاثهم على مواطن الضعف فيها، وقام الخلاف بينهم في تفسير الغامض منها) فوجد النص الأول من قانون تحقيق الجنايات (المادة 3) التي أشرنا إليها وهي تقضي بأن المحكمة المدنية يجب عليها عند قيام خصومة جنائية أن توقف الفصل في الخصومة المنظورة أمامها. قرأها الشارع وهو ينقل النصوص نقلاً يكاد يكون حرفيًا لكنه ترك هذا النص تركًا لا شك في أنه مقصود، ولا يستطيع أحد التدليل على أن قصد الشارع المصري هو المحافظة على استقلال القضائين استقلالاً تامًا كاملاً بأكثر من هذا العمل الذي لا يقبل نزاعًا ولا جدلاً.
قلنا إن هذا نصًا ليس وحيدًا بل هناك نص آخر (مادة 463) وهو نتيجة لذلك النص الأول فلما وصل إليه شارعنا تركه أيضًا، ولم ينقله ضمن نصوصه، فعمل الشارع إذًا عمل مقصود ومتماسك في أجزائه، فاتفق قصد الشارع في أول القانون مع قصده في أواخره فلا سبيل لحمل هذا الموقف على مجرد ترك نص أو إهماله عفوًا.
وفي الواقع فإن هاتين المادتين لا يتطابق حكمهما مع أية قاعدة من قواعد القانون الأفرنسي ولا مع مبادئه، وقد كانت سببًا في ذلك الخلاف الذي أشرنا إليه كما كانتا سببًا في شذوذ جمهور العلماء والأحكام عن الأصول المتفق عليها. فرأيناهم بعد خلطهم بين القضائين الجنائي والمدني، وبعد أن غرهم النص فجعلوا يلتمسون له عذرًا بتوحيد الخصومتين المدنية والجنائية وجعلها خصومة واحدة متحدة في الموضوع والسبب، وهذا ما لا يتفق مع الواقع ولا يقول به العقل، رأيناهم بعد كل هذا قد اضطروا إلى اعتبار أسباب الأحكام الجنائية هي بذاتها أحكامًا نهائيًا ليجدوا من ذلك سبيلاً يحققون به بعض المتناقضات الناشئة عن مبدأ خضوع المحاكم المدنية لأسباب القضاء الجنائي فخرجوا من خطأ إلى غيره يقصدون بذلك إصلاح الخطأ الأول فأعطوا للمحكمة المدنية حق الخروج من قوة رواية الحكم بناءً على سبب من أسبابه، لعلهم بذلك يصلون إلى بحث القضية من جديد.
وحتى لا يبقى شك في نفس الباحث ليحكم بأن خلو قانوننا من نصوص القانون الأفرنسي من شأنه أن يجعل المبدأ عندنا على خلاف ذلك المبدأ المقرر هناك، يحسن أن ننقل على سبيل المثال رأي بعض العلماء القائلين باتخاذ الأحكام الجنائية حجة أمام المحكمة المدنية، فإنهم يقررون صراحةً أنه لولا هذين النصين لكان إجماعهم معنا وعلى خلاف ما ذهبوا إليه، ونختار من بينهم من عُني ببحث مسألة قوة الشيء المحكوم فيه، فوضع لها مجلدًا خاصًا (لاكوست lacoste).
يقول هذا الأستاذ في صفحة (363) و(364):
(الحكم يقوم حجة مانعة من تجديد النزاع بشرط اتحاد موضوع الخصومة في القضيتين واتحاد الخصوم، وقد استنتجوا من هذا أنه للبحث في هل للحكم الجنائي أثر أمام المحكمة المدنية يجب الرجوع إلى هذه القاعدة.
وقد حاول Merlin إثبات أنه يرى في كل من الخصومتين اتحادًا في الموضوع، وفي الأخصام وفي السبب، أما في الخصوم فلأن المدعي المدني تمثله النيابة، وأما في الموضوع فلأن الدعويين المدنية والجنائية وإن اختلفتا في الطلب الفعلي لأن الموضوع في الأولى مطالبة بتعويض الضرر وفي الثانية طلب توقيع العقوبة، إلا أن أساس الطلبين واحد وهو ارتكاب الجنحة. وأما اتحاد السبب فلأن الطلبين ناتجان من واقعة واحدة ولكن توليه (Toullier) يطعن على رأي مرلين ويرى أنه لا اتفاق بين الموضوع ولا بين الخصوم، أما بين الخصوم فلأن المجني عليه لا تمثله النيابة، وأما في الموضوع فلأنه فرق بين توقيع العقوبة وبين طلب التعويض).
ثم قال في صفحة (365) فقرة (1062):
(وإننا نخالف مرلين ومانجين في رأيهما ونرى أن الدعويين المدنية والجنائية تختلفان باختلاف الخصوم).
وبناءً على ذلك فإذا كان هذا الخلاف يجب حله بمقتضى مبادئ قوة الشيء المحكوم فيه على ما تقرر في المادة (1351) من القانون المدني بدون الاستعانة بمواد أخرى فمن الواجب التقرير أن القاضي المدني لا يرتبط بحكم القاضي الجنائي بحال من الأحوال.
هذا ما يجب أن يقف عنده من يريد البحث في القانون المصري، فإنه خلو من أي نص آخر غير المادة (232) مدني (1351 فرنسوي) فلا شك حينئذٍ في أن المبدأ الصحيح عندنا إنما هو القائل بأن المحاكم المدنية لا تتقيد بالأحكام الجنائية، لأن عدم وجود النص الوارد في قانون تحقيق الجنايات الفرنسوي في القانون المصري قاطع في هذا الموضوع وذلك بتقرير نفس أصحاب الرأي القائل بخضوع المحاكم المدنية للأحكام الجنائية في فرنسا.
يظهر من هذا مقدار خطأ الذين أرادوا الأخذ بالمبادئ المقررة في كتب المفسرين والأحكام الأفرنسية واعتبارها مبدأ يجب تطبيقه عندنا على وهم أن القانون واحد هنا وهناك إن لم يكن في النص ففي المبادئ، والواقع أن مبدأ أولئك العلماء مستفاد من نص استثنائي لم يرد في قانوننا، ويقول المفسرون إنه لولا وجود هذا النص لكان حكمهم على غير ما قرروا.
وجدنا في المجموعة حكمًا أغفلناه عند تحديد فقه المحاكم المصرية في هذا الموضوع لأنه صادر من محكمة دسوق الجزئية فليس من شأنه أن يكون له أثر في تقرير المبادئ على وجه العموم لكنا نشير إليه الآن مثالاً للخطأ الذي ينتج من نقل النصوص الأجنبية وتطبيقها كما هي بدون مراعاة الفارق بين القانونين. وفي الواقع فإن الحكم مسند إلى ما ورد في داللوز في باب قوة الشيء المحكوم فيه، وهذا سنده الوحيد ولا يمكن أن يكون لمثله من الأحكام أي سند آخر، ويقول داللوز صراحةً كما قال lacoste الذي نقلنا رأيه حرفيًا إنه لولا وجود النص في القانون الأفرنسي لكان حكم النصوص والمبادئ أن حكم القضاء الجنائي لا قيمة له أمام القضاء المدني أصلاً.
من المهم في هذا المقام ملاحظة أن الخلاف قائم بين مفسري القانون الأفرنسي في حالة الدعوى المدنية الناشئة عن الجناية مباشرةً، أي ما نسميه في قانوننا (الادعاء بحق مدني) وموضوع الدعوى في هذا المقام طلب تعويض الضرر الناشئ من ارتكاب الجناية، وكل الأحكام التي نقرأها في كتاب lacoste إنما موضوعها الخلاف بين هاتين الدعويين العمومية والمدنية الناشئتين عن واقعة واحدة، ورغمًا عن هذا كان تقرير المفسرين أن هاتين الدعويين مستقلتان طبقًا لقواعد القانون المدني وعلى مقتضى مبادئ قوة الشيء المحكوم فيه.
وما وجدوا سندًا للاحتجاج بالحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية إلا في النصين اللذين ذكرناهما وهما غير موجودين عندنا وإذا كان هذا الخلاف واقعًا حتى فيما يختص بدعوى التعويض الناشئة عن ارتكاب الجناية فما بالك بالدعاوى المدنية الأصلية المستقلة في موضوعها وفي الحق المدني المتنازع عليه، كنزاع في ملك أو في دين فإن الخصومة المدنية المنظورة أمام المحكمة المدنية المختصة لا يمكن لأحد أن يتصورها تابعة للواقعة الجنائية أو ناشئة عنها، فسريان الحكم الجنائي عليها لا نفهم له سببًا، لا من جهة القانون، ولا من جهة الواقع، ولا من جهة العقل.
قلنا إن الشارع المصري أغفل النصين الواردين في قانون تحقيق الجنايات الفرنسوي قصدًا وإنهما في الواقع نصان استثنائيان متناقضان مع جميع أحكام ونصوص مبادئ القانون الأخرى فحكمهما لا يتفق مع أحكام القانون المصري بل يناقضها.
ونريد أن نبين هنا وجوه ذلك التناقض فتظهر الأدلة التشريعية الصريحة قاضية على مبدأ الاحتجاج بالأحكام الجنائية أمام القضاء المدني:
أولاً: يحول دون هذا المبدأ قواعد الاختصاص، وهي قواعد أصلية قررها الشارع محافظةً على المصلحة العامة ولا يمكنه تقريرها من جهة ثم العمل على هدمها من جهة أخرى.
المحكمة الجزئية لا تختص في المسائل المدنية بالحكم في أكثر من ماية وخمسين جنيهًا لكنها تختص بالحكم في عقوبة التزوير ولو كانت الأوراق المدعى بتزويرها تشمل آلافًا.
أمام تقرير الاختصاص بهذه الحدود فإن مبدأ اتخاذ الحكم الجنائي حجة أمام المحكمة المدنية يقضي بالتسليم بأن حكم القاضي الجزئي في دعوى التزوير قد فصل نهائيًا في عقد خارج عن اختصاصه مدنيًا فعطل سلطة المحكمة المدنية المنظورة أمامها الدعوى وهي المختصة وحدها بالفصل فيها، فزال اختصاصها وأصبحت خاضعة لحكم قاضٍ يقول القانون صراحةً إنه غير مختص بالفصل في النزاع المطروح لديه، وإذا تعرض للفصل فيه فعمله باطل لا قيمة له.
أيمكن لأحد أن يوفق بين هذا التناقض توفيقًا فيه مسحة الرشد والتعقل؟
إنه لا سبيل إلى تطبيق القانون بنصوصه الصريحة وبأحكامه المعقولة إلا إذا وضع صراحةً مبدأ الاستقلال بين القضائين استقلالاً تامًا كاملاً، كل يعمل في دائرة اختصاصه المحدودة فالجنائي اختصاصه محدود بتوقيع العقوبة ليس إلا، والمدني اختصاصه الحقوق المتنازع عليها، فلا يجوز لإحدى السلطتين أن تتعدى على الأخرى، ولا تؤخذ أحكامها حجة أمام الأخرى إلى حد إعدام سلطتها وتحويل وظيفة القاضي إلى مجرد تدوين حكم غيره في سجله حتى في دعوى تقررت أنها من اختصاصه وحده وأن قاضي الجناية لا يختص بالفصل فيها بحال من الأحوال.
ثانيًا: كذلك وضع القانون نصًا صريحًا بيّن فيه شروط الاحتجاج بقوة الشيء المحكوم فيه وهي المانعة وحدها للقاضي من إعادة البحث في الدعوى فقرر في مادة (232) مدني أن القاضي لا يمنعه حكم سابق سواء كان صادرًا منه نفسه أو من غيره إلا إذا اتحدت الخصومة في الموضوع وفي السبب وفي شخصية الأخصام وفي صفاتهم، ولا يقول أحد إن المرافعة أمام المحاكم الجنائية يمكن أن يكون موضوعها الحكم بملكية ماية فدان أو خمسمائة فدان، فإن هذا محفوظ طبعًا لاختصاص المحاكم المدنية. ولا يقول أحد إن طلب توقيع العقوبة هو بذاته طلب الحكم بملكية أطيان أو بدين معين، ولا يقول أحد إن طلب التعويض الناشئ عن ارتكاب جنحة هو بنفسه طلب الحكم بالملكية أو بالدين. ولا يقول أحد إن سبب الحكم الجنائي وهو ارتكاب الجنحة هو بذاته سبب الدعوى المدنية وهي الملكية أو العقد المدعى بتزويره.
هذا الخلاف العظيم في جميع أركان الخصومتين من شأنه استقلال القضائين - كل في أحكامه - فكل قاضٍ مقيد باختصاصه، وهو مسؤول عن القيام بواجباته طبقًا للقانون وضميره، لا يهمه في ذلك رأى قاضٍ آخر في مثل ما يعرض عليه.
هذان أمران كليان من أصول التشريع ومن دعائم النظام، فالمصلحة العامة في المحافظة على قواعدهما ظاهرة واضحة، وسنجد فيما يجيء من صريح النصوص التي تفرعت عن هذين الأصلين ما يدل على خطأ الرأي القائل بارتباط أحد القضائين بأحكام الآخر.
ثالثًا: نصت المادة (372) مرافعات أن الحكم المدني الانتهائي تعدل عنه المحكمة إذا حكم بتزوير ورقة أسند إليها الحكم.
وفي هذا النص تصريح بأنه رغمًا عن الحكم المدني بصحة ورقة وبتمليك الحق المقرر بها فإنه يجوز لمحكمة الجنح أن تضرب صفحًا عن هذا الحكم وأن تحكم بتزويرها إذا رأت لذلك وجهًا، وما كان خوف التناقض بين الحكمين سببًا لغل يد القاضي الجنائي حتى لا تظهر تلك الفضيحة الاجتماعية، فضيحة وجود حكم ثبت أنه على غير حق.
ولا يمكن القول هنا إن دعوى التزوير العمومية هي وحدها التي يجوز قبولها دون الدعوى المدنية كما جاء في حكم النقض والإبرام الصادر في سنة 1909 والذي نقلناه في صدر هذا البحث، وذلك لأن قانون تحقيق الجنايات ينص على أن كل جنحة تنظر أمام المحكمة تتبعها حتمًا دعواها المدنية المتفرعة عنها ولا يمكن تصور جنحة بلا مجني عليه من حقه أن يطلب تعويضًا كما قلنا فيما مضى.
وفضلاً عن هذا فإن في حكم المادة (372) قضاء على مذهب عدم قبول الدعوى المدنية أمام محكمة الجنح لأنه ما دام أن الحكم بالتزوير ينتفع به من حكم ضده مدنيًا بنص القانون فله بطبيعة الحال أن يشترك في الخصومة التي تؤدي إليه، وإلا إذا كان ممنوعًا من المرافعة فيها لأنه قد حكم في حقه نهائيًا وليس له حق الخصومة من جديد، فمن البديهي أن الحكم الذي يصدر في الدعوى الجنائية يبقى بالنسبة إليه كان لم يصدر، ولا يجوز له التمسك به أصلاً فتقرير الشارع أن هذا الحكم يجوز للمحكوم ضده أن يتمسك به معناه الصريح أن للمحكوم ضده مدنيًا حق المرافعة من جديد أمام محكمة الجنح ليتوصل إلى استصدار حكم من حقوقه أن يسعى إليه وأن يتخذه لمصلحته لبطلان ذلك القضاء المدني الذي يراه ضارًا بحقوقه.
رابعًا: كذلك تقضي المادة (234) تحقيق جنايات أن الحكم الجنائي الصادر بالعقوبة يجب بطلانه إذا حكم بتزوير شهادة الشهود الذين قام الحكم على شهادتهم.
في هذا المقام لا يخلو الحال من أمرين فإما أن يصدر الحكم ضد الشهود من محكمة الجنح ومعنى هذا أن محكمة الجنح المختصة بالحكم في الشهادة المزورة ليست مرتبطة بالقضاء الجنائي الصادر بالعقوبة وأن احتمال ظهور بطلان تلك العقوبة القديمة لم يكن مانعًا من إجراء سلطة القاضي على أصلها ما دام أنه مختص بموضوع الدعوى المعلقة أمامه وما دام أن هذا الموضوع يختلف عن موضوع الحكم السابق وصيغته ووصفه، فإذا كان نفس القاضي الجنائي غير مرتبط بحكم جنائي سابق فمن باب أولى يكون القاضي المدني غير مرتبط بهذا الحكم ما دام أن الموضوع المطروح أمامه هو من اختصاصه.
وإما أن يصدر الحكم ضد الشهود من محكمة مدنية في حالة سقوط العقوبة بمضي المدة، وفي هذا أيضًا دلالة على أن المحكمة المدنية يجوز لها في دائرة اختصاصها أن تقضي قضاءً يفيد صراحةً وبلا مواربة بطلان الحكم الجنائي.
بناءً على هذا لا ندري لماذا يراد وهذه نصوص القانون الصريحة أن تكون المحكمة المدنية المختصة بالفصل في الملكية وفي العقود المنظورة أمامها ملزمة بالتنازل عن اختصاصها وبالخضوع لحكم قاضٍ يصرح القانون بأنه غير مختص ببطلان العقود لا مباشرةً ولا بالواسطة، وما منع عنه القاضي مباشرةً يبقى بالطبع ممنوعًا عنه على الدوام ولا يجوز التحايل على رفع هذا المنع بطريقة من الطرق، لأن الحيل القانونية قد مضى عهدها ولا تُقبل في عصر التشريع الحاضر.
أما من جهة فائدة الاجتماع فلا ننكر أنه ليس من الحسن ولا مما تطمئن له القلوب أن يقرر قاضي العقوبة بأن زيدًا زور عقدًا، ثم يقرر القاضي المدني أن العقد صحيح، فيظهر أن الجمعية قد عاقبت أحد أفرادها ظلمًا.
نقول هذا غير حسن لكن الجناية الصحيحة أن تغل يد القضاء، وأن يُكرَه القاضي على تجريد رجل من ماله ظلمًا رغبةً في ستر ظلم قد انتهى بتوقيع العقوبة، كأن من واجبات القضاة أن يتضامنوا أو من مصلحة الإجماع أن تستر جناية سابقة بجناية جديدة!!
إنه لمن أسمى الواجبات وأولاها أن يرفع ظلم قُضي به خطأ الإنسان، فإذا ظهر من الظروف ما يسمح بظهور الحق في دائرة القانون فالقضاة آذان واعية وقلوب مضطربة لإعلان الحق لا خوفًا من ظهوره، وإني أرى في تلك الحجة التي يقيمها أصحاب الرأي المخالف سبة للقضاء وإنكارًا لمأموريته الاجتماعية الصحيحة.
ومن غرائب الأمور أن يحتج القائلون بمنع القاضي المدني من سلطته بأن هذا من دواعي الثقة بالأحكام لمنع التناقض بينهما، وما دروا أنهم بمجرد احتمالهم لهذا التناقض قد نزعوا كل ثقة بالحكم القديم فافترضوه ظلمًا يجب عدم البحث فيه، ثم هم من جهة أخرى قد فرضوا على القاضي المدني واجب التضامن مع القاضي الجنائي في الشر، فسندهم إنما هو الطعن الصريح على عدالة القاضيين الأول والثاني وذلك بحجة المحافظة على هذه العدالة نفسها!!
إنما مصلحة الاجتماع تنحصر في إقامة العدل وفي إعلان الثقة بالقاضي وعدالته ولا يتفق هذا مع الاضطراب المستمر على الأحكام وتخوف العدول عنها، فإن كان هذا العدول بحق، فهو واجب مرغوب فيه والعدالة لا تستقيم بدونه، وإن كان العدول بغير حق محتملاً فهذا طعن على ذمة القاضي المنظور أمامه النزاع الأخير.
إن مصلحة الاجتماع في المحافظة على قواعد الاختصاص وفي المحافظة على قاعدة الشيء المحكوم فيه بحدودها الموضوعية فلا تترك الأحكام فوضى.
ومن غرائب المواقف في هذه المناقشة أن أصحاب الرأي القائل بارتباط القاضي المدني بالحكم الجنائي يرون في الوقت ذاته أن القاضي المدني لا يرتبط به في حالة الحكم بالبراءة ويرون أن القاضي الجنائي لا يرتبط بالحكم المدني المعلن صحة الأوراق ولا يرون في هذه الحالات إخلالاً بقوة الشيء المحكوم فيه، ولا خطرًا على النظام، ولا على الثقة بعدالة الأحكام، ومعنى هذا أن القاضي المدني لا يتقيد بالحكم إلا إذا كان شرًا، أما الخير فلا أثر له أمامه، ولو أنصف أصحابنا وأرادوا أن يكون منطقيين في التدليل مع أنفسهم لتركوا قيد الشر هذا وقالوا إن قواعد القانون ومبادئه وفائدة الاجتماع كل ذلك يستوجب ترك السلطات القضائية حرة تعمل في دائرة اختصاصها إحقاقًا للحق فذلك أفضل وأسلم.

مرقس فهمي

[(1)] غير واضح بالأصل.


الخميس، 2 ديسمبر 2021

شطب العبارات الجارحة من الأوراق القضائية عزيز خانكي

مجلة المحاماة

أبحاث قانونية وشؤون قضائية
شطب العبارات الجارحة من الأوراق القضائية

سنة طيبة جرت عليها المحاكم المختلطة حبذا لو حذت حذوها المحاكم الأهلية.
كثيرًا ما نقرأ في الأوراق القضائية عبارات ماسة بالشرف، جارحة للعواطف، خادشة للكرامة، مطاعن في العرض وفي الذمة، نجدها في صحف الدعاوى، وفي صحف الاستئناف، وفي المذكرات، وفي الإعلانات، وفي الإنذارات، بعضها من ألفاظ الشتم والبعض الآخر من ألفاظ السب والبعض الأخير من عداد ألفاظ القذف لا يليق أن تبقى مسجلة في الأوراق القضائية ضد من قيلت في حقه وقد تكون كاذبة لا أصل لها في مثل هذه الأحوال يأمر القضاء المختلط من تلقاء نفسه أو بناءً على طلب صاحب الشأن قلم الكتاب بحذف الجمل والكلمات التي يعدها القاضي ماسة بالكرامة.
قد يكون الطعن موجهًا إلى الخصوم، أو إلى الشهود، أو إلي المحامين، أو إلى القضاة أو إلى أشخاص خارجين عن الخصومة بالمرة، الكل في الأمر سواء، ما دام الطعن موجودًا وخارجًا عن الحد المباح حق تطبيق القاعدة، وإليك بعض الأمثلة:
1 - حرر أحد الخصوم مذكرة تضمنت طعنًا في قضاة محكمة أول درجة بعبارات ماسة بكرامتهم، فأمرت محكمة الاستئناف من تلقاء نفسها بمحو هذه العبارات من المذكرة محوًا تامًا بحكم أصدرته بتاريخ 21 يونيو سنة 1892 (راجع المجلة المختلطة جزء (4) صحيفة (302)).
2 - وقضت بحكم أصدرته بتاريخ 31 مايو سنة 1891 بشطب جملة فقرات تضمنت سبًا وجهه أحد الخصوم في مذكرة قدمها في الدوسيه إلى أشخاص في خدمة خصمه.
3 - وحكم بأن لمحكمة الاستئناف مراعاةً للآداب الواجب الاحتفاظ بها أمام المحاكم ومراعاةً للأصول وقواعد المجاملة الدولية أن تأمر من تلقاء نفسها بحذف العبارات التي يكتبها أحد الخصوم المترافعين أمامها وتتضمن طعنًا جارحًا في السلطات القنصلية أو الكنائسية الأجنبية سواء كان الطعن صريحًا أو ضمنيًا ولا سيما إذا كان الطعن حاصلاً عن طيش وبسوء نية (راجع حكم 8 ديسمبر سنة 1910 جزء (23) صحيفة (63)) .
4 - قدح خصم في حكم ابتدائي قال إن خصمه حصل عليه من طريق تضليل قضاة محكمة أول درجة بطريقة غير شريفة.
فحكمت محكمة الاستئناف بمحو هذه العبارة وعدتها خارجة عن حد اللياقة والآداب (راجع حكم 30 يناير سنة 1918 جزء (30) صحيفة (179)).
5 - وأمرت محكمة الاستئناف المختلطة بشطب جمل وردت في بعض الإعلانات وفي بعض المذكرات عدت لهجتها لهجة جارحة لا يليق أن تبقى مسجلة على من وجهت إليه في أوراق قضائية (راجع حكم 13 يناير سنة 1918 جزء (30) صحيفة (219)).
هذه سنة جرت عليها المحاكم المختلطة وهي سنة طيبة كما ترى، فهل لرجال القضاء الأهلي أن يقتدوا في هذا بإخوانهم رجال القضاء المختلط. إن فعلوا سنوا لنا وللخلف سنة طيبة تذكر لهم بالشكر.

عزيز خانكي

في المسؤولية المدنية للأفراد عبد السلام ذهني

مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923

في المسؤولية المدنية للأفراد
لمحتان
تاريخية وتشريعية
1 - لمحة تاريخية

نعلم أن القانون الفرنسي وُضع في سنة 1804 في وقت لم يعرف فيه العالم هذه النهضة الاقتصادية العامة التي ظهرت في عصر القرن التاسع عشر وعظم شأنها في القرن العشرين وعلى الأخص بعد الانتهاء من الحرب العالمية التي خُتمت بمعاهدة صلح فرساي سنة 1918 وكان القانون الفرنسي متشبعًا بالروح الفردية Individualiste ولم يقم للشؤون الاقتصادية على اختلاف أنواعها وزنًا إلا بقدر ما كان معروفًا في ذلك الزمن المنصرم، وقد تلقت الشعوب الأخرى القانون الفرنسي بصدور رحبة وعملت على الأخذ به لما كانت تشعر به من التعطش نحو التقنين من طريق التجميع ولما كانت تأنسه من وحدة الشبه من حيث الحالة الاقتصادية العامة، وقد أخذت مصرنا قوانينها في سنة 1875 وسنة 1883 مختلطًا وأهليًا بعد إدخال شيء من التعديل رجع فيه إما إلى ما قرره القضاء والفقه الفرنسيان بعد سنة 1804 وإما إلى ما أقرته التقاليد والعادات المصرية التي بنيت في كثير منها على الشريعة الإسلامية وعلى ما قرره العمل في هذا الجو المختلط بين المصريين والأجانب مختلفي الأجناس.
ولما كان عهد عصر ترقيها الصناعي والتجاري حديثًا لم يفكر شارعها المصري سنة 1875 وسنة 1883 في أن يضع قوانين تضمن لها ما يمكن أن تصل إليه فيما بعد من ازدياد في الرقي وتقدم في المدنية، لذا أصبحت القوانين المصرية هذه لا تلتئم مع ما قطعته من أشواط المدنية وأصبح من الضروري الحتمي الرجوع إلى ما قررته الشعوب الأخرى في عصرنا الحاضر من قوانين تشريعية وآراء قضائية ومذاهب فقهية وذلك عملاً بما قضى به القانون المصري من الأخذ بالعدالة والقانون الطبيعي فيما سكت فيه القانون عن التقنين في بعض المسائل، وهذا هو ما جرى عليه العرف القضائي المختلط والأهلي في مسائل عدة لم ترد لها نصوص خاصة بالقوانين المصرية.
ولقد كان لنظرية المسؤولية شأن يذكر في عالم القانون عند كل شعب متمدين وذلك لتقدم الصناعة ورواج التجارة في الأوقات الحاضرة، وكان من شأن التقدم التجاري العالمي أن اضطرت بعض الشعوب إلى تعديل شرائعها طبقًا لما اقتضته نواميس الرقي في التجارة والصناعة، فقررت من الوجهة التشريعية مبادئ قانونية ربما كانت لا تؤيدها النصوص القانونية القديمة في ظاهرها حتى تقطع بذلك ما يحوم من الشك والتردد حول مبادئ جديدة كونتها الظروف الاجتماعية الحديثة قسرًا وقهرًا.
وهذا ما فعلته فرنسا مثلاً سنة 1898 وغيرها من الشعوب الأخرى في تقرير قواعد قانونية من الوجهة التشريعية في نظرية المسؤولية تلتئم مع الضرورات الاجتماعية المدنية العصرية.
وأما المسائل الأخرى الخاصة بنظرية المسؤولية والتي لم يشرع لها تشريع خاص كما حصل سنة 1898 فيما يتعلق بالهلاك الصناعي risque professionel والمسؤولية الشيئية responsabilité objective فإنها قد تأثرت بهذا التشريع الجديد، ووجدت لها منه أكبر نصير في تقرير المبادئ الجديدة والعمل على تفسير النصوص القديمة تفسيرًا يضطرد مع الضرورات الاجتماعية الحديثة interprétation objective لا مجرد الجمود على نصوص قديمة لا تصلح أداة في الإلمام بما جد من طريق الوقوف على ما كان يريده الشارع إذ ذاك، لا على ما تريده الجماعات الحاضرة بتطوراتها الحالية interprétation subjective .
ولقد فاضت أبحاث المؤلفين والكاتبين في نظرية المسؤولية قبل سنة 1898 وبعدها ولم تترك مسألة من المسائل التفريعية إلا وأشبعتها بحثًا على ضوء الضرورات الاجتماعية الحاضرة.
ولكنا نأسف مع الآسفين لما نراه من بعض كبار المؤلفين العصريين مثل بلانيول وكابتان وكولين في إصرارهم وعنادهم المستمر على الأخذ في نظرية المسؤولية طبقًا للمواد الفرنسية الأولى من المادة (1804)، وإن كان أسفنا عظيمًا في هؤلاء العلماء إلا أن اغتباطنا كان أعظم عندما رأينا فريقًا كبيرًا من كبار المؤلفين وأصحاب النهضة العلمية القانونية في الوقت الحاضر قد خرجوا عن حد الوقوف على النصوص القديمة وقرروا مبادئ قانونية تتفق مع النمو العمراني العالمي الاقتصادي مثل Saleilles وجاهد بعضهم في تفسير هذه المبادئ الجديدة الخاصة بالمسؤولية بالرجوع إلى المواد (1382) - (1386) تفسيرًا دقيقًا وبمهارة علمية وجيهة كما فعل الأستاذ Josserand شيخ أستاذة القانون بمدينة ليون.


2 - اللمحة التشريعية

( أ ) التشريع المختلط:
وُضعت القوانين المختلطة سنة 1875 ووضعها المحامي الفرنسي المعروف Maunoury وقد عمل فيها على تقليد الشارع الفرنسي، ولكن جاء التقليد أبتر وممسوخًا، وملاحظاتنا في ذلك ما يأتي:
1 - وردت المواد الفرنسية (1382) – (1386) تحت عنوان (الجنح وأشباه الجنح) déltis et quasi - délits، ووردت المواد المختلطة الخاصة بالمسؤولية (211) - (215) تحت عنوان (الالتزامات الناشئة عن العمل) obligations résultant du fait إذ أدخل معها الشارع المختلط موادًا أخرى خاصة بأعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق. وربما قيل بأنه كان الأجدر فصل هذه الأنواع المختلفة عن بعضها البعض لأن الالتزام الناشئ عن المسؤولية هو غير الالتزام الناشئ عن أعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق.
ولكن نسارع إلى ملاحظة أنه ربما كان في هذا الوضع التشريعي المختلط ما يؤيد مذهبنا الذي سنقول به بعد فيما يتعلق بالمسؤولية الشيئية responsabilite objective (أي المسؤولية التي لا يشترط فيها إثبات التقصير faute بل المسؤولية المؤسسة على مجرد الضرر غير المشروع) أي الرجوع في هذه المسؤولية لا إلى مجرد الجنحة وشبه الجنحة بل إلى مجرد العمل fait.
2 - قررت المادة (211) المسؤولية بالتضامن بين المقصرين وقد فعلت خيرًا لأنها قلدت في ذلك ما كان قد قرره القضاء الفرنسي بعد أن سبق له الأخذ بنظرية عدم التجزئة indivisibilité وهذه المادة لا مثيل لها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1804.
3 - قررت المادة (212) مدني ما يأتي:
(كل عمل مخالف للقانون tout fait poursuivit par la loi يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان عدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).
والمفهوم من هذه المادة ومن عبارة (كل عمل مخالف للقانون) أنها تختص بالمؤاخذة sanction وتقرير الجزاء عن الجرائم الجنائية infractions ولم تتكلم مطلقًا عن الجرائم المدنية dêlits civils وأشباه الجرائم المدنية quasi - delits وقررت هذه المادة عدم مسؤولية من يحدث بالغير ضررًا وهو غير مدرك لما يفعله كالصبي غير المميز أو المجنون أو المعتوه والسكران فيما إذا لم يشرب الخمر بمحض رغبته.
هذه الفقرة من تلك المادة لا نظير لها بالقانون الفرنسي إنما قررها (مونوري) بناءً على ما قرره القضاء الفرنسي في هذا الشأن باعتبار أن التقصير faute لا بد فيه من شرط الإدراك لدى المقصر.
وقد قامت ضجة هائلة عند الشراح حول شرط الإدراك في التقصير إذ لاحظوا ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي لا بد فيها من الإدراك، والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد التعويض وضرورته (بلانيول ج 2 صـ 288 ف 879 هامش 3 الطبعة الثامنة سنة 1921).
وإذا كان القضاء الفرنسي يجري على قاعدة مسؤولية عديمي الأهلية فيما إذا أثروا على حساب الغير من طريق يشبه التعاقد quasi ex coutractu فلماذا لا يصبح هؤلاء مسؤولين أيضًا عندما يلحقون ضررًا بالغير؟ ولقد تأثر القضاء الفرنسي بهذه الضجة وأخذ بما نقول به بحكم واحد (دالوز الدورية سنة 67 رقم 2 صـ 3، ومجلة سيري الدورية سنة 66 رقم 2 صـ 259).
على أن رفع المسؤولية عن عديم الإدراك فيه مساس مزعج أحيانًا بالعدالة المطلقة، إذ ما ذنب رجل بائس يعيش في بيت له يضمه وأولاده ويكد ليله ونهاره في مواساتهم فيأتي له صبي غير مدرك قد ملك من الضياع ما لا عد له ولا حصر فيحرق له منزله ثم هو لا يُسأل عن ذلك، أليس من المزعج عدالة أن يتمتع الصغير غير المدرك بضياعه عند بلوغه بينما يتضور الرجل المحروق منزله ألمًا؟
أليس من العدالة أن ينظر في الأمر بعين نظرية ضرورة التعويض أولى من هذا التحكم في شرط الإدراك على غير جدوى؟
لذا عمل الشارع الألماني على معالجة هذا النقص، فبعد أن قرر بالمادة (827) ما قرره الشارع المختلط بالمادة (212) إذ قرر بالمادة (829) بأنه يجوز الحكم بتعويض عندما تقضي العدالة بذلك.
إن هذا التشريع الألماني معيب من الوجهة الفنية العلمية لأنه يجمع بين النقيضين لمبدأين متعارضين، وكان الواجب علميًا الأخذ بواحد دون الآخر، أما الأخذ بمبدأ التعويض فهو الأوجب لاتفاقه مع المبادئ القانونية الصحيحة من ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي يشترط فيها الإدراك والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد تعويض الضرر، ولأن ذلك ينادي بإجابة صوت العدالة.
أما شارعنا المختلط فقد التزم جانبًا دون الجانب الآخر ويكون قد فعل خيرًا لو كان أخذ على الأقل بما قرره القانون الألماني سنة 1900 لأن القضاء الفرنسي سبق له أن قرر هذا المبدأ الجديد سنة 1866 أي قبل وضع القوانين المختلطة سنة 1875 كما رأينا.
قلنا إن الشارع أراد بالمادة (212) تقرير المؤاخذة عن الجرائم الجنائية ولكن سارع الشارع المختلط إلى سن مادة أخرى ظن في وضعها أنها ترمي إلى تقرير الجزاء عن الجنح المدنية وأشباه الجنح وأراد بهذه المادة الأخرى، وهي المادة (213)، أن يقرر مسؤولية الشخص عن أعماله هو أي جنحة المدنية وأشباه جنحة وعن أعمال من هم تحت رعايته فوضع المادة (213) بالكيفية الآتية (كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم) فجاء هذا الوضع مشوهًا مبتورًا وعلى غاية من المسخ والاضطراب وذلك:
1 - لأن عبارة المادة تفيد أن الإنسان مسؤول عن أعمال من هم تحت رعايته، وأعمالهم هي التقصير faute والإهمال négligence وعدم الدقة والانتباه imprudence فهذه الأعمال المنسوبة للغير هي التي يُسأل عنها الشخص الموكل إليه حق رعاية المقصرين والمهملين والطائشين، وختمت المادة عبارتها بقولها (أو عن عدم ملاحظته إياهم) وهذا التعبير يشعر بأن الشخص مسؤول عن أعمال غيره أولاً وهي التقصير والإهمال والطيش وعن عمله هو ثانيًا وهو عدم الملاحظة، كأن التقصير والإهمال والطيش طائفة مستقلة عن عدم الملاحظة، على أن أصل المسؤولية هو عدم الملاحظة الذي يعتبر في ذاته تقصيرًا faute من جانب الموكول إليه أمر الرعاية، فإذا قصر الموكول إليه أمر الرعاية اعتُبر مسؤولاً عن أضرار الأشخاص الموضوعين تحت رقابته فيما إذا وقع منهم ضرر سببه أعمالهم الخاصة بهم وهي تقصيرهم وإهمالهم وطيشهم، أي أن المسؤولية موقوفة فقط على عدم الرقابة فإذا كانت الرقابة صحيحة فلا مسؤولية، وكان يجب وضع المادة بما يفيد أن المسؤولية واقعة في حالة عدم الرقابة، بمعنى أنه إذا ثبتت الرقابة وثبت أداؤها من جانب الرقيب فلا مسؤولية عليه مطلقًا عند وقوع الحادث، حتى ولو كان سبب وقوع الحادث الأعمال الخاصة بالغير تقصيرًا كان أو إهمالاً أو طيشًا وهذا هو ما قالته المادة (1384) الفرنسية في فقرتها الأخيرة حيث قررت بأن لا مسؤولية إذا أثبت الموكول إليهم الرعاية أنهم لم يستطيعوا منع وقوع الحادث الناشئ عن الضرر، بمعنى أنه لا مسؤولية عليهم حتى ولو قام البرهان على التقصير والإهمال والطيش من جانب من هم تحت رعايتهم إذا ثبتت صحة رقابتهم، وهذا على عكس ما تشير إليه المادة (213) مختلط لأن الفقرة الأولى منها تشعر بالمسؤولية من تقصير الغير وإهماله وطيشه مع ثبوت الرقابة، وهو ما لا يقبله لا الحق ولا العدالة، تلك العدالة équité التي اعتبرت دائمًا وأبدًا أساسًا لنظرية المسؤولية وعلى الأخص في العصر الحاضر الذي نفخت فيه الاشتراكية المعتدلة بروح من عندها.
(ب) ذكرت المادة (213) التقصير والإهمال والطيش وعدم الملاحظة، وهذه صور لشبه الجنحة (يراد بالجنحة المدنية، العمل غير المشروع الضار بالإنسان ويكون فاعله قد تعمد إحداثه، وشبه الجنحة هو نفس العمل غير المشروع والضار ولكنه لا عمد فيه) ولم تذكر مطلقًا الجنحة المدنية.
أو ليس من المعقول أن من يُسأل بسبب تقصير وإهمال وطيش من هم تحت رقابته، يُسأل أيضًا فيما إذا تعمدوا الإضرار بالغير؟
(جـ) لم يقرر الشارع بهذه المادة (213) مسؤولية نفس الشخص عن جنحه هو ولا عن أشبه جنحه هو أيضًا، وكان يجب على الشارع أنه ما دام قد قرر مسؤولية الفرد بالمادة (212) عن جرائمه الجنائية أن يقرر بالمادة (213) مسؤوليته عن جرائمه المدنية، أي الجنح المدنية وأشباه الجنح، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما خانه التعبير السقيم جدًا الذي جعله قالبًا للمادة (213)، لأنه يظهر أنه أراد تقرير ذلك ولكن جاءت العبارة الأخيرة من المادة، وهي (أو عدم ملاحظته إياهم) مذهبة بغرضه (يجب مراجعة النص الفرنسي لأنه أوضح في بيان غرض المشرع من النص العربي لأن هذا النص الأخير قد عالج من حيث الوضع والتركيب بعض الشوائب الشكلية للمادة (213) المذكورة)، وكان الأجدر بالشارع أن يقول بأن الإنسان يُسأل عن تقصيره هو وإهماله وطيشه ويُسأل أيضًا عن نتائج عدم ملاحظة من هم تحت رعايته، ولكنه لم يفعل بل ساق الجمل مع بعضها البعض بحيث تنصرف جميعها إلى أنه مسؤول فقط عن أعمال غيره، وأما أعماله هو فلا يُسأل فيها إلا عن عدم الملاحظة فقط، وهذا نقص معيب كما لا يخفى.
(د) بدأت المادة (213) بعبارة (وكذلك) وهي تشعر مع اتصالها بالمادة (212) المتقدمة عليها بأن لا مسؤولية مطلقًا على الشخص فيما إذا وقع الحادث بمعرفة من هم تحت رعايته وكانوا غير مدركين لما يفعلونه (راجع دي هلتس De Hults ج 4 صـ 10 ن 6) وهذا لا يقبله العقل، لأن الغرض من مسؤولية من وكل إليه أمر العناية بشخص هو تقرير جزاء عند عدم المراقبة على من فرض فيهم القانون نقصًا في الإدراك كالقصر والمجانين والمعتوهين وغيرهم ممن أشارت إليهم المادة (213)، والمفروض أن الحادث يقع بسبب عدم الإدراك أو ضعفه وبسبب عدم الرقابة، وما شرعت الرقابة إلا لأجل سد النقص في الإدراك القائم.
(هـ) هذه هي عيوب المادة (213) باعتبارها في ذاتها، وفي ربطها مع المادة (212) السابقة عليها نرى أن الشارع المختلط قد شوه المواد الفرنسية التي أراد أن يقلدها ويوجزها، فمسخها كل المسخ، أما المواد الفرنسية فقد جاءت في مجموعها جيدة، إذ قررت المادة الأولى منها وهي (1382) مسؤولية الشخص عن عمله باعتباره جنحة مدنية، ثم قررت المادة (1383) مسؤوليته عن شبه الجنحة، وجاءت المادة (1384) وقررت مسؤوليته عن أعمال من هم تحت رقابته أو الأشياء الموجودة تحت يده، ثم بينت من هم هؤلاء الأشخاص الملاحِظون والملاحَظون فقررت أن الملاحظين هم الأب، والأم عند وفاة الأب، والمخدومون Maitres وأصحاب الأعمال والأشغال Commettants والمربون Instituteurs وأرباب الصنائع Artisans وذكرت بأن الملاحَظين هم القصر Mineurs المقيمون مع آبائهم والمستخدمون Préposés وصبية المدارس éléves وصبية المصانع Apprentis.
فجاء الشارع المختلط ونظر إلى الثلاثة المواد المذكورة (1382) و(1383) و(1384) وأراد أن يدمجها كلها في مادة واحدة وهي المادة (213) فجاءت هذه المادة وهي تفيض بهذه الشوائب التي بيناها.
لذلك وجب بحق في تقرير نظرية المسؤولية ضرورة الرجوع إلى المواد الفرنسية فيما ذهب فيه القضاء والفقه الفرنسيان في تفسيرهما، باعتبار أن الشارع المصري لم يرد مخالفة الشارع الفرنسي في شيء، إنما رمى فقط إلى مخالفته في الوضع دون المعنى والجوهر (دي هلس ج 4 صـ 118 ن 8).
لذلك لما جاء الشارع الأهلي سنة 1883 لم يشأ البتة تقليد زميله المختلط في هذا الوضع المشوب بل خالفه بعض المخالفة فيه بما سنبينه بعد.
5 - قررت المادة (214) مسؤولية السيد أو المخدوم عن أفعال خدمته متى وقعت وهم يؤدون العمل له، أي متى كان الضرر واقعًا منهم في حالة تأدية وظائفهم.
ويلاحظ على هذه المادة أنها قد قطعت من المادة (1384) الفرنسية التي جاءت جامعة شاملة.
6 - ثم قررت المادة (215) وهي الأخيرة من مواد المسؤولية مسؤولية مالك الحيوان عن الضرر الناشئ عنه سواء كان في حيازته أو متسربًا، وقد أخذت هذه المادة من المادة (1385) الفرنسية التي جاءت أتم منها إذ قررت مسؤولية المالك حتى ولو كان الحيوان تحت حيازة الغير، وهو ما لم تقل به المادة المختلطة وكان يجب أن تقول به.
7 - قررت المادة الأخيرة (1386) الفرنسية مسؤولية المالك للمباني bâtiments إذا تسبب عنها ضرر ناشئ عن تهدمها ruine فيما إذا كان هذا التهدم آتيًا من عدم العناية بها défaut d'entretien أو من عيب بنفس العمارة vice de construction ولم نرَ أثرًا لهذه المادة بالتشريع المختلط، ولا نعرف الحكمة في عدم نقلها بالقانون المختلط، كما أننا لم نعرف الحكمة لهذا الشارع المتعب في كونه لم ينقل بتشريعه أيضًا هذه الجملة الأخيرة الواردة بالفقرة الأولى من المادة (1384) فرنسي، وهي الفقرة الخاصة بمسؤولية الشخص عن الأشياء الموجودة تحت يده des choses que l'on a sous sa garde ولهذه الفقرة أهمية كبرى وصلة عظيمة جدًا بالمادة (1386) فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية responsabilité objective لأن المادة (1384) قررت مسؤولية الحائز للأشياء بوجه عام ولم تبح حق إقامة الدليل على عدم إمكان منع الضرر، كما أباحت هذا الحق بالنسبة للآباء والمربين فقط، أي أنها لم تبح إقامة الدليل على انتفاء التقصير بالنسبة لمالكي الأشياء أو الحائزين لها وبالنسبة للمخدومين وأرباب الأشغال، وهذا موطن صالح جدًا لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية كما ذهب إليه الأستاذ جوسران Josserand وكذلك المادة (1386) فإنها قررت مسؤولية المالك للمباني عند التهدم الناشئ عن عدم الصيانة وعن عيب لاصق بنفس العمارة ولم تبح هي الأخرى إقامة الدليل على انتفاء التقصير في حالة العيب اللاصق بالعمارة (لأن المسؤولية في حالة عدم الصيانة لا يؤخذ بها إلا عند عدم الصيانة، فإذا ثبتت الصيانة فلا مسؤولية)، وهذه أيضًا بيئة أخرى صالحة لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية أو نظرية الضمان Risqne. وقد ذهب بعض الشارحين إلى القول بأن هذه المادة لم ترد على سبيل الحصر في تقرير المسؤولية بالنسبة للمباني بل جاءت على سبيل التمثيل بالنسبة لجميع الأشياء وذلك استنادًا إلى التعميم الوارد بالعبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من المادة (1384) الخاصة بالأشياء.
فإذا كانت المادة (1384) والمادة (1386) الفرنسيتان هما بتلك الأهمية الكبرى في عالم التشريع والتفسير القضائي والفقهي فكيف جاز حينئذٍ للشارع المختلط وهو المحامي الفرنسي المشهور (مونوري) أن يغفل ذكرهما بينما كان قد بدأ فعلاً المعلق الشهير على الأحكام (لابيه Labbé) الإفاضة في الكتابة على المسؤولية بمجلة سيري Sirey الدورية؟ كيف يغفل أمرهما ومكانهما كما رأينا في عالم القانون؟ كل ما نستطيع أن نقوله في هذا الشأن كما لاحظناه أكثر من مرة في التشريع المصري من سنة 1875 إلى سنة 1183 تقريبًا أن المشرع المصري يُعنَى بالتقليد إلى حد أن ينسى أصول التقليد وأبجدياته، لذا نعيد القول بأن دعامة الشرح في هذه النظرية ما أقامه أطواد القانون في الوقت الحاضر من صروح النقد الحار وإشباع المبادئ القانونية بروح لا تجمد على نص صامت بل تشاد فوق أصول لحمتها الضرورات الاجتماعية وسداها العدالة كما أشار إلى ذلك بحق دي هلس (ج 4 ص 8 ن 2).
(ب) التشريع الأهلي:
أما وقد انتهينا من التشريع المختلط فنأتي الآن على بيان موجز أيضًا لأمر التشريع الأهلي.
لقد عُني بوضع القوانين الأهلية القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo وقد نسخ القوانين المختلطة وعدل فيها بالرجوع إلى الملاحظات الآتية:
1 - أنه جعل المادة أحيانًا تشمل المادتين في القانون المختلط.
2 - لاحظ ما أنتجه العمل القضائي من سنة 1875 إلى سنة 1883 وهي سنة وضع القوانين الأهلية.
3 - أنه خالف في كثير من نصوصه القانون المختلط.
والذي يهمنا من ذلك كله هو ما جاء في المواد الخاصة بنظرية المسؤولية، وقد فعل خيرًا الشارع الأهلي في أنه لم يعمل كما عمل الشارع المختلط في وضع المادتين (212) و(213) ذلك لأنه أدرك أن عبارة هاتين المادتين جاءت مشوهة تشويهًا غريبًا ذهب بالأصول القانونية المرجوة، لذا أخذ الشارع الأهلي يعالجهما، وقد أحسن الاختيار في طريق العلاج حيث إنه نقل المادة (1382) الفرنسية نقلاً وجعلها الفقرة الأولى من المادة (151) من القانون المدني الأهلي ونصها ما يأتي كالأصل المصري الفرنسي العبارة

(Tout fait quelconque de l’homme, qui cause â autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé, â le réparer.)

ثم ورد هذا النص بالنسخة العربية المصرية الأهلية كما يأتي:
(كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر) ومن مقارنة النصين مع بعضهما البعض نرى أن بالنص العربي نقصًا يكاد يذهب بركن أساسي قديم معروف في عالم نظرية المسؤولية وهو ركن التقصير Faute الذي كان دائمًا وأبدًا حتى قبيل العهد الأخير الدعامة التي ترتكن إليها نظرية المسؤولية، لأن كلمة التقصير وردت بالنسخة الفرنسية فأغفلها المترجم إغفالاً جعل النص محلاً للأخذ والرد فيما يتعلق بنظرية استعمال الحق والاعتساف في استعمال الحق Abus du droit والمسؤولية الشيئية Responsabilité objective، وإذا أخذ النص العربي على ظاهره لكان هادمًا لأبسط المبادئ القانونية لأن ظاهره يقرر أن الإنسان مسؤول عن جميع الأضرار التي تصيب الغير بفعله هو، وأيًا كان فعله مشروعًا وغير مشروع، وهذا أمر مستحيل عملاً وعمرانًا، لأن الحياة هي دائمًا وأبدًا في كل عصر وفي كل بيئة عبارة عن مصارعة ومزاحمة بين الأشخاص: هي كسب لفريق وخسارة على فريق آخر، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل منفعة، ويستحيل أن يحصل تحصيل المنفعة دون إلحاق نقص بأموال الغير، والمعاملات بين الناس تشاد فيما بينهم في الأخذ بأكثر من الإعطاء، فإذا كان كذلك وأخذت المادة الأهلية العربية على ظاهرها لترتبت على ذلك استحالة مادية في عالم الحياة: وهذا ما لم يرده الشارع طبعًا، لذا وجب وضع النص العربي بطريقة تتفق تمامًا مع النسخة الفرنسية، بأن تضاف عبارة (بسبب تقصيره) بعد كلمة (فاعله)، وكان يحسن بالشارع الأهلي أن يضع مادة جديدة عقب المادة (151) هذه أو أن يدمجها بها ويكون مرمى المادة الإلمام بنظرية التمتع بالحقوق ومتى يعتبر مشروعًا ومتى يعتبر مصدرًا للتعويض كما فعل ذلك القانون الألماني بالمادة (220) حيث قررت هذه الأخيرة ما يأتي: (لا يباح التمتع بالحق إذا كان الغرض منه منصرفًا إلى إلحاق الضرر بالغير) وهذا المبدأ هو المقرر للنظرية الشهيرة جدًا المعروفة بنظرية الاعتساف في استعمال الحقوق Abus des droits وهي النظرية التي قررها القضاء المصري مختلطًا وأهليًا بأحكام عدة.
أما الفقرة الثانية من المادة (151) فهي نفس المادة (213) مدني مختلط حرفًا بحرف، وما ذكرناه بشأن العيوب الوضعية للمادة (213) مختلط يمكن أن يقال به هنا فلا حاجة لتكراره، وكان يجب على الشارع الأهلي إذا أراد أن يجعل فقرتي المادة (151) متماسكتين ومتلازمتين في تأدية معانٍ منسجمة أن يذكر بالفقرة الأولى ما يشير أيضًا إلى أشباه الجنح الخاصة بفعل الإنسان نفسه كالإهمال والطيش وهما المشار إليهما بالمادة (1383) الفرنسية، ولكن نسارع إلى ملاحظة أن الشراح لاحظوا أن المادة (1383) إنما جاءت تكرارًا للمادة (1382) باعتبار أن هذه المادة الأخيرة تؤدي المعنى الذي قالت به المادة (1383) باعتبار أن التقصير يكون إما إيجابيًا أو سلبيًا، ومع وجاهة هذه الملاحظة أيضًا فإن وضع المادة (151) بفقرتيها يعتبر مع ذلك غير وجيه، لأنه كان يجب ذكر عبارة (الإهمال والطيش) بالفقرة الأولى، وجعل عبارة (عدم الملاحظة) بالفقرة الثانية حتى تكون الفقرة الأولى شاملة للتقصير الإيجابي والسلبي من طريق التعيين، وحتى تكون الفقرة الثانية قاصرة فقط على عدم الملاحظة، مع الإحالة على الفقرة السابقة عليها، أو أن الشارع الأهلي يحذف عبارة الإهمال والطيش من المادة (151) باعتبار أن كلمة التقصير الواردة بالفقرة الأولى تنصرف إلى التقصير الإيجابي والسلبي معًا، لأنه عند عدم التعيين في التقصير ينصرف المعنى إلى التعميم.
هذا التشويه الذي وقع فيه الشارع الأهلي سببه التشريع المختلط الذي كان موضوعًا بين يديه.
وكان على الشارعين الأهلي والمختلط أن يلاحظا هما الآخران ما لاحظه شراح القانون الفرنسي على المادة (1382) فلا يقعان فيما وقع فيه الشارع الفرنسي سنة 1804 إذ لوحظ على المادة (1382) في قولهما Tout fait quelconque أن كلمة quelconque غير صحيحة بجانب كلمة التقصير Faute لأنه ليس كل عمل fait يعتبر ملزمًا بالتعويض، إنما هو العمل التقصيري fait fautif، هذا مع ملاحظته أيضًا أن أنصار نظرية المسؤولية الشيئية يرون في كلمة التقصير الواردة بالمادة (1382) الفرنسية أنها لم ترد من طريق التعيين والتحديد للعمل الضار في ذاته، إنما جاءت فقط من طريق الإيضاح والتفسير، باعتبار أن العمل الضار يعتبر في ذاته مصدرًا للالتزام بالمسؤولية بصرف النظر عما إذا كان قد شابه تقصير أم لا، ويكون المسوغ القانوني حينئذٍ للمسؤولية هو قاعدة الغرم بالغنم لا التقصير، مع ملاحظة أن ذلك لا يتعارض مع حق استغلال الحقوق والمزاحمة في مجال الحياة باعتبار أن للمسؤولية الشيئية مجالاً للعمل غير مجال الانتفاع بالحقوق وتصريفها في وجوهها المشروعة.
ولم يقرر الشارع الأهلي ما قررته المادة (212) مختلط من حيث عدم المسؤولية عند عدم إدراك المتسبب في الضرر، وبماذا يفسر هذا السكوت؟ هل أراد الشارع الأهلي مخالفة الشارع المختلط مخالفة ظاهرة، أي أنه أراد أن لا يأخذ بنظرية شرط الإدراك في المسؤولية المدنية، وأن التعويض حتمي ولو كان المقصر غير مدرك؟ أم أنه أراد أن يقلد الشارع الفرنسي في المادة (1382) التي قررت قاعدة المسؤولية بوجه عام تاركةً أمر التفصيل إلى ظروف الحال وما تمليه هذه على القضاء؟ أم أن الشارع الأهلي أراد بسكوته أن يجاري القضاء الفرنسي فيما ذهب إليه من ضرورة شرط الإدراك (مع ملاحظة أن القضاء الفرنسي حكم سنة 1866 كما بينّا بعدم شرط الإدراك)؟
أمام صمت الشارع الأهلي كان للشكوك والأخذ والرد مجال، وإذا كان الأمر كذلك وجب حينئذٍ تقرير نظرية تتفق مع الأصول القانونية والعدالة.
ولكن قبل تقرير هذه النظرية التي تتفق مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة، وهي النظرية القائلة بعدم توافر شرط الإدراك لما في ذلك من الخلط بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، كما بينّا ذلك في مكانه، نرى أولاً ضرورة معرفة ما هو الرأي الذي يمكن أن يكون قد اتخذه الشارع أمام هذا الصمت الهادئ؟
الذي نقول به بلا تردد أن الشارع الأهلي لو كان أراد أن يأخذ بما قررته المادة (212) المختلطة لكان نقلها حرفًا بحرف إلى تشريعه، وأما كونه لم ينقلها فهذا يقطع على أنه لم يرد الأخذ بها أو على الأقل يقطع في أنه لم يرد البت في هذه النظرية بل تركها لأمر القضاء والفقه.
وأما كونه رجع فيها إلى ما قرره القضاء الفرنسي في ضرورة شرط الإدراك فقد رأينا أن هذا القضاء قضى بعكس ذلك سنة 1866، والذي يهمنا من ذلك كله أن في سكوت الشارع ما يبرر للقضاء والفقه حق تقرير قاعدة قانونية تلتئم مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة.
ولذا نقول بحق بأنه أمام هذا الصمت الأهلي يجب الأخذ بنظرية ضرورة التعويض أي الأخذ بنظرية المسؤولية المدنية وعدم خلطها بنظرية المسؤولية الجنائية كما لاحظ ذلك بلانيول بحق، وكما فعل الشارع الألماني بالمادة (829) في معالجته للمادة (827).
وأما ما قرره القضاء المصري من ضرورة اشتراط الإدراك فهو لم يكن مقنعًا إلى حد التردد فيما تقرره (محكمة أجا الجزئية في 22 يناير سنة 1918، المجموعة الرسمية المجلد 19 صـ 133).
وقد نقل الشارع الأهلي المادتين (214) و(215) مدني مختلط حرفًا بحرف وصاغهما بالمادتين (152) و(153) مدني أهلي، وهاتان المادتان لا تكفيان لتقرير نظرية المسؤولية في باقي وجوهها الأخرى وهي الوحيدة التي أشار إليها الشارع الفرنسي بالمادة (1384) فقرة أولى فيما يتعلق بالمسؤولية الناشئة عن الأشياء الجامدة، وبالمادة (1386) الخاصة بالمسؤولية الناشئة عن تهدم المباني، ولهذا النقص في التشريع المصري مختلطًا وأهليًا مثار للقول فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية، وهي هذه النظرية التي احترقت لها أقلام الكاتبين قبل سنة 1898 والآن أيضًا، وعلى الأخص فيما يتعلق بمصرنا لأنه لم يتقرر للآن ببلادنا قوانين للعمال تقوية بنظرية الضمان الصناعي risque professionnel.

عبد السلام ذهني
مدرس بمدرسة الحقوق الملكية