جلسة يوم الخميس 30 يناير سنة 1930
برياسة حضرة صاحب السعادة
عبد العزيز فهمى باشا رئيس المحكمة.
--------------
(380)
القضية رقم 1175 سنة 46
قضائية (1)
(أ) تشويش وجنح الاعتداء
على هيئة المحكمة.
المحاكمات على ما يقع منها بالجلسات المدنية. لا وجوب لسماع
أقوال النيابة فيها. المحاكمة على ما يقع منها بالجلسات الجنائية. وجوب سماع أقوال
النيابة فيها.
(المادة 237 تحقيق)
(ب) معنى عبارة "من
تلقاء نفسها" الواردة بالمادة 89 مرافعات.
(جـ) محام. حصول تشويش
منه بالجلسة. توقيع المحكمة العقاب عليه.
(المادتان 86 و89 مرافعات)
)د) محام. هل يعتبر من
المأمورين الموظفين بالمحاكم؟
)هـ) جنحة الجلسة.
المحاكمة الفورية عليها. لا شأن لها بصفة المعتدى. المراد بلفظ
"المحكمة" الوارد بالمادة 89 مرافعات.
(و) محام. المادة 89
مرافعات تتناوله.
(ر) إهانة المحكمة. إسناد
الخطأ لها عقب إصدارها حكما. إهانة لها حتى ولو كانت مخطئة.
(المادة 117 عقوبات)
----------------
1 - لا وجوب لسماع أقوال
النيابة فيما يجرى من المحاكمات على ما يقع بالجلسات المدنية من التشويش وجنح
الاعتداء على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها. أمّا ما يجرى من تلك المحاكمات أمام
المحاكم الجنائية فسماع أقوال النيابة فيها واجب.
2 - إن المقصود بعبارة
"من تلقاء نفسها" الواردة في المادة 89 مرافعات هو تخويل المحكمة
المدنية سلطة المحاكمة والحكم بلا طلب من أحد تمكينا لها من حفظ كرامة القضاء
بالإسراع في محاكمة من يعتدى عليه وإيقاع العقاب به فورا أثناء انعقاد الجلسة.
3 - مع افتراض أنه يمكن
اعتبار المحامي في مصر أثناء قيامه بواجب الدفاع أمام المحاكم من أرباب الوظائف
بها، ومع افتراض أنه يمكن اعتبار المادة 86 من قانون المرافعات الأهلي مخصصة
للمادة 89 إذا كان الذي وقع من المحامي أثناء انعقاد الجلسة مجرّد تشويش إلا أنه -
مع خلو لوائح صناعة المحاماة في مصر من نص كنص المادة 103 من قانون 3 مارس سنة
1808 الفرنسي المعدّلة بقانون 10 مارس سنة 1898 أو كنص المادة 41 من لائحة
المحاماة بفرنسا الصادرة في 20 يونيه سنة 1920 يخوّل للمحاكم الابتدائية
والاستئنافية سلطة توقيع عقوبة تأديبية محدّدة على المحامين - يكون من غير الميسور
في مصر التقرير بالاكتفاء بإحالة المحامي على مجلس التأديب، لأن المادة 86 التي تجيز
الحكم بالعقاب التأديبي تنص على أن يكون توقيعه في حال انعقاد الجلسة. فلذلك يتعين
الأخذ بأصل القاعدة المنصوص عليها بالمادة 89 وهي توقيع العقوبة البدنية على من
حصل منه التشويش أيا كان (2).
4 - المحامي لا يعتبر من
المأمورين الموظفين بالمحاكم
(officiers de justice) . وأقصى ما يمكن قوله
بالنسبة له هو أنه قد يؤدي عرضا وظيفة لدى المحكمة ويمكن في أثناء أدائه إياها أن
تنسحب عليه حماية المادة 89 مرافعات. وهذه الوظيفة العرضية هي دفاعه عن المتهمين
بجناية أو عن الفقراء المندوب هو عنهم من لجنة المعافاة إذ في الصورة الأولى لا
تصح المحاكمة بغير دفاعه وفي الصورة الثانية هو مكلف من قبل القانون بأداء مهمته.
5 - إن المادة 89 مرافعات
لم تشترط لإمكان المحاكمة الفورية على جنحة الجلسة إلا قيام الصفة الخاصة في المعتدى
عليه ولم تتعرّض لصفة المعتدى، فأياً كان هذا المعتدى فهو مأخوذ بحكمها. فالقاضي
وعضو النيابة والمحامي والكاتب والمحضر والفرد من الأفراد أي منهم دخل الجلسة
واعتدى على أي من المشار إليهم بالمادة المذكورة فللمحكمة معاقبته فورا بما يقضى
به قانون العقوبات. بل إن كاتب الجلسة ومحضرها ومترجمها إذا اعتدى أحد منهم على
زميله أو على أحد القضاة أو على هيئة المحكمة فلها عقابه أيضا في الحال. والمراد
"بالمحكمة" في هذا الصدد هيئة القضاة ومن يعتبرون جزءا متمما لهيئتهم
وهم النيابة في الجلسات الجنائية (3) وكتبة
الجلسة. وما دامت هيئة المحكمة تكون كاملة ففي استطاعتها هذه المحاكمة بحيث لو أن
المعتدى كان محضر الجلسة مثلا فلها أن تحكم عليه فورا بعد سماع دفاعه. بل لو كان
المعتدى هو كاتب الجلسة وكان إلى جواره كاتب آخر من كتاب الجلسات وأمكن أن يحل
فورا محل المعتدى لجازت تلك المحاكمة الفورية أيضا وكانت صحيحة.
6 - إن نصوص القانون المصري
لا تسمح بإخراج المحامين عن متناول المادة 89 بالنسبة لما يقع منهم بالجلسة في حق
المحكمة أو أحد أعضائها الموظفين بالمحكمة أو من يؤدى وظيفة بها.
7 - إن المادة 117 من
قانون العقوبات الأهلي التي تعاقب على إهانة القاضي أثناء تأديته وظيفته أو بسببها
وعلى إهانة المحكمة التي يؤلفها هذا القاضي أثناء انعقادها قد استعملت كلمة "الإهانة"
بمعناها العام الذي يشمل كل ما يوجه للموظف ماسا بشرفه أو كرامته أو إحساسه قذفا
أو سبا أو غيرهما. وإذن فمما يدخل في معنى الإهانة التي تعاقب عليها هذه المادة
إسناد الخطأ للمحكمة عقب إصدارها الحكم في قضية ما ولو كانت مخطئة في الواقع.
الوقائع
تتلخص هذه الدعوى في أن
حضرة الأستاذ على أفندي الحلواني "الطاعن" حضر أمام محكمة رشيد الجزئية
بصفته محاميا عن المدعي في القضية المدنية رقم 690 سنة 1928 المرفوعة من عبد
الحميد خميس ضدّ أحمد محمد الطوبجي التي كان محددا للتحقيق فيها جلسة يوم 22
ديسمبر سنة 1928، وبعد أن سمعت المحكمة شهادة من حضر من شهود الطرفين طلب حضرته
التأجيل لإعلان الشاهد الذي غاب من شهوده فلم تجبه إلى طلبه. ثم حكمت في موضوع
الدعوى برفضها. وعند ذلك قال الأستاذ المذكور ما نصه "أنا لسه ما ترافعتش
والمحكمة مخطئة في الحكم". وقد رأت المحكمة الجزئية أن هذه العبارة تعتبر
مهينة لها فوجهت إليه تهمة إهانة المحكمة أثناء انعقادها. وذلك بما لها من الحق
طبقا للمادة 89 من قانون المرافعات الأهلي. وطلبت منه الدفاع عن نفسه فقال إنه لم
يقصد الاعتداء على المحكمة ولا إهانة كرامتها بل قصد أنه حكم في موضوع الدعوى قبل
أن يترافع فيها. وبعد ذلك حكمت المحكمة المشار إليها حضوريا عملا بالفقرة الثانية
من المادة 117 من قانون العقوبات بتغريمه خمسين جنيها مصريا فقرر وكيله باستئناف
هذا الحكم في 26 ديسمبر سنة 1928، وعند نظر الاستئناف أمام محكمة إسكندرية
الابتدائية بهيئة استئنافية دفع حضرتا المحاميين الحاضرين مع المتهم دفعين فرعيين:
أوّلهما بطلان الحكم المستأنف لعدم سماع أقوال النيابة العمومية أمام محكمة أوّل
درجة قبل إصدار حكمها، وثانيهما أن المادة 89 من قانون المرافعات الأهلي لا تنطبق
في حالة وقوع جنحة من محام يباشر عمله أمامها في الجلسة. فأمرت المحكمة بضم هذين
الدفعين للموضوع. ثم بعد أن سمعت المرافعة قضت حضوريا بتاريخ 7 فبراير سنة 1929
بقبول الاستئناف شكلا وفى الموضوع برفض الدفعين الفرعيين وبتعديل الحكم المستأنف
وتغريم المتهم ألفين وخمسمائة قرش وإعفائه من المصاريف الجنائية.
فطعن حضرته على هذا الحكم
بطريق النقض والإبرام بتقرير في 9 فبراير سنة 1929 وقدّم حضرات المحامين عنه ثلاثة
تقارير بوجوه طعنه في 20 و24 و25 فبراير سنة 1929.
المحكمة
بعد سماع المرافعة
الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
حيث إن الطعن قدّم وبينت
أسبابه في الميعاد فهو مقبول شكلا.
عن الوجه الأوّل:
يقول الطاعن إن محكمة
رشيد المدنية بمحاكمته على ما أسندته إليه من تهمة الإهانة لهيئتها ومعاقبته على
هذه التهمة بالمادة 117 عقوبات بغير سماع أقوال النيابة قد أخلت بالإجراءات المهمة
للمحاكمات الجنائية المدوّنة بالمادة 237 فوقع حكمها باطلا. وإن محكمة إسكندرية
الاستئنافية قد أخطأت في رفضها الدفع بهذا البطلان فوقع حكمها المطعون فيه باطلا
كذلك. ويبين الطاعن وجهة نظره بقوله "إن المقصود من المادة 89 من قانون
المرافعات الأهلي - التي تجيز للمحكمة المدنية" "الحكم من تلقاء نفسها
على من تقع منه بالجلسة جنحة اعتداء على هيئتها أو على" "أحد أعضائها -
هو مجرّد النص على اختصاص المحكمة المدنية بهذه الجنح. كما" "أن المقصود
من عبارة من تلقاه نفسها الواردة بهذه المادة هو إجراء المحاكمة على"
"الفور بغير تحقيق لا إجراؤها على طريق المحاكمات الجنائية الواجب فيها
سماع" "أقوال النيابة، إذ وجوب سماع أقوال النيابة عند المحاكمة على هذه
الجنح مستفاد" "من أن النيابة هي صاحبة الدعوى العمومية في كل محاكمة
جنائية كما أنه منصوص" "عليه صراحة بالمادة 237 من قانون تحقيق الجنايات
الأهلي". ثم هو يؤكد صحة هذا النظر بما يلاحظ من أنه - مع خلو نص المادة 91
من قانون المرافعات الفرنسي (المقابلة للمادة 89 من قانون المرافعات الأهلي) وخلو
نص المادة 505 من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي (المقابلة للمادة 237 من قانون
تحقيق الجنايات الأهلي) من وجوب سماع أقوال النيابة عند المحاكمة على هذه الجنح -
فان الفقه الفرنسي قد ذهب إلى وجوب سماع أقوالها ويستشهد على ذلك بما جاء في جارو
فقرة 1215 من الجزء الثالث من شرح تحقيق الجنايات.
وحيث إن الواقع في القانون
الفرنسي والفقه والقضاء الفرنسيين هو أن المادة 89 من قانون المرافعات نصت على
الحكم بالحبس أربعا وعشرين ساعة على من يشوّش نظام الجلسة والمادة 91 منه على أن
من يهين أو يهدّد القضاة أو المأمورين القضائيين أثناء تأديتهم وظائفهم يقبض عليه
ويحبس فورا تنفيذا لأمر يصدره بذلك رئيس المحكمة أو القاضي المنتدب للتحقيق أو
النائب كل في الجهة المختص هو بحفظ النظام فيها ثم يستجوب المعتدى في أربع وعشرين
ساعة وتحكم المحكمة عليه بعد اطلاعها على المحضر المثبت لوقوع الجريمة بالحبس مدة
لا تزيد عن شهر أو بالغرامة التي لا تنقص عن خمسة وعشرين فرنكا ولا تزيد عن
ثلاثمائة. ثم جاءت المادة 505 من قانون تحقيق الجنايات فنصت فيما نصت فيه على أنه
"إذا صاحب التشويش" "الحاصل أثناء الجلسة سب أو إيذاء يستوجب
معاقبة الجاني بعقوبات أشدّ من" "عقوبة الحبس أربعا وعشرين ساعة تحكم
المحكمة التي وقعت هذه الجريمة أمامها" "بهذه العقوبات في حال انعقاد
الجلسة وبمجرّد إثبات حصول الواقعة". ثم أتت المادة 222 وما بعدها من قانون
العقوبات بعقوبات مختلفة على جرائم الاعتداء أثناء انعقاد الجلسة على القضاة وغير
القضاة - ولهذا تساءل الفقهاء الفرنسيون عما اذا كانت المادة 505 السابقة الذكر
والمواد 222 وما بعدها من قانون العقوبات قد نسخت المادة 91 من قانون المرافعات أم
لا. فأجمعوا على وقوع هذا النسخ ورأوا أنه قد أصبح حقا للمحكمة المدنية أن تحكم
على الفور ومن تلقاء نفسها تطبيقا للمادة 505 فيما يقع من الاعتداء بجلستها
وبالعقوبات المبينة بالمواد 222 وما بعدها من قانون العقوبات. ثم جرى القضاء الفرنسي
على الأخذ بهذا النظر وإعطاء هذه السلطة سلطة الحكم فيما يقع من جنح الاعتداء
أثناء الجلسات لجميع المحاكم حتى المحاكم الاستثنائية منها التي لا تشهدها النيابة
العمومية كقاضي المصالحات والمحاكم التجارية والمحاكم الإدارية ومجلس شورى الدولة
والمجلس الأعلى المختص بمحاكمة أعضاء البرلمان (Haute Cour de la justice). وذلك محافظة على كرامة القضاة ومجالس القضاء (راجع نبذة 332 من الجزء
الثاني من دالوز براتيك وفقرة 743 و771 جزء أوّل من كتاب بابون (pabon) في مؤلفه الذي وضعه بعنوان قاضي المصالحات وحكم محكمة النقص
الصادر في 26 يناير سنة 54 بمجموعة دالوز الدورية سنة 55 - 1 - 431 و432 وحكم
محكمة النقض والإبرام الصادر من دوائرها المجتمعة في 5 يونيه سنة 1855 دالوز
الدورية 55 - 1 - 429 و431). أما ما ذكره جارو بالفقرة 1215 من الجزء الثالث من
ضرورة سماع طلبات النيابة في المحاكمة على الجرائم التي تقع أثناء انعقاد الجلسة
فيخصصه بالبداهة ما قرّره من قبل بالعبارة الأولى من الفقرة 1213 - التي هي أصل في
الباب وتلك فرع عنها - من وجوب الأخذ بالقواعد العامة للمحاكمات الجنائية ما دامت
تتلاءم مع طبيعة المحاكمة الفورية. ومقتضى هذا التخصيص أن يحمل كلامه في الفقرتين
المذكورتين على سماع أقوال النيابة عند الإمكان كأن تكون الجلسة مما لا تنعقد
صحيحا إلا بحضورها جلسات الجنح والمخالفات والجلسات المدنية التي تحضرها خصما
إضافيا (والنيابة العمومية عندهم خصم إضافي في كافة القضايا المدنية التي هي خصم إضافي
فيها لدى المحاكم المختلطة المصرية ثم في أنواع أخرى من القضايا المدنية). ومما
يلاحظ في هذا الصدد أن المادة 505 من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي تتسع عندهم
لمثل هذا النظر إذ هي وردت في باب عنوانه "الجنح الواقعة اعتداء على الهيئات
المشكلة". وقد خلت من إيجاب سماع أقوال النيابة في المحاكمة على تلك الجنح
وجاء خلوها من ذلك مقصودا حتى إذا كانت الإهانة وقعت في جلسة جنائية تحضرها
النيابة سمعت أقوالها وإن كانت وقعت في جلسة لا تحضرها تمت المحاكمة بغير سماع
أقوالها.
وحيث إنه يبين مما تقدّم
أن احتجاج الطاعن بالفقه والقضاء الفرنسيين لا يجدى.
وحيث إن الشارع المصري قد
استفاد حقا مما كتبه الفقهاء شرحا للمادة 91 من قانون المرافعات الفرنسي والمادة
505 من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي وما اتصل بهما من المواد الأخرى فجعل نصوص
محاكمة المحاكم المدنية على ما يقع بجلساتهما من التشويش وجنح الاعتداء عليها
وافية لا تتعارض مع قانوني العقوبات وتحقيق الجنايات. فنص في قانون المرافعات
بالمادة 89 على اختصاص المحاكم المدنية بإصدار الحكم بالحبس أربعا وعشرين ساعة على
التشويش وبإصدار الحكم بالعقوبة على من تقع منه جنحة بالجلسة سواء أكانت في حق
المحكمة أو في حق أحد أعضائها بغير بيان لهذه العقوبة كيما يرجع في قدرها إلى نصوص
قانون العقوبات كما نص على أنها من تلقاء نفسها تحكم في ذلك على الفور (على خلاف
نص المادة 91 من قانون المرافعات الفرنسي في الأمرين) وجعل المادة 237 من قانون
تحقيق الجنايات خاصة بالمحاكمة السريعة على هذه الجرائم أمام المحاكم الجنائية.
ولأن النيابة حاضرة دائما في هذه المحاكم الجنائية أوجب بهذه المادة سماع أقوالها
وهذا على خلاف نص المادة 89 من قانون المرافعات التي أتت خالية من ذلك. وقد وضع
المادة 237 المذكورة في الباب الذي عنوانه "في الأحكام" "التي يجوز
تطبيقها في جميع محاكم المواد الجنائية" فدل هذا الوضع على أن سماع أقوال
النيابة مقصور على المحاكمة الفورية أمام المحاكم الجنائية وعلى أن ليس من الوجوب
اتباع هذا الإجراء في تلك المحاكمات أمام المحاكم المدنية.
وحيث إنه لا يمكن الأخذ
بما يقوله الطاعن من أن معنى "من تلقاء نفسها" هو الحكم على الفور بغير
تحقيق. لأن معنى الفورية في تلك المحاكمات الاستثنائية قد استفيد من عبارات أخرى:
فهو في المادة 86 مستفاد من قولها "في حال" "انعقاد الجلسة"
وفى الشطر الأول من المادة 89 من عبارة "ينفذ حكمها في الحال" ومن كون
هذا الشطر خاصا بحفظ النظام وبمنع تشويشه فإجراءاته بطبيعة الحال فورية وفي باقي
المادة المذكورة من قول المادة 90 "الجنح التي لم يحكم فيها" "حال
انعقاد الجلسة". وهذا المعنى يقابله بالنسخة الفرنسية (séance ténante). أما
عبارة "من تلقاء نفسها" فيقابلها بالفرنسية لفظ (ďoffice)، وهذا اللفظ وإن كان ورد بالفقرة الثانية من المادة إلا أنه لا
خلاف في انسحابه على ما بالفقرة الأولى كما لا يصح النزاع في أنه يفيد بدلالتيه
الوضعية والاصطلاحية معنى تخويل المحكمة المدنية سلطة المحاكمة والحكم بلا طلب من
أحد. وكان جديرا بالشارع تخويلها هذا الحق تمكينا لها من حفظ كرامة القضاء
بالإسراع في محاكمة من يعتدى عليه وإيقاع العقاب به فورا أثناء انعقاد الجلسة.
وحيث إن الذي يقطع في صحة
محاكمة المحاكم المدنية على ما يقع أثناء جلساتها بغير سماع أقوال النيابة أن
الشارع المصري عند وضع القانون الأهلي عمد إلى المادتين 63 و66 من قانون المرافعات
المختلط فحذف منهما عبارة "بعد سماع" "أقوال النيابة" ثم
جعلهما مادتي 86 و89 من قانون المرافعات الأهلي. ولا يمكن حمل هذا الحذف على السهو
لأنه حصل في مادتين مختلفتين، وحصوله كذلك يدل على تعمده. والعلة في الحذف أن
النيابة مشخصة دائما في المحاكم المدنية المختلطة (لكونها خصما إضافيا في كثير من
القضايا) فكان مقتضى وجودها عدم المساس بأصول المحاكمات الجنائية وإيجاب سماع
أقوالها ما دامت هى حاضرة إذ لا يتنافى سماعها مع مقتضى الإسراع الواجب في المحاكمة.
أما في المحاكم المدنية الأهلية فالنيابة غير حاضرة بجلساتها ولذلك حذف النص في المادتين
السابقتي الذكر حتى لا تتعطل المحاكمة إلى حين استدعائها وسماع أقوالها. فهذا
الحذف المقصود دليل قاطع على عدم صحة ما ذهب إليه الطاعن من وجوب سماع أقوال
النيابة أمام المحاكم المدنية الأهلية.
وحيث إن هذا الذي تراه
المحكمة الآن قد رجع إليه الطاعن في مذكرته الأخيرة مصرحا بأن سماع أقوال النيابة
العامة غير واجب في مثل هذه المحاكمة.
وحيث إنه ينتج من ذلك أن
محاكمة الطاعن أمام محكمة رشيد المدنية قد جرت على ما يجب أن تجرى عليه قانونا من
الناحية التي يتظلم منها في هذا الوجه وإذن يتعين رفضه.
عن الوجه الثاني:
وحيث إن الطاعن يذهب في الوجه
الثاني من طعنه إلى أن محكمة رشيد المدنية قد حاكمته على ما نسبته إليه من إهانتها
وقد كان يقوم أمامها بواجب الدفاع عن موكله. والمحامي إذا قام بهذا الواجب يعتبر
قانونا أنه من أرباب الوظائف بالمحكمة إذا صدر منه ما يستوجب المؤاخذة حوسب عليه
أمام مجلس التأديب التابع له ولا وجه لمعاقبته بقانون العقوبات. ويستشهد في ذلك
بنص المادة 86 من قانون المرافعات وبما جرى عليه الفقه والقضاء بفرنسا في تفسير
المادتين 89 و91 من قانون المرافعات المقابلتين للمادتين 86 و89 من المرافعات الأهلي
- يذهب الطاعن إلى ذلك ويرتب عليه أن حكم محكمة رشيد قد وقع باطلا وأن محكمة إسكندرية
الاستئنافية بتأييدها إياه رغم الدفع ببطلانه قد بطل حكمها المطعون فيه كذلك.
وحيث إن الفقه والقضاء
الفرنسيين قد اعتبرا المحامي وهو يقوم بواجب الدفاع بالجلسة من أرباب الوظائف
التابعين للمحكمة وقت انعقادها كما اعتبرا المادة 90 من قانون المرافعات فيما جاءت
به من جواز توقيع الحكم بوقف أرباب الوظائف مدّة لا تتجاوز الشهر مخصصة للمادة 89
التي نص فيها على حبس من يحصل منهم تشويش بالجلسة أربعا وعشرين ساعة. وقد أكد هذا
التخصيص بفرنسا ما أعطى لمحاكمها الابتدائية والاستئنافية - بالمادة 103 من قانون
3 مارس سنة 1808 المعدّلة بقانون 10 مارس سنة 98 والمادة 41 من لائحة المحاماة
الصادرة في 20 يونيه سنة 1920 - من سلطة تأديب أرباب هذه الوظائف ومنهم المحامون
بتوقيع الجزاءات التأديبية عليهم إذا أخلوا بيمين حرفتهم التي حلفوها عند بدء
اشتغالهم بها.
وحيث إنه مع افتراض أنه
يمكن اعتبار المحامي في مصر أثناء قيامه بواجب الدفاع أمام المحكمة من أرباب
الوظائف بها ومع افتراض أنه يمكن اعتبار المادة 86 من قانون المرافعات الأهلي
مخصصة للمادة 89 إذا كان الذي وقع من المحامي أثناء انعقاد الجلسة مجرّد تشويش -
إنه مع افتراض ذلك فإن خلو لوائح صناعة المحاماة من نص كنص المادة (103) السابقة
الذكر أو كنص المادة 41 من لائحة المحاماة بفرنسا الصادرة في 20 يونيه سنة 1920
يخوّل للمحاكم الابتدائية الاستئنافية سلطة توقيع عقوبة تأديبية محدّدة على
المحامين - هذا الخلو يجعل من غير الميسور في مصر أن تذهب هذه المحكمة إلى ما ذهب
إليه الطاعن من الاكتفاء بإحالة المحامي على مجلس التأديب بالكيفية المبينة بقانون
نمرة 26 سنة 1912 المعدل بقانون رقم 26 سنة 1929، ذلك لأن المادة 86 التي تجيز
الحكم بالعقاب التأديبي تنص على أن يكون توقيعه في حال انعقاد الجلسة. فإذا ما
امتنع العمل بهذا الترخيص لعدم تنظيم أحكامه وجب الأخذ بأصل القاعدة المنصوص عليها
بالمادة 89 وهى توقيع العقوبة البدنية على من حصل منه التشويش أيا كان. فالقول
بالاكتفاء بإحالة المحامي على مجلس التأديب العادي لا يتمشى مع حكم المادة 86
السابقة الذكر بل هو مفوّت لغرض الشارع من المحاكمة والحكم على الفور.
وحيث إن الواقع أن ما
يقوله الطاعن من أن المحامي بمصر يصح اعتباره قانونا من المأمورين الموظفين
بالمحاكم (officiers de justice) هو قول في غير محله؛ لأن لائحة ترتيب المحاكم
الأهلية لا تعدّ من المأمورين الموظفين بالمحاكم إلا موظفي الحكومة من كتبة
ومحضرين ومترجمين. ولأن أقصى ما يمكن قوله بالنسبة للمحامي هو أنه قد يؤدّي عرضا
وظيفة لدى المحكمة، ويمكن في أثناء أدائه إياها أن تنسحب عليه حماية المادة 89،
وهذه الوظيفة العرضية هي دفاعه عن المتهمين بجناية أو عن الفقراء المندوب هو عنهم
من لجنة المعافاة، إذ في الصورة الأولى لا تصح المحاكمة بغير دفاعه وفي الصورة
الثانية هو مكلف من قبل القانون بأداء مهمته. على أن الطاعن في المذكرة الأخيرة قد
تنازل أيضا عن القول على إطلاقه بأن المحامي هو من المأمورين الموظفين بالمحكمة.
وحيث إنه بقطع النظر عما
تقدّم، ومع فرض التسليم أيضا بأن المحامين هم من المأمورين الموظفين بالمحاكم (officiers de justice) كما تعبر المادة 89، أو أنهم من أرباب الوظائف بالمحكمة (individis remplissant une fonction près le tribunal) كما تعبر المادة 86، فإن الحكم المطعون فيه ليس
صادرا في حالة تشويش مما تعاقب عليه العبارة الأولى من الفقرة الأولى من المادة 89
بالحبس أربعا وعشرين ساعة، ومما كان يصح القول فيه بجواز توقيع عقوبة تأديبية عملا
بالمادة 86، بل هو صادر في جنحة مما تشير إليه العبارة الثانية من الفقرة الأولى
من المادة 89. فكل البحث يجب إذن قصره على معرفة ما "إذا كان المأمور الموظف
بالمحكمة" أو "أحد أرباب الوظائف بالمحكمة" يرتكب بالجلسة جنحة في حق
المحكمة أو أحد أعضائها أو مأمور آخر موظف بالمحكمة عامل بجلستها، هل هذا المأمور
المرتكب للجريمة يسوغ للمحكمة تطبيق المادة 89 عليه ومعاقبته فورا بما يستحقه
بموجب نصوص قانون العقوبات أم لا؟ إن المادة 89 لم تشترط لإمكان المحاكمة الفورية
على جنحة الجلسة إلا قيام الصفة الخاصة في المعتدى عليه، ولم تتعرض لصفة المعتدى،
فأيا كان هذا المعتدى فهو مأخوذ بحكمها. وكل ما يقال غير ذلك فهو تحكم في التفسير،
فإن لفظ "من" في قول المادة "على من تقع منه جنحة بالجلسة" هو
من صيغ العموم، فهو شامل لكل إنسان تقع منه الجنحة، فتخصيصه بمن عدا الموصوفين
بالمادة هو تخصيص بلا مخصص. وإذن فالقاضي وعضو النيابة والمحامي والكاتب والمحضر
والفرد من الأفراد أي منهم دخل الجلسة واعتدى على أي من المشار إليهم بالمادة
المذكورة فللمحكمة معاقبته فورا بما يقضى به قانون العقوبات. بل إن كاتب الجلسة
ومحضرها ومترجمها إذا اعتدى أحد منهم على زميله أو على أحد القضاة أو على هيئة
المحكمة فلها عقابه أيضا في الحال. والمراد "بالمحكمة" في هذا الصدد
هيئة القضاة ومن يعتبرون جزءا متمما لهيئتهم وهم النيابة في الجلسات الجنائية
وكتبة الجلسة. وما دامت هيئة المحكمة تكون كاملة ففي استطاعتها هذه المحاكمة بحيث
لو أن المعتدى محضر الجلسة مثلا فلها أن تحكم عليه فورا بعد سماع دفاعه؛ بل لو كان
المعتدى هو كاتب الجلسة وكان إلى جواره كاتب آخر من كتاب الجلسات وأمكن أن يحل
فورا محل المعتدى لجازت تلك المحاكمة الفورية أيضا وكانت صحيحة.
وحيث إنه ينتج من كل ما
تقدم أن نصوص القانون المصري لا تسمح بإخراج المحامين عن متناول المادة 89 حتى مع
فرض التسليم بأنهم من المأمورين الموظفين بالمحكمة أو ممن يؤدون وظيفة بالمحكمة.
فهذا الوجه مرفوض.
عن الوجه الثالث:
وحيث إن الطاعن يدعى في الوجه
الثالث أن التهمة التي أسندت له على ما أثبته الحكم المطعون فيه وهى "أنه
أهان حضرة قاضي محكمة رشيد الجزئية بأن قال له:" "(أنا لسه مترافعتش
والمحكمة مخطئة في الحكم) عقب نطق القاضي بالحكم في القضية" "المدنية
نمرة 690 سنة 1928 رشيد" لا تقع تحت نص المادة 117 من قانون العقوبات التي طبقتها
محكمتا أوّل وثاني درجة، وحجته أن هذا العبارة لم توجه لشخص القاضي الذي أصدر
الحكم وإنما وجهت لهيئة المحكمة، فهي لا تكون إلا قذفا يجرى عليه ما عرف من أحكام
القذف من جواز إقامة الإثبات على صحة ما أسند من وقائعه وعدم مؤاخذة القاذف إلا
إذا لم يثبت صحة ما قذف به. ويستند في هذا القول إلى ما نقله عن جارسون شرحا
للمادة 222 من قانون العقوبات الفرنسي المقابلة للمادة 117 من قانون العقوبات الأهلي.
وحيث إنه لو صح أن بعض
شراح قانون العقوبات الفرنسي يفهم من نص المادة 222 أن لا إهانة عندهم إلا اذا
وقعت على شخص الموظف، وأن الاعتداء على هيئة المحكمة لا يكون إلا قذفا، فان المادة
117 من قانون العقوبات الأهلي التي تعاقب على إهانة القاضي أثناء تأدية وظيفته أو
بسببها وعلى إهانة المحكمة التي يؤلفها هذا القاضي أثناء انعقادها قد استعملت كلمة
"الإهانة" بمعناها العام الذي يشمل بصرف النظر عن العلنية كل ما يوجه
للموظف ماسا بشرفه أو كرامته أو إحساسه، قذفا أو سبا أو غيرهما.
وحيث إن في إسناد الخطأ
للمحكمة عقب إصدارها الحكم في قضية مّا ولو كانت مخطئة في الواقع إهانة لها تقع
تحت نص المادة 117 عقوبات، فهذا الوجه مرفوض.
عن الوجه الرابع:
حيث إن الطاعن يزعم في الوجه
الرابع أن المحكمة الاستئنافية استخلصت سوء نيته في توجيه العبارة التي عدّتها
إهانة من وقوع هذا التوجيه بعد صدور الحكم في موضوع القضية المدنية، وهى مخطئة في ذلك
لأن الثابت بمحضر الجلسة أن هذا الحكم إنما صدر بعد الحكم على الطاعن بالغرامة
عقوبة على هذه الإهانة. وهذا الخطأ يعيب الحكم ويوجب نقضه.
وحيث إن الثابت بمحضر
الجلسة أن المحكمة رفضت التأجيل (الذي طلبه الطاعن)؛ وبعد أن أصدرت الحكم برفض
الدعوى قال الحلواني افندي: "أنا لسه ما ترافعتش والمحكمة مخطئة
في الحكم"، وأن المحكمة اعتبرت هذا اعتداء على هيئتها ووجهت التهمة له وطلبت
منه المرافعة فقال: "أنا لم أقصد مطلقا الاعتداء على هيئة المحكمة ولا إهانة كرامتها وأنا أقصد أنه حكم قبل أن أترافع في الموضوع".
وهذا السياق دال بذاته على توجيه الطاعن الخطأ لمحكمة رشيد بعد إصدارها الحكم في موضوع
القضية المدنية؛ وإذن فهذا الوجه مرفوض.
وحيث إن هذه المحكمة بعد
أن بينت بأسباب هذا الحكم ما للمحاكم العادية من سلطة المعاقبة على ما يقع أثناء
انعقادها على هيئتها أو بجلساتها من جنح الاعتداء أيا كان المعتدى محاميا أو غير
محام تأسف على أن لا يكون لهذه المحاكم سلطة تأديب على المحامين في حدود متواضعة
تنصرف بها عن تطبيق نصوص قانون العقوبات عليهم بسبب ما يصدر منهم بالجلسة من
الأقوال التي يعدها القضاة مهينة لهم - تلك النصوص التي لا يجدون لحفظ كرامتهم من
وسيلة أخرى غير اللجوء إليها مع شدّة وقعها فيطبقونها وهم لما يفعلون كارهون.
ولهذه الأسباب
حكمت المحكمة بقبول الطعن
شكلا وبرفضه موضوعا.
(1) القواعد المدونة هنا مأخوذة من الحكم بحسب أصل ترتيبه. وهذا الترتيب
قد اتبعت فيه المحكمة ترتيب أوجه الطعن. وهذا هو السبب فيما يوجد في معانى القواعد
من التكرير.
(2) أبدت محكمة النقض في هذا الحكم أسفها على أن لا
يكون للمحاكم العادية على المحامين سلطة تأديب في حدود متواضعة تستغني بها عن
تطبيق نصوص قانون العقوبات عليهم بسبب ما يصدر منهم بالجلسات مما يعتبره القضاة
مهينا لهم تلك النصوص التي لا يجدون لحفظ كرامتهم من وسيلة أخرى غير اللجوء إليها
مع شدّة وقعها فيطبقونها وهم لما يفعلون كارهون.
(3) يلاحظ أن الحكم صدر قبل إنشاء محكمة النقض المدنية
التي تحضر النيابة جلساتها.