الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 11 ديسمبر 2018

دستورية التنظيم التشريعي لحق الموظف المعار لمدة تزيد على 4 سنوات في الترقية وتحديد أقدميته عند عودته من الإعارة


الدعوى رقم 104 لسنة 35 ق "دستورية" جلسة 3 / 11 / 2018
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
      بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة 2018م، الموافق الخامس والعشرون من صفر سنة 1440 هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى  رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار وسعيد مرعى عمرو والدكتور عادل عمر شريف ورجب عبد الحكيم سليم وبولس فهمى إسكندر ومحمود محمد غنيم     نواب رئيس المحكمة
وحضور السيدة المستشار / شيرين حافظ فرهود   رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع   أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 104 لسنة 35 قضائية "دستورية"، بعد أن أحالت محكمة القضاء الإداري بالمنوفية بحكمها الصادر بجلسة 24/3/2013، ملف الدعوى رقم 2614 لسنة 4 قضائية.
المقامة من
محمد موسى سليمان أبوشادى
ضــــد
1- محافــظ المنوفيــة
2- وكيل وزارة الصحة بالمنوفية

الإجـراءات
بتاريخ العاشر من يونيو سنة 2013، ورد إلى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 2614 لسنة 4 قضائية، بعد أن حكمت محكمة القضاء الإداري بالمنوفية بجلسة 24/3/2013،بوقف الدعوى وإحالة أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليـا للفصل في دستورية نص المادة (58) من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978 فيما أغفله من تنظيم الحق في الاحتفاظ بترتيب الأقدمية والحق في الترقية المطلقة أو بالرسوب الوظيفي للعامل الذى يشغل وظيفة تكرارية ومرخصًا له بإعارة للعمل في وظيفة تتطابق طبيعتها مع طبيعة أعمال وظيفته بالداخل وتجاوزت مدة إعارته أربع سنوات
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
      حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – في أن المدعى في الدعوى الموضوعية كان قد أقام الدعوى رقم 2614 لسنة 4 قضائية، أمام محكمة القضاء الإداري بالمنوفية، ضد محافظ المنوفية وآخر، طالبًا الحكم بإلغاء القرار رقم 2296 لسنة 1995 فيما تضمنه من تخطيه في الترقية للفئة الثانية اعتبارًا من 1/12/1992، وإلغاء القرار رقم 1238 لسنة 2002 فيما تضمنه من تخطيه في الترقية للفئة الأولى اعتبارًا من 1/5/2002، وما يترتب على ذلك من آثار، وذكر شرحًا لدعواه أنه حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1976 وعين بموجبه بوظيفة طبيب بشرى بأحد المستشفيات التابعة لمديرية الشئون الصحية بالمنوفية اعتبارًا من 1/3/1976، وقد رخصت له جهة الإدارة بإعارة للعمل بوظيفة طبيب بأحد مستشفيات المملكة العربية السعودية خلال الفترة من 3/3/1982، حتى 2/9/2001، وبعد عودته من الإعارة تسلم عمله، وتم رفع الدرجة المالية لوظيفته - طبقًا لنظام الرسـوب الوظيفي - إلى الدرجة الثانية اعتبارًا من 1/5/2002، ثم رفعت إلى الدرجة الأولى اعتبارًا من 1/7/2008، وقد علم أن زملاءه الأحدث منه سبقوه في الترقية إلى هاتين الدرجتين، وإلى درجة كبير وتمت ترقيتهم بالأقدمية المطلقة وبالرسوب الوظيفي، فتظلم من ذلك، فأجابته جهة الإدارة بأن سبب تأخر ترقيته إنما يرجع إلى تجاوز مدة إعارته أربع سنوات، ولذلك أعيد ترتيب أقدميته بالدرجة الثالثة، فسبقه زملاؤه الأحدث منه في ترتيب الأقدمية في هذه الدرجة، وذلك تطبيقًا للحكم الوارد بنص المادة (58) من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978. وإذ تراءى للمحكمة عدم دستورية نص المادة (58) من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978 فيما أغفله من تنظيم الحق في الاحتفاظ بترتيب الأقدمية والحق في الترقية المطلقة أو بالرسوب الوظيفى، للعامل الذي يشغل وظيفة تكرارية، ومرخصًا له بإعارة للعمل في وظيفة تتطابق طبيعتها مع طبيعة أعمال وظيفته بالداخل، وتجاوزت مدة إعارته أربع سنوات، لمخالفتها المواد (8، 9، 24، 31، 33، 34، 64، 74) من الدستور الصادر سنة 2012.
      وحيث إن المادة (58) من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978 تنص على أن "يجوز بقرار من السلطة المختصة بالتعيين بعد موافقة العامل كتابة إعارته للعمل في الداخل أو الخارج ويحدد القرار الصادر بالإعارة مدتها وذلك في ضوء القواعد والإجراءات التي تصدرها السلطة المختصة.
      ويكون أجر العامل بأكمله على جانب الجهة المستعيرة، ومع ذلك يجوز منحه أجرًا من حكومة جمهورية مصر العربية سواء كانت الإعـارة في الداخل أو الخارج وذلك بالشروط والأوضاع التي يحددها رئيس الجمهورية.
      وتدخل مدة الإعارة ضمن مدة اشتراك العامل في نظام التأمين الاجتماعي واستحقاق العلاوة والترقية، وذلك مع مراعاة أحكام القانون رقم 79 لسنة 1975 بإصدار قانون التأمين الاجتماعي والقوانين المعدلة له.
      ومع ذلك فإنه لا يجوز في غير حالات الإعارة التي تقتضيها مصلحة قومية عليا يقدرها رئيس مجلس الوزراء ترقية العامل إلى درجات الوظائف العليا إلا بعد عودته من الإعارة كما لا تجوز إعارة أحد شاغلي تلك الوظائف قبل مضى سنة على الأقل من تاريخ شغله لها.
      وفى غير حالة الترقية لدرجات الوظائف العليا لا يجوز ترقية العامل الذي تجاوز مدة إعارته أربع سنوات متصلة، وتعتبر المـدة متصلة إذا تتابعت أيامها أو فصل بينها فاصل زمني يقل عن سنة.
      وتحدد أقدمية العامل عند عودته من الإعارة التي تجاوز المدة المشار إليها في الفقرة السابقة على أساس أن يوضع أمامه عدد من العاملين مماثل للعدد الذي كان يسبقه في نهاية هذه المدة أو جميع الشاغلين لدرجة الوظيفة عند عودته أيهما أقل".
      وحيث إن المصلحة في الدعوى الدستورية - وهى شرط لقبولها - مناطها – وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع، ويستوى في شأن توافر المصلحة أن تكون الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة، والمحكمة الدستورية العليا هى وحدها التي تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعاوى الدستورية للتثبت من شروط قبولها، بما مؤداه أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا لا تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل يتعين أن يكون الحكم في المطاعن الدستورية لازمًا للفصل في النزاع المثار أمام محكمة الموضوع، فإذا لم يكن للفصل في دستورية النصوص التى ثارت بشأنها شبهة عدم الدستورية لدى محكمة الموضوع انعكاس على النزاع الموضوعي؛ فإن الدعوى الدستورية تكون غير مقبولة. متى كان ذلك، وكان النزاع المردد أمام محكمة الموضوع ينصب على طلب المدعى في الدعوى الموضوعية إلغاء القرارين رقمي 2296 لسنة 1995، 1238 لسنة 2002 فيما تضمناه من تخطيه في الترقية للدرجة الثانية والأولى على التوالي، والاحتفاظ له بترتيب أقدميته في الدرجة الثالثة التخصصية وذلك خلال فترة إعارته من 3/3/1982، وحتى 2/9/2001، مع الاعتداد بهذا الترتيب فيما تم إجراؤه من ترقيات لزملائه الأحدث منه سواء عن طريق الترقية بالأقدمية المطلقة أو الرسوب الوظيفي. وكان نصا الفقرتين الأخيرتين من النص المحال هما الحاكمين لترقية الموظف المعار للخارج الذى تجاوزت مدة إعارته أربع سنوات متصلة لغير درجات الوظائف العليا، وتحديد أقدميته عند عودته من الإعارة، على أساس أن يوضع أمامه عدد من الموظفين مماثل للعدد الذى كان يسبقه في نهاية مدة السنوات الأربع، أو جميع الموظفين الشاغلين لدرجة الوظيفة عند عودته أيهما أقل، فإن المصلحة تكون متحققة بالنسبة لهاتين الفقرتين في الحدود المتقدمة، في مجال انطباقهما على الإعارة للخارج، لما للقضاء في دستوريتهما من أثر وانعكاس على الطلبات المطروحة على محكمة الموضوع وقضاء المحكمة فيها، دون غيرها من الأحكام التي تضمنتها الفقرتان المار ذكرهما.



      ولا ينال مما تقدم إلغاء المشرع قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978 بموجب القانون رقم 81 لسنة 2016 بإصدار قانون الخدمة المدنية، ذلك أن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن إلغاء النص التشريعي لا يحول دون الطعن عليه ممن طبق عليه، أو إحالته للمحكمة الدستورية العليا للفصل في دستوريته.
      وحيث إن الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة تستهدف أصلاً صون الدستور القائم، وحمايته من الخروج على أحكامه التى تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة، وكان النص المحال قد استمر العمل بأحكامـه بعد صـدور الدستور الحالي حتى يـوم الثاني من شهر نوفمبر سنة 2016 تاريخ العمل بقانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016، والذى ألغى بموجب نص المادة الثانية منه قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978، ومن ثم فإن حسم أمر دستورية النص المحال سوف يتم في ضوء أحكام الدستور القائم.
      وحيث إن الدستور قد حرص في المادة (4) منه على النص على مبدأ تكافؤ الفرص، باعتباره من الركائز الأساسية التي يقوم عليها بناء المجتمع، والحفاظ على وحدته الوطنية، ومن أجل ذلك جعل الدستور بمقتضى نص المادة (9) منه تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز التزامًا دستوريًّا على عاتق الدولة، لا تستطيع منه فكاكًا. وقوام هذا المبدأ - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن الفرص التي كفلها الدستور للمواطنين فيما بينهم تفترض تكافؤها، وتدخل الدولة إيجابيًّا لضمان عدالة توزيعها بين من يتزاحمون عليها، وضرورة ترتيبهم بالتالي فيما بينهم على ضوء قواعد يمليها التبصـــر والاعتدال؛ وهو ما يعنى أن موضوعية شروط النفاذ إليها، مناطها تلك العلاقة المنطقية التي تربطها بأهدافها، فلا تنفصل عنها.
      وحيث إن الدستور قد اعتمد كذلك بمقتضى نص المادة (4) منه مبدأ المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص، أساسًا لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه على كفالة تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، وفى الحقوق والحريات والواجبـات العامة، دون تمييز بينهـــم لأى سبب، إلا أن ذلك لا يعنى - وفقًا لما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزها القانونية معاملة قانونية متكافئة، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها، ذلك أن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية ولا ينطوي بالتالي على مخالفة لنصى المادتين (4، 53) المشار إليهما، بما مؤداه أن التمييز المنهى عنه بموجبها هو ذلك الذى يكون تحكميًّا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى تحقيقها من وراء هذا التنظيـم.
      وحيث إن من المقرر كذلك أن النصوص القانونية التي ينظم بها المشرع موضوعًا محددًا لا يجوز أن تنفصل عن أهدافها، ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يصدر عن فراغ، ولا يعتبر مقصودًا لذاته، بل مرماه إنفاذ أغراض بعينها يتوخاها، وتعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التى أقام المشرع عليها هذا التنظيم باعتباره أداة تحقيقها، وطريق الوصول إليها.
      وحيث إن الدستور قد عُنى في المادة (14) منه بكفالة حق المواطنين في شغل الوظائف العامة على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة، وجعل شغل الوظائف العامة تكليفًا للقائمين عليها لخدمة الشعب، وناط بالدولة كفالة حقوق شاغلي الوظائف العامة وحمايتهم، وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب.
      وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ويحدد السلطات العامة ويرسم لها وظائفها ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرر الحريات والحقوق العامة ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ومن ثم فقد تميز الدستور بطبيعة خاصة تضفى عليه السيادة والسمو بحسبانه كفيل الحريات وموئلها وعماد الحريات الدستورية وأساس نظامها، وحق لقواعده أن تستوى على القمة من البناء القانوني للدولة وتتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام باعتبارها أسمى القواعد الآمرة التي يتعين على الدولة التزامها في تشريعاتها وفى قضائها وفيما تمارسه من سلطات تنفيذية، دون أية تفرقة أو تمييز في مجال الالتزام بها، بين السلطات العامة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وإذ كان خضوع الدولة بجميع سلطاتها لمبدأ سيادة الدستور أصلاً مقررًا وحكمًا لازمًا لكل نظام ديمقراطي سليم، فإنه يتعين على كل سلطة عامة، أيًّا كان شأنها وأيًّا كانت وظيفتها وطبيعة الاختصاصات المسندة إليها، أن تنزل على قواعد الدستور ومبادئه وأن تلتزم حدوده وقيوده، فإن هى خالفتها أو تجاوزتها شاب عملها عيب مخالفة الدستور، وخضعت - متى انصبت المخالفة على قانون أو لائحة - للرقابة القضائية التي عهد بها الدستور إلى المحكمة الدستورية العليا بوصفها الهيئة القضائية العليا التي اختصها دون غيرها بالفصل في دستورية القوانين واللوائح بغية الحفاظ على أحكام الدستور وصونها وحمايتها من الخروج عليها.

      وحيث إن الدساتير المصرية المتعاقبة قد حرصت جميعها - منذ دستور سنة 1923 - على تقرير الحريات والحقوق العامة في صلبها قصدًا من المشرع الدستوري أن يكون النص عليها في الدستور قيدًا على المشرع العادي فيما يسنه من قواعد وأحكام وفى حدود ما أراده الدستور لكل منها، فإذا خرج المشرع فيما يقرره من تشريعات على هذا الضمان الدستوري، وعن الإطار الذى عينه الدستور له، بأن قيد حرية أو حقًّا أو أهدر أو انتقص من أيهما تحت ستار التنظيم الجائز دستوريًّا، وبالمخالفة للضوابط الحاكمة له، وقع عمله التشريعي في حومة مخالفة أحكام الدستور.
وحيث إن المواثيق الدولية قد حفلت بالنص على حق الفرد في تولى الوظائف، ومن ذلك المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية الذى تمت الموافقة عليه وإعلانه بقرار الجمعية العامة للأمم المتحـدة رقم 2200 في 1/12/1966، والتي نصت على تساوى جميع الموظفيـن في فرص الترقية داخل جهات عملهم، إلى الدرجات الأعلى دون إخضـاع ذلك إلا لاعتبارات تتعلق بالكفاءة والجدارة لتولى تلك الوظائف، وهو ذات ما نص عليه الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والذى تمت إجازته من قبل مجلس الرؤساء الأفارقة بدورته العادية رقم (18) في نيروبى (كينيا) يونيو 1981 في المادة (13) منه.
وحيث إن الأصل أن يكون لكل وظيفة حقوقها وواجباتها، فلا تقابل مزاياها بغير مسئولياتها، ولا يكون وصفها وترتيبها منفصلاً عن متطلباتها التى تكفل للمرافق التي يديرها موظفوها حيويتها واطراد تقدمها، وقابلية تنظيماتها للتعديل وفق أسس علمية قوامها التخطيط المرن وحرية التقدير، فلا تتعثر أعمالها أو تفقد اتصالها ببعض أو تدرجها فيما بينها، وشرط ذلك إعداد موظفيها علميًّا وفنيًّا، فلا يلى شئونها غير القادرين حقًّا على تصريفها، سواء أكان عملهم ذهنيًّا أم مهنيًّا أم يدويًّا .
وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن لكل وظيفة تبعاتها، فلا يشغلها إلا من يستحقها على ضوء طبيعة الأعمال التي تدخل فيها، وغاياتها، والمهارة المطلوبة فيها، والخبرة اللازمة لها، ولا يجوز بالتالى أن يكون التعيين في وظيفة بذاتها أو الترقية منها إلى ما يعلوها، عملاً آليًّا يفتقر إلى الأسس الموضوعية، أو منفصلاً عن عوامل الخبرة والجدارة التي يتم على ضوئها اختيار من يتولاها، ولا مجرد تطبيق جامد لمقاييس صماء لا تأخذ في اعتبارها خصائص كل وظيفة ومكانتها، والحد الأدنى للتأهيل لها والتدريب على أداء واجباتها ومسئولياتها، وغير ذلك من مقوماتها الموضوعية المحددة تحديدًا دقيقًا، وعلى تقدير أن تقييم شاغل الوظيفة إنما يرتبط بأهميتها الحقيقية .
وحيث إن الأصل في الأقدمية الوظيفية أن تكون معبرة عن مدة خدمة فعلية قضاها الموظف قائمًا بأعباء وظيفته، وهى بذلك لا تفترض، ولا يجوز حسابها على غير حقيقتها سواء بزيادتها أو إنقاصها، كما أن شروط الترقية إلى الوظائف، وبخاصة الوظائف الإشرافية أو القيادية يجب أن تعبر عن الانحياز إلى الأصلح والأكثر خبرة وعطاء، وهو ما يتطلب أن تكون المدة البينية أو الكلية اللازمة لشغل تلك الوظائف - بحسب الأصل - مدة فعلية وليست حكمية، حتى لا يُعهد بأعمال هذه الوظائف لغير من يؤدونها بحقها، فلا يكونون عبئًا عليهــا يُقيدها أو يُضعفها، بل يثرونها من خلال خبرة سابقة وجهد خلاق يتفاعل مع مسئولياتها.
      وحيث إنه يتبين من الاطلاع على المذكرة الإيضاحية لقانون نظام العاملين المدنيين بالدولة أن أحكام هذا القانون تقوم على أسس موضوعية، وذلك عن طريق الاعتداد أولاً "بالوظيفة"، باعتبارها مجموعة من الواجبات والمسئوليات، يلزم للقيام بها توافر اشتراطات معينة في شاغلها، تتفق مع نوعها وأهميتها، وتسمح بتحقيق الهدف من إيجادها، وأن هذا الاعتداد الموضوعي لا يتعارض مع الجانب الآخر للوظيفة، المتمثل في "الموظف" الـذى يقوم بأعبائها وما يتطلبه هـذا الجانب "البشرى" لا الشخصي من الاعتداد بالخبرة النظرية أو المكتسبة اللازمة للقيام بأعباء الوظيفة، ومراعاة ذلك في الأجر الذى يحصل عليه بوصفه مقابلاً موضوعيًّا لا شخصيًّا، لما يناط به من مسئوليات .

وحيث إنه متى كان ما تقدم وكان المشرع بإقراره النص المحال قد انحاز إلى إعمال الأسس الموضوعية للوظيفة وذلك بالاعتداد بالوظيفة ومراعاة واجباتها ومسئولياتها، والتي يلزم للقيام بها توافر الاشتراطات اللازمة لشغلها ومن بينها مدة الخبرة الفعلية التي قضاها الموظف في وظيفته السابقة قائمًا بأعبائها، وذلك ضمانًا لجدارته وكفاءته بتوليها، فينهض بها من خلال خبرته السابقة وجهده الخلاق الذى دأب عليه خلال الفترات المنقضية، وهو ما يتفق مع الأهداف التي رنا المشرع إلى تحقيقها بالنص المحال، الذى ترتكن أحكامه إلى أسس موضوعية تبررها، دون مصادمة في ذلك لمبدأي المساواة وتكافؤ الفرص التي حرص الدستور على كفالتهما في المواد (4، 9، 53) منه.

      وحيث إن المشرع قد راعى في تحديده للقواعد الحاكمة للإعارة والحقوق الناشئة عنها والالتزامات والواجبات المترتبة عليها، تحقيق التوازن بين حق الموظف في الإعارة، الذى قرره له القانون، واعتبارات المصلحة العامة، بحسبان الوظائف العامة طبقًا لنص المادة (14) من الدستور تكليفًا للقائمين بها لخدمة الشعب، لذلك احتفظ المشرع للموظف المعار بكافة حقوقه في الترقية والأقدمية في حالة الإعارة للمدة التي قدر أنها لا تخل بمتطلبات الوظيفة العامة واستمرار أدائها لدورها الدستوري في رعايـة مصالح الشعب، والتي حددها بسنوات أربع، فإذا استطالت مدة الإعارة متجاوزة هذا الحد باختيار الموظف المعار، فإن التنظيم الذى قرره المشرع بالنص المحال - في حدود الإطار المار ذكره - لحق الموظف المعار لمدة تزيد على أربع سنوات في الترقية وتحديد أقدميته عند عودته من الإعارة، محافظًا على ذلك الحق، ومراعيًا مقتضيات المصلحة العامة، وحاجة الجهة المعيرة لشغل الوظائف تمكينًا للقائمين عليها من القيام بأداء واجباتهم في خدمة الشعب، يكون كافلاً تحقيق التوازن الذى أوجبته المادة (27) من الدستور، دون مناقضة للحق في الوظيفة العامة الذى كفله الدستور بالمادة (14) منه، كما لا ينال من كرامة الموظف المعار على أي وجه من الوجوه، ولا يمثل مساسًا بحق الملكية الـذى حرص الدستور على كفالته بالمادتيـن (33، 35)، ولا يعد خروجًا على مبدأ سيادة القانون الذى اعتبره الدستور في المادة (94) منه أساسًا للحكم في الدولة، ولا يتضمن كذلك انتقاصًا من عناصر أو محتوى أي من الحقوق المتقدمة على نحو ينال من جوهرها وأصلها، وهو ما حظره الدستور بنص المادة (92) منه.
      وحيث إن النص المحال - في حدود النطاق المتقدم - لا يخالف أى نص آخر في الدستور، الأمر الذى يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
      حكمت المحكمة برفض الدعوى.

عدم دستورية قرينة افتراض علم حائز أدوات الوزن والقياس والكيل من المشتغلين بالتجارة والباعـة بما لحقها من عيوب


الدعوى رقم 202 لسنة 32 ق " دستورية " جلسة 3 / 11 / 2018
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة 2018م، الموافق الخامس والعشرون من صفر سنة 1440 هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار والدكتور عادل عمر شريف وبولس فهمى إسكندر ومحمود محمد غنيـم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل  نواب رئيس المحكمة
وحضور السيدة المستشار/ شيرين حافظ فرهود رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع    أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
      في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 202 لسنة 32 قضائية " دستورية "، بعد أن أحالت محكمة الجيزة الابتدائية بحكمها الصادر بجلسة 24/2/2010 ملف الجنحة المستأنفة رقم 19340 لسنة 2008 جنح مستأنف العجوزة.
المقامة من
النيابة العامة
ضــــد
محمد سعيد عبدالرحمن
الإجـراءات
بتاريخ الثالث عشر من ديسمبر سنة 2010، ورد إلى قلم كتاب هذه المحكمة ملف الجنحة المستأنفة رقم 447 لسنة 2010 جنح مستأنف العجوزة، والمقيدة برقم 19340 لسنة 2008 جنح العجوزة، بعد أن قضت تلك المحكمة بجلسة 24/2/2010، بقبول الاستئناف شكلاً، وقبل الفصل في الموضوع، بوقف الدعوى تعليقًا وبإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (19) من القانون رقم 1 لسنة 1994 في شأن الوزن والقياس والكيل.
وقدَّمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
      ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة بجلسة 13/10/2018، إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم، مع التصريح بتقديم مذكرات خلال أسبوع، ولم يقدم أى من الخصوم مذكرات في الأجل المشار إليه
المحكمــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من حكــــم الإحالة وسائر الأوراق – في أن النيابة العامة كانت قد قدمت السيد/محمد سعيد عبدالرحمن - وهو المسئول عن محطة تزويد الوقــــود "موبيل"، الكائنة بشارع جامعة الدول العربية - إلى المحاكمة الجنائية في الجنحة رقم 19340 لسنة 2008 جنح العجوزة متهمة إياه، أنه في يوم 29/7/2008، بدائرة قسم العجوزة - حاز بقصد الاستعمال أدوات قياس (طلمبة بنزين) غير صحيحة مع علمه بذلك، وطلبت عقابه بالمواد (1، 3، 4، 19، 23) من القانون رقم 1 لسنة 1994بشأن الوزن والقياس والكيل، مستندة في ذلك إلى ما أثبت بمحضر الضبط من أنه بالتفتيش على طلمبات تزويد الوقود بالمحطة المذكورة وجدت طلمبة بنزين رباعية غير صحيحة، فقضت تلك المحكمة بجلسة 3/12/2009، حضوريًّا بتوكيل بتغريم المتهم ثلاثمائة جنيه والمصادرة. وإذ لم يرتض المتهم هذا الحكم، فطعن عليه بالاستئناف رقم 447 لسنة 2010 جنح مستأنف العجوزة، وتدوول نظره أمام تلك المحكمة التى قضت بجلسة 24/2/2010، بوقف الدعوى تعليقًا وإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (19) من القانون رقم 1 لسنة 1994 المشار إليه.
وحيث إن المادة (19) من القانون رقم (1) لسنة 1994، في شأن الوزن والقياس والكيل، تنص على أن "يعاقب بالحبس مــدة لا تقل عن ثلاثـة أشهر ولا تجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من استعمل أو حاز بقصد الاستعمال لغرض البيـــــع أجهزة أو آلات أو أدوات وزن أو قياس أو كيـــل مـزورة أو غير صحيحة أو مدموغة بطريقة غير مشروعة مع علمه بذلك.
ويفترض علم الحائز بذلك إذا كان من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة أو من المشتغلين بصناعة أو إصلاح تلك الأجهزة أو من الوزانين المرخـــص لهم أو من أمناء شئون البنوك أو المخازن ما لم يثبت العكس ................".
وحيث إن المصلحة الشخصية - وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها، أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع. لما كان ذلك، وكان الثابت أن التهمة المواجه بها المتهم في الدعوى الموضوعية هى جريمة حيازة أدوات قياس غير صحيحة بقصد استعمالها لغرض البيع، وكان المتهم قد اعتصم في دفاعه بعدم علمه بما شاب أداة القياس محل الجريمة من عيب، إلا أن النص المحال أقام قرينة افترض بموجبها العلم في حق المشتغلين بالتجارة، والبائعيــــــــن، لا يحل أيهما منها إلا إذا قام المتهم بإثبات العكس، فإن للقضاء في دستورية هذا النص انعكاس على الفصل في الدعوى الموضوعية، تتحدد به سلطات المحكمة الموضوعية في تحقيق أركان الجريمة، بما يقيم شرط المصلحة فيها، ويتحدد نطاق الدعوى فيما تضمنه النص المحال من افتراض علم مستعمل أدوات القياس غير الصحيحة من المشتغلين بالتجارة والبائعين، بما لحقها من عيب، ما لم يثبت المتهم العكس
وحيث إن حكم الإحالة نعى على النص المحال في حدود نطاقه المتقدم إخلاله بقواعد المحاكمة المنصفة لانتهاكه أصل البراءة ومساسه بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية بتدخله في عمل السلطة القضائية، والحيلولة دون مباشرتها صلاحيتها في التحقق من أركان الجريمة، لإقامة النص المحال قرينة افترض بمقتضاها علم حائز أدوات القياس، من المشتغلين بالتجارة، والباعـة، بما لحقها من عيوب، واشتراطه لدحضها إقامة المتهم الدليل على عدم علمه. الأمر الذى يشكل مخالفة لنصوص المواد (2، 41، 67، 86، 165) من دستور سنة 1971، المقابلة لنصوص المواد (2، 54، 92 ، 94، 95، 96، 98، 99، 101) من دستور سنة 2014.
وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، ذلك أن هذه الرقابة تستهدف أصلاً - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكان النص المحال - مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه - في حدود النطاق المحدد سلفًا - فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها عليه، استنادًا إلى أحكام الدستور القائم.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن الدستور هو القانون الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخــــــــــل أى منها في أعمال السلطة الأخرى، أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التى ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقًا لأحكامه فنص في المادة (101) منه على أن "يتولى مجلس النواب سلطة التشريع؛ وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على النحو المبين في الدستور". كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور؛ فنص في المادة (184) منه على أن "السلطة القضائية مستقلة؛ تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقًا للقانون".
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين - طبقاً لنص المادة (101) من الدستور - لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا على ولايتها، وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات، الذى حرص الدستور على توكيده في المادة (5) منه، بوصفه الحاكم للعلاقة المتوازنة بين السلطات العامة في الدولة، ومن بينها السلطتان التشريعية والقضائية.
وحيث إن الدستور عنى في المادة (96) منه بضمان الحق في المحاكمة المنصفة بما نص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان في مادتيه (10، 11)، التى تقرر أولاهما أن لكل شخص حقًّا مكتملاً ومتكافئًا مع غيره في محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه، وهذه الفقرة تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديموقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية، تكفل بتكاملها مفهومًا للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة، وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور في المادة (54) منه بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا يجـــــوز المساس أو الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالى تفسير هذه القاعدة تفسيرًا ضيقًا، إذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية. وهى التى تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة. ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائى، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزومًا في الدعوى الجنائية، وذلك أيًّا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها، وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية، وأكثرها تهديدًا لحقه في الحياة. وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيهـا إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائى معرفًا بالتهمة مبينًا طبيعتها، مفصلاً أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون، وأن تجرى المحاكمة علانية - وخلال مدة معقولة - وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة - إذا خلصت إليها - إلى تحقيق موضوعى أجرته بنفسها، وإلى عرض متجرد للحقائق؛ وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وازنة بالقسط الأدلة المتنابذة؛ وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة (96) منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض البـــــراءة من ناحية؛ وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائى من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة (98) من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول. لما كان ذلك، وكان الدستور قد خطا خطوة أوسع في مقام ترسيخ قيم الحقوق والحريات ، بنصه في المواد (5 ،51 ،92) على احترام حقوق الإنسان وكرامته وحرياته، وعلى تحصين الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن، باشتراط ضمانة إضافية كونها لا تقبل انتقاصًا ولا تعطيلاً، نافيًا عن المشرع مكنة أن تشملها تشريعاته بتنظيم من شأنه تقييدها أو الانتقاص منها أو تعطيلها.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة الجنائية من مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها عند فصلها في الاتهام الجنائي تحقيقًا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، إنما هو ضمانة أولية ترتبط بكرامة الإنسان، تهدف لعدم المساس بالحرية الشخصية - التى كفلها الدستور لكل فرد - بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها؛ وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة؛ عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخرى مفهومًا محددًا لدليل بعينه؛ وأن يكون مرد الأمر دائمًا إلى ما استخلصته هى من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة في ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، فإن ضوابط المحاكمة المنصفة تتمثل في مجموعة من القواعد المبدئية التى تعكس مضامينها نظامًا متكامل الملامح يتوخى بالأسس التى يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقًا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية؛ ولضمان أن تتقيد السلطة التشريعية عند مباشرتها لمهمتها في مجال فرض العقوبة صونًا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفًا مقصودًا لذاته، أو أن تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد - وإن كانت إجرائية في الأصل - إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية - وعلى امتداد مراحلها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية. ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تمليها الفطرة؛ وتفرضها مبادئ الشريعة الإسلامية في قوله عليه السلام "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فأخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"؛ وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة (96) منه، مؤكدًا بمضمونها ما قررته المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ والمادة (6) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء كان مشتبهًا فيه أو متهمًا، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين؛ وإنما لتدرأ بموجبها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة المنسوبة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للجريمة محل الاتهام. ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دومًا، ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلى امتداد حلقاتها؛ وأيًّا كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالى لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقطاعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائى استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتًّا.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلى ممثلاً في الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هى التى يعتبر إثباتها إثباتًا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور؛ فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلاً عنها. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الإنسان عليها. فقد ولد حرًّا مبرءًا من الخطيئة أو المعصية. ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة ركنٌ ركينٌ من أركان كرامته الإنسانية، يظل لصيقًا به، مصاحبًا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبًا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور؛ ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية. ويعتبر إنفاذها مفترضًا أوليًّا لإدارة العدالة الجنائية. ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، ليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل؛ وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إن النص المحال بعد أن أفصح عن أن جريمــة حيـازة أو استعمال أدوات وزن أو قياس غير صحيحة لغرض البيع جريمة عمدية، باشتراطه العلم بعدم صحة هذه الأدوات أو تزويرها، نص على أن هذا العلم يفترض في جانب الحائزين من المشتغلين بالتجارة أو الباعة، ما لم يثبت المتهم العكس. وبذلك أحل المشرع توافر صفة معينة في المتهم محل واقعة علمه بغش أو فساد هذه الأدوات، منشئًا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها، دليلاً على ثبوت واقعة العلم بفسادها أو تزويرها، وهو ركن كان ينبغي أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباته في إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لإسناد الجريمة بكامل أركانها إلى المتهم؛ وبوجه خاص "القصد الجنائي العام" ممثلاً في إرادة إتيان الفعل، مع العلم بالوقائع التي تعطيه دلالته الإجرامية.
وحيث إن القرينة القانونية التي تضمنها النص المحال على النحو المتقدم، وإن كانت لا تعتبر من القرائن القاطعة؛ بإفساح المشرع للمتهم المواجه بها إثبات عكسها، وقد التزم القانون رقم 1 لسنة 1994 في شأن الوزن والقياس والكيل، افتراض العلم بالغش والفساد إذا كان المتهم من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة، ينفيه إثبات عدم علمه بما لحقها من عيب، وبذا أضحت النيابة العامة غير مكلفة بإقامة الدليل على هذا العلم؛ وغدا نفيه عبئًا ملقى على عاتق المتهم مثلما هو الشأن في القرائن القانونية غير القاطعة ؛ ذلك أن المشرع هو الذى تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية؛ وأعفى النيابة العامة بالتالى من تقديم الدليل عليها. إذ كان ذلك؛ وكان الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هى أنها من عمل المشرع وهو لا يؤسسها أو يحدد مضمونهـــا إلا على ضــوء ما يكون في تقديره غالبًا أو راجحًا في الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التي تضمنها النص المحال - وحتى بافتراض جواز إعمال القرائن القانونية في المجال الجنائي - تنافى واقع الحياة العملية، وما يتم فيها في الأغلب، ذلك أن هذه القرينة تتعلق بأدوات كيل ووزن وقياس، يحتاج الوقوف على ما شابها من عيب إلى عمل خبير فنى، لا يلم به بحسب غالب الأحوال، والجاري عليه الأمور من يتولى استخدام هذه الأدوات الفنية حيازة وبيعًا، وإن اشتغل بالتجارة. ولازم ما تقدم؛ أن اشتغال حائز هذه الأدوات أو مستعملها بالتجارة، أو قيامه على البيع استنادًا إلى مقاديرها، لا يفيد بالضرورة علمه بتزويرها أو بفسادها، كما أن تكليفه بإثبات حسن نيته باعتباره من المواطنين الشرفاء الذين يتعاملون في تلك الأدوات وفق أصول المهنة ومقتضياتها، لا يعدو أن يكون أمرًا عَسِرًا ومُتميعًا في آن واحد. ومن ثم لا ترشح الواقعة البديلة التى قررها النص المحال - وفي الأعم الأغلب من الأحوال - لاعتبار واقعة العلم بفساد أدوات الوزن أو القياس أو الكيل، أو تزويرها ثابتة بحكم القانون؛ ولا تربطها علاقة منطقية بها؛ وتغدو هذه القرينة بالتالي مقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومفتقرة إلى أسسها الموضوعية؛ ومجاوزة لضوابط المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور.
وحيث إنه لما كانت جريمة حيازة أو استعمال أدوات وزن أو قياس غير صحيحة أو مزورة من الجرائم العمدية التي يعتبر القصد الجنائي ركنًا فيهـا، وكان الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها، وعلى ضوء تقديرها للأدلة التى تطرح عليها، من علم المتهم بحقيقة الأمر في شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وأن يكون هذا العلم يقينيًّا لا ظنيًّا ولا افتراضيًّا، وكان الاختصاص المقرر دستوريًّا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها - وعلى ما جرى عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا - لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصيلة في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ وكان النص المحال قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر دالاًّ بطريق غير مباشر على العلم بالواقعة الإجرامية، مقحمًا بذلك وجهة النظر التي ارتآها في مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع، لاتصالها بالتحقيق الذى تجريه بنفسها تقصيًا للحقيقة الموضوعية عند الفصل في الاتهام الجنائي؛ وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التي تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها. إذ كان ذلك؛ فإن المشرع إذ أعفى النيابة العامة - بالنص المحال - من إثباتها لواقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائي وتعتبر من عناصره، هي واقعة علم المتهم بعدم صحة أدوات القياس أو الكيل التى يستخدمها، أو فسادها، حاجبًا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها؛ وعن أن تقول كلمتها بشأنها؛ بعد أن افترض هذا العلم بقرينة لا محل لها، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله هذا يعد انتحالاً لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالاً بمبدأ الفصل بينها وبين السلطة التشريعية؛ ومناقضًا كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه في كل وقائعها وعناصرها.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه يقترن دائمًا من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة بالحق في الدفاع. وتتمثل في حق المتهم في مواجهة الأدلة التي قدمتها النيابة العامة إثباتًا للجريمة، والحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها. لما كان ذلك؛ وكان النص المحال - وعن طريق القرينة القانونية التي افترض بها ثبوت القصد الجنائي - قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجهًا بواقعة أثبتتها القرينة في حقه بغير دليل؛ ومكلفًا بنفيها خلافًا لأصل البراءة، ومسقطًا عملاً كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل؛ وكان أصل البراءة ، والحق في الدفاع هما ذروة سنام الحقوق اللصيقة بشخص المواطن، ذلك أن أصـل البراءة – على النحو السالف بيانه - هو من الحقوق الطبيعية التي تصاحـب المواطن منذ ولادته ولا تنفصل عنه إلا بحكم قطعي بالإدانة، بما يستتبع إقامة السلطات القائمة على الاتهام الدليل القاطع على ما يناقض هـذا الأصـل الذى حرم الدستور تعطيله أو الانتقاص منه، وكان النص المحال - وعلى ضوء ما تقدم جميعه - ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ ومن الحرية الشخصية؛ كما يناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة، وما تشتمل عليه من ضمان الحق في الدفاع ، وينال من حق لصيق بالمواطن بتعطيله والانتقاص منه، وهو حق يرتبط بكرامته الإنسانية، فإنه بذلك يكون مخالفًا لأحكام المواد (2، 51 ، 54، 92، 94، 95، 96، 98، 99، 101، 184 ) من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (19) من القانون رقم 1 لسنة 1994 في شأن الوزن والقياس والكيل.

انتفاء المصلحة في النعي على قرار اداري بإزالة أعمال بناء مخالفة طالما صدر حكم نهائي من محكمة جنح مستأنف بذلك

الدعوى رقم 59 لسنة 32 ق "دستورية" جلسة 3 / 11 / 2018
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة 2018م، الموافق الخامس والعشرون من صفر سنة 1440 هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: سعيد مرعى عمرو ورجب عبد الحكيم سليم والدكتور حمدان حسن فهمى وحاتم حمد بجاتو والدكتور عبدالعزيز محمد سالمان والدكتور طارق عبد الجواد شبل    نواب رئيس المحكمة
وحضور السيدة المستشار / شيرين حافظ فرهود رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع      أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
      في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 59 لسنة 32 قضائية "دستورية".
المقامة من
محمـــد محمـــود الملاح
ضــد
1 - رئيس الجمهوريــة
2 - رئيس مجلس الوزراء
3 – وزير العـــدل
4- رئيس مجلس الشعـــــب
5- محافظ الغربيــة
6- رئيس حى ثان طنطــا
7- رئيس حى أول طنطا
الإجــراءات
      بتاريخ الحادي عشر من مارس سنة 2010، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نصوص المواد (60، 61، 114) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008.
      وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم أصليًّا: بعدم قبول الدعوى لرفعها بعد الميعاد، واحتياطيًّا: برفضها.
      وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
      ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - في أن النيابة العامة كانت قد اتهمت المدعى في الجنحة رقم 5506 لسنة 2009 قسم ثان طنطا، بأنه في يوم 18/2/2009، بدائرة قسم ثان طنطا - محافظة الغربية: أقام أعمال بناء قبل الحصول على ترخيص بذلك من السلطة المختصة؛ وطلبت معاقبته، بالمواد (39، 43، 60، 102/3- 4) من قانون البناء الصادر بالقانــــــون رقم 119 لسنة 2008. وتدوولت الدعوى أمام محكمة جنح قسم ثان طنطا، وبجلسة 4/4/2009، قضت المحكمة غيابيًّا بمعاقبته بالحبس ستة أشهر مع الشغل وكفالة لإيقاف التنفيذ وأمرت بإزالة البناء المخالف، وإذ لم يرتض المدعى هذا الحكم طعن عليه بالمعارضة، وبجلسة 25/7/2009، حكمت المحكمة ذاتها باعتبار المعارضة كأن لم تكن، فاستأنف المدعى هذا الحكم، وقيد الاستئناف برقم 19373 لسنة 2009 جنح مستأنف ثان طنطا، وبجلسة 16/11/2009، قضت بقبول الاستئناف شكلًا، وفى الموضوع، ببطلان الحكم المستأنف وبمعاقبة المدعى بغرامة مثلى قيمة الأعمال المخالفة وإزالة البناء المخالف. وبالبناء على هذا الحكم صدر بتاريخ 30/12/2009، قرار الإزالة رقم 197 لسنة 2009 ضد المدعى، وفى الآن ذاته كان المدعى قد أقام، إبان تداول الجنحة المشار إليها أمام القضاء، الدعوى رقم 210 لسنة 2009 مدنى كلى طنطا، أمام محكمة طنطا الابتدائية، ضد المدعى عليهم الثانى والثالث والخامس والسادس وآخرين، بطلبات منها القضاء له بالتعويض عن صدور قرار إزالة عقاره وتنفيذه رغم صدوره من غير مختص لعدم توقيع اعتماد المحافظ لقرار الإزالة رقم 69 لسنة 2009، والإحالة للمحكمة الدستورية العليا لعدم دستورية القانون رقم 119 لسنة 2008 بشأن البناء الموحد، على سند من أنهما يمتلكان عقارًا أقيم واكتمل بناؤه عام 2007 قبل دخوله في خط تنظيم حى ثان طنطا، وفى عام 2009 صدر قرار إزالة العقار وتم تنفيذه، وأن كلاًّ من المدعى عليهم أخطأ وساهم بنصيب في صدور هذا القرار الباطل وفى تنفيذه إضرارًا بالمدعى، وبرغم عدم مخالفة البناء للقانون رقم 119 لسنة 2008، الصادر بعد اكتمال البناء، وأضاف المدعيان أنهما يطعنان بعدم دستورية المادتين (60 فقرة أخيرة، 61) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، وبجلسة 21/1/2010، دفع المدعيان (فى الدعوى الموضوعية)، في مذكرة قدماها بعدم دستورية نصى المادتين (60، 61) من قانون البناء المشار إليه، فقررت المحكمة تأجيل نظر الدعوى لجلسة 4/3/2010، لاتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية، وبهذه الجلسة طلب وكيل المدعى أجلاً لاستكمال إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فقررت المحكمة تأجيل نظر الدعوى لجلسة 8/4/2010، لاستكمال إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فأقام المدعى الدعوى المعروضة.
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم قبول الدعوى المعروضة لرفعها بعد الميعاد، مستندة في ذلك إلى أن محكمة الموضوع قررت بجلسة 21/1/2010 تأجيل نظر الدعوى لجلسة 4/3/2010، كطلب المدعيين لرفع الدعوى الدستورية أمام هذه المحكمة؛ بيد أن المدعى أقام دعواه هذه في 11/3/2010، فلا يجوز قبولها.
وحيث إن هذا الدفع مردود بأن من المقرر في قضاء هذه المحكمة - وعملاً بنص البند (ب) من المادة (29) من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 - أن المهلة التى تمنحها محكمة الموضوع لرفع الدعوى الدستورية، لا تجوز زيادتها إلا من خلال مدة جديدة تضيفها إلى المدة الأصلية قبل انقضائها، بما يكفل تداخلها معها، وبشرط ألا تزيد المدتان معًا - قديمها وجديدها - على الأشهر الثلاثة التى فرضها المشرع كحد أقصى لرفع الدعوى الدستورية، فلا يجاوزه من يقيمها، ولا محكمة الموضوع التى ترخص برفعها؛ وكان ثابتًا كذلك - وعملاً بالفقرة الثانية من المادة (15) من قانون المرافعات المدنية والتجارية - أن الميعاد - وكلما كان ظرفًا يجب أن يحصل فيه الإجراء – لا يعتبر منقضيًا إلا بانقضاء اليوم الأخير منه؛ ومتى كان ما تقدم، وكان الثابت أن محكمة الموضوع بعد أن قدرت جدية الدفع بعدم الدستورية المبدى من المدعيين بجلسة 21/1/2010، أجلت نظر الدعوى لجلسة 4/3/2010، لاتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية، ثم قررت المحكمة إضافة مهلة جديدة إلى المدة الأصلية وقبل انقضائها غايتها 8/4/2010، وكان المدعى في الدعوى المعروضة قد أقامها خلال المهلة الجديدة التى أضافتها محكمة الموضوع إلى المدة الأصلية، وفى غضون مهلة الأشهر الثلاثة المشار إليها، فإن الدفع بعدم قبول دعواه هذه يكون غير سديد.
وحيث إنه عن النعى بعدم دستورية نص المادة (114) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، فلما كان المدعى لم يدفع أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية هذه المادة، ومن ثم؛ فإنها لم تخضع لتقدير هذه المحكمة لجدية النعى عليها بعدم الدستورية، ويغدو - بهذه المثابة - الطعن على هذه المادة في الدعوى المعروضة دفعًا مبتدأ، يبدى للمرة الأولى أمام المحكمة الدستورية العليا، لينحل بذلك إلى دعوى أصلية مباشرة، على نحو يخالف أحكام المادة (29) من قانون هذه المحكمة، وتكون الدعوى المعروضة غير مقبولة في هذا الشق منها.
      وحيث إن المادة (60) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008 تنص على أن : "تزال بالطريق الإدارى على نفقة المالك المخالفات الآتية:
1-    المباني والمنشآت والأعمال التى تقام بدون ترخيص.
2-    الأعمال المخالفة لقيود الارتفاع المقررة قانونًا والصادر بها قرار المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية.
3-    التعديات على خطوط التنظيم ومناطق الردود المقررة بالاشتراطات.
4-    الأعمال المخالفة لتوفير الأماكن التى تخصص لإيواء السيارات.
5-    التعديات على الأراضى الخاضعة لقانون حماية الآثار.
6-    المبانى والمنشآت والأعمال التى تقام خارج الحيز العمرانى المعتمد للمدينة أو القرية.
            ويصدر بذلك قرار من المحافظ المختص دون التقيد بالأحكام والإجراءات الخاصة بإيقاف الأعمال ولا يجوز التجاوز عن إزالة هذه المخالفات".
    وتنص المادة (61) من القانون ذاته على أنه : "على ذوى الشأن المبادرة إلى تنفيذ القرار الصادر بإزالة أو تصحيح الأعمال المخالفة، وذلك خلال المدة المناسبة التى تحددها الجهة الإدارية المختصة بشئون التخطيط والتنظيم، ويخطر ذوو الشأن بالقرار وبالمدة المحددة للتنفيذ بموجب كتاب موصى عليه مصحوب بعلم الوصول.
فإذا امتنع عن التنفيذ أو انقضت المدة دون إتمامه تتولى الجهة الإدارية المختصة بشئون التخطيط والتنظيم التنفيذ بنفسها أو بواسطة من تعهد إليه به، ويتحمل المخالف جميع النفقات، وتحصل منه بطريق الحجز الإدارى.
وفي حالة ارتكاب مخالفات بعد إصدار شهادة صلاحية المبنى للإشغال تلتزم الجهة الإدارية باتخاذ الإجراءات القانونية، ولها في سبيل تنفيذ قرار إزالة المخالفة أو تصحيحها أن تخلى المبنى بالطريق الإداري من شاغليه دون حاجة إلى اتخاذ أية إجراءات قضائية.
وإذا اقتضى تنفيذ أعمال التصحيح إخلاء المبنى مؤقتًا من كل أو بعض شاغليه، يتم ذلك الإخلاء بالطريق الإداري، مع تحرير محضر بأسماء من تم إخلاء مبانيهم، وبيانات العين التي تم إخلاؤها، وتعتبر العين خلال المدة التى تستغرقها أعمال التصحيح في حيازة المستأجر قانونًا. ويكون لمن تم إخلاء العين التي كان يشغلها الحق في العودة إليها فور انتهاء أعمال التصحيح دون حاجة إلى موافقة المالك، ويتم ذلك بالطريق الإداري في حالة امتناعه.
ويتحمل المتسبب في المخالفة تكاليف إزالة المخالفة أو تصحيحها، إضافة إلى القيمة الإيجارية للوحدات التي تم إخلاؤها والوحدات البديلة لحين الانتهاء من الأعمال.
وتبين اللائحة التنفيذية لهذا القانون الإجراءات التنفيذية اللازمة".
وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن المصلحة الشخصية المباشرة وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية، مناطها أن يكـون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، بما مؤداه : أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة، وهو ما يقيد تدخلها في تلك الخصومة القضائية ويرسم تخوم ولايتها فلا تمتد لغير المطاعن التي يؤثر الحكم بصحتهـا أو بطلانها على النزاع الموضوعي، وبالقدر اللازم للفصل فيها، ومؤداه : ألا تقبل الخصومة الدستورية من غير الأشخاص الذين يمسهم الضرر من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم سواء أكان هذا الضرر وشيكًا يتهددهم، أم كان قد وقع فعلاً، ويتعين دومًا أن يكون الضرر منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلاًّ بالعناصر التى يقوم عليها، ممكنًا تحديده وتسويته بالترضية القضائية، عائدًا في مصدره إلى النص المطعون فيه، فإذا لم يكن النص قد طبق على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعًا، لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية عما كان عليه قبلها.
وحيث إن رحى النزاع في الدعوى المعروضة تدور حول دستورية نصى المادتين (60، 61) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، فيما خولته للجهة الإدارية من إزالة المباني المخالفة أو تصحيحها، وكان أمر إزالة المبنى المملوك للمدعي ليس إلا تنفيذًا للحكم النهائي الصادر من محكمة جنح مستأنف قسم ثان طنطا بمعاقبة المدعى في الجنحة رقم 5506 لسنة 2009 قسم ثان طنطا، والمستأنفة برقم 19373 لسنة 2009 جنح مستأنف ثان طنطا بالغرامة وإزالة العقار المخالف، مما مؤداه انتفاء الصلة بين إزالة العقار المملوك للمدعى وبين السلطة المخولة للجهـة الإدارية في إزالة أعمال البناء المخالفة أو تصحيحها بمقتضى نصى المادتين المطعون عليهما، ومن ثم؛ فإن الفصل في دستوريتهما لن يكون له أى انعكاس على الدعوى الموضوعية، الأمر الذى تنتفى إزاءه المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى في الدعوى المعروضة، مما يتعين معه القضاء بعدم قبولها.
فلهـذه الأسبـاب
      حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.