الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 26 نوفمبر 2023

اَلْأَعْمَال اَلتَّحْضِيرِيَّةِ لِلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ اَلْمِصْرِيِّ / مُنَاقَشَات مَجْلِسِ اَلشُّيُوخِ

عودة إلى صفحة : اَلْأَعْمَال اَلتَّحْضِيرِيَّةِ لِلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ اَلْمِصْرِيِّ


مناقشات مجلس الشيوخ (1)

جلسة 8 يونية سنة 1948

الرئيس: سبق أن ندبت وزارة العدل حضرة صاحب العزة عبده بك محرم مستشار قسم الرأي بمجلس الدولة، وحضرة الدكتور حسن أحمد بغدادي وكيل كلية الحقوق بجامعة فاروق الأول، لحضور جلسات المجلس أثناء نظر مشروع هذا القانون .

فهل توافقون حضراتكم على ذلك؟

(موافقة)


(حضر حضرتهما )

 

الرئيس : حضرات الزملاء المحترمين : لقد خصصت هذه الجلسة لنظر مشروع القانون المدني. وحضراتكم تذكرون أن هيئة خاصة من الفقهاء والمشرعين بوزارة العدل توافرت منذ وقت طويل على بحث هذا الموضوع ودرسه. وأن كثيرا من رجال القانون الحاليين والسابقين قد ساهموا فيه.

ولهذا يطيب لي من غير تعرض لماهية المشروع ونصوصه، أن أنوه بفضل هؤلاء الرجال جميعاً، وبخاصة حضرة صاحب المعالي الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا الذي أنفق جهوداً كبيرة خلال عدة سنين لإنجاز هذا المشروع.

ويسرني في هذا المقام أن أذكر جهد لجنة القانون المدني بمجلسكم الموقر، وعلى رأسها زميلنا الفاضل الأستاذ محمد محمد الوكيل. فقد أقبلت على درس المشروع المحال إليها وتمحيصه، على النحو الذي اقتنعت به، حتى انتهى إلى الصورة المعروضة على حضراتكم.

ولا تزال اللجنة مستعدة لبحث ما قدمه الفنيون غير الأعضاء في المجلس، وما يمكن أن يقدموه إليها من الملاحظات والبحوث، وذلك لإبداء رأيها فيه أثناء نظر المشروع المعروض أمام حضراتكم.

وإذا كان القانون علماً وصياغة، وكان تعديل القوانين مما يعالج في أناة وروية واسترشاد بالتجارب، فإني عظيم الرجاء في توفيق الله إيانا للقيام بالمهمة التي تواجهنا، والتي نبدأ عملنا فيها اليوم. (2)

المقرر : حضرات الشيوخ المحترمين، أتشرف - نيابة عن لجنة القانون المدني بهذا المجلس الموقر – بأن أشكر لسعادة رئيس هذا المجلس المحترم عباراته الكريمة التي وجهها إلى اللجنة في مستهل هذه الجلسة. وهذه العبارات هي خير ما يتوج بها مجهود هذه اللجنة، ونتقبل ذلك بأجزل الشكر وأعظم الحمد.

بعد هذا، أقول لحضراتكم أن الموضوع الذي سأعرض له في هذه الجلسة، لما كان دقيقاً كل الدقة، يكتنفه الفن القانوني من كل ناحية من نواحيه، ولما كنت مضطراً في معرض التدليل على ما سأدلي به وأقرره من آراء إلى الرجوع والاستئناس والاستشهاد بنصوص القانون وأحكامه وأقسامه وأبوابه وقضاء المحاكم. ولما كان لما سأقوله أهمية خاصة من عدة نواح، لذلك أرى أن لا مندوحة لي من الركون إلى تلاوة ما سأقرره.

وإذا كنت أطمع في أن يكون كل ما سأقوله واضحاً تمام الوضوح وظاهراً تمام الظهور، نظرا للأسلوب والنهج اللذين تخيرتهما، فإنني على أتم استعداد إلى المزيد من الشرح والإبانة كلما طلب إلي ذلك. والآن أبدأ كلمتي :

 

حضرات الشيوخ المحترمين:

تمهيد: (3)

في منتصف أكتوبر من السنة المقبلة، يشرق على القضاء المصري عهد جديد، تستكمل فيه البلاد سيادتها القضائية، وبهذا تتحقق لنا أمنية من أعز أمانينا، ففي هذا التاريخ، تختتم مصر مرحلة مريرة في تاريخها، وتستفتح مرحلة أخرى كريمة، يحفز المصريين فيها فوزهم بالحق إلى النهوض بتحمل جسيم التبعات وعظيم المسئوليات .

وها هي مصر تتخذ الأهبة لمواجهة ما تقتضيه هذه المرحلة، فتنجز إصلاحات تشريعية ضخمة، كانت قد تراخت – مضطرة – في إنجازها حقبة طويلة من جراء القيود التي كان نظام الامتيازات يفرضها، وفي هذه الدورة تعرض على حضراتكم تشريعات هامة أساسية، تناولتها يد الإصلاح، من بينها القانون المدني.

وقد ظل القانون – منذ أن وضع في سنتي 1876 و1883 – على حاله فيما خلا تعديلات جزئية. واليوم يعرض على حضراتكم مشروع تنقيحه. وقد تولى المصريون أنفسهم إعداده وتحضيره، ويدلي البرلمان بالرأي فيه. وبهذا يكون التقنين المدني مصرياً في أسلوبه وصياغته، مصرياً في وضعه وغايته.

وهل أبلغ من أن يطبق القضاء المصري – في الوقت الذي يخلص له فيه السلطان – تشريعاً مصري الأركان والبنيان فتقترن سيادتنا القضائية بسيادتنا التشريعية؟

 

ظروف وضع التقنين الحالي: (4)

الواقع أنه لم يعد ثمة ما يبرر الإبقاء على تقنينا المدني، نظرا لما اعتوره في تكوينه ونشأته الأولى من عيوب ونقائص. وقد احتملته البلاد على ما به، بسبب ظروفنا وأحوالنا الماضية الأليمة، ثم هو قد أضحى اليوم – بعد أن تقدم الزمن وتطورت أوضاع التعامل – متخلفاً عن عصرنا، قاصراً عن مواجهة تلك الأوضاع عندنا.

فمن المعلوم أن أول تقنين مدني وضع في مصر هو التقنين المدني المختلط الصادر في سنة 1876، وقد انفرد بوضع هذا التقنين وغيره من التقنينات المختلطة في سنة 1870 الأستاذ مانوري، أحد المحامين الفرنسيين وقد اقتصر الأمر في وضع التقنين المدني المختلط على مجرد النقل، في اقتضاب جائر، عن التقنين المدني الفرنسي بسبب الظروف القاهرة التي كانت تدعو إلى التعجيل من ناحية، وبسبب الرغبة في تيسير إقناع الأجانب بوجوب إقرار الوضع الجديد من ناحية أخرى ثم استقر الرأي عند إنشاء المحاكم الأهلية على أن تكون تقنيناتها مطابقة في جملتها للتقنينات المختلطة، حتى يستطاع في أقرب وقت إحلال هذه المحاكم محل المحاكم المختلطة. ولذلك ولأغراض وطنية سامية أخرى، اضطر فخري باشا إلى المبادرة بإصدار التقنينات الأهلية على هذا الوجه في سنة 1883، وخرج التقنين المدني الأهلي، وهو يكاد لا يختلف عن التقنين المدني المختلط إلا في تفصيلات قليلة.

 

علة بقاء التقنين الحالي حتى اليوم : (5)

في هذه الظروف، وضع تقنيننا المدني فكان تقنين الضرورة والعجلة. وشاءت الأحداث أن تمد في بقاء نظام الامتيازات فظل هذا التقنين قائماً تتكشف عيوبه يوماً بعد يوم، وحيلة مصر فيه قاصرة فلن ينس ما كان يبذل من جهد في عقد المؤتمرات الدولية وتبادل الرسائل الدبلوماسية، أو عقد الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة لتعديل حكم تفصيلي من أحكام تقنيننا المدني. فبقاء هذا التقنين خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن لم يكن يرجع إلى فضائله أو كفايته الذاتية، وإنما كان يرجع إلى ظروف أخرى أخصها قيود نظام الامتيازات الأجنبية. ولولا جهود القضاء الإنشائية في تأويل الأحكام في مواطن كثيرة، واجتهاد الفقه في استنباط التفسير من المصادر الأصلية لهذا التقنين لما استقام له أمر أو قوم له عوج.

 

إجمال عيوب التقنين الحالي: (6)

إن نظرة واحدة في نصوص تقنيننا المصري تكفي للاقتناع بأن فيه من المآخذ ما يحتم تعديله تعديلاً شاملاً، فقد صيغ صياغة معيبة قوامها الإسراف في الاقتضاب شاع فيه بسببها من القصور والغموض ما يجعله عاجزاً عن أداء رسالته، دون اعتماد على مصدره الأصلي.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فقد انتابه شيء غير قليل من التناقض والخطأ، مما يجب أن يتنزه عنه كل تقنين، فإذا أضفنا إلى ذلك تلك العلة الطارئة التي أشرت إليها سابقاً، وهي تخلف هذا التقنين عن التقدم الذي بلغته البلاد، بدت عيوب هذا التقنين واضحة جلية.


(أ) عيوب التقنين الحالي من حيث الموضوع : (7)

1 – الاقتضاب والقصور:

أول ما يؤخذ على التقنين الحالي اقتضاب في الصياغة جاوز حدود المقبول، وأورثه قصوراً ظاهراً في كثير من الموضوعات الهامة. فهو يعالج في الكتب الأربعة – التي وزعت بينها نصوصه – المعاملات المالية في 639 مادة، في حبن أن التقنين الفرنسي الذي نقل عنه يفسح لهذا القدر عينه زهاء 1300 مادة. فإذا لاحظنا أن التقنين الفرنسي كان في عصره مثالاً لإيجاز العبارة ودقتها، لوضح لنا أن إغفال نصف هذه النصوص لا يمكن أن يتم إلا على حساب مزايا التقنين بما أورثه من القصور والاقتضاب.

فإذا أضفنا إلى اقتضاب تقنيننا قصور التقنين الفرنسي نفسه وجمعنا ما ينقص التقنينين من مسائل لا يخلو منها اليوم تقنين حديث، لانتهينا من ذلك إلى أن طائفة من أهم موضوعات القانون المدني وأوسعها نطاقا في التطبيق العملي لا يعرض لبعضها التقنين الحالي إطلاقاً. أو يعرض لبعضها الآخر في صورة هي أقرب في الواقع إلى الإغفال والإهمال.

ونشير في هذا المقام إلى أمثلة بارزة من هذه الموضوعات، دون أن نحاول استقصاءها، فتجتزئ بذكر نظرية التعسف في استعمال الحق وأحكام تنازع القوانين في الزمان والمكان والجمعيات والمؤسسات، وطائفة من الأحكام الأساسية في نظرية العقد، كالمبادئ المتعلقة بتكوين العقود والنيابة في التعاقد، والتعهد على الغير والصورية، والدفع بعدم التنفيذ، وعقود الإذعان، والتهديدات المالية، والالتزامات الطبيعية، والظروف الطارئة، وكثير من أحكام نظرية الالتزام في مصادره وآثاره، كالإرادة المنفردة والمسئولية عن الأشياء الخطرة، والإثراء بلا سبب، وآثار الالتزام في ذاته، وحوالة الدين، والإعسار المدني، وبعض العقود المسماة : كعقد العمل وعقود الاحتكار، والمنافع العامة، وعقد التأمين، وطائفة من الأحكام الخاصة بالملكية والحقوق العينية، كالملكية في الشيوع، وحق الارتفاق، والحيازة، وتصفية التركات. هذه أمثلة لموضوعات يعلم المشتغلون بالقانون حاجة للقضاة والمتقاضين إلى نصوص واضحة في شأنها، ينقطع بها دابر الخلاف، وتستقر على أساسها المعاملات.

تلك هي بعض الأمثلة التي اشترك فيها التقنينان المصري والفرنسي. وليت الأمر وقف عندنا عند هذا الحد، فقد تجاوزه مع الأسف كثيراً إذ أن واضع التقنين المصري - وقد التزم في النقل هذا الاقتضاب الذي تقدمت الإشارة إليه – لم يجد بداً من تضحية الكثير من أحكام التقنين الفرنسي نفسه. فانفرد تقنيننا بالقصور في نواح كثيرة، وأغفلت نصوصنا قواعد بالغة الأهمية، تناولها التقنين الفرنسي بصورة أو أخرى. وقد يضيق نطاق هذه الكلمة عن حصر هذه القواعد جميعاً، فاكتفي بأن أذكر منها ما يتصل بإثبات السبب في العقد، والاحتجاج بالصورية، والنفوذ الأدبي في الإكراه، وغيره من التفاصيل المتعلقة بعيوب الرضا والمسئولية عن الإضرار التي تقع بسبب البناء، والاشتراط لمصلحة الغير ونفي الثابت بالكتابة وقيود الملكية، وبعض نواحي حقوق الارتفاق، وحسن النية في تملك العقار بالتقادم الخمسي. وكلها من الموضوعات التي تكثر تطبيقاتها في الحياة العملية.

ثم إن واضع تقنيننا لم ينتبه إلى أن الاقتصار على أحكام المعاملات المالية يقتضي تنظيم بعض الموضوعات الهامة التي تتصل بهذه المعاملات من ناحية، وتتصل بالأحوال الشخصية أو بالمسائل الشرعية من ناحية أخرى. فقد اعتبر الميراث والهبة من أسباب كسب الملكية ولكنه لم يزد على النصوص العامة أي تفصيل. وإزاء هذا القصور، اضطرب الفقه والقضاء في أهم التطبيقات، التي تعرض في الحياة العملية، أيأخذان في خلافة الوارث بقاعدة استمرار شخصية المورث في أشخاص الورثة وفقا للقانون الفرنسي ؟ أم يأخذان بالمبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية، ويقضيان بتطبيق قاعدة " لا تركة إلا بعد سداد الدين "؟ وفي تقادم حق الوارث في التركة والتقادم الخاص بتملك الوقف، أيأخذان بالمدة المقررة في القانون المدني، وهي خمس عشرة سنة، أم بالمدة المقررة في الفقه الإسلامي، وهي ثلاث وثلاثون سنة؟ وإلى أي حد يطبقان قواعد الشريعة الإسلامية في الهبة؟ أيقران الرجوع فيها وفقا لهذه القواعد؟ أم يحكمان القانون المدني، ويمنعان الرجوع؟ هذه أمثلة لها نظيرها في الأهلية وفي سلطة الأولياء، وفي الغبن في بيع عقار القاصر، وإجارة أعيان الوقف، وغير ذلك من الموضوعات التي تكثر تطبيقاتها العملية، والتي تختلف في شأنها أحكام القضاء، دون أن يوجد في نصوص التقنين ما يسد ذرائع الخلاف.

2 – الغموض: (8)

أما الغموض فيسود طائفة لا يستهان بها من نصوص تقنيننا، وهو يرجع كما أسلفنا إلى ذلك الميل الجامح إلى الاقتضاب ومن ذلك مثلاً أن قاعدة تملك الحائز حسن النية للثمار تستخلص من طريق مفهوم المخالفة من المادة 146، مع أن القانون الفرنسي اختصها بنص صريح على أن الغموض قد يبلغ أحيانا مبلغ الألغاز فلا يتيسر للفقيه مهما أوتي من قدرة على الاستنباط والتخريج أن يستخلص من النص حكماً واضحاً ومن هذا القبيل المادة 137 التي تقضي بأن : " من عقدت على ذمته مشارطة بدون توكيل منه فله الخيار بين قبولها أو رفضها " فهل ينصرف هذا النص إلى عقد الفضولي بالمعنى المعروف في الشريعة الإسلامية ؟ أم هو ينصرف إلى الوعد بحمل الغير على التعاقد أم هو لا يقصد هذا أو ذاك، وإنما يواجه الاشتراط لمصلحة الغير. الواقع أن هذا النص مغرق في الإبهام والغموض مما جعل الفقه والقضاء يصرفانه تارة إلى احتمال من هذه الاحتمالات، وتارة يصرفانه إلى احتمال أخر مع بُعد الشقة وقيام الفارق. ولهذا النوع من الغموض أمثلة كثيرة نكتفي منها بالإشارة إلى النصوص المتعلقة بالدعوى البوليصية (م 143)، ودعوى استعمال حقوق المدين (م 141)، والالتزام الطبيعي (م 147) ومحل الالتزام (م 95)، والسبب (م 94) والحيازة (م 76)، والغلط في عقد الصلح (م 535)، والشرط الجزائي (م 98) والتضامن (م 109 – 115)، والفضالة (م 144). واختلاف أحكام المحاكم فيما بينها من جراء غموض هذه النصوص مشهور، لا حاجة بنا إلى مزيد من بيان.

3 – التناقض والخطأ: (9)

ولم يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل جاوزه إلى التناقض والخطأ. فمن أمثلة التناقض ما نصادفه في تمسك المدين المتضامن بالمقاصة، وفي تبعة هلاك المبيع. فالمادة 113 لا تجيز للمدين المتضامن المتمسك بالمقاصة " الحاصلة لغيره من المدينين المتضامنين "

والمادة 201 تجيز له أن يتمسك " بالمقاصة المستحقة لباقي المدينين المتضامنين بقدر حصتهم في الدين ". والمادة 241 تحمل المشتري تبعة هلاك المبيع إن كان من المثليات. والمادة 297 تجعل هذه التبعة على البائع.

وهناك أخطاء لا يجدي في تصحيحها إلا العدول عن النص كلية في غير تردد. ففي التملك بالتقادم الخمسي يغفل شرط حسن النية (م 76). وفي الشرط يعطف بين استقباله وعدم تحققه " بأو " التخييرية، مع أن الأمرين واجب توافرهما معاً (م 103). وفي بيع المريض مرض الموت (م 255 و256) يخطئ التقنين في نقل أحكام الشريعة الإسلامية، فيجعل العبرة بقيمة المبيع، لا بالقدر المحابى به، وينظر إلى هذه القيمة وقت البيع لا وقت الموت، وفي بيع الشيء المعين بنوعه يقضي بأن الملكية تنتقل بالتسليم (م 268)، والصحيح أنها تنتقل بالتعيين. وفي القسمة يقضي التقنين المختلط باعتبارها منشئة (م 555)، والصحيح أنها كاشفة أو مقررة، وفي الشرط الجزائي تعتبر المادة 98 الالتزام بدفع الجزاء التزاماً تخييريا، والصحيح أنه في غير ذلك. وهو لا يخرج عن حكم التعويض إلا في حدود تعيين مقداره بالإنفاق، وفي النفقة يأتي بنصوص هي مضرب المثل في الخطأ.

 

(ب) عيوب التقنين الحالي من حيث الشكل: (10)

1 – التبويب:

هذه وتلك أمثلة تعتبر من قبيل القليل في نسبته إلى الكثير. وقد ساعد على بروز عيوب تقنيننا من الناحية الموضوعية عيوب شكلية تتصل بالتبويب من ناحية، وباللغة من ناحية أخرى. ففيما يتعلق بالتبويب وزعت مواد التقنين المصري بين كتب أربعة:

تناول أولها الأموال والحقوق العينية دون أن يجعل للأموال كياناً خاصاً مع أنها تكون محلا للحقوق العينية والشخصية بغير تفريق، وأفرد الكتاب الثاني للالتزامات، والثالث للعقود مع أن العقود لا تعدو أن تكون تطبيقاً خاصاً لنظرية الالتزام وجمع في الكتاب الرابع بين ما سماه حقوق الدائنين وصرفه بوجه خاص إلى التأمينات وما سماه إثبات الحقوق العينية دون أن يتحرج من إضافة نصوص تتعلق بقلم الكتاب.

وغني عن البيان أن هذه الكتب الأربعة لم يمهد لها قسم عام يتسع لأحكام يتناول تطبيقها نواحي القانون جميعاً كالأحكام المتعلقة بمصادر القانون وسوء استعمال الحق والقانون الدولي الخاص والشخصية المعنوية.

ثم إن الترتيب التفصيلي لكل كتاب من الكتب الأربعة لم يخل من عيوب نكتفي بإيراد بعض أمثلة منها:

ففي الكتاب الأول وضعت قاعدة إنزال الحيازة في المنقول منزلة السند المثبت للملكية في الفصل المخصص للعقد مع ما بين أحكام الوضعين من اختلاف.

وفي الكتاب الثاني جمعت النصوص المتعلقة بالإثراء بلا سبب والنصوص المتعلقة بالفعل الضار في باب واحد دون تمييز .

وفي الكتاب الثالث وضعت بعض القواعد المتعلقة بالملكية الشائعة والقسمة في سياق النصوص الخاصة بالشركات مع أن مكانها الطبيعي في الكتاب الخاص بالملكية والحقوق العينية .

وفي الكتاب الرابع أقحمت نظرية الحوالة على الأحكام الخاصة بالبيع مع أن مكانها الطبيعي في النصوص المتعلقة بالنظرية العامة للالتزام. لأن الحوالة كما تكون بمقابل قد تكون بغير مقابل وكما تكون نافلة للحق قد تكون وسيلة للرهن. ثم إن رهن الحيازة وضع في الكتاب الثالث مع العقود العينية ووضعت أحكام الرهن الرسمي في الكتاب الرابع الذي تضمن القواعد المتعلقة بالتأمينات العينية مع أن هذين النوعين من الرهن يصدران عن فكرة واحدة ويجب أن يجمعا معاً .

2 – اللغة :

ويراعى من ناحية أخرى أن التقنين الحالي صدر بلغتين ولم تسلم عبارته في إحداهما من اضطراب ملموس في مواطن كثيرة. فقد وضع أصلا باللغة الفرنسية واعتبرت الترجمة العربية في التقنين الأهلي بصيغة رسمية. وقد نشأت صعوبات جمة من اختلاف الترجمة عن الأصل أفضت إلى حيرة المتعاملين وحيرة الفقه والقضاء جميعاً. ففي الغلط يشترط النص العربي (المادة 134) أن يكون وارداً على أصل الموضوع المعتبر في العقد ويتطلب النص الفرنسي أن يكون وارداً على الاعتبار الرئيسي الذي ينظر إلى الشيء من خلاله في العقد. وفي التدليس مثلا يقضي النص العربي (المادة 136) بأن يكون صادراً من أحد المتعاقدين ولا يشترط النص الفرنسي ذلك وفي المسئولية التقصيرية وهي من أهم الموضوعات يغفل النص العربي (المادة 151) ذكر التقصير من بين أركانها ويخصه النص الفرنسي بالذكر صراحة وفي المادة 94 يستفاد من النص الفرنسي أن السبب ركن لوجود الالتزام. أما النص العربي فيجعل منه شرطاً لصحته. وفي هذه الأمثلة – وغيرها في نصوص التقنين المصري كثير – اختلفت أحكام المحاكم وتضاربت وتأثرت من جراء ذلك حقوق المتعاملين .

وليس المجال في هذا كله مجال مفاضلة بين نص وآخر وإنما الجوهري في هذا الصدد هو أن مثل هذا الاختلاف انتهى بالفقه والقضاء إلى ترجيح النص الفرنسي. وبهذا أضحى النص العربي الرسمي مهملاً من الناحية العملية مع أن التقنين وضع أصلاً للكافة بل وليت بعض العبارات التي استعملت في النسخة العربية كانت صحيحة من حيث التراكيب الاصطلاحية القانونية فقد استعملت بعض ألفاظ لا تمت إلى الاصطلاح القانوني بصلة مما جعلها مفتقرة إلى الدقة العلمية وسلامة التعبير. فمن أمثلة الافتقار إلى الدقة في التعبير العلمي أن المترجم استعمل لفظ " الإلغاء " كمرادف " للبطلان " في بعض المواطن (المادتان 48، 53) مع أن الأمرين يختلفان اختلافاً جوهرياً. واستعمل لفظ " التعهد " كمرادف " للالتزام " مع أن التعهد لا ينصرف إلا إلى التزام مصدره الإرادة. واستعمل كلمة " الفعل " كبديل من اصطلاح التصرف والأولى ليست لها دلالة اصطلاحية معينة أما الثانية فتصرف إلى العقد والإرادة المنفردة. ومن الأمثلة على ضعف الأسلوب وركاكة التعبير ترجمة الدولة " بالميري " والاستيلاء بوضع اليد والالتصاق " بإضافة الملحقات للملك " والدائن " بالمداين " واستعمال تعبير " الاستحصال " و " الاستحضار " و " الملزومية " وغير ذلك مما لا يسوغ بقاؤه في لغة التقنين .

 

تعليل بقاء التقنين رغم عيوبه : (11)

هذه أمثلة للعيوب التي تؤخذ على تقنيننا. فكيف ظل هذا التقنين قائماً طوال المدة الماضية؟ هناك حقيقة جوهرية لا يجوز إغفالها في هذا الصدد. فمن المحقق أن مصر لو ركنت إلى هذا التقنين وحده لما قضت من أمرها شيئاً ولما استطاع القاضي أو الفقيه أو الفرد أن يجد في نصوصه غناء في كثير من الأحيان. هذه الحقيقة هي أن التقنين الفرنسي ظل ظهيراً لتقنيننا وسنداً له وعماداً يسد نقصه وبرأب صدعه ويجلو غامضه ويفصل مجمله ويداوي عيوبه. فإذا لم نجد نصاً في تقنيننا أو صادفناً غموضاً أو لبساً استعنا بأصله ورجعنا إليه وإذا قام التناقض واستشكل الأمر قلنا إن المشرع قصد إلى الأخذ بما هو قائم في المستقي. وإذا وجدنا خطأ طرحناه واستعضنا عنه بالحكم الفرنسي في غير تحرج. وهكذا لولا التقنين الفرنسي اتخذناه أصلا يعتمد عليه وملاذاً يرجع إليه لما استطاع تقنيننا أن يعيش منفرداً يؤدي الرسالة التي قصد إليها واضعوه ويفصل الأحكام التي أرادها ناقلوه .

وقد كان للقضاء المصري الفضل الأكبر والأثر الأبلغ في علاج عيوب تقنيننا فاعتمد بوجه خاص على التقنين الفرنسي يضعه في يد ويضع تقنيننا في اليد الأخرى. وسار في اجتهاده ينشئ الأحكام إنشاء ويبتكر الحلول ابتكاراً بوسائل شتى وطرق متعددة .

وعلى هذا النحو اضطر دائماً قضاؤنا إلى أن يعتمد على مصدر التقنين إلى أقصى حد وفي أوسع نطاق وهكذا زخرت أحكام المحاكم بثروة ضخمة يربو ما تفرق فيها من المبادئ القانونية على ما تضمن التقنين المدني نفسه من أحكام، وستأتي أمثلة كثيرة لذلك عند التكلم على التقنين الحالي وقضاء المحاكم المصرية.

 

هل أدى تقنيننا رسالته ؟ (12)

لنا أن نتساءل بعد هذا هل أدى تقنيننا رسالته؟ الأصل في كل تقنين أن يكون متناً جامعاً لأكثر القواعد والأحكام. والحقيقة الملموسة هي أن الكثرة الغالبة من قواعد القانون المدني في مصر لا تظهر بين دفتي هذا التقنين وإنما هي مبعثرة في أحكام المحاكم كما ذكرنا والمحاكم إنما تستقيها بوجه خاص من مصدر بعيد جداً عن آحاد الناس وهم أول المخاطبين بأحكام التقنين ولهم يسن مثل هذا التشريع فأين من هؤلاء من يستطيع أن يضرب في مهامه التقنين الفرنسي ويسترشد بقضائه وفقهه؟ يضاف إلى هذا أن نصوص هذا التقنين لو عزلت عن مصدرها وأريد بها أن تطبق وحدها دون التماس العون من التقنين الفرنسي لما استطاعت أن تغني المصريين عن إصدار تشريع كامل. فأين نحن والحال كذلك من نظام التقنين الذي يجب أن يعتمد على ذاتيته أول ما يعتمد؟

 

حاجة الأصل الفرنسي إلى التنقيح : (13)

على أن توفيق القضاء المصري في تدارك ذلك النقص الجسيم في تقنيننا لم يكن من شأنه أن يسد الحاجة. فثمة مآخذ وفجوات تكشف عنها تطور الزمن وتحول أوضاع التعامل وتقدم العلم في العصر الحديث وقد ظهرت أثار ذلك في التقنين الفرنسي نفسه حتى اصبح بوضعه الراهن عاجزاً عن أن يساير هذا التحول أو التقدم أو يماشي ذلك التطور وعاجزاً عن أن يمد تقنيننا بأي عون في شأنهما. ولذلك صح عزم الفرنسيين انفسهم على تعديل تقنينهم تعديلا شاملا فشكلوا لهذا الغرض لجنة بمقتضى المرسوم الصادر في 7 يونيه سنة 1945 أسندت رياستها إلى الفقيه الفرنسي المعروف " جوليوده لامورانديير " وقد عبر هذا الفقيه عن رأي اللجنة وعن رأي الأوساط الفنية في وجوب التعديل الشامل في قوله : " لقد كان هذا التعديل ضرورياً. وقد ألحت الحاجة إليه منذ زمن بعيد كان التقنين المدني في عصره أثراً فريداً ومثالاً فذاً لتماسك البنية ووضوح العبارة ودقة الأداء. ولكن مائة وخمسين عاماً قد انقضت على ظهور التقنين الفرنسي تطور خلالها القانون في ظل التقاليد والظروف الاقتصادية فأصبح هذا التقنين عتيقاً في طائفة من أحكامه قاصراً في طائفة أخرى وقد صدرت قوانين كثيرة تتفاوت فيما بينها من حيث الجودة أثقلت كاهله دون أن ترعى ما امتاز به من وحدة في الصياغة أو التصوير. ولم تنتقص هذه الظروف من هيبة التقنين الفرنسي في فرنسا فحسب، بل وفي الخارج. فقد ظهرت تقنينات حديثة نحته عن مكانته وظفرت بإيثار كثير من المشرعين في الدول الأجنبية. ولذلك أصبح من الضروري أن يعاد النظر في أصول التشريع على نحو يكفل تجديد النظم القانونية في فرنسا ويرد على التقنين الفرنسي ما كان له من هيبة وروعة (مجموعة أعمال لجنة تعديل القانون المدني الفرنسي باريس سنة 1947 صفحة 7).

 

تعديل القانون الفرنسي يجعل تعديل التقنين المصري ضرورياً : (14)

هذا هو رأي الفرنسيين في وجوب تعديل تقنينهم تعديلاً شاملاً وهو خير رد على ما ذهب إليه بعض فقهاء فرنسا في سنة 1904. وليس اقطع منه دليلا على أن تقدم العلم وتطور الزمن قد جعلا هذا التعديل ضرورة لا معدى عنها ولا سبيل إلى إنكار سلطانها. وليس اقطع منه دليلا على أن تقنيننا وهو الذي ولد ناقصاً منذ نشأته وجاء معيباً من بدايته أولى وأخلق بمثل هذا التعديل الشامل. والحق أن اقتضاب تقنيننا وتطور الزمن واتساع نطاق المبادئ التي أقرها القضاء كل أولئك يحتم تعديل هذا التقنين تعديلا شاملا والا فقدنا إلى حد كبير جداً مزية التقنين وأورثنا نظمنا القانونية جموداً وغموضاً لهما أوخم العواقب وليس يجدي في تقنين المبادئ التي أقرها القضاء أو أسفر عنها التقدم الحديث أي تعديل جزئي من طريق تنقيح بعض النصوص أو إضافة بعض أخر لأن التقنين نفسه لم يوضع كاملا أو قريبا من الكمال في الأصل وإنما وضع قاصرا وزاده الزمن قصورا على قصور .

ولعل هذه الحقيقة تتضح بجلاء لا يدع مجالا لأية شبهة أو أقل ريب إذا راعينا أن الموضوعات الجديدة التي عالجها المشروع المعروض استغرقت عددا من النصوص يزيد على ثلثي نصوص التقنين الحالي فقد أورد المشروع زهاء خمسمائة مادة لمصادر القانون وتنازع القوانين في الزمان والمكان والشخصية القانونية والجمعيات والمؤسسات وأركان العقد وأسباب ارتفاع المسئولية، والمسئولية الناشئة عن الأشياء واستكمال ما يكفل حقوق الدائنين من وسائل التنفيذ والضمان وتنظيم الإعسار وحوالة الدين وآثار الهبة والرجوع فيها وعقود المقاولة والمرافق العامة والعمل والحراسة والتأمين والشيوع وتصفية التركات والحيازة والحكر. فإذا كان وجوب تنظيم هذه الموضوعات في التقنين مسلما وكان من المسلم كذلك وجوب إضافة أحكام تفصيلية أخرى فلا يقبل أن يكون التعديل جزئياً لأن الإضافة ستكون بمثابة تقنين جديد يصبح في جرمه معادلاً للتقنين القائم فضلا عما يفقده التقنين من التجانس والانسجام فتضيع الوحدة ويذهب التماسك. وليسمح لي سعادة عبد الوهاب طلعت باشا ....

حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا : أنا لم أدخل في تفصيلات الموضوع حتى تعرض بي في بعض المناسبات. ولكني كنت أقصد من التأجيل أن يكون لدينا من الوقت ما يتسع لبحث المشروع ودرسه دراسة وافية كما درستموه .

المقرر : تقنين أحكام القضاء وتعليب الطابع الوطني :

يضاف إلى ذلك أن قضاءنا قد أضفى على ما أقره من المبادئ طابعنا المصري، فليكن التعديل الشامل وسيلة لتقنين هذه المبادئ وإبراز الطابع المصري فيها. وليكن التعديل الشامل وسيلة لإعادة تبويب التقنين المصري تبويباً يساير التقدم الحديث. وليكن التعديل الشامل فرصة مواتية لإعادة صياغة النصوص بلغة هذا الجيل وأساليبه في التشريع فنسجل ما بلغنا من تقدم في السبعين سنة الماضية والواقع أننا بلغنا في حياتنا القومية مرحلة ينبغي أن نسجلها في هذا التقنين فنسجل بذلك ما توافر لنا من أسباب التقدم في القضاء والتشريع ونسجل كفايتنا لحمل تبعات السيادة وأداء تكاليفها .

وها هي إيطاليا قد عدلت تقنينها المدني المستمد من التقنين الفرنسي تعديلاً شاملاً خلال الحرب الأخيرة ثم ها هي فرنسا تهم بإخراج تقنين لتسجل مرحلة جديدة من مراحل حياتها .

فأي زمان أولى وأجدر بالتسجيل في حياة مصر من هذا الزمن الحالي الذي يفصل حقاً بين مرحلتين ويميز صدقاً بين حقبتين.

سياسة المشروع الجديد : (15)

هذه هي الاعتبارات التي تجعل من التعديل الشامل لتقنيننا مسألة لا تحتمل الشك أو التردد. والأمر الحري بالنظر في شأنها دون غيره هو سياسة المشروع الجديد. فكل جديد يراد له التوفيق ينبغي أن يكون موصولاً بالوضع الذي تقدمه على وجه لا يهز من قوائم الاستقرار والاتصال في حياة الأفراد والجماعات .

ومما يجب أن أشير إليه في هذا المقام أن المشروع المعروض قام على دعامتين رئيسيتين:

الأولى : الاحتفاظ بالصالح من أحكام التقنين القائم لأبعد الحدود، فما من حكم صالح من هذه الأحكام إلا وأخذ به مع تهذيبه التهذيب الواجب .

والثانية : تقنين ما استقر من المبادئ في أحكام القضاء المصري مع ترجيح ما كان منها خليقا بالرجحان عند اختلاف المحاكم.

وعلى هذين الأساسين أقام المشروع أكثر من ثلاثة أرباع القواعد الواردة فيه فانتفع بتراث الماضي وجعل الانتقال من الوضع القديم إلى الوضع الجديد مجرد تطور طبيعي لا يختلف أمره من هذا الوجه عن أي إصلاح يستبدل الخير بالذي هو أدنى في غير تطرف أو عنف وعلى هذا النحو لا يقطع المشروع الصلة بين الحاضر والماضي وإنما هو ييسر الانتفاع بما استقر من صالح الأحكام في التقنين الحالي وفي أحكام القضاء ويصقلها صقلاً يجعلها أقرب منالاً وأوضح نهجاً، وقد عمد المشروع فوق ذلك إلى أحكام التلاؤم بين القدر الذي استحدثه من القواعد وبين المبادئ العامة التي ألفها الناس في التعامل من قبل. وبهذا يسر سبيل الانتفاع من الإصلاح .

تبويب المشروع الجديد ولغته : ([16])

والمشروع الجديد قد وزعت نصوصه بين قسمين يمهد لهما باب أُفرد للأحكام العامة ويتناول هذا الباب في فصل أول القانون وتطبيقه في الزمان والمكان، ويعقد فصلاً ثانياً للأشخاص الطبيعيين والأشخاص الاعتباريين وبوجه خاص الجمعيات والمؤسسات ويفرد فصلاً ثالثاً لتقسيم الأشياء والأموال. ويتناول القسم الأول الالتزامات فيخص نظرية الالتزامات بوجه عام بكتاب يعنى فيه بمصادرها وبنظرية الالتزام في ذاته. وبهذا يبرز ذاتية هذه النظرية وأهميتها ويخصص للعقود المسماة كتاباً أخر يعالج ما يقع منها على الملكية كالبيع ثم يرد على الانتفاع بالشيء كالإيجار ثم ما يرد على العمل كالمقاولة. وينتقل إلى ما يتوافر فيه معنى الغرر كالتأمين وينتهي بالكفالة. أما القسم الثاني فيشتمل على كتاب للحقوق العينية الأصلية كالملكية والارتفاق وآخر للحقوق العينية التبعية كالرهن والامتياز. وما من شك في أن هذا التبويب يسمو في أسسه وتفاصيله على تبويب التقنين الحالي ويصدر عن منطق سليم يساير الحركة العلمية ويعتد بالحقائق العملية في آن واحد وهو في خطوطه الرئيسية ييسر للباحث ادراك الارتباط بين مختلف الموضوعات. وفضلاً عن ذلك فقد صيغت نصوص هذا المشروع بلغة عربية سليمة يأنس لها ذوق الإصلاح .

 

وجوه الإصلاح من حيث الموضوع : (17)

وقد تضمن المشروع من حيث الموضوع إصلاحات جوهرية أشرنا من قبل إلى ضرورة تحقيقها فاستكمل الموضوعات التي نشكو من اقتضابها في التقنين الحالي كتكوين العقد والمسئولية التعاقدية والتقصيرية والملكية الشائعة وملكية الطبقات والهبة. وجمع شتات موضوعات أخرى تفرقت في غير نظام في التقنين الحالي وأكمل أحكامها فأظهر بذلك نواحي تواصلها وتماسكها كموضوع الحيازة وحقوق الارتفاق وحقوق الامتياز والحق في الحبس والدفع بعدم التنفيذ والنيابة في التعاقد .

وعالج من الموضوعات الجديدة طائفة استفاضت الشكوى من إهمالها كتنازع القوانين والشخصية المعنوية وحوالة الدين وعقود المنفعة العامة وعقد العمل والتامين والحكر وإيجار الوقف والإعسار وتصفية التركات. هذا إلى تدارك العيوب التفصيلية التي حفل بها التقنين الحالي وأجملناها فيما تقدم. وبذلك خلا المشروع من الاقتضاب والغموض والخطأ والتناقض واستكمل كثيراً من الأحكام الجزئية – فنصوص المشروع – كما أقرته لجنة القانون المدني في مجلسكم الموقر – تبلغ 1152 مادة تدخل فيها المواد الخاصة بالموضوعات الجديدة واستكمال الموضوعات الأخرى وهو رقم معتدل كل الاعتدال إذا قورن بنظيره في تقنينات الدول الأخرى بل وإذا قورن بنظيره في التقنين الحالي مع مراعاة حاجته إلى الإضافة .

 

الاتجاهات العامة في المشروع : (18)

لا تقتصر مزايا المشروع على حد تدارك ما يعاب على التقنين الحالي واستحداث ما يسد نقصه ولكنها تجاوز هذا الحد إلى وجود نهج جامع في وضع الأحكام وصياغتها يجعل لتشريعنا قيمة ذاتية. فالمشروع تسوده نزعة ظاهرة إلى دعم استقرار التعامل. فهو من هذه الناحية يصطبغ بصبغة عملية واضحة تعتبر من أهم فضائل التقنين في الوقت الحاضر مع مراعاة أنه لا يضيق على القاضي كل التضييق من جهة ولا يوسع عليه كل التوسيع فيما يتعلق بسلطة التقدير من جهة أخرى وإنما يسلك مسلكاً وسطاً فيمكن القاضي من مواجهة تباين الظروف في الحدود المعقولة وبذلك يكون تطبيق النصوص أكثر تمشياً مع العدالة ولكن في غير إخلال بما ينبغي للمعاملات من استقرار ويراعى أخيرا أن المشروع يجاري نزعات عصرنا في أهدافه الاجتماعية والاقتصادية من ناحية يوفق بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة. وأمثلة هذا التوفيق كثيرة في النصوص أخذها ما يتعلق بإقامة نظرية عامة لسوء استعمال الحق ومن ناحية أخرى يحيط الضعيف بحماية ترد عنه حيف القوي. ومن أمثلة هذه الحماية تفسير عقود الإذعان لمصلحة المذعن وضمانات عقد العمل وحماية المدين من العنت الناشئ عن الحوادث غير المتوقعة وقصر حق الاختصاص على ما يكفي للوفاء بالدين وجواز مساءلة غير المميز عن التعويض إن تعذر الحصول على تعويض ممن يسأل عنه .

فالمشروع بهذه الاتجاهات يعبر تعبيراً صادقاً عن النزعات الحديثة في العدالة الاجتماعية في حدود معقولة .

 

مصادر المشروع : (19)

هذه هي الصورة العامة للمشروع الذي يعرض على حضراتكم. وأرى من واجبي أن أنتقل إلى ناحية أخرى لها أهميتها البالغة وأثرها الفعال تلك هي ناحية المصادر التي استقيت منها أحكام المشروع مع التفريق في هذه المصادر بين ما يعتبر مرجعاً اشتق منه جوهر الحكم اشتقاقاً وبين ما يعتبر مجرد أداة لصياغة الأحكام والإفصاح عن دلالتها .

والواقع أن للمشروع المعروض طائفتين من المصادر :

الأولى : مصادر الأحكام الموضوعية .

الثانية : مصادر الصياغة .

والأولى هي التي تكشف عن مبلغ اتصال المشروع بالموروث من تقاليد الماضي والمألوف في حياة المصريين في الوقت الحاضر .

والثاني هي التي تنبئ بقيمة الجهد العلمي الذي بذل في إعداد هذا المشروع. ومما يدعو إلى الاغتباط أن المشروع استقى أحكامه الموضوعية أولاً وبوجه خاص من الصالح من قواعد التقنين الحالي وما استقر في أحكام المحاكم المصرية من مبادئ كما أسلفت. ثم استعان بعد ذلك بمصدرين آخرين هما الشريعة الإسلامية والقوانين الأجنبية الحديثة .

أما الصياغة وفيها تتمثل ناحية صناعة التشريع فمصادرها أحدث التقنينات الأجنبية. وسأتناول كل مصدر من هذه المصادر بشيء من البيان .

 

التقنين الحالي وقضاء المحاكم المصرية : (20)

يدين المشروع للتقنين الحالي وقضاء المحاكم المصرية بأكثر من ثلاثة أرباع الأحكام الواردة فيه. فقد حرص على أن يستبقى جميع الأحكام الصالحة من هذا التقنين وأن يضم إلى هذه الأحكام ما استقر من المبادئ والقواعد في قضاء المحاكم المصرية. وهذه حقيقة أنوه بها واسترعى الانتباه إليها. وها هي المذكرات الإيضاحية المفصلة التي رافقت نصوص المشروع تشير إلى كل ما يقابلها في التقنين الحالي وإلى مذاهب القضاء المصري وآرائه وتبسط الأوجه التي تبرر الإبقاء على أحكام هذا التقنين أو العدول عنه في بعض نواحيها .

وها هي نصوص المشروع بين أيدي حضراتكم تتبينون منها أنها لا تزال تستند في الجزء الأكبر منها إلى المبادئ الكلية في التقنين الحالي وأنها قننت القضاء المصري تقنينا يكفل للمتقاضين والقضاة الانتفاع به على أحسن وجه. ولا أود الإفاضة في هذه الناحية من طريق المقارنة ولكن يكفي أن أشير إلى بعض الأمثلة التي تقل المشروع فيها ما اشتهر من اجتهاد القضاء كتكوين العقد والصورية والتهديد المالي والالتزامات الطبيعية والتعاقد بالمراسلة وأحكام المسئولية التقصيرية ولاسيما مسئولية المكلف بالرعاية ومسئولية المتبوع وأحكام التضامن واعتبار بيع الوفاء رهناً وإبطاله في اكثر الحالات والمقاولة وتخفيض الشرط الجزائي وعدم جواز تخفيض اجر الوكيل إذا دفع طوعاً بعد تنفيذ الوكالة وضمان العيوب الخفية في الإيجار وتقادم الريع المستحق في ذمة الحائز سيء النية وفي ذمة ناظر الوقف بخمس عشرة سنة والهبات المشروع فيها ما اشتهر من اجتهاد القضاء كتكوين العقد والصورية والتهديد المالي والالتزامات الطبيعية والتعاقد بالمراسلة وأحكام المسئولية التقصيرية ولا سيما مسئولية المكلف بالرعاية ومسئولية المتبوع وأحكام التضامن واعتبار بيع الوفاء رهناً وإبطاله في أكثر الحالات والمقاولة وتخفيض الشرط الجزائي وعدم جواز تخفيض أجر الوكيل إذا دفع طوعاً بعد تنفيذ الوكالة وضمان العيوب الخفية في الإيجار وتقادم الريع المستحق في ذمة الحائز سيء النية وفي ذمة ناظر الوقف بخمس عشرة سنة والهبات

والوصايا المستترة في صورة بيع والملكية الشائعة وقسمة المهايأة والحراسة والحكر وحقوق الارتفاق والتزامات الجوار والحكم بالتعويض بدلاً من التنفيذ العيني في مجاوزة الباني حسن النية مجاوزة يسيرة لحدود ملكه. ولا يقبل التشكيك في هذه الحقيقة بمجرد القول المرسل بل على المخالف أن يسوق أمثلة تعزز رأيه حتى يستبين وجه الحقيقة والحق .

 

الشريعة الإسلامية : (21)

أما الشريعة الإسلامية فقد اعتمد عليها المشروع بوصفها مصدراً من مصادر أحكامه الموضوعية فجعلها من ناحية مصدراً عاماً يلجأ إليه القاضي إذا لم يجد حكماً في التشريع أو العرف وجعلها من ناحية أخرى مصدراً خاصاً لطائفة من النظريات والأحكام. فمن الشريعة الإسلامية مع مراعاة التقنينات الغربية الحديثة من بعض النواحي استمد المشروع المبادئ الخاصة بنظرية التعسف في استعمال الحق وحوالة الدين ونظرية الحوادث غير المتوقعة ومسئولية عديم التمييز. ومن الشريعة الإسلامية وحدها استقى المشروع القواعد المتعلقة بمجلس العقد وإيجار الوقف والحكم وإيجار الأراضي الزراعية وهلاك الزرع في العين المؤجرة وانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه بالعذر والإبراء من الدين والإرادة المنفردة. هذا إلى أحكام أخرى سبق أن نقلها التقنين الحالي عن الشريعة الإسلامية وحذا المشروع حذوه في شأنها. ولكن بعد أن هذب التقنين المعروض صياغتها وتجنب ما وقع فيه التقنين الحالي من خطأ عند نقلها. ومن هذا القبيل الأحكام المتعلقة بالبيع في مرض الموت والغبن وتبعة هلاك المبيع وغرس الأشجار في العين المؤجرة والعلو والسفل والحائط المشترك والشفعة. أما الأهلية والمبدأ الخاص بأن لا تركة إلا بعد سداد الدين فقد استمد المشروع أحكامها من الشريعة الإسلامية ونظمها تنظيماً عملياً يماشي القواعد العامة وأوضاع الشهر في الوقت الحاضر .

فمشروع التقنين المعروض قد جاوز في هذا الصدد الحدود التي وقف عندها التقنين الحالي وإنني لأطلب في إلحاح من جميع من يشككون أو يتشككون في اعتماد المشروع على الشريعة الغراء على الوجه الذي ذكرته أن يشيروا إلى حكم واحد قائم في تقنينا الحالي قد عدل عنه المشروع المعروض .

 

القوانين الأجنبية الحديثة : (22)

بقي المصدر الثالث وهو القوانين الأجنبية الحديثة ومن هذا المصدر استقى المشروع أحكاماً قليلة إذا قيست إلى سائر أحكامه. وهذه الأحكام القليلة تتعلق إما بأوضاع مستقلة أو بمسائل تفصيلية تصلح لأن يفصل فيها برأي أو أخر في أي تقنين من التقنينات دون أن يخل ذلك بتماسك أصوله أو قواعده الأساسية. فمن أمثلة الأوضاع المستقلة تنازع القوانين فقد استمد المشروع الأحكام الخاصة به من تقنينات حديثة مختلفة مقتفياً في ذلك ما فعله المشرع المصري في لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة وما فعلته اكثر هذه التقنينات عند وضعها .

حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا : هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟

المقرر : لقد ذكرت فيما سبق وأقرر أن المشروع اتبع الوضع الذي اختارته البلاد منذ إدخال التقنينات الحالية بل وزاد عليه كما أبنت الآن .

حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية) : أؤكد لك أننا ما تركنا حكمًا صالحًا في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا القانون إلا وضعناه. والدليل على ذلك أن أحد حضرات المستشارين أراد أن يضع نموذجاً من الشريعة الإسلامية فأتى بنفس نصوص القانون ونسبها للشريعة الإسلامية .

حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا : وهل استعنتم بالفقهاء الشرعيين لعله يمكنهم أن يساعدوا في هذا السبيل .

حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية) : لقد قمنا بكل ما يمكن عمله في هذا السبيل، وأخذنا كل ما يمكن أخذه عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث ولم نقصر في ذلك .

حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا : لقد نوهت بالمجهود العظيم الذي بذلته ....

حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية) : نحن لسنا بصدد التنويه بالمجهود الذي بذل .

حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا : إني كرجل يؤمن بالكتاب المنزل وكرجل درس الشريعة الإسلامية كما درس المعاملات فيها أرى أن فيها ما يتسع لكل شيء.

حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية) : أرجو أن تجد سعة من وقتك لزيارتي وأنا على أتم استعداد لأن أبحث معك الموضوع وأنا واثق أنك ستقتنع .

المقرر : اللجنة تفتح الباب على مصراعيه لكل من يتقدم في وقت معقول بملاحظاته وستوليها كل عنايتها. وستجتمع من يوم السبت القادم إلى يوم الخميس لتلقي هذه الملاحظات ودراستها مع حضرات من يتفضلون بتقديمها .

ومن أمثلة المسائل التفصيلية تحديد مدة سقوط قصيرة لاستعمال حق طلب الإبطال ورفع دعاوى المسئولية التقصيرية .

وهذا التحديد يستوجبه استقرار التعامل ولا يمس هيكل القواعد العامة للمشروع .

ومن أمثلة هذه المسائل أيضاً تنظيم ملكية الأسرة وهي صورة خاصة من صور الملكية الشائعة نقلها المشروع عن التقنين السويسري والتقنين الإيطالي ولكنه وصلها بالقواعد العامة التي اختارها أساسا للشيوع ورأى فيها وسيلة فعالة للإبقاء على وحدة الملك بعد موت رب العائلة وهي أحوج ما تكون إلى هذا التنظيم. ومن أمثلتها أيضا ملكية الطبقات والأحكام الخاصة بالمسئولية عن الجمادات والأحكام الخاصة بعقد التأمين .

على أن المشروع في نقله عن القوانين الأجنبية توخى أن يقتبس ما يتلاءم مع البيئة المصرية وهذب في كثير من الأحيان ما اقتبس حتى يكون متمشياً مع تقاليد هذه البيئة وسائر الأحكام التي تضمنها وهو بذلك ينسج على منوالنا التقليدي في وضع التشريعات الهامة منذ عهد طويل.

فالمشروع لم يشترط مثلا في إنشاء ملكية الأسرة إعداد محرر رسمي كما تقضي بذلك المادة 337 من القانون المدني السويسري بل ولم ير أن يجيز إثبات الاتفاق على هذا الإنشاء بشهادة الشهود كما تقضي بذلك المادة 330 من المشروع الإيطالي بل رأى أن يشترط الكتابة مراعياً في ذلك عرف البيئة المصرية وما استقر فيها من تقاليد أهمها نفور الأسر من إذاعة اتفاقاتها أو اطلاع الغير عليها ومتوخياً حسم المنازعات ما أمكن. ولم يجز أن يكون الاتفاق على إنشاء هذه الملكية طليقاً من كل قيد زمني كما هو الشأن في بعض التشريعات وإنما اشترط أن يكون إنشاء ملكية الأسرة لمدة لا تزيد على خمس عشرة سنة. وهو في ذلك يقصد من ناحية إلى تمييز الشيوع العادي عن شيوع أعضاء الأسرة لأن مدى الأول خمس سنوات ويقصد من ناحية أخرى إلى مراعاة ما درج عليه الناس من الرغبة في الاستقلال بعد أجل معين .

ثم إن المشروع لم يجعل الاتفاق على الأجل ملزماً على نحو لا يتيح الخروج من حالة الشيوع قبل انقضائه رغم ما قد يجد من الظروف ولكنه على النقيض من ذلك أجاز للشريك أن يطلب إلى المحكمة الإذن له في إخراج نصيبه من هذه الملكية قبل انتهاء الأجل إذا كان هناك مبرر قوي لذلك كما لو وقع بينه وبين أعضاء الأسرة خلاف لا أمل في تسويته مسترشداً في ذلك بالقواعد العامة في التركات .

وفي كل أولئك لا يقتصر المشروع على مجرد النقل وإنما هو يراعي ظروف الحياة في مصر ويراعى القواعد العامة في الأوضاع القريبة الشبه بالوضع الذي قصد إلى إدخاله في تشريعنا وهو بهذا النهج يجعل للقواعد التي ينقلها طابعاً ذاتياً ويهيئها تهيئة صالحة لخدمة أغراضنا القومية .

 

تناسق الأحكام رغم تعدد المصادر : (23)

ولا يحسبن أحد أن تعدد المصادر على الوجه المتقدم أفقد المشروع ما كان ينبغي أن يتوافر له من أسباب التماسك والتناسق. فالواقع أن هذه المصادر جميعاً تتقارب في مشاربها. فقواعد التقنين الحالي وما يكملها من اجتهاد القضاء عاشا جنباً إلى جنب مع الشريعة الإسلامية والقواعد المستمدة منها .

ثم إن القواعد المستمدة من القوانين الحديثة تمثل التقدم العلمي الذي تحقق على أساس تطور القديم وهل خطت مصر خطوة واسعة في تشريعاتها إلا على أساس تخير الصالح من مختلف المصادر بل ومن تشريعات متباينة. والواقع أن العبرة في التقنين بتماسك الحلول وتواصلها، فقد يتم هذا التواصل وذاك التماسك رغم تعدد المصادر إذا بذلت العناية الواجبة في هذا الشأن وقد ينتفيان رغم وحدة المصدر إذا قصرت هذه العناية عن تحقيق الغرض .

والمشروع المعروض قد وفق في التأليف بين القواعد التي استقاها من المصادر التي تقدمت الإشارة إليها وقد يسر له ذلك اعتماداً أولياً ورئيسياً على التقنين الحالي وقضاء المحاكم المصرية وأحكام الشريعة الإسلامية كما اسلفنا .

ومن الواجب أن أشير فوق هذا كله إلى أن تنقيح التقنين المدني في أية دولة من الدول في الوقت الحاضر لا يمكن أن يغفل تقدم التقنينات في الدول الأخرى، أو يهمل الاسترشاد بها والاقتباس منها. وأبلغ شاهد على ذلك ما وقع في التقنين المدني السويسري واللبناني والبولوني والإيطالي والمشروع الفرنسي الجديد.

وقد أثار بعض حضرات رجال القانون مسألة مصادر المشروع وقدموا في ذلك الشأن بعض ملاحظات تعرض لتفهم أحكام المشروع وتفسيرها وتطبيقها. وكانت اللجنة قد أوفت هذه المسألة حقها من البحث في تقريرها وقمت من ناحيتي بتوضيح الأمر في كلمتي هذه إلا أنه رغبة في زيادة الإيضاح وتأكيدا للمعنى الذي ذهبت إليه اللجنة عهدت إلي أن أدلي برأيها في هذا الموضوع الهام بالبيان التالي.

أولا : إن الغالبية العظمى من أحكام هذا المشروع مستمدة من أحكام القانون الحالي ومن المبادئ التي أقرها القضاء المصري طوال السبعين سنة الماضية ومطابقة للقواعد القانونية التي جرى عليها القضاء والفقه في مصر. وهذا هو المصدر الذي يرجع إليه عند تفسير هذا القانون .

وأما المصادر الأجنبية فليست إلا مصادر استئناس للصياغة وحدها كما سأبين ذلك فيما بعد :

ثانياً : إن الأحكام التي اشتقت أصلاً من الشريعة الإسلامية يرجع في تفسيرها إلى أحكام هذه الشريعة. هذا مع ملاحظة ما جاء في المادة الأولى من المشروع من اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً رسمياً من مصادر القانون. على أن للقاضي أن يرجع إلى أحكام الشريعة الإسلامية كلما كان هناك محل لذلك .

ثالثا : إن الأحكام القليلة التي اشتقت من تقنينات أجنبية في موضوعات جديدة مستقلة ( المؤسسات، حوالة الدين، ملكية الأسرة، اتحاد الملاك، الإعسار المدني، تصفية التركات ) قد روعي في وضعها أن تكون متمشية مع البيئة المصرية متفقة مع العرف والعادات متناسقة مع سائر أحكام المشروع وبذلك تكون قد انعزلت عن مصادرها وأصبح لها كيان ذاتي قوامه تساندها مع غيرها من نصوص. ويرجع في تفسيرها إلى النصوص ذاتها وما درج عليه القضاء في مثل هذه الأحوال عند تأويل النصوص القانونية أو تفسيرها .

وقد أقرت الحكومة هذا البيان .

مصادر الصياغة : (24)

بيد أن اقتباس جوهر الأحكام من المصادر الثلاثة المتقدم ذكرها لم يحل دون الاستعانة في صياغتها بأكثر الأساليب العلمية ضمانا لصحة الأداء ودقته، ولذلك استعان المشروع في الصياغة بأحدث التقنينات الأجنبية ويسر له الاستئناس بصيغ هذه التقنينات الإفادة من تجربة الغير في التعبير والعرض .

ولم تر اللجنة في هذا الاستئناس سبيلاً إلى الرجوع إلى التقنين الأجنبي الذي كان عنصراً من عناصر الاسترشاد بل اعتبرته وسيلة ناجحة للاستيثاق من دقة التعبير، وكان يزيد في اطمئنانها إلى سلامة الصيغة ركونها إلى مقارنتها بما يقابلها في التشريعات الأجنبية من صبغ كانت وليدة تفكير طويل وبحث دقيق .

وقد انتهت اللجنة في بحثها إلى نتيجتين ذكرتهما في تقريرها على الوجه الاتي :

الأولى : أن الكثرة الغالبة من النصوص المعروضة قد ظفرت من وراء الاستئناس بصيغ التقنينات الأجنبية بدقة في الأداء وإيجاز في التعبير جعلا للمشروع قيمة فنية ذاتية وطابعاً حسنا ز وقد روجعت هذه النصوص في اللجنة التي أنشأتها وزارة العدل بعد جمع الآراء من طريق الاستفتاء وروجعت كذلك في لجان مجلسي البرلمان وادخل عليها من التعديل اللفظي – فضلا عن الموضوعي – ما يجعلها تعبر تعبيراً واضحاً عن المعاني التي قصدت إلى أدائها .

ولا محل لأن يعاب على المشروع انتفاعه من التجربة التي انتهت إليها التقنينات الأجنبية في حدود الصياغة ولا سيما بعد أن روجعت الصياغة على النحو المتقدم ذكره وانفصلت بذلك عن كل مصدر من مصادر الاستئناس وأصبحت معبرة في ذاتها عن المعاني التي استظهرتها كل من ساهم في وضع المشروع أو مراجعته أو إقراره .

الثانية : تتصل بما يقال عن صعوبة التفسير وإلزام القاضي بالرجوع إلى فقه دول متعددة للوقوف على مفهوم نص معين، فقد رأت اللجنة أن النصوص متى أدمجت في التقنين انعزلت عن مصادر الاستئناس وأصبح لها كيان ذاتي قوامه تساندها مع غيرها من نصوص هذا التقنين وأثرها في البيئة التي تعيش فيها وانفعالها بظروف هذه البيئة. فما نقل من الصيغ أو النصوص عن تشريعات أو تقنينات أجنبية وصل بنصوص أخرى في المشروع تحددت دلالتها من قبل في التقنين الحالي، وفي الفقه المصري وأحكام القضاء في مصر. وهذا التآلف هو أول، بل وأهم عنصر من عناصر التفسير.

ولا شك أنه ما دام الأصل اللاتيني والشريعة الإسلامية هما المصدران اللذان يتقاسمان أحكام المشروع في مجموعه كل في حدوده وناحيته فالنهج واضح عند الاجتهاد والمورد بين عند التفسير، ولا سيما أن التقنينات الغربية – سواء منها القديم والحديث – تتقارب في كليات الصياغة التي ورثتها أوربا عن الرومان. ولا عبرة بعد هذا كله بما لوح به نقداً للمشروع من تعدد المصادر .

ويقتضيني واجب الإنصاف قبل أن أختتم كلمتي أن أشير إلى أن اللجنة حرصت كل الحرص على تمحيص كل رأي أُبدي في شأن المشروع فتلقت بعد أن أتمت وضع تقريرها طائفة من الملاحظات، بعضها يتعلق بمبدأ التعديل وبعضها يقتصر على أحكام معينة بخصوصها .

وقد عقدت اللجنة جلستين طويلتين استمعت فيهما إلى الملاحظات المتعلقة بهذا المشروع من حيث المبدأ كما فصلت في مذكرتين مطبوعتين وهي ملاحظات لم تتضمن جديداً غفلت عنه اللجنة أو أغفلت أمره. وبعد أن تذاكرت اللجنة فيما سمعت وتلقت وفي الردود التي أدلى بها مندوبو الحكومة لم تر محلاً لإدخال أي تعديل على تقريرها في هذا الخصوص .

وأما الملاحظات التي تتعلق ببعض المواد دون أن تمس المبدأ فستوليها اللجنة ما هي خليقة به من عناية. وستعرض نتيجة بحثها على حضراتكم عند الانتقال إلى إقرار النصوص وفقاً لما قرره المجلس .

 

كلمة ختامية : (25)

والان انتهي من كلمتي هذه التي عرضت بها في إيجاز رأي لجنة القانون المدني بمجلسكم الموقر في مشروع القانون المعروض على حضراتكم من حيث المبدأ.

وقد توخيت فيما أدليت به عدم الاسترسال في الشرح أو الإفاضة في البسط أرجو أن أكون قد حققت ما أبغيه من تبيان مقتضيات تنقيح التقنين المدني الحاضر تنقيحاً شاملاً وتوضيح الأسس التي استنهجها هذا التنقيح وذلك بعد التعديلات الهامة التي ارتأتها لجنتكم ووافقت عليها الحكومة .

وأرجو أن تشاطروا لجنتكم رأيها الذي أودعته مذكرتها وتشرفت بعرضه الآن فتوافقوا على مشروع التشريع من حيث المبدأ. وبهذا يتم لمصر ما ابتغت وما أوحت به الضرورات من أن يكون لها تقنين يذهب بمناقص الماضي وعيوبه ويستجيب لمطالب الحاضر وحاجاته ويساير الزمن وتطوره ومن أن يكون هذا التقنين معبراً عما اعتزمته بلادنا من السير قدماً في سبيل التقدم والنجاح والسمو إلى معارج الرقي والفلاح.

والله اسأل أن يجعل العهد الجديد في حياة التشريع المصري عهد بمن وتوفيق تحقيق البلاد فيه ما تصبو إليه من رفيع المطامح وعظيم الآمال.

(تصفيق حاد)

 

حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس باشا: لي كلمة موجزة تعليقاً على هذا البيان وكلمتي هي إنني أهنئ حضرة الشيخ المحترم رئيس لجنة القانون المدني على هذا البيان الوافي الذي يعد بحق مفخرة في تاريخ تشريعنا المصري والذي سيبقى على الزمن في مضابطنا دليلاً حياً على أن في مصر رجالاً يعرفون حقيقة كيف يضعون الأمر في نصابه وكيف يضعون التشريع الجديد على هذا النسق الدقيق الذي قامت به اللجنة .

(تصفيق)

 

حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسن عبد القادر : أشارك زميلي حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس باشا فيما جاء في كلمته القيمة بالنسبة لحضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمد محمد الوكيل رئيس لجنة القانون المدني وحضرات أعضاء هذه اللجنة .

(تصفيق)

 

حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسن عبد القادر: لعلي لم أكن واضحاً حين طلبت التأجيل فقد فهم إني أعارض في مبدأ مشروع هذا القانون. مستحيل أن أقصد إلى هذا فإني في سنة 1924 أي في مستهل حياتنا النيابية طالبت بإلغاء القانون المدني وكذلك إلغاء القانون التجاري البحري والقانون التجاري البري لأنها أصبحت غير صالحة ويحب استبدال غيرها بها. ولقد حدث في سنة 1924 وكررته في سنة 1926 عندما وكلت أنا والأستاذ وهيب دوس بك في قضية إغراق باخرة لصندل يملكه صالح سليم بك وكنا موكلين عن المتهمين وكان رفعة النحاس باشا ومعالي مكرم باشا موكلين عن المدعين بالحق المدني فلم نجد في القوانين ما يشير إلى حالة اعتداء باخرة على أخرى أقول لم نجد هذه الحالة في القانون البحري أو غيره من القوانين ولقد أخطأت المحكمة وطبقت قانوناً أجنبياً. ثم ذكرت محكمة الاستئناف – ولو أنها أيدت الحكم – أن هذا نقص في القانون يوجب تعديله.

حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس باشا: معنى هذا أن حضرة الشيخ المحترم يوافق على مبدأ القانون.

حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسن عبد القادر: هذه فرصة أنبه فيها الحكومة إلى ما يجب تعديله. لقد طلبت بعد ذلك تعديل قانون نزع الملكية وكذلك طالبت بتعديل لائحة الترع والجسور ولم تعدل حتى الآن. وإنني ما طلبت التأجيل إلا لأقارن بين الاعتراضات التي أبديت على مشروع القانون وبين ما ورد فيه من أحكام ولم أقصد مطلقاً أن أعارض في مبدأ مشروع القانون فإنني أوافق على ضرورته منذ أمد طويل.

(تصفيق)

%%%%%%

 



(1) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 140 .

(2) اقترح ثلاثة من حضرات الشيوخ المحترمين تأجيل نظر المشروع للدورة المقبلة فقرر المجلس بعد مناقشة هذا الاقتراح رفضه، ونظر المشروع من حيث المبدأ في هذه الجلسة.

(3) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 141 .

(4) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 142 .

(5) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 143 .

(6) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 143 .

(7) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 144.

(8) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 146.

(9) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 146 .

(10) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 147 .

(11) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 150 .

(12) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 150.

(13) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 151.

(14) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 152 .

(15) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 153 .

(16) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 154 .

(17) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 155 .

(18) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 155 .

(19) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 156 .

(20) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 157 .

(21) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 158 .

(22) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 159 .

(23) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 161 .

(24) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 163 .

(25) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 165 .

اَلْأَعْمَال اَلتَّحْضِيرِيَّةِ لِلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ اَلْمِصْرِيِّ / تَقْرِيرُ لَجْنَةِ اَلْقَانُونِ بِمَجْلِسِ اَلشُّيُوخِ

عودة إلى صفحة : اَلْأَعْمَال اَلتَّحْضِيرِيَّةِ لِلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ اَلْمِصْرِيِّ


تقرير لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ (1)

1 – مقدمة

1 – بجلسة 3 يونيه سنة 1946 أحال المجلس إلى لجنة القانون المدني مشروع القانون المدني معدلاً على الوجه الذي أقره مجلس النواب ، وقد توفرت اللجنة على دراسة هذا المشروع في 55 جلسة ابتداء من 7 يناير سنة 1947 لغاية 6 إبريل 1948 بحضور حضرات : صاحب المعالي عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف العمومية وصاحب العزة عبده محمد محرم بك المستشار بمجلس الدولة والدكتور حسن أحمد بغدادي بك وكيل كلية الحقوق بجامعة فاروق الأول ، وأفرغت في تمحيص نصوصه من العناية ما أتاح لها أن تتبين مرامي أحكامه وتثبت من مسايرتها لأوضاع الحياة وحاجات المتعاملين ، وأدخلت من التعديلات ما أوحت به التجارب أو ما درج عليه القضاء أو ييسر من أمر المعاملات ، ووجدت من الحكومة في هذه الناحية معاونة تسجل لمندوبيها ، وفي طليعتهم معالي عبد الرزاق السنهوري باشا ، بالثناء والتقدير .

2 – ولم يغب عن اللجنة ما لتعديل القانون المدني من أثر بالغ في نطاق المعاملات وفي نطاق العلوم القانونية بوجه عام، باعتبار أن هذا القانون هو موطن القواعد الكلية المنظمة لروابط الأفراد وسائر المخاطبين بأحكام القانون الخاص، ومرجع القواعد التفصيلية المنظمة للشق الأكبر من هذه الروابط، ولذلك حرصت اللجنة كل الحرص على أن يتناول بحثها كل ما يتصل بسياسة التعديل، ولم يكن رائد اللجنة في هذا البحث مجرد التفكير النظري أو التدليل المنطقي . ولم تقتصر في صدده على ما كان لحضرات الأعضاء المحترمين من آراء، وإنما عمدت إلى استقصاء الواقع واستظهرت جميع الآراء وأمعنت النظر في دليل كل منها، واسترشدت في ذلك كله بالحقائق المستخلصة من دراسة نصوص المشروع. وقد خرجت اللجنة من هذه الدراسة بنتيجتين جوهريتين من الخير إبرازهما قبل الاستطراد فيما انتهى إليه البحث.

3 – الأولى : أن المشروع لم يخرج عن تقاليد التشريعية التي استقرت في البلاد منذ إدخال نظام التقنينات عند إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1876 والمحاكم الوطنية سنة 1883 ، فهو من هذه الناحية لا يقطع الصلة بين الحاضر والماضي ولكنه يتخذ الصالح من أوضاع هذا الماضي أساساً له ، ويستحدث من الأحكام ما اقتضته ضرورات التطور ويعتمد في ذلك على الثروة التي اسفر عنها اجتهاد القضاء المصري بوجه خاص ، ويجاري الفقه الإسلامي في نواح مختلفة ، ويستمد بالقدر الذي يتلاءم مع تلك الأوضاع نصوصا من احدث التشريعات الأجنبية ، وبهذه المثابة يعتبر المشروع صورة صادقة لتطور الظروف الاجتماعية ، وللتقدم العلمي الذي بلغه علم القانون في مصر في مدة نصف قرن من الزمان .

4 – أما النتيجة الثانية: وتتربت على النتيجة الأولى، فهي أن تطبيق الأحكام التي استحدثها المشروع ليس من شأنه أن يفضي إلى قلب أوضاع التعامل التي ألفها الناس، أو أن يخل باستقرار المعاملات، وإنما هو على النقيض من ذلك يسعف هذه الأوضاع بإصلاح طال ترقبه. والواقع أن الحديث من أحكام هذا المشروع قد أحكم التآلف بينه وبين القديم من القواعد الكلية على نحو يجعل انتقال المتعاملين من سلطان القانون القديم إلى سلطان القانون الجديد أمراً يقتضيه التطور الطبيعي للظروف، ثم إن المشروع في تقنين ما استقر عليه القضاء من مبادئ وفي تدارك أوجه النقص في التقنين الحالي قد توخى أن يجعل النهج واضحاً أمام المتعاملين ليكفل استقرار المعاملات على أساس صقلتها التجارب، فرسخت في النفوس من قبل أن تتخذ مكانها في النصوص المعروضة.

5 – وقد رأت اللجنة أن تقسم تقريرها إلى قسمين: ففي القسم الأول تناولت سياسة تعديل القانون المدني كما يعبر عنها المشروع المعروض. وفي القسم الثاني سردت ما رأت إدخاله على نصوص هذا المشروع من تعديلات أو إضافات وما رأت حذفه منها. أما نواحي الإصلاح والاستحداث في المشروع، فقد فصلتها المذكرة الإيضاحية التي رافقت مشروع الحكومة، كما عرض لها هذا التقرير في سياق الكلام عن سياسة التعديل.

2 – سياسة تعديل القانون المدني

6 – عرضت اللجنة لسياسة تعديل القانون المدني من جميع نواحيها، فتناول بحثها بادئ ذي بدء وجوب التعديل في ذاته، وانتقلت بعد ذلك إلى أسلوب التعديل، فوازنت بين رأي القائلين بالاقتصار على تعديل جزئي من طريق إضافة بعض النصوص إلى التشريع الحالي وتنقيح بعض أخر، ورأى القائلين بضرورة التعديل الشامل على الوجه الذي حققه المشروع المعروض ، فرات الأخذ بالراي الثاني .

وانتهت أخيراً إلى دراسة الطرائق التي اتبعت في تنفيذ هذا التعديل الشامل ، وبوجه خاص مصادر النصوص ومبلغ تناسقها فيما بينها ، وكيفية صياغة هذه النصوص وما اتبع في هذه الصياغة من إيراد الأحكام العامة والأحكام التطبيقية أو التفصيلية .

وقد استخلصت اللجنة من دراستها صلاحية الطرائق التي اتبعت .

(1) وجوب التعديل :

7 – انعقد إجماع اللجنة على ضرورة تعديل القانون المدني، ولم يستند هذا الإجماع إلى اتفاق رأي الحكومات المتعاقبة منذ سنة 1936 على وجوب هذا التعديل فحسب، بل استند كذلك إلى الاعتبارات العملية والفنية التي كشفت عن عيوب التقنين الحالي وقصوره عن الوفاء بما تقتضيه حاجات البلاد في حاضرها ومستقبلها.

وقد بدأت الجهود في تعديل القانون المدني منذ سنة 1936. ففي تلك السنة شكلت أول لجنة ، وفي سنة 1938 ناطت وزارة العدل بحضرة صاحب المعالي عبد الرزاق السنهوري وقدمته وزارة العدل إلى رجال القضاء وأساتذة القانون وسائر الهيئات للإدلاء بالراي فيما تضمن من أحكام . وفي سنة 1945 أنشأت وزارة العدل لجنة برئاسة عبد الرزاق السنهوري باشا وعضوية طائفة مختارة من رجال الفقه والقضاء والمحاماة، للنظر في هذا المشروع وفي جميع الآراء والملاحظات التي تلقتها وزارة العدل في شأنه. وفي السنة ذاتها أتمت اللجنة مهمتها وقدمت الحكومة المشروع الذي أقرته هذه اللجنة للبرلمان.

8 – وما من شك في أن مضي الحكومات المتعاقبة في العمل على إنجاز تعديل القانون المدني تعديلا شاملا كان وليد الحاجة التي أحسها جمهور المشتغلين بفقه القانون وتطبيقه. فالتقنين المدني الحالي وضع مع التقنينات الأخرى في ظروف يعلم مداها كل من الم بتاريخ الفترة التي عاصرت إنشاء المحاكم المختلطة. وكان من جراء ذلك أن نقلت النصوص المصرية عن التقنين المدني الفرنسي في اقتضاب يلابسه شيء غير قليل من الغموض فضلا عن التناقض في اكثر من موضع . ولم يكن بد من أن يتبنى المصريون هذا التشريع وأن ينقلوه بحذافيره في تقنينهم الوطني، وأن يظل زهاء نصف قرن عنواناً لتلك الوصاية التشريعية التي فرضتها الدول على مصر باسم نظام الامتيازات.

9 – ومع ذلك فقد عكف القضاء المصري على تطبيق نصوص التقنين الحالي واجتهد ما وسعه الجهد في جلاء الغموض وتفصيل الإجمال وستر التناقض وتدارك النقص، حتى أضحت القواعد التي انتثرت في أحكام المحاكم لا تقل في خطرها عن القواعد التي وعتها تلك النصوص إن لم تجاوزها . ومن جهة أخرى نشطت حركة التأليف في فقه القانون المدني فجلا الفقهاء المصريون حقيقة هذا التقنين، وساهموا مساهمة قيمة في توجيه القضاء من ناحية، وفي إظهار عيوب النص واستشراف أفاق الإصلاح من ناحية أخرى، فلما أنست البلاد أنها توشك أن تسترد سياستها في التشريع كان من الطبيعي أن يتجه التفكير في سنة 1936 إلى اتخاذ الأهبة لتعديل القانون المدني تعديلا يتيح ليد الإصلاح أن تستحدث من الأحكام ما يسد النقص ويزيل الغموض ويواجه تطور الأحوال في البلاد.

10 – والآن قد استردت البلاد سيادتها التشريعية واوشك أن يتقلص أخر ظل من ظلال نظام الامتيازات ، يطيب للجنة أن تعرب عن عظيم اغتباطها بأن يكون القانون المدني الجديد تغبيراً مصرياً خالصاً عن هذه السيادة . فهو يعد بعد الدستور اهم تشريع وضعه المصريون انفسهم ، فقد أعد مشروعه فقيه مصري يشغل مكانة رفيعة بين علماء القانون ، وقد أدلى المصريون بالرأي فيه وكان هذا الرأي محل تقدير ودراسة ، وقد تولت مراجعته لجنة اشترك فيها من رجال الفقه والقضاء والمحاماة فريق من المبرزين . وهو في هذه المرحلة الأخيرة يعرض على نواب الأمة وشيوخها للنظر في أحكامه في ضوء علمهم وخبرتهم بتقاليد البلاد وأوضاعها وحاجاتها . فإذا جاوز هذه المرحلة اصبح القانون المدني " المصري" حقيقة ونعتاً . وكان للأجيال القادمة أن تعتز به وان تعلم لمجرد العبرة أو الذكرى أن مصر احتملت على مضض منها تقنيناً معيباً، ولكنها اجتهدت وجاهدت حتى أخرجت بنفسها ولنفسها هذا التقنين الجديد.

11 – وتود اللجنة أن تكتفي بهذا القدر في صدد عرض فكرة وجوب التعديل في ذاته . فمبدأ التعديل في ذاته كان مسلماً به في جميع مراحل البحث.

(2) تعديل شامل لا تعديل جزئي :

12 – على أن التسليم بمبدأ التعديل لم يحل دون إثارة مسالة المفاضلة بين أسلوبين، كان للحكومة أن تختار بينهما في تحقيق هذا التعديل: أسلوب التعديل الشامل وهو الأسلوب الذي اختارته الحكومة وأسلوب التعديل الجزئي ، من طريق تنقيح بعض النصوص وإضافة أحكام أخرى في نصوص التقنين نفسه أو في تشريعات تصدر على حدة . وقد رأت اللجنة نفسها أمام هذين الرأيين . أما الرأي الثاني فيستند إلى أن تطبيق القانون الحالي فترة طويلة من الزمان قرب منال أحكامه من القضاة والمتقاضيين وانزله منهم منزلة الوضع المألوف ، وفي التغيير أو التعديل الشامل ما يكبدهم مشقة استقصاء التقنين كله للوقوف على ما نقح أو حذف أو أضيف من النصوص ، يضاف إلى ذلك أن من الخير الاقتصار على التعديل في أضيق الحدود ولا سيما أن القضاء المصري زاخر بأحكام تداركت الكثير من نواحي النقص ، وفي التعديل الشامل ما قد يضيع هذه الثروة التي استقرت في التقاليد ، ويستند هذا الرأي أخيراً إلى أن التقنينات تشريعات ضخمة جرى العرف على تجنب المساس بها إلا في أضيق الحدود . فالتقنين المدني الفرنسي مثلا لم يعدل تعديلا شاملا حتى اليوم، واقتصر الأمر فيه على تعديلات جزئية وإضافات صدرت بها تشريعات خاصة.

13 – وقد ناقشت اللجنة هذا الراس وعرضت جميع الحجج المؤيدة له وانتهت إلى وجوب التعديل الشامل ، أي إلى إقرار المسلك الذي اتبعته الحكومة ، وذلك بسبب الرغبة في تناسق صياغة التشريع من ناحية ، وبسبب جسامة الإضافات بوجه خاص من ناحية أخرى ، فقد روعي أن أسلوب التعديل الجزئي قد يكون أولى بالترجيح ، حيث تقتضي الضرورة الاقتصار على مسائل قليلة لا يخل المساس بالنصوص المخصصة لها بما ينبغي للتشريع من تناسق في مجموعه ، أما حيث يتعلق الأمر بتعديل نصوص متعددة وإدخال إضافات كثيرة . فأسلوب التعديل الجزئي يكون ضاراً إذ يفضي إلى بعثرة الأحكام في تشريعات خاصة ، أو إلى وجوب تعديل طائفة من النصوص بسبب تنقيح لفظي يتناول نصاً معيناً بخصوصه ، ومن المعلوم أن القانون المدني بوجه خاص يتضمن كثيراً من النظريات العامة ، وقد نقل بعض هذه النظريات عن التقنين الفرنسي نقلا لا يخلو من خطأ ، وأصبح بعض أخر متخلفاً عن التطور الذي طرأ على أوضاع الحياة في الوقت الحاضر ، وتقويم هذا الخطأ في النصوص أو تهذيبها تهذيباً يساير التطور لا يقتصر على طائفة محدودة من المواد قد يتناول أكثر مواد التقنين الحالي ، وليس ثمة اكفل من التعديل الشامل بتحقيق هذا الغرض .

14 – هذا والصيغة العربية في التقنين الحالي كانت مجرد ترجمة عن الأصل الفرنسي يعوزها كثير من الدقة والصحة في الأداء ويعيبها سقم التعبير وركاكة الصيغة. وابلغ من هذا كله أن لغة الفقه والقضاء قد تطورت في حدود الأداء الفني تطوراً حدا بالكثيرين إلى إيثار النص الفرنسي لفهم مرامي الأحكام وحقيقة دلالتها. فمن الخير إذن أن يكون التعديل الشامل فرصة موفقة لصياغة النصوص العربية بلغة عربية سليمة واضحة.

15 – ويراعى من ناحية الموضوع أن مدى الإضافة ومبلغ التنقيح في الأحكام التفصيلية هما العنصران اللذان يتحكمان بصفة قاطعة في أمر المفاضلة بين الأسلوبين المتقدم ذكرهما . فالتقنين الحالي لم يتضمن إشارة إلى حكم تعاقب التشريعات في الزمان، ولم يفرد لتنازع القوانين سوى مواد ثلاث: إحداها تتعلق بالمواريث والثانية بالوصايا، والثالث بالأهلية. ولم يشتمل على قواعد عامة في شأن الشخصية المعنوية، ولم يورد أحكاماً عامة وخاصة في صدد حوالة الدين أو عقود المقاولات أو التزامات المرافق العامة أو عقد العمل أو الحكر أو إيجار الوقف أو تنظيم الإعسار أو تصفية التركات. وإذ لوحظ أن المواد التي تنظم هذه المسائل يربى عددها في المشروع على نصف عدد مواد التقنين الحالي، وأن الارتباط بينها وبين سائر المسائل التي يتناولها التقنين المدني لا يسوغ معه استصدار تشريعات خاصة بالنسبة إليها، رجحت كفة التعديل الشامل على نحو لا سبيل إلى الشك فيه.

16 – وثمة موضوعات أخرى أجمل التقنين الحالي الأحكام المتعلقة بها إجمالاً ادخل في معنى الاقتضاب، كتكوين العقد والدعوى البوليسية والاشتراط لمصلحة الغير والمسئولية التعاقدية والمسئولية التقصيرية والحراسة والملكية الشائعة وملكية الطبقات ورهن الحيازة وحق الاختصاص. وتفصيل مثل هذه الأحكام على تشعبها لا يجدي فيه أي تعديل جزئي إلا إذا أريد التغاضي عما يلابسها من عيب في غير حاجة أو مصلحة. والواقع أن الأمر لا يتعلق بمجرد التفصيل لزيادة الإيضاح أو إزالة الإبهام، ولكنه يتصل باستكمال أحكام ترتب على قصورها في كثير من الأحيان اختلاف المحاكم واضطراب المعاملات. ومن المحقق أن حسم هذا الخلاف من طريق التنويه صراحة بالحكم لا يتيسر مع تعدد الحالات وكثرتها على الوجه الذي تقدمت الإشارة إليه إلا بالتعديل الشامل.

17 – وقد راعت اللجنة فضلا عن ذلك أن التعديل الشامل يعين على إعادة تبويب القانون تبويباً منطقياً يبرز نواحي الارتباط والتقابل بين الموضوعات وييسر الجمع بين أطراف مسائل انتثرت أحكامها في التقنين الحالي دون نظام رغم ما بين أجزائها من وثيق الصلات فبهذا التعديل الشامل تيسر للمشروع أن ينهج هذا النهج المنطقي المتسق في التبويب وان يوصل الأحكام المتعلقة بالحيازة والحق في الحبس والدفع بعدم التنفيذ والنيابة في التعاقد وحقوق الارتفاق وحقوق الامتياز. ففي ذلك ما يعين على تقريب الأحكام من الأذهان وييسر فهمهما وتطبيقها .

18 – وعلى أساس هذه الاعتبارات لم تر اللجنة أن يكون التعديل جزئياً، فالحجة الخاصة بإرهاق المتعاملين من جراء ترك ما ألفوا في التقنين القديم وتقضي وجوه الإصلاح في التقنين الجديد لا يجوز أن تكون مبرراً لحرمانهم من حسنات هذا الإصلاح. فالحقيقة أن الذين الفوا التقنين القديم هم جمهور المشتغلين بفقه القانون وتطبيقه، وهذا الفريق هو أبصر الناس بحاجة هذا التقنين إلى التعديل الشامل، وهو أقدر من غيره على إدراك نواحي التجديد دون عناء، أما سواد الناس فلم يألف من التقنين الحالي سوى المبادئ العامة آلتي ترتفع إلى مستوى الكليات، وقد تقدم من قبل أن هذه المبادئ باقية في جملتها لم يغير منها المشروع شيئاً، ولذلك لم تر اللجنة أن تقف عند هذه الحجة ولم تر فيها ما يرجح كفة التعديل الجزئي بحال من الأحوال.

19 – والحجة الخاصة بإهدار الثروة التي أسفر عنها اجتهاد القضاء بسبب التعديل الشامل قد تكون ادعى إلى توجيه هذا النوع من التعديل فاللجنة تدرك حق الإدراك سعة الفجوة التي وفق القضاء إلى سدها وتدرك كذلك أن القضاء قد اجتهد اجتهاداً إنشائياً عوض المتعاملين في موضوعات شتى عن قصور التشريع ، ولكنها تصدر في رأيها بالنسبة إلى هذه المسالة من اعتبارين : الأول أن طغيان سوابق القضاء على أحكام التشريع لا يقبل في ظل نظام التقنين ، فالمقصود من تقنين القواعد هو دعم الاستقرار بفضل تعامل الناس على أساس " القانون المسطور " فإذا كان التقنين هزيلاً يفتقد فيه القاضي الحكم فلا يجده ، ويتطلع إليه المتقاضي فلا يهديه في كثير من الموضوعات الهامة فهو خليق بأن يكمل على أساس تعديل شامل ليؤدي وظيفته على الوجه الأمثل .

20 – والثاني أن أحكام القضاء متى تواترت على إقرار قواعد بلغت من الجسامة والسعة هذا الحد الذي يعرفه المشتغلون بالقانون في مصر فمن الخير أن تقنن وان يهيأ لها المكان الذي يتناسب مع أهميتها في نصوصه. بل إن خير أسلوب يتبع في التقنين هو صياغة المبادئ التي أقرها القضاء وثبتت صلاحيتها العلمية في نصوص التشريع فلن يكون في التعديل الشامل إهدار للثروة التي أفاءها اجتهاد القضاء وإنما سيكون هذا التعديل خير سبيل للاحتفاظ بهذه الثروة وتيسير الانتفاع بها للقضاة والمتقاضين. وغني عن البيان أن تقنين المبادئ التي يقررها القضاء يعصم المتعاملين من الاستهداف لاحتمال تضارب الآراء، ويقيل القضاة من عناء الاجتهاد الإنشائي ويركز جهودهم في نطاق التفسير والتطبيق. وإزاء هذين الاعتبارين لم تر اللجنة في الحجة الثانية التي استند إليها أسلوب التعديل الجزئي ما يبرر العدول عن أسلوب التعديل الشامل .

21 – أما الحجة الخاصة بوجوب الاقتصار في التعديل على أضيق الحدود ووجوب احتذاء مثال للفرنسيين في موقفهم من تقنينهم فلا يرد إلا حيث يكون التقنين المراد تعديله قد نشأ كاملا أو قريباً من الكمال ، وحيث يكون مدى التعديل من طريق الإضافة أو التهذيب محدوداً . وقد أشار التقرير من قبل إلى الظروف التي وضع التقنين المصري فيها وأفاض في بيان مدى التعديل وجسامته، وليس يجوز بعد هذا الاجتزاء بتعديل لا يجاوز حدود التفاصيل. والواقع انه لا محل للمقارنة بين التقنينين المصري والفرنسي ، فقد نقل الأول عيوب الثاني واربى عليها واسرف في الاقتضاب إسرافاً أورثه من الغموض والتناقض والقصور ما سبقت الإشارة إليه ومع ذلك فقد وجدت في فرنسا حركة قوية لتعديل هذا القانون العتيق أسفرت عن إصدار مرسوم في 7 يونيه سنة 1945 بتأليف لجنة برياسة الأستاذ جوليو دي لا مورانديير للقيام بهذا التعديل ، وقد نشر الجزء الأول من أعمال هذه اللجنة في سنة 1947 (أعمال لجنة تعديل القانون المدني باريس سيري سنة 1947) وقد عدلت في السنوات الأخيرة كثير من تقنينات نسجت على منوال التقنين الفرنسي تعديلا شاملا لمواجهة ما جد من أحداث الحياة . وأبرز مثال يساق في هذا الصدد التقنين الإيطالي الصادر في سنة 1942، وإزاء كل أولئك رأت اللجنة إقرار الحكومة على مسلكها في اختيار أسلوب التعديل الشامل .

(3) طرائق التعديل :

22 – وانتقلت اللجنة إلى دراسة طرائق التعديل فعرضت لتبويب المشروع والمصادر التي استمد منها الأحكام، ووقفت بوده خاص عند كيفية الصياغة. ولم يثر التبويب أية صعوبة لأن المشروع قد قسم تقسيما منطقياً فافرد باباً أول للنصوص أو الأحكام العامة التمهيدية جمع فيه بعض القواعد المتعلقة بمصادر القانون وكيفية تطبيقه والقواعد الخاصة بالأشخاص والقواعد التي تتناول تقسيم الأموال والأشياء. وقد هيأ هذا الباب للمشروع فرصة إيراد قواعد تنظم تنازع القوانين في الزمان وتنازعها في المكان والشخصية المعنوية ، ووزع المشروع بعد ذلك سائر أحكامه بين قسمين خصص أولهما للالتزامات أو الحقوق الشخصية ، فعالج الالتزام بوجه عام والعقود بوصفها تطبيقاً أو تفصيلا لنظرية الالتزام ، وجمع في القسم الثاني الأحكام الخاصة بالحقوق العينية ، فعرض في كتاب للحقوق العينية الأصلية ، وفي كتاب أخر للحقوق العينية التبعية أو التأمينات وليس للجنة ملاحظات على هذا التقسيم في جملته أو تفاصيله فهو يفضل بغير شك التقسيم المتبع في التقنين الحالي .

23 – أما مصادر الأحكام وكيفية صياغتها فقد أولتها اللجنة أكبر نصيب من عنايتها وقد انتهت إلى إقرار مسلك المشروع في شأنها بعد أن بحثت جميع الآراء التي أبديت فيها. فعرضت لما قيل من التماس الأحكام من مصادر غير التشريع الفرنسي الذي كان يعتبر المصدر الأساسي للتقنين الحالي. وعرضت لما قيل من أن تعدد المصادر الأجنبية يقطع الصلة بين الماضي والحاضر. وعرضت كذلك لما قيل في معرض التدليل النظري، من أن كل تقنين أجنبي يعتبر وحدة متجانسة الأجزاء، والاستعانة في صياغة أحكام التشريع المصري بأكثر من تقنين أجنبي قد يفضي إلى الجمع بين متناقضات أو متنافرات.

24 – عرضت اللجنة لكل هذه الآراء في مستهل بحثها ومحصن كلا منها معتمدة على الواقع الذي استخلصته من نصوص المشروع فتبينت أنها لا تقوم على أساس ذلك أنها درست النصوص دراسة قوامها دقة النظر والإحاطة بظروف الحياة في مصر والإلمام بما جاء في المذكرات الإيضاحية التي قدمتها الحكومة حتى انتهت من نظر النصوص جميعها، فتبينت سلامة الطرائق التي اتبعت في التعديل.

25 – ذلك أن اللجنة قد تبينت أن المصادر التي استمد منها المشروع أحكامه هي التقنين الحالي وما صدر في شأنه من أحكام المحاكم المصرية أولا. وما من نص من نصوص هذا التقنين إلا وأشير إليه في معرض إيضاح النص المقابل له في المشروع في المذكرات الإيضاحية التي قدمتها وزارة العدل، وما من مبدأ استقر القضاء على الأخذ به في تفسير هذه النصوص إلا عرضته هذه المذكرات. وهي في الحالتين تنوه بالإبقاء على الحكم الوارد في النص أو بالتعديل الذي آثرت إدخاله على صياغته تمشياً مع أحكام القضاء أو آراء الفقه ، أو بالإضافة التي رأت إثباتها أخذا بهذه الآراء أو تلك الأحكام ، فالمشروع في هذه الناحية قد ابقى على كل ما هو صالح من قواعد التقنين الحالي ، وإن كان قد هذب صياغتها تهذيباً يتلاءم مع تطور اللغة الاصطلاحية في مصر وأساليب الصياغة فيها ، وهو بهذه المثابة قد احتفظ بالقواعد العامة التي تضمنها هذا التقنين في الجملة ، وأضاف إليها ما اجتهد القضاء في إقراره على أساس هذه المبادئ ، فلا هو يقطع الصلة بين الماضي والحاضر ولا هو يضيع ثروة القضاء من المبادئ والتقاليد ، وإنما هو على النقيض من ذلك يضفي على ما استقر من الأوضاع في الماضي صبغة جديدة من الإصلاح تبرئه من العيوب التي خالطته ، وتكفل الانتفاع منه على أمثل وجه .

26 – وإذا كان هذا التقرير لا يتسع لإيراد أمثلة كثيرة تصور هذه الحقيقة، ففي الوسع الاقتصار على بعض تطبيقات من الكتاب الخاص بنظرية الالتزامات، وهي أهم نظرية من نظريات القانون المدني وأوسعها نطاقاً في التطبيق. فالمشروع فيما يتعلق بمصادر الالتزام حذا حذو التقنين الحالي فتناول العقد والفعل بقسميه النافع والضار. ونص القانون على انه وان التزم هذه الحدود في التقليد إلا أنه ابرز كيان الفعل النافع واستخلص من أحكام القضاء المصري بوجه خاص ومن اتجاهات الفقه بوجه عام أسس نظرية عامة في الإثراء مهد بها لإيراد تطبيقيه التقليدين، وهما دفع غير المستحق والفضالة. ثم أضاف إلى هذه المصادر الإرادة المنفردة بعد ا ناقرها القضاء والفقه في مصر بوصفها مصدراً للالتزام دون أن يجانب في ذلك ما هو مقرر في الفقه الإسلامي وهو مصدر الكثير من الأحكام المطبقة في شأن المواريث والوصايا وغيرها من الأحوال الشخصية. على أن المشروع في اعترافه بالإرادة المنفردة أو الإقرار بكفايتها لإنشاء الالتزام لم يتطرف أو يسرف، وإنما اقتصر على إيراد تطبيق عملي واحد كان القضاء يلتمس له الحل من طريق إرهاق النصوص وتحميلها ما تنكره ألفاظها ودلالتها وفي هذا المثال ما يكشف عن سلامة الخطة التي انتهجها المشروع في الإبقاء على القديم الذي صقلته التجارب وتهذيبه من طريق التنقيح أو الإضافة مستهدياً باتجاهات القضاء وما يكابده من الناحية العملية .

27 – وفي القواعد المتعلقة بالعقد وهو المصدر العملي الأول للالتزامات نسج المشروع على منوال التقنين الحالي، فجعل الرضا ركناً في العقد ونص على أن المجل والسبب ركنان في الالتزام التعاقدي. وليست فكرة السبب بالفكرة المنزهة عن التجريح والنقد ولا هي بالفكرة التي أجمعت التقنينات الأجنبية على الأخذ بها، ومع ذلك فقد أبقي المشروع عليها إيثارا للاحتفاظ بالموروث من التقاليد وبوجه خاص لتيسير الانتفاع بالأحكام التي أصدرها القضاء في هذا الشأن، وكانت النصوص المتعلقة بالسبب في التقنين الحالي مقتضبة كل الاقتضاب، ففصلها المشروع وأكمل نواحي النقص فيها دون أن يستعين في هذا أو ذاك بما استقر عليه قضاء المحاكم في مصر وما وعته أحكامه من المبادئ الكلية أو التفصيلية. ومن الخير أن يشار في صدد أركان العقد إلى أن النصوص التي اشتمل عليها التقنين الحالي لم تواجه كيفية انعقاد العقد . وقد قام القضاء من ناحيته بتدارك هذا النقص فاقر كثيراً من المبادئ المستخلصة من القواعد العامة. ولم يخرج المشروع في الأحكام التي تضمنها في موضوع انعقاد العقد على تلك القواعد أو المبادئ، وإنما قننها تقنيناً اكسبها من الوضوح والاستقرار ما يعود بالخير على المتعاملين. وكذلك كان نهج المشروع فيما يتعلق بعيوب الرضا ونظرية البطلان وغيرها، من المسائل المتصلة بتنظيم العقد.

28 - وفي القواعد الخاصة بالمسئولية عن الفعل الضار وهو المصدر الذي يكاد ينافس العقد في الوقت الحاضر في الأهمية ابقى المشروع على القاعدة العامة في المسئولية على أساس الخطأ أو التقصير وعقد أهلية المساءلة بالتمييز على غرار ما هو مقرر في التشريع الحالي ، ونص على مسئولية المكلف برعاية غيره ومسئولية المتبوع عن أعمال تابعه على نحو ما جاء بهذا التشريع . ولم يورد من التفصيلات في صدد حالات المسئولية وأسباب الإعفاء منها إلا ما اقتضته ضرورة جلاء الغموض الذي يسود النصوص الحالية أو ضرورة تمشيها مع العدالة أو تقنين ما استقر من القواعد في أحكام المحاكم. والواقع أن المحاكم المصرية اجتهدت في تفسير النصوص المتعلقة بالمسئولية التقصيرية بل وفي تأويلها اجتهاداً لا يسمح به ظاهر هذه النصوص. فكان من الواجب أن يتناول التشريع المدني الجديد ما انتهت إليه هذه الأحكام ويفرد لها مكاناً في النصوص. وإذا كان المشروع قد أضاف نصوصاً جديدة فهذه النصوص لا تتعارض مع القواعد العامة التي نقلت عن التشريع الحالي، بل هي من قبيل ما يعتبر مكملاً أو مفصلاً.

29 – واللجنة تجتزئ بهذا القدر من الأمثلة وتكتفي بالتنويه بأن المشروع لم يخل بالقواعد العامة التي قررها التشريع الحالي بل أكسبها من التهذيب ما كانت تتطلع البلاد إليه، وهي مطمئنة إلى أن صياغة المشروع على هذا الوجه فيها من الرعاية لهذه القواعد ما يدفع كل شبهة قد تعرض للذهن فيما يتعلق بوصل الحاضر بالماضي أو بالانتفاع بما استقر من المبادئ والآراء في قضاء المحاكم المصرية. وهي مطمئنة كذلك إلى أن تقنين ما قرره القضاء على الوجه الذي تكشفت عنه نصوص هذا المشروع يعتبر عملاً حكيماً .

30 – وتبينت اللجنة كذلك أن المشروع اعتمد على الشريعة الإسلامية إلى حد بعيد بين مصادره ، فجعلها مصدراً عاماً يرجع إليه القاضي إذا لم يجد حكماً في التشريع أو العرف ، وجعلها مصدراً خاصة لطائفة لا يستهان بها من أحكامه . ولا ينكر ما للفقه الإسلامي من مكانة رفيعة بين مذاهب الفقه العالمي، فكيف وقد كان ولا يزال معتبرا في القانون العام في كثير من المسائل في مصر. وفي تقوية الصلة بين المشروع وأحكام الشريعة الإسلامية إبقاء على تراث روحي حري بأن يصان وأن ينتفع به. واللجنة تسجل ما صادفت في المشروع من أحكام أخذت عن الشريعة الإسلامية كالأحكام الخاصة بنظرية التعسف في استعمال الحق وحوالة الدين ومبدأ الحوادث غير المتوقعة. وهذه الأحكام جميعاً تتضمن من القواعد ما يعتبر شاهداً من شواهد التقدم في التقنينات الغربية، وان كان فقهاء الشريعة قد فطنوا إلى ما حوت من أحكام واحكموا سبكه وتطبيقه على ما عرض في عصورهم من أقضية لقرون خلت قبل أن يخطر شيء من ذلك ببال فقهاء الغرب أو من تولوا أمر التشريع فيه.

31 – ونقل المشروع أيضا عن الشريعة الإسلامية طائفة من الأحكام التفصيلية يكفي أن يشار في صددها إلى ما تعلق بمجلس العقد وإيجار الوقف والحكر وإيجار الأراضي الزراعية وهلاك الزرع في العين المؤجرة وانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه بالعذر. هذا إلى مسائل أخرى كثيرة سبق أن اقتبس التقنين الحالي أحكامها من الشريعة الإسلامية وأبقاها المشروع، كبيع المريض مرض الموت والغبن وتبعة الهلاك في البيع وغرس الأشجار في العين المؤجرة والعلو والسفل والحائط المشترك. أما الأهلية والهبة والشفعة والمبدأ الخاص بألا تركة إلا بعد سداد الدين فقد استمد المشروع أحكامها من الشريعة الإسلامية، وهي أحكام لها أهميتها في الحياة العملية.

32 – وفي حدود المصدر الثاني كان مسلك المشروع قويماً ارتاحت إليه اللجنة وآنست فيه اتجاهاً إلى تقدير ما للفقه الإسلامي من مزايا أدركها علماء الغرب منذ زمن بعيد، وبقي على دول الشرق أن تحلها المحل الخليق بها وان تعبر عملياً عن اعتزازها بها وحرصها على استدامتها. ولعل من نافلة القول إن يشار إلى أن هذا المسلك أمعن في رعاية ما للماضي من حرمة وأبلغ في قضاء حق القدماء الذين تعهدوا الفقه الإسلامي باجتهادهم وأسبغوا على أحكامه من المرونة ما جعلها تتسع لما درج الناس عليه في معاملاتهم. ولا ترى اللجنة في الرجوع إلى الشريعة الإسلامية على هذا الوجه أي مساس باستقرار المعاملات، بل ترى فيه تمكيناً لأسباب هذا الاستقرار من طريق تقصي التقاليد الصالحة التي ألفها المتعاملون في البلاد منذ مئات السنين.

33 – على أن للمشروع مصدراً ثالثا هو التقنينات الأجنبية ، وبوجه خاص الحديث منها ز وقد تبينت اللجنة أن المشروع لم يقف من هذه التقنينات عند تقنين بخصوصه ، وإنما تخير منها افضل ما تضمنت مما آنس صلاحيته لمواجهة ضرورات التعامل من جانب وانسجامه مع سائر أحكام المشروع وأسسه العامة من جانب أخر , ويدل استقرار نصوص المشروع على أنه انتفع بالتقنينات الأجنبية من وجهين ، فهو قد اعتبرها عنصراً من عناصر الاستئناس في الصياغة اللفظية للنصوص ، سواء في ذلك ما أبقى من أحكام التقنين الحالي أو ما استحدث من طريق التنقيح أو الإضافة في ضوء ما استقر عليه القضاء . وهو قد استعان ببعضها في مواطن أخرى، فاقتبس منها أحكاماً تفصيلية في بعض الموضوعات التي أغفلها التقنين الحالي إغفالاً تاماً. وكلا الوجهين لم يؤثر في وحدة الأسس العامة التي قام عليها المشروع أو في تجانسها وتناسقها .

34 – وقد لاحظت اللجنة فيما يتعلق بالوجه الأول أن الاستئناس بالصيغ التي استعملت في التقنينات الأجنبية عند تحرير النصوص يتيح الإفادة من تجربة الغير في التعبير ودقة الأداء. فما دام جوهر الحكم في التشريع قد سلم من الخلاف فالاستئناس في التعبير عن معناه بالصيغ الواردة في أي تقنين أجنبي، لا يجوز أن يكون عيباً ينال من قيمة الحكم أو قيمة الصيغة على حد سواء، ولا يجوز كذلك أن يكون سبيلا إلى الإلزام بالرجوع إلى التقنين الذي كان عنصراً من عناصر الاسترشاد في وضع الصيغة. ومما كان يزيد في اطمئنان اللجنة إلى سلامة الصيغة ركونها إلى مقارنتها بما يقابلها في التشريعات الأجنبية من صيغ كانت وليدة تفكير طويل وتحقيق دقيق.

35 – والكثرة الغالبة من النصوص المعروضة قد ظفرت من وراء الاستئناس بصيغ التقنينات الأجنبية بدقة في الأداء وإيجاز في التعبير جعلا للمشروع قيمة فنية ذاتية وطابعاً حسناً. وقد روجعت هذه النصوص في اللجنة التي أنشأتها وزارة العدل بعد جمع الآراء من طريق الاستفتاء وروجعت كذلك في لجان مجلسي البرلمان، وادخل عليها من التعديل اللفظي والموضوعي ما يجعلها تعبر تعبيراً واضحاً عن المعاني التي قصدت إلى أدائها. ولا محل لأن يعاب على المشروع انتفاعه من التجربة التي انتهت إليها التقنينات الأجنبية في حدود الصياغة، ولا سيما بعد أن روجعت الصياغة على النحو المتقدم ذكره وانفصلت بذلك عن كل مصدر من مصادر الاستئناس، وأصبحت معبرة في ذاتها عن المعاني التي استظهرها كل من ساهم في وضع المشروع أو مراجعته أو إقراره. ومن الواجب أن يشار في هذه المناسبة إلى أن صيغ التقنينات المدنية ذات المنزع الواحد تتقارب تقارباً يجعل توحيدها أمراً غير عسير، وأن هذه الصيغ رغم تعددها لا تتباعد تباعدا يذكر في جوهر الحكم .

36 – أما النصوص التي اقتبست أحكامها من تقنينات أجنبية من حيث الموضوع فهي قليلة إذا قيست بسائر نصوص المشروع، وهي تعالج أوضاعاً مستقلة أو مسائل تفصيلية تصلح لأن يفصل فيها برأي أو أخر في أي تقنين من التقنينات دون أن يخل ذلك بتناسق قواعده العامة أو تماسكها. ولم يتوخ المشروع في ذلك مجرد النقل أو التقليد دون نظر إلى ظروف البيئة المصرية ولكنه جعل من ظروف هذه البيئة رائدة فاسترشد بها في المفاضلة بين الحكم الوارد في تقنين وبين غيره مما في تقنينات أخرى وأدخل في كثير من الحالات على ما اقتبس من أحكام تعديلات جوهرية نزولا على ما تقتضي تلك الظروف، وهو في هذا لم يشذ عن الأسلوب المتبع في أكثر الدول عند التقنين في الوقت الحاضر، والمتبع في مصر فعلا بالنسبة إلى كثير من التشريعات. وقد أدمجت الأحكام التي اقتبست على هذا الوجه في المشروع وروعي في هذا الإدماج أحكام التآلف بينها وبين سائر أجزائه، ثم روجعت في مختلف اللجان على ما تقدم ذكره من قبل فاستوى من ذلك كله تقنين متواصل الأجزاء متجانس الأحكام.

37 – فمن أمثلة الأوضاع المستقلة التي استرشد فيها المشروع بالتقنينات أو التشريعات الأجنبية مسائل تنازع القوانين أو فواعد القانون الدولي الخاص ، فلم ينقل فيها التقنين الحالي عن القانون الفرنسي وإنما نهج نهج التقنين الإيطالي القديم ، بل ولم تقتبس لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة من هذا القانون الأحكام التي اشتملت عليها في المادة 29 وهي الخاصة ببيان القانون الواجب تطبيقه في مسائل الأحوال الشخصية ، وإنما اقتبستها من مصادر متعددة من بينها معاهدة لاهاي الخاصة بقواعد الزواج والطلاق وقواعد القانون الإيطالي والقانون الألماني وغيرهما من التشريعات التي قننت بعض قواعد القانون الدولي الخاص . وقد رأت اللجنة أن التقنين في صدد هذه القواعد يجب أن يستأنس بأكبر عدد من التقنينات وأن يتخير اكثر الأحكام ملاءمة لسياسة البلاد في عهدها الجديد ولا سيما أن القضاء المصري نفسه عندما كان يعمد إلى الاجتهاد في مسائل القانون الدولي الخاص كان يستهدي بكثير من التشريعات الأجنبية التي تشير إليها كتب الفقه دون أن يتقيد بتشريع معين . بل و قد اطلعت اللجنة على بعض وثائق إعداد التقنين المدني الإيطالي الصادر في سنة 1942 وتبينت منها أن الاستعانة بنصوص التشريعات الأجنبية في مسائل القانون الدولي الخاص لم تكن تختلف في شيء عما فعل المشروع .

38 – ومن أمثلة المسائل التفصيلية التي نقل فيها المشروع عن تشريعات أجنبية ، تحديد مدة لسقوط الحق في طلب إبطال العقد ، فهذا التحديد مجرد تنظيم لاستعمال هذا الحق وهو تنظيم لا يمس أسباب الإبطال ولا أثاره ، ومن المتصور أن يضاف الآن إلى التقنين الحالي دون أن يترتب على ذلك تعديل في أي نص من نصوص هذا التقنين أو أي حكم من احكماه العامة ز ولم تر اللجنة إقرار الحكم المتعلق بتحديد المدة لمجرد اقتباسه من تشريع أجنبي معين ، ولكنها اقتنعت بان قيام الحق في طلب الإبطال يستتبع وجود وضع غير مستقر في نطاق التعامل ، ومن المرغوب فيه أن يوضع حد لعدم استقرار هذا الوضع دون إخلال بما ينبغي لذوي الشأن من حماية . ولم يختلف عن ذلك رأي اللجنة في سائر مدد السقوط القصيرة التي استحدثها المشروع لتوطيد أسس الاستقرار. ففي هذه الصور وما ماثلها يكون الاستحداث سديداً، لأنه يعود بالنفع دون أن تتأثر الأسس العامة في التقنين أو تفقد تواصلها.

39 – وقد يقع أن تتطلب المسألة التفصيلية وضع طائفة من النصوص يتفاوت عددها قلة وكثرة بتفاوت الأحوال، ومع ذلك فلا يكون لاقتباس هذه النصوص من أي تقنين أجنبي ما يجانب منطق الأسس العامة في المشروع. فمن ذلك مثلا أن المشروع نظم ملكية الأسرة، وهي صورة خاصة من صور الملكية الشائعة مستهدياً في ذلك بالتقنين السويسري والتقنين الإيطالي، فاستجاب لحاجة يدرك خطرها كل من شهد اندثار كثير من المشروعات النافعة وتفتت الثروة عقب موت رب الأسرة في مصر. وفي نطاق هذا التنظيم يظل جوهر الملكية الشائعة باقياً، ولكن تفصيله ينسق على النحو الذي يكفل استغلال ملكية الأسرة لمصلحة الملاك جميعاً ولمصلحة الاقتصاد القومي في البلاد. ومن ذلك أيضا أن المشروع استقى القواعد الخاصة بملكية الطباق من التقنين الحالي ومن الفقه الإسلامي وقضاء المحاكم المصرية، ولكنه استمد من القانون الفرنسي الصادر في سنة 1938 أحكاما خاصة تنظم علاقات ملاك الطباق إذا أرادوا أن يكونوا اتحاداً فيما بينهم، وهذا التنظيم لا يعرض إلا للتفاصيل، وتظل إلى جانب هذه التفاصيل تلك القواعد العامة أساساً لهذا النوع من الملكية وهو يلائم البيئة المصرية ويشجع الادخار ونشر الملكيات الصغيرة.

40 – هذه وتلك أمثلة رأت اللجنة عرضها لتظهر بصورة عملية سلامة الخطة التي اتبعها المشروع فيما يتعلق بتنفيذ التعديل ووسائله، فتعدد مصادر المشروع لا يعتبر بمجرده وبصورة جازمة مانعاً من تجانس الأحكام أو تناسقها أو تواصلها. وكذلك الشأن فيما قيل عن مصادر النص الواحد فالعبرة في هذا كله بجوهر الأحكام وحقيقة الواقع. وليس بصحيح من الناحية العلمية أو العملية أن كل تقنين من التقنينات المدنية يعتبر وحدة غير قابلة للتجزئة ، بحيث يكون من غير المستطاع أو من غير المقبول أن ينقل نص أو طائفة من النصوص من تقنين إلى تقنين أخر ، فكثير من النظريات التي نشأت في ظل التقنينات الجرمانية كالتقنين الألماني والسويسري نقلت إلى فقه التقنينات اللاتينية ، وفي مقدمتها التقنين الفرنسي والتقنين الإيطالي القديم ، ولا يخلو في الوقت الحاضر مرجع من مراجع القانون المدني الفرنسي من الإشارة إلى نصوص القانون المدني الألماني أو القانون المدني السويسري ، والإشارة إلى تفصيل ما تضمنا من النصوص في مواطن كثيرة .

41 – وتؤثر اللجنة أن تتقي الاسترسال في هذا البحث النظري وان تستمد الدليل العملي القاطع من تجربة القانون المدني الحالي وحده. فهذا القانون قد استمد اكثر نصوصه من التقنين الفرنسي واستمد بعضها من التقنين الإيطالي القديم، واستمد بعضاً أخر من الشريعة الإسلامية. ومع هذا فقد عاشت النصوص المستمدة من الشريعة الإسلامية إلى جانب ما جاورها من أحكام القانون الفرنسي دون أن يدعي أحد بفقدان التجانس بين أجزاء التقنين القائم مع ما بين هذا التقنين وتلك الشريعة من تباعد واختلاف بين في أسس الصياغة الفنية ومنطق التنظيم، ولم يخل التقنين الحالي من أحكام استقيت من الشريعة الإسلامية وأحكام نقلت عن القانون الفرنسي جمعت في نص واحد، دون أن يؤدي هذا الجمع إلى اضطراب مفهوم النص أو تعذر تطبيقه.

42 – وقد يكون من المفيد أن تضيف اللجنة إلى ما تقدم أن واضع التقنين اللبناني الحديث ، وهو من كبار أساتذة القانون المدني في فرنسا ، ضمن هذا التقنين كثيرا من الأحكام التي أخذ بها القانون الألماني والقانون السويسري والقانون التونسي والقانون المراكشي ، وأن القانون البولوني اشترك في وضعه كذلك أحد البارزين من أساتذة القانون في فرنسا ، واشتمل على نصوص كثيرة نسج فيها على منوال التقنينات الجرمانية وغيرها من التقنينات الحديثة وقد استمد التقنين الإيطالي الحديث أحكاما عدة من هذه التقنينات مع أن إيطاليا ظلت زهاء قرن من الزمان تطبق تقنيناً مستمدا من التقنين الفرنسي .

43 – قد يقال أن لكل دولة مذهبها في فقه التقنين وتخريج أحكامه على طرائق من النظر تمثل تصويراً فكرياً معيناً، ولكن هذه المذاهب لا تعتبر أصلا جامعاً للحلول العملية التي يتضمنها التقنين، فعلة كل حل من هذه الحلول هي الحاجة التي اقتضت وضعه، ومتى وجدت حاجة للمتعاملين في مصر فمن غير المعقول أن نمتنع عن أن نستمد لها حكما من أي تشريع سبقنا إلى مواجهتها لا لسبب إلا تشبثاً بوجوب النقل عن تشريع معين قد لا ينفعنا في هذا الشأن.

44 – أما ما يقال عن صعوبة التفسير وإلزام القاضي بالرجوع إلى فقه دول متعددة للوقوف على مفهوم نص معين، فترى اللجنة أن النصوص متى أدمجت في التقنين انعزلت عن مصادر الاستئناس، وأصبح لها كيان ذاتي قوامه تساندها مع غيرها من نصوص هذا التقنين، وأثرها في البيئة التي تعيش فيها وانفعالها بظروف هذه البيئة. فما نقل من الصيغ أو النصوص عن تشريعات أو تقنينات أجنبية وصل بنصوص أخرى في المشروع تحددت دلالتها من قبل في التقنين الحالي وفي الفقه المصري وأحكام القضاء في مصر، وهذا التآلف هو أول، بل وأهم عنصر من عناصر التفسير.

 

ما رأت اللجنة إدخاله من تعديل أو إضافة أو حذف (2)

45 – عرضت اللجنة نصوص المشروع في كثير من الإمعان وكانت تقف عندها نصاً نصا تقارن الحكم بما يقابله في التقنين الحالي، وتستظهر في كثير من الأحيان ما يقابله في التقنينات الأجنبية وتتقصى موقف القضاء وحاجات المتعاملين ولذلك أدخلت على هذه النصوص ما عن لها من التعديلات من طريق التنقيح أو الإضافة أو الحذف. بيد أن هذه التعديلات لم تتناول من المشروع أسسه العامة أو مقوماته الجوهرية وإنما تناولت مسائل يتسع فيها مجال الاستحسان لتفاوت النظر أو اختلاف التقدير. وقد توخت اللجنة في استحسانها أن تتخفف من التطبيقات ما دامت القاعدة العامة قد أفرغت في صيغة واضحة، وأن تتوسط فلا توسع كل التوسيع على القضاة في تقديرهم ولا تغالي في تقييدهم. وتحرص اللجنة قبل سرد التعديلات على الإشارة إلى طوائف ثلاث من النصوص اتخذت في شأنها قراراً بالحذف أو التهذيب.

46 – الطائفة الأولى تناولت بيع الوفاء وقد رأت اللجنة بالإجماع أن هذا النوع من البيع لم يعد يستجيب لحاجة جدية في التعامل إنما هو وسيلة ملتوية من وسائل الضمان تبدأ ستاراً لرهن وينتهي الرهن إلى تجريد البائع من ملكه بثمن بخس. والواقع أن من يعمد إلى بيع الوفاء لا يحصل على ثمن يتناسب مع قيمة المبيع بل يحصل عادة على ما يحتاج إليه من مال ولو كان اقل بكثير من هذه القيمة .

ويعتمد غالبا على احتمال وفائه بما قبض قبل انقضاء اجل الاسترداد، ولكنه قل أن يحسن التقدير. فإذا أخلف المستقبل ظنه وعجز عن تدبير الثمن خلال هذا الأجل ضاع عليه دون أن يحصل على ما يتعادل مع قيمته وتحمل غبناً ينبغي أن يدرأه القانون عنه. ولذلك رؤي أن تحذف النصوص الخاصة ببيع الوفاء، وأن يستعاض عنها بنص عام يحرم هذا البيع في أية صورة من الصور. وبهذا لا يكون أمام الدائن والمدين إلا الالتجاء إلى الرهن الحيازي وغيره من وسائل الضمان التي نظمها القانون وأحاطها بما يكفل حقوق كل منهما دون أن يتسع المجال لغبن قلما يؤمن جانبه .

47 – والطائفة الثانية أفردت لعقد التامين وقد حمدت اللجنة للمشروع عنايته بهذا العقد ولا سيما بعد أن أصبح التأمين وضعاً مألوفاً في نطاق التعامل ، واتسع نشاط شركات التامين وتعددت شعابه . إلا أن ناحيتين من نواحي عقد التأمين استرعتا انتباه اللجنة ووجهت رايها في هذا الشأن: الناحية الأولى أن تنظيم هذا العقد تنظيماً كاملا يواجه جميع تفاصيله وجزئياته وما يتخصص به كل نوع من أنواعه أمر يتطلب الإفاضة على نحو قد يخل بتناسق القسم الخاص بالعقود في المشروع المعروض. والناحية الثانية أن هذا التنظيم لا يزال في عنفوان تطوره فهو في حاجة دائمة إلى التنقيح والإضافة، وإزاء ذلك قد يكون من الأنسب أن تظل تفاصيله بعيدة عن نطاق التقنين .

هذا إلى أن من نواحي تنظيم عقد التامين ما يحسن أن تتناوله لوائح تنفيذية لم يجر عرف الصياغة بإصدارها بالنسبة إلى التقنينات. ولذلك آثرت اللجنة أن تبقي في المشروع القواعد الكلية المنظمة لعقد التامين وأن تحذف ما عداها، على أن يصدر تشريع خاص يتناول الجزئيات والتفاصيل التي تقدمت الإشارة إليها .

48 – أما الطائفة الثالثة فتتعلق بحق الاختصاص، وكان من رأي بعض أعضاء اللجنة أن هذا الحق يجب أن يقيد على نحو يدفع ما وجه إلى استعماله من نقد، وقد تبينت اللجنة أن المشروع ادخل من التحسين على النصوص المتعلقة بحق الاختصاص ما يعالج عيوب أحكام التشريع الحالي، ولكنها رأت إمعاناً في ضمان حسن استعمال هذا الحق أن تضع قيوداً تحقق المساواة بين الدائنين وحماية مصالحهم عند التزاحم .

ولذلك قررت أن تقصره على من استصدر من الدائنين حكما واجب التنفيذ .

49 – هذا ولا يسع اللجنة إلا أن تنوه بتقديرها للمعونة القيمة التي صادفتها من حضرات الأساتذة سكرتيري اللجنة الموظفين في جميع مراحل البحث وهي تذكر لهم بالثناء ما بذلوا من جهود صادقة في سبيل التعجيل في إخراج المشروع في صيغته الحالية ومراجعته في يقظة محمودة خلال فترة وجيزة رغم ضخامة العمل ودقته.

واللجنة إذ تورد فيما يلي أهم التعديلات التي رأت إدخالها ترفع تقريرها هذا راجية من المجلس الموقر إقراره بالصيغة المرافقة . (3)

%%%%%%



(1) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 119 .

(2) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 1 ص 137 .

(3) ستذكر هذه التعديلات وما ورد في شانها من ملاحظات تحت النصوص التي عدلت فيما عدا التعديلات اللفظية فقد رئي إغفالها توخياً للإيجاز .