القضية رقم 11 لسنة 13 ق "دستورية " جلسة 8 / 7 / 2000
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 8 من يوليو لسنة 2000 الموافق 6
من ربيع الآخر لسنة 1421هـ .
برئاسة السيد المستشار/ محمد ولى الدين جلال رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : حمدى محمد على وعبد الرحمن نصير وماهر
البحيرى ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله
وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق حسن رئيس هيئة
المفوضين
وحضور السيد/ ناصر إمام محمد حسن أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 11 لسنة 13
قضائية "دستورية "
المقامة من
السيد / كمال حمزة النشرتى المحامى
ضد
1 - السيد رئيس الجمهورية
2 - السيد رئيس مجلس الوزراء
3 - السيد وزير الداخلية
" الإجراءات "
بتاريخ الحادى والعشرين من يناير سنة 1991، أودع المدعى قلم كتاب
المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة ، طالباً الحكم بعدم دستورية الفقرات الثانية
والرابعة والخامسة من المادة (24) والمادة (34) والفقرة الثالثة من المادة (35) من
القانون رقم 73 لسنة 1956بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية معدلاً بقرار رئيس
الجمهورية بالقانون رقم 202 لسنة 1990 مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها الحكم
ببطلان إنتخابات مجلس الشعب التى أجريت بناء على النصوص القانونية المطعون بعدم
دستوريتها، وبطلان تشكيل مجلس الشعب من تاريخ إنتخابه.
وقدمت هيئة قضايا الدولة ثلاث مذكرات طلبت في ختامها الحكم، أصلياً:
بعدم قبول الدعوى ، واحتياطياً: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار
الحكم فيها بجلسة اليوم.
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل
في أن المدعى كان قد تقدم في 23/10/1990 للترشيح لعضوية مجلس الشعب ثم أقام أمام
محكمة القضاء الإدارى الدعوى رقم 667 لسنة 45 قضائية طالباً الحكم بوقف تنفيذ
قرارى وزير الداخلية رقمى 6031 و 6054 لسنة 1990وكذا قراراته الصادرة تنفيذاً لكل
من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 202 لسنة 1990 بتعديل بعض أحكام القانون رقم
73 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية، وقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم
206 لسنة 1990 في شأن تحديد الدوائر الإنتخابية لمجلس الشعب، وفى الموضوع بإلغاء
هذه القرارات؛ كما تضمنت صحيفة تلك الدعوى الدفع بعدم دستورية المواد (24، 29، 34،
35/3) من القانون رقم 73 لسنة 1956 معدلاً بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 202
لسنة 1990، والمادة الأولى من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 206 لسنة 1990
والجدول المرافق له. وبجلسة 27 /11/ 1990صرحت تلك المحكمة للمدعى بإقامة دعواه
أمام المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية الفقرات الثانية والرابعة والخامسة من
المادة (24)، والمادة (34)، والفقرة الثالثة من المادة (35) من القانون رقم 73
لسنة 1956 المشار إليه؛ فأقام الدعوى الماثلة .
وحيث إن المواد المطعون فيها من القانون رقم 73 لسنة 1956 بتنظيم
مباشرة الحقوق السياسية - قبل تعديله بالقانون رقم 13 لسنة 2000 - كانت تنص على
أن:
مادة (24)
فقرة أولى : "يحدد وزير الداخلية عدد اللجان العامة والفرعية
التى يجرى فيها الاستفتاء والإنتخاب ويعين مقارها، وتشكل كل من هذه اللجان من رئيس
وعدد من الأعضاء لا يقل عن اثنين ويعين أمين لكل لجنة ".
فقرة ثانية : "ويعين رؤساء اللجان العامة من بين أعضاء الهيئات
القضائية في جميع الأحوال، ويعين رؤساء اللجان الفرعية من بين العاملين في الدولة
أو القطاع العام، ويختارون بقدر الإمكان من بين أعضاء الهيئات القضائية أو
الإدارات القانونية بأجهزة الدولة أو القطاع العام، ويختار أمناء اللجان من بين
العاملين في الدولة أو القطاع العام".
فقرة ثالثة : " وتتولى كل هيئة قضائية تحديد أعضائها الذين توافق
على اختيارهم للإشراف على عملية الاقتراع، وترسل بياناً بأسمائهم إلى وزير العدل
لينسق بينهم في رئاسة اللجان، أما من عداهم فيكون اختيارهم بعد موافقة الجهات التى
يتبعونها".
فقرة رابعة : "ويصدر بتشكيل اللجان العامة والفرعية وأمنائها
قرار من وزير الداخلية . وفى جميع الأحوال يحدد القرار الصادر بتشكيل هذه اللجان
من يحل محل الرئيس عند غيابه أو وجود عذر يمنعه من العمل، وفى حالة الاستفتاء يختار
رئيس اللجنة أعضاء اللجان من بين الناخبين الذين يعرفون القراءة والكتابة والمقيدة
أسماؤهم في جدول الإنتخاب الخاص بالجهة التى يوجد بها مقر اللجنة ".
فقرة خامسة : "وتشرف اللجان العامة على عملية الاقتراع لضمان
سيرها وفقاً للقانون، أما عملية الاقتراع فتباشرها اللجان الفرعية ".
مادة (34)
"يعلن رئيس اللجنة الفرعية ختام عملية الاقتراع متى حان الوقت
المعلن لذلك، وتختم صناديق أوراق الإنتخاب أو الاستفتاء، ويقوم رئيس اللجنة
بتسليمها إلى رئيس اللجنة العامة لفرزها بواسطة لجنة الفرز التى تتكون برئاسة رئيس
اللجنة العامة وعضوية رؤساء اللجان الفرعية، ويتولى أمانتها أمين اللجنة العامة،
ويجوز لكل مرشح أن يوكل عنه من يحضر لجنة الفرز وذلك في الدائرة التى رشح فيها،
ويجب على لجنة الفرز أن تتم عملها في اليوم التالى على الأكثر".
مادة (35)
"فقرة أولى: "تفصل لجنة الفرز في جميع المسائل المتعلقة
بعملية الإنتخاب أو الاستفتاء وفى صحة أو بطلان إبداء كل ناخب لرأيه".
فقرة ثانية : "وتكون المداولات سرية ولايحضرها سوى رئيس اللجنة
وأعضاؤها.
فقرة ثالثة : "وتصدر القرارات بالأغلبية المطلقة، وفى حالة تساوى
الأصوات يرجح رأى الجانب الذى منه الرئيس".
فقرة رابعة : "وتدون القرارات في محضر اللجنة وتكون مسببة ويوقع
عليها من رئيس اللجنة وأعضائها ويتلوها الرئيس علناً".
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم قبول الدعوى لانتفاء مصلحة
رافعها، تأسيساً على أن طعنه الموضوعى يستهدف أساساً قرارى وزير الداخلية بإجراءات
ترشيح وإنتخاب أعضاء مجلس الشعب وتحديد ميعاد قبول طلبات الترشيح، وكلاهما سابق
على عملية الاقتراع، ومن جهة أخرى، فإن تحقق الإشراف القضائى الكامل على الاقتراع
لا يكفل للمدعى طريقاً ممهداً للفوز المؤكد بعضوية مجلس الشعب، إذ قد يتحقق هذا
الإشراف، ولا يحالفه الفوز بها، سيما وقد ان قضت مدة المجلس الذى تقدم بطلب
الترشيح لعضويته.
وحيث إن هذا الدفع مردود بأن المصلحة الشخصية المباشرة - وهى شرط
لقبول الدعوى الدستورية - مناطها على ماجرى به قضاء هذه المحكمة - قيام رابطة
منطقية بينها وبين المصلحة التى يقوم بها النزاع الموضوعى، وذلك بأن يؤثر الحكم في
المسألة الدستورية على الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع، متى كان
ذلك، وكان الثابت من أوراق الدعوى أن المدعى كان مرشحاً في إنتخابات مجلس الشعب
التى جرت في نوفمبر سنة 1990، وقد أقام دعواه الموضوعية مستهدفاً الحكم بوقف تنفيذ
ثم بإلغاء قرار وزير الداخلية رقم 6054 لسنة 1990بتعديل بعض أحكام القرار الوزارى
رقم 293 لسنة 1984 بإجراءات ترشيح وإنتخاب أعضاء مجلس الشعب - والذى يستند في صدوره
إلى المادة (24) من القانون رقم 73 لسنة 1956 المشار إليه - مردداً في المادة (13)
منه أحكام الفقرة الثانية من تلك المادة، وكان هذا القرار هو الذى طبق على
الإنتخابات المشار إليها وأنتج أثره قانوناً؛ وكان فصل محكمة الموضوع في مشروعية
هذا القرار يقتضى أن تقول المحكمة الدستورية العليا كلمتها في شأن دستورية نص
القانون الذى يستند إليه، فإن مصلحة المدعى في الطعن على الفقرة الثانية من المادة
(24) سالفة الذكر - فيما تضمنته من جواز تعيين رؤساء لجان الإنتخابات الفرعية من
غير أعضاء الهيئات القضائية - تكون متحققة . ومن ثم فإن نطاق الدعوى الماثلة يتحدد
بنص الفقرة المشار إليها، ولا يمتد إلى غير ذلك من النصوص الأخرى المطعون فيها.
وحيث إن المدعى ينعى على النص الطعين، أن المشرع وإن عقد رئاسة اللجان
العامة لأعضاء الهيئات القضائية إلا أنه سمح برئاسة اللجان الفرعية - وهى التى
يجرى فيها الاقتراع وفقاً للفقرة الخامسة من ذات المادة - لغيرهم، ومن ثم ينحل
الإشراف القضائى على الاقتراع والذى تطلبه الدستور إلى مجرد إشراف صورى غير حقيقى،
الأمر الذى يفرغ حق الإنتخاب من مضمونه ويؤثر بالتالى في حق الترشيح، بما مؤداه:
حرمان المواطنين من ضمانة أساسية في اختيار ممثليهم، والمساس بالسيادة التى قررها
الدستور للشعب بجعله مصدراً للسلطات، ويخل كذلك بمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة بين
الناخبين، مما يوقع النص الطعين في حمأة المخالفة الدستورية لخروجه على أحكام
المواد (8، 40، 62، 88) من الدستور.
وحيث إن دفاع هيئة قضايا الدولة، ارتكز على أن الدستور قد عهد إلى
المشرع بتحديد شروط عضوية المجلس النيابى وبيان أحكام الإنتخاب والاستفتاء، ولم
يقيده إلا بأن يتم الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية، وأن تمام الاقتراع
لايكون إلا باكتما له ويتحقق ذلك بإبداء الناخبين آراءهم في عملية الإنتخاب، ثم
إغلاق صناديق الإنتخاب وإرسالها إلى اللجنة العامة لتباشر مهمتها في إجراء الفرز
ثم إعلان النتيجة. وأن الإشراف يؤخذ بمعنى الاطلاع على الاقتراع من علٍ، وليس
بمعنى توليه وتعهده فالذى يملك أمر الاقتراع والقيام به هو الناخب ذاته وليس
المشرف القضائى . كما لا يصح حمل الإشراف على معنى الرقابة والسيطرة، لصعوبة ذلك
عملياً إذ أن عدد اللجان الفرعية يفوق بكثير عدد أعضاء الهيئات القضائية؛ بالإضافة
إلى أن الأعمال التحضيرية للدستور أوضحت أن الإشراف القضائى على اللجان الفرعية
إنما يكون بقدر الإمكان. بما يعنى أن مد هذا الإشراف إلى تلك اللجان من الملاءمات
التى تندرج في نطاق السلطة التقديرية للمشرع بلا معقب عليه، وخلص دفاع الحكومة إلى
القول بأن قرينة الدستورية المقررة لمصلحة القوانين، تقتضى حملها على المعنى الذى
يعصمها من الإبطال متى كانت نصوصها تحتمل ذلك.
وحيث إن رقابة هذه المحكمة للنصوص التشريعية المطعون عليها إنما
تتغياردها إلى أحكام الدستور تغليباً لها على ما دونها وتوكيداً لسموها على ما
عداها لتظل الكلمة العليا للدستور باعتباره القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى
القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم في حدد للسلطات التشريعية والتنفيذية
والقضائية صلاحياتها واضعاً الحدود التى تقيد أنشطتها وتحول دون تدخل كل منها في أعمال
الأخرى، مقرراً الحقوق والحريات العامة مرتباً ضماناتها. وقد جرى قضاء هذه المحكمة
على أن نصوص الدستور تتوخى أن تحدد لأشكال من العلائق السياسة والاجتماعية
والاقتصادية مقوماتها، ولحقوق المواطنين وحرياتهم تلك الدائرة التى لا يجوز
اقتحامها، فلا يمكن أن تكون النصوص الدستورية - وتلك غاياتها - مجرد نصوص تصدر
لقيم مثالية ترنو الأجيال إليها، وإنما قواعد ملزمة لا يجوز تهميشها أو تجريدها من
آثارها أو إيهانها من خلال تحوير مقاصدها أو الإخلال بمقتضياتها أو الإعراض عن
متطلباتها، فيجب دوماً أن يعلو الدستور ولا يعُلى عليه وأن يسمو ولا يُسمى عليه.
وحيث إنه ولئن كان صحيحاً أن الرقابة القضائية التى تباشرها هذه
المحكمة في شأن الشرعية الدستورية لا تستقيم موطئاً لإبطال نصوص قانونية يحتمل
مضمونها تأويلاً يجنبها الوقوع في هاوية المخالفة الدستورية، إلا أنه من المسلم
أيضاً أنه إذا ما استعصى تفسير النصوص المطعون عليها بما يوائم بين مضمونها وأحكام
الدستور، فإن وصمها بعدم الدستورية يغدو محتماً؛ إذ لا يسوغ أن تفسر النصوص القانونية
قسراً على وجه لا تحتمله عباراتها ولا يستقيم مع فحواها بقصد تجنب الحكم بعدم
دستوريتها؛ وإلا انحلت الرقابة الدستورية عبثاً.
وحيث إن الأصل في النصوص الدستورية أنها تعمل في إطار وحدة عضوية تجعل
من أحكامها نسيجاً متآلفاً متماسكاً، بما مؤداه: أن يكون لكل نص منها مضمون محدد
يستقل به عن غيره من النصوص استقلالاً لا يعزلها عن بعضها البعض، وإنما يقيم منها
في مجموعها ذلك البنيان الذى يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها في
المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يجوز بالتالى أن تفسر النصوص الدستورية
بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة
في الفراغ، أو باعتبارها قيماً مثالية من فصلة عن محيطها الاجتماعى .
وحيث إن الدستور نص في المادة (62) منه - التى وردت في الباب الخاص
بالحريات والحقوق والواجبات العامة - على أن " للمواطن حق الإنتخاب والترشيح
وإبداء الرأى في الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون ومساهمته في الحياة العامة واجب
وطنى " ومفاد ذلك أن حق الترشيح وحق الإنتخاب حقان مترابطان يتبادلان التأثير
فيما بينهما، فلا يجوز أن تُفرض على مباشرة أيهما قيود يكون من شأنها المساس
بمضمونهما مما يعوق ممارستهما بصورة جدية وفعالة وذلك ضماناً لحق المواطنين في اختيار
ممثليهم في المجالس النيابية باعتبار أن السلطة الشرعية لا يفرضها إلا الناخبون،
وكان هذان الحقان لازمين لزوماً حتمياً لإعمال الديموقراطية في محتواها المقرر
دستورياً ولضمان أن تكون المجالس النيابية كاشفة في حقيقتها عن الإرادة الشعبية
ومعبرة تعبيراً صادقاً عنها ؛ لذلك لم يقف الدستور عند مجرد النص على حق كل مواطن
في مباشرته تلك الحقوق السياسية، وإنما جاوز ذلك إلى اعتبار مساهمته في الحياة
العامة واجباً وطنياً يتعين القيام به في أكثر المجالات أهمية لاتصالها بالسيادة
الشعبية التى تعتبر قواماً لكل تنظيم يرتكز على إرادة الناخبين. ولئن كانت المادة
(62) من الدستور قد أجازت للمشرع العادى تنظيم تلك الحقوق السياسية إلا أنه يتعين
دوماً ألا يتعارض التنظيم التشريعى لها مع نصوص الدستور الأخرى، وإنما يلزم توافقه
مع الدستور في عموم قواعده وأحكامه.
وحيث إن الدستور القائم أو رد في مادته الثامنة والثمانين نصاً غير
مسبوق لم تعرفه الدساتير المصرية من قبل، إذ نص على أن " يحدد القانون الشروط
الواجب توافرها في أعضاء مجلس الشعب، ويبين أحكام الإنتخاب والاستفتاء، على أن يتم
الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية "مما يقطع أن المشرع الدستورى -
احتفاءً منه بعملية الاقتراع -بحسبانها جوهر حق الإنتخاب - أراد أن يُخضعها لإشراف
أعضاء من هيئة قضائية ضماناً لمصداقيتها وبلوغاً لغاية الأمر منها، باعتبار أن
هؤلاء هم الأقدر على ممارسة هذا الإشراف بما جُبلوا عليه من الحيدة وعدم الخضوع
لغير ضمائرهم -وهو ما تمرسوا عليه خلال قيامهم بأعباء أمانتهم الرفيعة - حتى يتمكن
الناخبون من اختيار ممثليهم في مناخ تسوده الطمأنينة ؛ على أنه لكى يؤتى هذا
الإشراف أثره فإنه يتعين أن يكون إشرافاً فعلياً لاصورياً أو منتحلاً، وإذ كانت
عملية الاقتراع، تجرى -وفقاً لأحكام القانون- في اللجان الفرعية، فقد غدا لزاماً
أن تحاط هذه العملية بكل الضمانات التى تكفل سلامتها وتُجنبها احتمالات التلاعب
بنتائجها، تدعيماً للديموقراطية التى يحتل منها حق الاقتراع مكاناً عليّاً بحسبانه
كافلاً لحرية الناخبين في إختيار ممثليهم في المجالس النيابية لتكون السيادة للشعب
باعتباره وحده مصدر السلطات وفقاً للمادة الثالثة من الدستور.
وحيث إن البين من الاطلاع على محاضر أعمال اللجنة التحضيرية لمشروع
الدستور، أن لجنة الإدارة المحلية والقوانين الأساسية ناقشت في اجتماعها المعقود
في 26/6/1971 بعض المبادئ بشأن عملية الإنتخاب، وأوضح رئيس اللجنة أنها "تبدأ
اجتماعها هذا بنظر المبدأ الرابع الخاص بالتصويت والضمانات القانونية والفعلية
التى تكفل عدم تزوير الإنتخابات"، وأشار رئيس اللجنة إلى أن المطلوب الوصول
إلى أفضل الضمانات التى تكفل عدم تزوير الإنتخابات، بحيث تجئ معبرة تماماً عن
رغبات الجماهير، وبلورة المقترحات التى نوقشت في مبادئ عرضها على أعضاء اللجنة
لإبداء الرأى فيها، ومن بين المبادئ التى وافقت عليها اللجنة : "عدم إجراء
الإنتخابات في القطر كله دفعة واحدة ، بل من المستحسن تقسيم القطر إلى مناطق تتم
فيها الإنتخابات في فترات متتالية لأحكام السيطرة عليها ومنع التدخل فيها،
والارتفاع بمستوى رؤساء اللجان الفرعية واختيارهم من بين أعضاء الهيئات القضائية
ما أمكن، وتخويل القضاء سلطة النظر في الطعون الإنتخابية بسرعة وبلا رسوم وبدون
محام". ثم جاء تقرير اللجنة التحضيرية لإعداد مشروع الدستور الدائم -والذى
عرض على مجلس الشعب- عن المبادئ الأساسية لمشروع الدستور، متضمناً صياغة المبدأ
الذى تقرر في هذا الشأن بالنص التالى "ينظم القانون الإنتخاب والاستفتاء بما
يضمن أن يتم تحت إشراف جهة قضائية ". وقد أفرغ هذا المبدأ في نص المادة (88)
المشار إليها. ومفاد هذا النص الدستورى ، أمران، أولهما: أن المشرع الدستورى فوض
المشرع العادى في تحديد الشروط الواجب توافرها في عضو مجلس الشعب، كما فوضه أيضاً
في بيان أحكام الإنتخاب والاستفتاء وكل منهما يتضمن مراحل متعددة ؛ وثانيهما: أنه
يَشترط بنص قاطع الدلالة لا يحتمل لبساً في تفسيره أن يتم الاقتراع - وهو مرحلة من
مراحل الإنتخاب والاستفتاء - تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية ، فليس ثمة تفويض من
الدستور للمشرع العادى في هذا الشأن، وإنما يتعين عليه أن يلتزم بهذا القيد
الدستورى .
وحيث إن من المقرر، أن عبارة النص تؤخذ على معناها اللغوى ، مالم يكن
لها مدلول اصطلاحى يصرفها إلى معنى آخر. وإذ كان لا خلاف؛ على أن الاقتراع، هو تلك
العملية التى تبدأ بإدلاء الناخب بصوته لاختيار من يمثله بدءً من تقديمه بطاقته
الإنتخابية وما يثبت شخصيته إلى رئيس لجنة الإنتخابات؛ مروراً بتسلمه بطاقة
الاختيار؛ وانتهاءً بإدلائه بصوته في سرية لاختيار أحد المرشحين، أو العدد المطلوب
منهم، وإيداع هذه البطاقة صندوق الإنتخاب ثم فرز الأصوات لإعلان النتيجة بما يطابق
إرادة الناخبين؛ فإنه لا يتم ولا يبلغ غايته إلا إذا أشرف عليه أعضاء من هيئة
قضائية . لما كان ذلك، وكان معنى الإشراف على الشئ أو الأمر - لغة - على مايبين من
الجزء الأول من المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية - الطبعة الثالثة -
صفحة 498 كا لآتى : " أشرف عليه : تولاه وتعهده وقاربه. وأشرف الشئ له:
أَمْكَنَهُ". وإذ لم يكن للفظ الإشراف دلالة اصطلاحية تخالف دلالته اللغوية ،
فقد بات متعيناً أن المشرع الدستورى عند إقراره نص المادة (88) من الدستور -
منظوراً في ذلك لا إلى إرادته المتوهمة أو المفترضة بل إلى إرادته الحقيقية التى
كشفت عنها الأعمال التحضيرية على ما تقدم - قد قصد إلى إمساك أعضاء الهيئات
القضائية - تقديراً لحيدتهم ونأيهم عن العمل السياسى بكافة صوره - بزمام عملية
الاقتراع فلا تفلت من بين أيديهم بل يهيمنون عليها برمتها بحيث تتم خطواتها متقدمة
الذكر كلها تحت سمعهم وبصرهم.
وحيث إنه على ضوء ماتقدم، فإن الأهداف التى رمى الدستور إلى بلوغها
بما تطلبه في المادة (88) من أن يتم الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية
تتحصل بجلاء -وفق صريح عباراتها وطبيعة الموضوع الذى تنظمه والأغراض التى
يُتَوَخّى تحقيقها من هذا الإشراف، وماتكشف عنه الأعمال التحضيرية السالف الإشارة
إليها - في إرساء ضمانة أساسية لنزاهة الإنتخابات عن طريق ضمان سلامة الاقتراع
وتجنب احتما لات الإنحراف به عن حقيقته،وهى أهداف تدعم الديموقراطية وتكفل مباشرة
حق الإنتخاب سليماً غير منقوص أو مشوه، موفياً بحكمة تقريره التى تتمثل -على
ماتقدم - في أن تكون السيادة للشعب باعتباره وحده مصدرالسلطات،وهى بالتالى ضمان
لحق الترشيح الذى يتكامل مع حق الانتخاب وبهما معاً تتحقق ديموقراطية النظام. وإذ
يقوم النص الدستوري سالف الذكر على ضوابط محددة لاتنفلت بها متطلبات إنفاذه
ومقتضيات إعماله، فقد تعين على المشرع عند تنظيمه حق الانتخاب أن ينزل عليها وألا
يخرج عنها بما مؤداه: ضرورة أن يكفل هذا التنظيم لأعضاء الهيئات القضائية الوسائل
اللازمة والكافية لبسطهم إشرافاً حقيقياً وفعالاً على الاقتراع؛ ولا محاجة في القول
بتعذر رئاسة أعضاء الهيئات القضائية للجان الفرعية لعدم كفاية عددهم، ذلك أنه إذا
ماتطلب الدستور أمراً فلا يجوز التذرع بالاعتبارات العملية لتعطيل حكمه بزعم
استحالة تطبيقه، سيما وأنه لم يستلزم إجراء الانتخاب في يوم واحد؛ وإلا غدا
الدستور بتقريره هذه الضمانة عابثاً، ولإنحلت القيود التي يضعها سراباً.
وحيث إنه وإن استوجب النص الطعين عقد رئاسة اللجان العامة في جميع
الأحوال لأعضاء من هيئة قضائية، إلا أنه يسمح برئاسة اللجان الفرعية التي يجرى
الاقتراع أمامها لغيرهم، فأصبح الاقتراع يتم بمنآي عن اللجنة العامة، دون أن يكفل
المشرع لهذه اللجنة - التي يرأسها عضو الهيئة القضائية - الوسيلة اللازمة والكافية
لتحقيق الإشراف الحقيقي على الاقتراع، ومن ثم، يضحى النص المطعون عليه، قاصراً عن
الوفاء بما تطلبه الدستور من إشراف أعضاء من هيئات قضائية على الاقتراع، مهدراً
بذلك ضمانة رئيسية تتعلق بحقي الترشيح والانتخاب، وبالتالي يكون مخالفاً لأحكام
المواد (3، 62، 64، 88) من الدستور.
وحيث إنه عن طلب المدعى القضاء ببطلان انتخابات مجلس الشعب وبطلان
تشكيله؛ فإن الأصل - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن إجراء انتخابات مجلس
الشعب بناء على نص تشريعي قُضى بعدم دستوريته، يؤدى إلى بطلان تكوينه منذ إنتخابه،
إلا أن هذا البطلان لا يترتب عليه البتة إسقاط ما أقره ذلك المجلس من قوانين
وقرارات وما اتخذه من إجراءات خلال الفترة السابقة على تاريخ نشر هذا الحكم في الجريدة
الرسمية، بل تظل تلك القوانين والقرارات والإجراءات قائمة على أصلها من الصحة، ومن
ثم تبقى نافذة مالم يتقرر إلغاؤها أو تعديلها من الجهة المختصة دستورياً أو يُقضى
بعدم دستورية نصوصها التشريعية بحكم يصدر من هذه المحكمة أن كان لذلك وجه آخر غير
ما بنُي عليه هذا الحكم.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (24) من
القانون رقم 73 لسنة 1956بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية - قبل تعديله بالقانون رقم
13 لسنة 2000 - فيما تضمنه من جواز تعيين رؤساء اللجان الفرعية من غير أعضاء
الهيئات القضائية، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة
.