الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 17 مارس 2013

رجعية احكام المحكمة الدستورية وتفسيرها

قضية رقم 1 لسنة 29 قضائية المحكمة الدستورية العليا "تفسير"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد الموافق السابع من فبراير سنة 2010، الموافق الثالث والعشرين من شهر صفر سنة 1431ه .
برئاسة السيد المستشار / فاروق أحمد سلطان رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: أنور رشاد العاصى والسيد عبد المنعم حشيش ومحمد خيرى طه وسعيد مرعى عمرو والدكتور عادل عمر شريف وتهانى محمد الجبالى. نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور / حمدان حسن فهمى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / ناصر إمام محمد حسن أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 1 لسنة 29 قضائية "تفسير أحكام" .
المقامة من
السيد/ ……………………………..
ضد
1- السيد رئيس الجمهورية
2- السيد رئيس مجلس الوزراء
3- السيد رئيس مجلس الشعب
4- السيد وزير العدل
5- السيد رئيس محكمة النقض
6- السيد النائب العام
7- السيد رئيس مجلس تأديب القضاه
الإجراءات
بتاريخ الأول من أغسطس سنة 2007، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة ، طالباً الحكم أولاً: وبصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرارات والأحكام الصادرة ضده من دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض ومجلس تأديب القضاة استناداً للنص المقضى بعدم دستوريته. ثانياً: تفسير الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا فى الدعوى 151 لسنة 21 قضائية "دستورية" القاضى بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 98 من قانون السلطة القضائية الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972، وبيان نطاق سريانه من حيث الزمان على المدعى، ومدى سريان هذا الأثر فى دعاوى بطلان الأحكام النهائية الصادرة من مجلس تأديب القضاة قبل صدور الحكم المذكور، ومدى إفادته منه.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها أصلياً الحكم بعدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق ، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى كان يشغل وظيفة وكيل النائب العام، وقد أحاله وزير العدل إلى مجلس تأديب القضاة فى الدعوى رقم 311 لسنة 1986، وبعد السير فى الإجراءات ، قضى المجلس بجلسة 12/4/1987 بعزله من وظيفته، فطعن المدعى على هذا الحكم أمام مجلس التأديب، وبجلسة 3/6/1992 قضى برفض الطعن، وقد أصدرت المحكمة الدستورية العليا بجلسة 9/9/2000 حكمها فى الدعوى رقم 151 لسنة 21 قضائية "دستورية" القاضى بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 98 من قانون السلطة القضائية الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972، كما قضت هذه المحكمة بجلسة 14/4/2002 فى الدعوى رقم 1 لسنة 23 قضائية "منازعة تنفيذ" بالمضى فى تنفيذ حكمها المشار إليه، وتقدم المدعى بطلب إلى دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض قيد برقم 59 لسنة 72 قضائية "رجال قضاء" طلب فيه إلغاء قرار مجلس تأديب القضاة بعزله من وظيفته، وقرار رئيس الجمهورية الصادر تنفيذاً له، وتعويضه عن ذلك، وبجلسة 9/3/2004 قضت المحكمة بعدم قبول الطلب، وأقام المدعى كذلك الدعوى رقم 12841 لسنة 59 قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى بطلب وقف تنفيذ وإلغاء قرار وزير العدل السلبى بالامتناع عن تنفيذ حكمى المحكمة الدستورية العليا السالف الذكر، قضى فيها بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وما يترتب على ذلك من آثار، فأقامت هيئة قضايا الدولة إشكالاً فى تنفيذ هذا الحكم أمام محكمة القاهرة للأمور المستعجلة، التى قضت بعدم اختصاصها بنظره وأحالته إلى محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة وقيد أمامها برقم 1481 لسنة 60 قضائية، وقضت المحكمة برفضه، كما أقام المدعى إشكالاً عكسياً فى التنفيذ أمام محكمة القضاء الإدارى قيد برقم 37934 لسنة 59 قضائية قضى فيه بالاستمرار فى تنفيذ الحكم المشار إليه، وقد أقام المدعى دعوى البطلان رقم 2 لسنة 2007 أمام مجلس الصلاحية طعناً على الحكم الصادر من مجلس تأديب القضاة بجلسة 12/4/1987 فى الدعوى التأديبية رقم 311 لسنة 1986، وبجلسة 11/4/2007 قضى فيها بعدم جواز الطعن، فقدم المدعى الطلب رقم 28 لسنة 77 قضائية أمام دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض طعناً على ذلك الحكم، وكذا الحكم الصادر من مجلس التأديب فى الدعوى رقم 311 لسنة 1986 الآنف الذكر، طالباً إلغائهما وإعادته إلى الحالة التى كان عليها عند طلب السير فى إجراءات الدعوى التأديبية ضده، وإذ إرتأى المدعى أن ما ذهبت إليه الأحكام الصادرة من مجلس التأديب والصلاحية ودائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض المتقدمة من عدم إعمال الأثر الرجعى لحكم المحكمة الدستورية العليا الصادر فى الدعوى رقم 151 لسنة 21 قضائية "دستورية" فى حقه، رغم اشتراك المستشارين ممن أيدوا الرأى فى السير فى إجراءات محاكمته تأديبياً فى هيئة مجلس التأديب وحضور جلسات المحاكمة وإصدار الحكم، وذلك تأسيساً على عدم انسحاب أثر هذا الحكم على حالته بعد أن استقر مركزه القانونى،إنما يستنهض ولاية هذه المحكمة فى تفسير ذلك الحكم، فقد أقام الدعوى الراهنة.
وحيث إن المادة (28) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 تنص على أن "…. تسرى على قرارات الإحالة والدعاوى والطلبات التى تقدم إلى المحكمة الأحكام المقررة فى قانون المرافعات المدنية والتجارية بما لا يتعارض وطبيعة اختصاص المحكمة والأوضاع المقررة أمامها، وتنص المادة (51) من هذا القانون على أن "تسرى على الأحكام والقرارات الصادرة من المحكمة، فيما لم يرد به نص فى هذا القانون القواعد المقررة فى قانون المرافعات المدنية والتجارية بما لا يتعارض وطبيعة تلك الأحكام والقرارات، ومؤدى ذلك أن نصوص قانون المرافعات –باعتباره الشريعة العامة فى إجراءات التقاضى_ تسرى فى شأن المنازعات التى تعرض على المحكمة الدستورية العليا والأحكام والقرارات الصادرة منها، فيما لم يرد بشأنه نص خاص فى قانونها، وذلك بالقدر الذى لا يتعارض مع طبيعة اختصاصات المحكمة والأوضاع المقررة أمامها، وإذ خلا قانون المحكمة من نص فى شأن طلبات تفسير أحكامها، والذى تناولته بالتنظيم المادة (192) من قانون المرافعات التى تنص على أن "يجوز للخصوم أن يطلبوا إلى المحكمة التى أصدرت الحكم تفسير ما وقع فى منطوقه من غموض أو إبهام، ويقدم الطلب بالأوضاع المعتادة لرفع الدعوى، ويعتبر الحكم الصادر بالتفسير متمماً من كل الوجوه للحكم الذى يفسره ويسرى عليه ما يسرى على هذا الحكم من القواعد الخاصة بطرق الطعن العادية وغير العادية، ومن ثم فإن مضمون هذا النص يعتبر مندمجاً فى قانون المحكمة، ومتمماً لأحكامه فى الحدود التى لا يتعارض فيها مع طبيعة اختصاصات المحكمة والأحكام والقرارات الصادرة منها والأوضاع المقررة أمامها، وإعمالاً لذلك اطرد قضاء هذه المحكمة على إجازة اللجوء إليها مباشرة بطلب تفسير أحكامها تفسيراً قضائياً، متى كان الطلب مقدماً من أحد الخصوم، وهم ذوو الشأن فى المنازعة التى صدر فيها الحكم المطلوب تفسيره، وذلك إذا كان الغموض أو الإبهام قد اعترى منطوقه، أو لحق أسبابه المرتبطة بذلك المنطوق ارتباطاً لا يقبل التجزئة.
وحيث إنه ولئن كان صحيحاً أن الخصومة الناشئة عن الدعاوى الدستورية عينية بطبيعتها، وأن للأحكام التى تصدر فيها حجية مطلقة تتعدى أطرافها إلى السلطات قاطبة وإلى الناس كافة، إلا أنه يبقى صحيحاً –فى الوقت ذاته وبالدرجة عينها- أن الأحكام الصادرة فى المسائل الدستورية ليست آراء مجردة غايتها إثراء الفكر القانونى، وإنما هى تصدر بقصد إعمال آثارها، وهو ما تتولاه محكمة الموضوع عند فصلها فى النزاع الماثل أمامها على ضوء ما قضت به المحكمة الدستورية العليا، فإذا إدّعى أحد الخصوم أمام محكمة الموضوع- ولو لم يكن خصماً فى الدعوى الدستورية- غموض حكم صادر عن هذه المحكمة أو إبهامه، وقدرت محكمة الموضوع لزوم إعمال أثر هذا الحكم على النزاع المطروح عليها، كان لها أن تمنح الخصم أجلاً يطلب خلاله من المحكمة الدستورية العليا تفسير ذلك الحكم، ولمحكمة الموضوع كذلك، وقد خولتها المادة (29) من قانون المحكمة الدستورية العليا الحق فى أن تحيل إلى هذه المحكمة النصوص القانونية التى يتراءى لها عدم دستوريتها واللازمة للفصل فى النزاع الموضوعى المعروض عليها، أن تطلب من تلقاء نفسها ذلك التفسير من المحكمة الدستورية العليا، بحسبان أن قضاءها يثير خلافاً حول معناه، ويعوق تبعا لذلك مهمة محكمة الموضوع فى شأن إعمال أثره على الواقع المطروح عليها.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان طلب التفسير الماثل لم تحله محكمة الموضوع، ولم يسبقه تصريح منها للمدعى برفع طلب التفسير إلى هذه المحكمة، وإنما قدم مباشرة من المدعى الذى لم يكن من ذوى الشأن فى القضية رقم 151 لسنة 21 قضائية "دستورية"، فإن هذا الطلب لا يكون قد اتصل بهذه المحكمة اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة قانوناً متعنياً – والحالة هذه- القضاء بعدم قبوله.
وحيث إنه فى خصوص ما يثيره المدعى فى شأن إعمال الأثر الرجعى للحكم الصادر فى الدعوى رقم 151 لسنة 21 قضائية "دستورية" على حالته ومدى إفادته منه، فإن المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن محكمة الموضوع دون غيرها هى التى تتولى بنفسها إعمال آثار الأحكام الصادرة فى المسائل الدستورية، ويندرج تحتها رجعيتها، وتبعا لذلك فإن دعوة المدعى المحكمة الدستورية العليا إلى إعمال الأثر الرجعى لحكمها المشار إليه على حالته، يكون مجاوزاً حدود ولايتها، الأمر الذى يتعين معه – لكل ما تقدم- القضاء بعدم قبول الدعوى، مع الالتفات عن طلب وقف التنفيذ المبدى من المدعى، بعد أن صار بالفصل فى الدعوى – على النحو السالف بيانه- غير ذى موضوع.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى .

في المسؤولية المدنية للأفراد

مجلة المحاماة - العدد التاسع

السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923

في المسؤولية المدنية للأفراد

لمحتان

تاريخية وتشريعية

1 - لمحة تاريخية

نعلم أن القانون الفرنسي وُضع في سنة 1804 في وقت لم يعرف فيه العالم هذه النهضة الاقتصادية العامة التي ظهرت في عصر القرن التاسع عشر وعظم شأنها في القرن العشرين وعلى الأخص بعد الانتهاء من الحرب العالمية التي خُتمت بمعاهدة صلح فرساي سنة 1918 وكان القانون الفرنسي متشبعًا بالروح الفردية Individualiste ولم يقم للشؤون الاقتصادية على اختلاف أنواعها وزنًا إلا بقدر ما كان معروفًا في ذلك الزمن المنصرم، وقد تلقت الشعوب الأخرى القانون الفرنسي بصدور رحبة وعملت على الأخذ به لما كانت تشعر به من التعطش نحو التقنين من طريق التجميع ولما كانت تأنسه من وحدة الشبه من حيث الحالة الاقتصادية العامة، وقد أخذت مصرنا قوانينها في سنة 1875 وسنة 1883 مختلطًا وأهليًا بعد إدخال شيء من التعديل رجع فيه إما إلى ما قرره القضاء والفقه الفرنسيان بعد سنة 1804 وإما إلى ما أقرته التقاليد والعادات المصرية التي بنيت في كثير منها على الشريعة الإسلامية وعلى ما قرره العمل في هذا الجو المختلط بين المصريين والأجانب مختلفي الأجناس.

ولما كان عهد عصر ترقيها الصناعي والتجاري حديثًا لم يفكر شارعها المصري سنة 1875 وسنة 1883 في أن يضع قوانين تضمن لها ما يمكن أن تصل إليه فيما بعد من ازدياد في الرقي وتقدم في المدنية، لذا أصبحت القوانين المصرية هذه لا تلتئم مع ما قطعته من أشواط المدنية وأصبح من الضروري الحتمي الرجوع إلى ما قررته الشعوب الأخرى في عصرنا الحاضر من قوانين تشريعية وآراء قضائية ومذاهب فقهية وذلك عملاً بما قضى به القانون المصري من الأخذ بالعدالة والقانون الطبيعي فيما سكت فيه القانون عن التقنين في بعض المسائل، وهذا هو ما جرى عليه العرف القضائي المختلط والأهلي في مسائل عدة لم ترد لها نصوص خاصة بالقوانين المصرية.

ولقد كان لنظرية المسؤولية شأن يذكر في عالم القانون عند كل شعب متمدين وذلك لتقدم الصناعة ورواج التجارة في الأوقات الحاضرة، وكان من شأن التقدم التجاري العالمي أن اضطرت بعض الشعوب إلى تعديل شرائعها طبقًا لما اقتضته نواميس الرقي في التجارة والصناعة، فقررت من الوجهة التشريعية مبادئ قانونية ربما كانت لا تؤيدها النصوص القانونية القديمة في ظاهرها حتى تقطع بذلك ما يحوم من الشك والتردد حول مبادئ جديدة كونتها الظروف الاجتماعية الحديثة قسرًا وقهرًا.

وهذا ما فعلته فرنسا مثلاً سنة 1898 وغيرها من الشعوب الأخرى في تقرير قواعد قانونية من الوجهة التشريعية في نظرية المسؤولية تلتئم مع الضرورات الاجتماعية المدنية العصرية.

وأما المسائل الأخرى الخاصة بنظرية المسؤولية والتي لم يشرع لها تشريع خاص كما حصل سنة 1898 فيما يتعلق بالهلاك الصناعي risque professionel والمسؤولية الشيئية responsabilité objective فإنها قد تأثرت بهذا التشريع الجديد، ووجدت لها منه أكبر نصير في تقرير المبادئ الجديدة والعمل على تفسير النصوص القديمة تفسيرًا يضطرد مع الضرورات الاجتماعية الحديثة interprétation objective لا مجرد الجمود على نصوص قديمة لا تصلح أداة في الإلمام بما جد من طريق الوقوف على ما كان يريده الشارع إذ ذاك، لا على ما تريده الجماعات الحاضرة بتطوراتها الحالية interprétation subjective .

ولقد فاضت أبحاث المؤلفين والكاتبين في نظرية المسؤولية قبل سنة 1898 وبعدها ولم تترك مسألة من المسائل التفريعية إلا وأشبعتها بحثًا على ضوء الضرورات الاجتماعية الحاضرة.

ولكنا نأسف مع الآسفين لما نراه من بعض كبار المؤلفين العصريين مثل بلانيول وكابتان وكولين في إصرارهم وعنادهم المستمر على الأخذ في نظرية المسؤولية طبقًا للمواد الفرنسية الأولى من المادة (1804)، وإن كان أسفنا عظيمًا في هؤلاء العلماء إلا أن اغتباطنا كان أعظم عندما رأينا فريقًا كبيرًا من كبار المؤلفين وأصحاب النهضة العلمية القانونية في الوقت الحاضر قد خرجوا عن حد الوقوف على النصوص القديمة وقرروا مبادئ قانونية تتفق مع النمو العمراني العالمي الاقتصادي مثل Saleilles وجاهد بعضهم في تفسير هذه المبادئ الجديدة الخاصة بالمسؤولية بالرجوع إلى المواد (1382) - (1386) تفسيرًا دقيقًا وبمهارة علمية وجيهة كما فعل الأستاذ Josserand شيخ أستاذة القانون بمدينة ليون.

2 - اللمحة التشريعية

( أ ) التشريع المختلط:

وُضعت القوانين المختلطة سنة 1875 ووضعها المحامي الفرنسي المعروف Maunoury وقد عمل فيها على تقليد الشارع الفرنسي، ولكن جاء التقليد أبتر وممسوخًا، وملاحظاتنا في ذلك ما يأتي:

1 - وردت المواد الفرنسية (1382) – (1386) تحت عنوان (الجنح وأشباه الجنح) déltis et quasi - délits، ووردت المواد المختلطة الخاصة بالمسؤولية (211) - (215) تحت عنوان (الالتزامات الناشئة عن العمل) obligations résultant du fait إذ أدخل معها الشارع المختلط موادًا أخرى خاصة بأعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق. وربما قيل بأنه كان الأجدر فصل هذه الأنواع المختلفة عن بعضها البعض لأن الالتزام الناشئ عن المسؤولية هو غير الالتزام الناشئ عن أعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق.

ولكن نسارع إلى ملاحظة أنه ربما كان في هذا الوضع التشريعي المختلط ما يؤيد مذهبنا الذي سنقول به بعد فيما يتعلق بالمسؤولية الشيئية responsabilite objective (أي المسؤولية التي لا يشترط فيها إثبات التقصير faute بل المسؤولية المؤسسة على مجرد الضرر غير المشروع) أي الرجوع في هذه المسؤولية لا إلى مجرد الجنحة وشبه الجنحة بل إلى مجرد العمل fait.

2 - قررت المادة (211) المسؤولية بالتضامن بين المقصرين وقد فعلت خيرًا لأنها قلدت في ذلك ما كان قد قرره القضاء الفرنسي بعد أن سبق له الأخذ بنظرية عدم التجزئة indivisibilité وهذه المادة لا مثيل لها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1804.

3 - قررت المادة (212) مدني ما يأتي:

(كل عمل مخالف للقانون tout fait poursuivit par la loi يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان عدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).

والمفهوم من هذه المادة ومن عبارة (كل عمل مخالف للقانون) أنها تختص بالمؤاخذة sanction وتقرير الجزاء عن الجرائم الجنائية infractions ولم تتكلم مطلقًا عن الجرائم المدنية dêlits civils وأشباه الجرائم المدنية quasi - delits وقررت هذه المادة عدم مسؤولية من يحدث بالغير ضررًا وهو غير مدرك لما يفعله كالصبي غير المميز أو المجنون أو المعتوه والسكران فيما إذا لم يشرب الخمر بمحض رغبته.

هذه الفقرة من تلك المادة لا نظير لها بالقانون الفرنسي إنما قررها (مونوري) بناءً على ما قرره القضاء الفرنسي في هذا الشأن باعتبار أن التقصير faute لا بد فيه من شرط الإدراك لدى المقصر.

وقد قامت ضجة هائلة عند الشراح حول شرط الإدراك في التقصير إذ لاحظوا ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي لا بد فيها من الإدراك، والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد التعويض وضرورته (بلانيول ج 2 صـ 288 ف 879 هامش 3 الطبعة الثامنة سنة 1921).

وإذا كان القضاء الفرنسي يجري على قاعدة مسؤولية عديمي الأهلية فيما إذا أثروا على حساب الغير من طريق يشبه التعاقد quasi ex coutractu فلماذا لا يصبح هؤلاء مسؤولين أيضًا عندما يلحقون ضررًا بالغير؟ ولقد تأثر القضاء الفرنسي بهذه الضجة وأخذ بما نقول به بحكم واحد (دالوز الدورية سنة 67 رقم 2 صـ 3، ومجلة سيري الدورية سنة 66 رقم 2 صـ 259).

على أن رفع المسؤولية عن عديم الإدراك فيه مساس مزعج أحيانًا بالعدالة المطلقة، إذ ما ذنب رجل بائس يعيش في بيت له يضمه وأولاده ويكد ليله ونهاره في مواساتهم فيأتي له صبي غير مدرك قد ملك من الضياع ما لا عد له ولا حصر فيحرق له منزله ثم هو لا يُسأل عن ذلك، أليس من المزعج عدالة أن يتمتع الصغير غير المدرك بضياعه عند بلوغه بينما يتضور الرجل المحروق منزله ألمًا؟

أليس من العدالة أن ينظر في الأمر بعين نظرية ضرورة التعويض أولى من هذا التحكم في شرط الإدراك على غير جدوى؟

لذا عمل الشارع الألماني على معالجة هذا النقص، فبعد أن قرر بالمادة (827) ما قرره الشارع المختلط بالمادة (212) إذ قرر بالمادة (829) بأنه يجوز الحكم بتعويض عندما تقضي العدالة بذلك.

إن هذا التشريع الألماني معيب من الوجهة الفنية العلمية لأنه يجمع بين النقيضين لمبدأين متعارضين، وكان الواجب علميًا الأخذ بواحد دون الآخر، أما الأخذ بمبدأ التعويض فهو الأوجب لاتفاقه مع المبادئ القانونية الصحيحة من ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي يشترط فيها الإدراك والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد تعويض الضرر، ولأن ذلك ينادي بإجابة صوت العدالة.

أما شارعنا المختلط فقد التزم جانبًا دون الجانب الآخر ويكون قد فعل خيرًا لو كان أخذ على الأقل بما قرره القانون الألماني سنة 1900 لأن القضاء الفرنسي سبق له أن قرر هذا المبدأ الجديد سنة 1866 أي قبل وضع القوانين المختلطة سنة 1875 كما رأينا.

قلنا إن الشارع أراد بالمادة (212) تقرير المؤاخذة عن الجرائم الجنائية ولكن سارع الشارع المختلط إلى سن مادة أخرى ظن في وضعها أنها ترمي إلى تقرير الجزاء عن الجنح المدنية وأشباه الجنح وأراد بهذه المادة الأخرى، وهي المادة (213)، أن يقرر مسؤولية الشخص عن أعماله هو أي جنحة المدنية وأشباه جنحة وعن أعمال من هم تحت رعايته فوضع المادة (213) بالكيفية الآتية (كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم) فجاء هذا الوضع مشوهًا مبتورًا وعلى غاية من المسخ والاضطراب وذلك:

1 - لأن عبارة المادة تفيد أن الإنسان مسؤول عن أعمال من هم تحت رعايته، وأعمالهم هي التقصير faute والإهمال négligence وعدم الدقة والانتباه imprudence فهذه الأعمال المنسوبة للغير هي التي يُسأل عنها الشخص الموكل إليه حق رعاية المقصرين والمهملين والطائشين، وختمت المادة عبارتها بقولها (أو عن عدم ملاحظته إياهم) وهذا التعبير يشعر بأن الشخص مسؤول عن أعمال غيره أولاً وهي التقصير والإهمال والطيش وعن عمله هو ثانيًا وهو عدم الملاحظة، كأن التقصير والإهمال والطيش طائفة مستقلة عن عدم الملاحظة، على أن أصل المسؤولية هو عدم الملاحظة الذي يعتبر في ذاته تقصيرًا faute من جانب الموكول إليه أمر الرعاية، فإذا قصر الموكول إليه أمر الرعاية اعتُبر مسؤولاً عن أضرار الأشخاص الموضوعين تحت رقابته فيما إذا وقع منهم ضرر سببه أعمالهم الخاصة بهم وهي تقصيرهم وإهمالهم وطيشهم، أي أن المسؤولية موقوفة فقط على عدم الرقابة فإذا كانت الرقابة صحيحة فلا مسؤولية، وكان يجب وضع المادة بما يفيد أن المسؤولية واقعة في حالة عدم الرقابة، بمعنى أنه إذا ثبتت الرقابة وثبت أداؤها من جانب الرقيب فلا مسؤولية عليه مطلقًا عند وقوع الحادث، حتى ولو كان سبب وقوع الحادث الأعمال الخاصة بالغير تقصيرًا كان أو إهمالاً أو طيشًا وهذا هو ما قالته المادة (1384) الفرنسية في فقرتها الأخيرة حيث قررت بأن لا مسؤولية إذا أثبت الموكول إليهم الرعاية أنهم لم يستطيعوا منع وقوع الحادث الناشئ عن الضرر، بمعنى أنه لا مسؤولية عليهم حتى ولو قام البرهان على التقصير والإهمال والطيش من جانب من هم تحت رعايتهم إذا ثبتت صحة رقابتهم، وهذا على عكس ما تشير إليه المادة (213) مختلط لأن الفقرة الأولى منها تشعر بالمسؤولية من تقصير الغير وإهماله وطيشه مع ثبوت الرقابة، وهو ما لا يقبله لا الحق ولا العدالة، تلك العدالة équité التي اعتبرت دائمًا وأبدًا أساسًا لنظرية المسؤولية وعلى الأخص في العصر الحاضر الذي نفخت فيه الاشتراكية المعتدلة بروح من عندها.

(ب) ذكرت المادة (213) التقصير والإهمال والطيش وعدم الملاحظة، وهذه صور لشبه الجنحة (يراد بالجنحة المدنية، العمل غير المشروع الضار بالإنسان ويكون فاعله قد تعمد إحداثه، وشبه الجنحة هو نفس العمل غير المشروع والضار ولكنه لا عمد فيه) ولم تذكر مطلقًا الجنحة المدنية.

أو ليس من المعقول أن من يُسأل بسبب تقصير وإهمال وطيش من هم تحت رقابته، يُسأل أيضًا فيما إذا تعمدوا الإضرار بالغير؟

(جـ) لم يقرر الشارع بهذه المادة (213) مسؤولية نفس الشخص عن جنحه هو ولا عن أشبه جنحه هو أيضًا، وكان يجب على الشارع أنه ما دام قد قرر مسؤولية الفرد بالمادة (212) عن جرائمه الجنائية أن يقرر بالمادة (213) مسؤوليته عن جرائمه المدنية، أي الجنح المدنية وأشباه الجنح، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما خانه التعبير السقيم جدًا الذي جعله قالبًا للمادة (213)، لأنه يظهر أنه أراد تقرير ذلك ولكن جاءت العبارة الأخيرة من المادة، وهي (أو عدم ملاحظته إياهم) مذهبة بغرضه (يجب مراجعة النص الفرنسي لأنه أوضح في بيان غرض المشرع من النص العربي لأن هذا النص الأخير قد عالج من حيث الوضع والتركيب بعض الشوائب الشكلية للمادة (213) المذكورة)، وكان الأجدر بالشارع أن يقول بأن الإنسان يُسأل عن تقصيره هو وإهماله وطيشه ويُسأل أيضًا عن نتائج عدم ملاحظة من هم تحت رعايته، ولكنه لم يفعل بل ساق الجمل مع بعضها البعض بحيث تنصرف جميعها إلى أنه مسؤول فقط عن أعمال غيره، وأما أعماله هو فلا يُسأل فيها إلا عن عدم الملاحظة فقط، وهذا نقص معيب كما لا يخفى.

(د) بدأت المادة (213) بعبارة (وكذلك) وهي تشعر مع اتصالها بالمادة (212) المتقدمة عليها بأن لا مسؤولية مطلقًا على الشخص فيما إذا وقع الحادث بمعرفة من هم تحت رعايته وكانوا غير مدركين لما يفعلونه (راجع دي هلتس De Hults ج 4 صـ 10 ن 6) وهذا لا يقبله العقل، لأن الغرض من مسؤولية من وكل إليه أمر العناية بشخص هو تقرير جزاء عند عدم المراقبة على من فرض فيهم القانون نقصًا في الإدراك كالقصر والمجانين والمعتوهين وغيرهم ممن أشارت إليهم المادة (213)، والمفروض أن الحادث يقع بسبب عدم الإدراك أو ضعفه وبسبب عدم الرقابة، وما شرعت الرقابة إلا لأجل سد النقص في الإدراك القائم.

(هـ) هذه هي عيوب المادة (213) باعتبارها في ذاتها، وفي ربطها مع المادة (212) السابقة عليها نرى أن الشارع المختلط قد شوه المواد الفرنسية التي أراد أن يقلدها ويوجزها، فمسخها كل المسخ، أما المواد الفرنسية فقد جاءت في مجموعها جيدة، إذ قررت المادة الأولى منها وهي (1382) مسؤولية الشخص عن عمله باعتباره جنحة مدنية، ثم قررت المادة (1383) مسؤوليته عن شبه الجنحة، وجاءت المادة (1384) وقررت مسؤوليته عن أعمال من هم تحت رقابته أو الأشياء الموجودة تحت يده، ثم بينت من هم هؤلاء الأشخاص الملاحِظون والملاحَظون فقررت أن الملاحظين هم الأب، والأم عند وفاة الأب، والمخدومون Maitres وأصحاب الأعمال والأشغال Commettants والمربون Instituteurs وأرباب الصنائع Artisans وذكرت بأن الملاحَظين هم القصر Mineurs المقيمون مع آبائهم والمستخدمون Préposés وصبية المدارس éléves وصبية المصانع Apprentis.

فجاء الشارع المختلط ونظر إلى الثلاثة المواد المذكورة (1382) و(1383) و(1384) وأراد أن يدمجها كلها في مادة واحدة وهي المادة (213) فجاءت هذه المادة وهي تفيض بهذه الشوائب التي بيناها.

لذلك وجب بحق في تقرير نظرية المسؤولية ضرورة الرجوع إلى المواد الفرنسية فيما ذهب فيه القضاء والفقه الفرنسيان في تفسيرهما، باعتبار أن الشارع المصري لم يرد مخالفة الشارع الفرنسي في شيء، إنما رمى فقط إلى مخالفته في الوضع دون المعنى والجوهر (دي هلس ج 4 صـ 118 ن 8).

لذلك لما جاء الشارع الأهلي سنة 1883 لم يشأ البتة تقليد زميله المختلط في هذا الوضع المشوب بل خالفه بعض المخالفة فيه بما سنبينه بعد.

5 - قررت المادة (214) مسؤولية السيد أو المخدوم عن أفعال خدمته متى وقعت وهم يؤدون العمل له، أي متى كان الضرر واقعًا منهم في حالة تأدية وظائفهم.

ويلاحظ على هذه المادة أنها قد قطعت من المادة (1384) الفرنسية التي جاءت جامعة شاملة.

6 - ثم قررت المادة (215) وهي الأخيرة من مواد المسؤولية مسؤولية مالك الحيوان عن الضرر الناشئ عنه سواء كان في حيازته أو متسربًا، وقد أخذت هذه المادة من المادة (1385) الفرنسية التي جاءت أتم منها إذ قررت مسؤولية المالك حتى ولو كان الحيوان تحت حيازة الغير، وهو ما لم تقل به المادة المختلطة وكان يجب أن تقول به.

7 - قررت المادة الأخيرة (1386) الفرنسية مسؤولية المالك للمباني bâtiments إذا تسبب عنها ضرر ناشئ عن تهدمها ruine فيما إذا كان هذا التهدم آتيًا من عدم العناية بها défaut d’entretien أو من عيب بنفس العمارة vice de construction ولم نرَ أثرًا لهذه المادة بالتشريع المختلط، ولا نعرف الحكمة في عدم نقلها بالقانون المختلط، كما أننا لم نعرف الحكمة لهذا الشارع المتعب في كونه لم ينقل بتشريعه أيضًا هذه الجملة الأخيرة الواردة بالفقرة الأولى من المادة (1384) فرنسي، وهي الفقرة الخاصة بمسؤولية الشخص عن الأشياء الموجودة تحت يده des choses que l’on a sous sa garde ولهذه الفقرة أهمية كبرى وصلة عظيمة جدًا بالمادة (1386) فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية responsabilité objective لأن المادة (1384) قررت مسؤولية الحائز للأشياء بوجه عام ولم تبح حق إقامة الدليل على عدم إمكان منع الضرر، كما أباحت هذا الحق بالنسبة للآباء والمربين فقط، أي أنها لم تبح إقامة الدليل على انتفاء التقصير بالنسبة لمالكي الأشياء أو الحائزين لها وبالنسبة للمخدومين وأرباب الأشغال، وهذا موطن صالح جدًا لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية كما ذهب إليه الأستاذ جوسران Josserand وكذلك المادة (1386) فإنها قررت مسؤولية المالك للمباني عند التهدم الناشئ عن عدم الصيانة وعن عيب لاصق بنفس العمارة ولم تبح هي الأخرى إقامة الدليل على انتفاء التقصير في حالة العيب اللاصق بالعمارة (لأن المسؤولية في حالة عدم الصيانة لا يؤخذ بها إلا عند عدم الصيانة، فإذا ثبتت الصيانة فلا مسؤولية)، وهذه أيضًا بيئة أخرى صالحة لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية أو نظرية الضمان Risqne. وقد ذهب بعض الشارحين إلى القول بأن هذه المادة لم ترد على سبيل الحصر في تقرير المسؤولية بالنسبة للمباني بل جاءت على سبيل التمثيل بالنسبة لجميع الأشياء وذلك استنادًا إلى التعميم الوارد بالعبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من المادة (1384) الخاصة بالأشياء.

فإذا كانت المادة (1384) والمادة (1386) الفرنسيتان هما بتلك الأهمية الكبرى في عالم التشريع والتفسير القضائي والفقهي فكيف جاز حينئذٍ للشارع المختلط وهو المحامي الفرنسي المشهور (مونوري) أن يغفل ذكرهما بينما كان قد بدأ فعلاً المعلق الشهير على الأحكام (لابيه Labbé) الإفاضة في الكتابة على المسؤولية بمجلة سيري Sirey الدورية؟ كيف يغفل أمرهما ومكانهما كما رأينا في عالم القانون؟ كل ما نستطيع أن نقوله في هذا الشأن كما لاحظناه أكثر من مرة في التشريع المصري من سنة 1875 إلى سنة 1183 تقريبًا أن المشرع المصري يُعنَى بالتقليد إلى حد أن ينسى أصول التقليد وأبجدياته، لذا نعيد القول بأن دعامة الشرح في هذه النظرية ما أقامه أطواد القانون في الوقت الحاضر من صروح النقد الحار وإشباع المبادئ القانونية بروح لا تجمد على نص صامت بل تشاد فوق أصول لحمتها الضرورات الاجتماعية وسداها العدالة كما أشار إلى ذلك بحق دي هلس (ج 4 ص 8 ن 2).

(ب) التشريع الأهلي:

أما وقد انتهينا من التشريع المختلط فنأتي الآن على بيان موجز أيضًا لأمر التشريع الأهلي.

لقد عُني بوضع القوانين الأهلية القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo وقد نسخ القوانين المختلطة وعدل فيها بالرجوع إلى الملاحظات الآتية:

1 - أنه جعل المادة أحيانًا تشمل المادتين في القانون المختلط.

2 - لاحظ ما أنتجه العمل القضائي من سنة 1875 إلى سنة 1883 وهي سنة وضع القوانين الأهلية.

3 - أنه خالف في كثير من نصوصه القانون المختلط.

والذي يهمنا من ذلك كله هو ما جاء في المواد الخاصة بنظرية المسؤولية، وقد فعل خيرًا الشارع الأهلي في أنه لم يعمل كما عمل الشارع المختلط في وضع المادتين (212) و(213) ذلك لأنه أدرك أن عبارة هاتين المادتين جاءت مشوهة تشويهًا غريبًا ذهب بالأصول القانونية المرجوة، لذا أخذ الشارع الأهلي يعالجهما، وقد أحسن الاختيار في طريق العلاج حيث إنه نقل المادة (1382) الفرنسية نقلاً وجعلها الفقرة الأولى من المادة (151) من القانون المدني الأهلي ونصها ما يأتي كالأصل المصري الفرنسي العبارة

(Tout fait quelconque de l’homme, qui cause â autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé, â le réparer.)

ثم ورد هذا النص بالنسخة العربية المصرية الأهلية كما يأتي:

(كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر) ومن مقارنة النصين مع بعضهما البعض نرى أن بالنص العربي نقصًا يكاد يذهب بركن أساسي قديم معروف في عالم نظرية المسؤولية وهو ركن التقصير Faute الذي كان دائمًا وأبدًا حتى قبيل العهد الأخير الدعامة التي ترتكن إليها نظرية المسؤولية، لأن كلمة التقصير وردت بالنسخة الفرنسية فأغفلها المترجم إغفالاً جعل النص محلاً للأخذ والرد فيما يتعلق بنظرية استعمال الحق والاعتساف في استعمال الحق Abus du droit والمسؤولية الشيئية Responsabilité objective، وإذا أخذ النص العربي على ظاهره لكان هادمًا لأبسط المبادئ القانونية لأن ظاهره يقرر أن الإنسان مسؤول عن جميع الأضرار التي تصيب الغير بفعله هو، وأيًا كان فعله مشروعًا وغير مشروع، وهذا أمر مستحيل عملاً وعمرانًا، لأن الحياة هي دائمًا وأبدًا في كل عصر وفي كل بيئة عبارة عن مصارعة ومزاحمة بين الأشخاص: هي كسب لفريق وخسارة على فريق آخر، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل منفعة، ويستحيل أن يحصل تحصيل المنفعة دون إلحاق نقص بأموال الغير، والمعاملات بين الناس تشاد فيما بينهم في الأخذ بأكثر من الإعطاء، فإذا كان كذلك وأخذت المادة الأهلية العربية على ظاهرها لترتبت على ذلك استحالة مادية في عالم الحياة: وهذا ما لم يرده الشارع طبعًا، لذا وجب وضع النص العربي بطريقة تتفق تمامًا مع النسخة الفرنسية، بأن تضاف عبارة (بسبب تقصيره) بعد كلمة (فاعله)، وكان يحسن بالشارع الأهلي أن يضع مادة جديدة عقب المادة (151) هذه أو أن يدمجها بها ويكون مرمى المادة الإلمام بنظرية التمتع بالحقوق ومتى يعتبر مشروعًا ومتى يعتبر مصدرًا للتعويض كما فعل ذلك القانون الألماني بالمادة (220) حيث قررت هذه الأخيرة ما يأتي: (لا يباح التمتع بالحق إذا كان الغرض منه منصرفًا إلى إلحاق الضرر بالغير) وهذا المبدأ هو المقرر للنظرية الشهيرة جدًا المعروفة بنظرية الاعتساف في استعمال الحقوق Abus des droits وهي النظرية التي قررها القضاء المصري مختلطًا وأهليًا بأحكام عدة.

أما الفقرة الثانية من المادة (151) فهي نفس المادة (213) مدني مختلط حرفًا بحرف، وما ذكرناه بشأن العيوب الوضعية للمادة (213) مختلط يمكن أن يقال به هنا فلا حاجة لتكراره، وكان يجب على الشارع الأهلي إذا أراد أن يجعل فقرتي المادة (151) متماسكتين ومتلازمتين في تأدية معانٍ منسجمة أن يذكر بالفقرة الأولى ما يشير أيضًا إلى أشباه الجنح الخاصة بفعل الإنسان نفسه كالإهمال والطيش وهما المشار إليهما بالمادة (1383) الفرنسية، ولكن نسارع إلى ملاحظة أن الشراح لاحظوا أن المادة (1383) إنما جاءت تكرارًا للمادة (1382) باعتبار أن هذه المادة الأخيرة تؤدي المعنى الذي قالت به المادة (1383) باعتبار أن التقصير يكون إما إيجابيًا أو سلبيًا، ومع وجاهة هذه الملاحظة أيضًا فإن وضع المادة (151) بفقرتيها يعتبر مع ذلك غير وجيه، لأنه كان يجب ذكر عبارة (الإهمال والطيش) بالفقرة الأولى، وجعل عبارة (عدم الملاحظة) بالفقرة الثانية حتى تكون الفقرة الأولى شاملة للتقصير الإيجابي والسلبي من طريق التعيين، وحتى تكون الفقرة الثانية قاصرة فقط على عدم الملاحظة، مع الإحالة على الفقرة السابقة عليها، أو أن الشارع الأهلي يحذف عبارة الإهمال والطيش من المادة (151) باعتبار أن كلمة التقصير الواردة بالفقرة الأولى تنصرف إلى التقصير الإيجابي والسلبي معًا، لأنه عند عدم التعيين في التقصير ينصرف المعنى إلى التعميم.

هذا التشويه الذي وقع فيه الشارع الأهلي سببه التشريع المختلط الذي كان موضوعًا بين يديه.

وكان على الشارعين الأهلي والمختلط أن يلاحظا هما الآخران ما لاحظه شراح القانون الفرنسي على المادة (1382) فلا يقعان فيما وقع فيه الشارع الفرنسي سنة 1804 إذ لوحظ على المادة (1382) في قولهما Tout fait quelconque أن كلمة quelconque غير صحيحة بجانب كلمة التقصير Faute لأنه ليس كل عمل fait يعتبر ملزمًا بالتعويض، إنما هو العمل التقصيري fait fautif، هذا مع ملاحظته أيضًا أن أنصار نظرية المسؤولية الشيئية يرون في كلمة التقصير الواردة بالمادة (1382) الفرنسية أنها لم ترد من طريق التعيين والتحديد للعمل الضار في ذاته، إنما جاءت فقط من طريق الإيضاح والتفسير، باعتبار أن العمل الضار يعتبر في ذاته مصدرًا للالتزام بالمسؤولية بصرف النظر عما إذا كان قد شابه تقصير أم لا، ويكون المسوغ القانوني حينئذٍ للمسؤولية هو قاعدة الغرم بالغنم لا التقصير، مع ملاحظة أن ذلك لا يتعارض مع حق استغلال الحقوق والمزاحمة في مجال الحياة باعتبار أن للمسؤولية الشيئية مجالاً للعمل غير مجال الانتفاع بالحقوق وتصريفها في وجوهها المشروعة.

ولم يقرر الشارع الأهلي ما قررته المادة (212) مختلط من حيث عدم المسؤولية عند عدم إدراك المتسبب في الضرر، وبماذا يفسر هذا السكوت؟ هل أراد الشارع الأهلي مخالفة الشارع المختلط مخالفة ظاهرة، أي أنه أراد أن لا يأخذ بنظرية شرط الإدراك في المسؤولية المدنية، وأن التعويض حتمي ولو كان المقصر غير مدرك؟ أم أنه أراد أن يقلد الشارع الفرنسي في المادة (1382) التي قررت قاعدة المسؤولية بوجه عام تاركةً أمر التفصيل إلى ظروف الحال وما تمليه هذه على القضاء؟ أم أن الشارع الأهلي أراد بسكوته أن يجاري القضاء الفرنسي فيما ذهب إليه من ضرورة شرط الإدراك (مع ملاحظة أن القضاء الفرنسي حكم سنة 1866 كما بينّا بعدم شرط الإدراك)؟

أمام صمت الشارع الأهلي كان للشكوك والأخذ والرد مجال، وإذا كان الأمر كذلك وجب حينئذٍ تقرير نظرية تتفق مع الأصول القانونية والعدالة.

ولكن قبل تقرير هذه النظرية التي تتفق مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة، وهي النظرية القائلة بعدم توافر شرط الإدراك لما في ذلك من الخلط بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، كما بينّا ذلك في مكانه، نرى أولاً ضرورة معرفة ما هو الرأي الذي يمكن أن يكون قد اتخذه الشارع أمام هذا الصمت الهادئ؟

الذي نقول به بلا تردد أن الشارع الأهلي لو كان أراد أن يأخذ بما قررته المادة (212) المختلطة لكان نقلها حرفًا بحرف إلى تشريعه، وأما كونه لم ينقلها فهذا يقطع على أنه لم يرد الأخذ بها أو على الأقل يقطع في أنه لم يرد البت في هذه النظرية بل تركها لأمر القضاء والفقه.

وأما كونه رجع فيها إلى ما قرره القضاء الفرنسي في ضرورة شرط الإدراك فقد رأينا أن هذا القضاء قضى بعكس ذلك سنة 1866، والذي يهمنا من ذلك كله أن في سكوت الشارع ما يبرر للقضاء والفقه حق تقرير قاعدة قانونية تلتئم مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة.

ولذا نقول بحق بأنه أمام هذا الصمت الأهلي يجب الأخذ بنظرية ضرورة التعويض أي الأخذ بنظرية المسؤولية المدنية وعدم خلطها بنظرية المسؤولية الجنائية كما لاحظ ذلك بلانيول بحق، وكما فعل الشارع الألماني بالمادة (829) في معالجته للمادة (827).

وأما ما قرره القضاء المصري من ضرورة اشتراط الإدراك فهو لم يكن مقنعًا إلى حد التردد فيما تقرره (محكمة أجا الجزئية في 22 يناير سنة 1918، المجموعة الرسمية المجلد 19 صـ 133).

وقد نقل الشارع الأهلي المادتين (214) و(215) مدني مختلط حرفًا بحرف وصاغهما بالمادتين (152) و(153) مدني أهلي، وهاتان المادتان لا تكفيان لتقرير نظرية المسؤولية في باقي وجوهها الأخرى وهي الوحيدة التي أشار إليها الشارع الفرنسي بالمادة (1384) فقرة أولى فيما يتعلق بالمسؤولية الناشئة عن الأشياء الجامدة، وبالمادة (1386) الخاصة بالمسؤولية الناشئة عن تهدم المباني، ولهذا النقص في التشريع المصري مختلطًا وأهليًا مثار للقول فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية، وهي هذه النظرية التي احترقت لها أقلام الكاتبين قبل سنة 1898 والآن أيضًا، وعلى الأخص فيما يتعلق بمصرنا لأنه لم يتقرر للآن ببلادنا قوانين للعمال تقوية بنظرية الضمان الصناعي risque professionnel.

عبد السلام ذهني

مدرس بمدرسة الحقوق الملكية

قانون الشهر العقاري من الناحية العملية

مجلة المحاماة – العددان التاسع والعاشر

السنة السابعة العشرون سنة 1947

المحاضرة

التي ألقاها حضرة صاحب العزة الأستاذ محمود شوقي بك الأمين العام لمصلحة الشهر العقاري (بنادي المحامين بمصر في خلال شهر إبريل سنة 1947)

(قانون الشهر العقاري من الناحية العملية)

القسم الأول

عندما اعتزمت إلقاء محاضرة في الشهر العقاري وكانت أول ما يلقي في هذا الصدد تناوبتنى عوامل عدة: هل أتحدث إلى حضراتكم عن القانون من الناحية التاريخية أو من الناحية الفنية القانونية أو من الناحية العملية، فلو أنني تكلمت عن الشهر العقاري في مختلف هذه النواحي لأخذ من الوقت ما إذا أضيف إلى جمود الموضوع وصلابته ما كان كفيلاً بألا يبقى قبل انتهاء هذه المحاضرة في الصالة إلا ملقيها.

ولذلك قد رأيت ألا أتحدث اليوم عن قانون الشهر العقاري إلا من الناحية العملية تاركًا النواحي الأخرى لفرص قادمة بإذن الله وذلك لأن هذه الناحية العملية هي صاحبة الأهمية الأولى لكل مشتغل بالقانون، لأنني أعتقد أنه لا غنى لمشتغل بالقانون سواء كان في القضاء أم في المحاماة عن الالتجاء إلى قانون الشهر في كثير مما يعرض عليه في اليوم الواحد، وأعتقد أن لشرح هذا الموضوع من الناحية العملية فيه راحة للجمهور وراحة لمن عهد إليهم تنفيذ النظام الجديد.

صدر قانون تنظيم الشهر العقاري محققًا لأمنيتين:

1 - إحاطة الملكية العقارية بسياج من الضمان الكفيل باستتباب المعاملات الخاصة بالحقوق العينية على أساس سليم.

2 - تركيز كافة أعمال الشهر في هيئة واحدة مستقلة تهيمن على شؤونها عناصر قانونية ولعل هذه الأمنية الأخيرة التي جاشت في الصدور منذ أواخر القرن الماضي وتعذر تحقيقها إذ ذاك لاعتراض ممثلي الدول على سلب جزء هام من اختصاص المحاكم المختلطة التي كانت تتولى عملية الشهر فيما يتعلق بحوالي 90 % من المحررات.

على أن ذلك التفكير ظل موجودًا واستمرت المحاولات نحو تحقيق هذا الغرض إلى أن تهيأت أخيرًا الفرصة بعد أن استردت الحكومة المصرية كامل حريتها في التشريع وبعد أن اقترب ميعاد انتهاء فترة الانتقال للمحاكم المختلطة.

فألفت لجنة برئاسة معالي كامل مرسي باشا قامت بوضع القانون الجديد الذي كان من المصادفات الطريفة أن تولي معاليه وزارة العدل وقد انتهت اللجنة من عملها فباشر معاليه باقي خطواته إلى أن صدر كتشريع من تشريعات الدولة يحوي إصلاحًا لعله من أهم الإصلاحات التي تمت في مصر في المدة الأخيرة.

أنشئت إذن هيئة مستقلة سماها القانون المكتب الرئيس للشهر تهيمن على مكاتب للشهر في مختلف عواصم المديريات عددها 15 ومأموريات في مراكز القطر عددها الآن 83 مأمورية وقد بلغ من الحرص في تحقيق استقلال هذه الهيئة فيما يختص بمباشرة عملها أنه كان قد اقترح في المشروع إعطاء رؤساء المحاكم حق تفتيش المكاتب الواقعة في دائرة اختصاص محاكمهم مرة كل ثلاثة شهور أو كل ما استدعى العمل ذلك إلا أن هذا النص وكان المادة الثامنة من المشروع حذف في البرلمان لما رآه من ضرورة إشاعة الثقة بين الجمهور في الإدارة الحكومية فضلاً عن أن تتبع هذه المكاتب للأمين العام ثم وضعها في نفس الوقت تحت تفتيش رؤساء المحاكم لا يستقيم مع طبيعة الأشياء.

وقد نص القانون على سلخ أعمال التسجيل من مختلف المحاكم ومنحها للمكاتب التي أصبح كل منها مختصًا دون سواه بشهر المحررات المتعلقة بعقارات أو بأجزاء من عقارات واقعة في دائرة اختصاصه ويستتبع ذلك أنه لا يكون لشهر محرر يحوي عقارات تقع في دائرة اختصاص أكثر من مكتب أثر إلا إذا شهر في كل من المكاتب المختصة – فإذا اقتصر صاحب الشأن على شهر محرر في مكتب معين فلا يكون لهذا الشهر قيمة إلا بالنسبة للعقارات التي تقع في دائرة اختصاص هذا المكتب فقط والذي يحدث عمليًا أن يقدم المحرر إلى مكتب الشهر الأول فتتم فيه جميع عملية الشهر ثم يعطي صاحب الشأن بناءً على طلبه صورة خطية طبق الأصل من المحرر على الورق الأزرق الخاص ليتولى تقديمها إلى المكتب الثاني لإجراء نفس العملية فيه.

وقد نص القانون الجديد على أن عملية الشهر تتم على مرحلتين:

أولاً: المرحلة الأولى ويصح أن نسميها المرحلة التمهيدية تتم في المأمورية.

ثانيًا: المرحلة الثانية وهي عملية الشهر ذاتها وتتم في المكتب.

وألقى عبء القيام بالمرحلتين على أصحاب الشأن دون سواهم أو من يقوم مقامهم وبذلك زال عن أقلام الكتاب عبء تسجيل بعض المحررات التي كان يقضي القانون بتكليفها بمباشرة عملية الشهر فيها كأحكام رسو المزاد وأحكام الشفعة وأوامر الاختصاص وتبدأ المرحلة الأولى في الشهر بتقديم طلب موقع عليه من صاحب الشأن من أصل على ورقة دمغة وثلاث صور على ورق عادي وهو المتصرف أو المتصرف إليه في العقود مثلاً أو لمن كان المحرر لصالحه في أوراق الإجراءات أو صحف الدعاوى أو الأحكام.

واشترط القانون وجوب اشتمال الطلب على بيانات معينة تبين بطريق التفصيل شخصية كل طرف في المحرر وبيان العقار بالدقة وبيان التكليف وأصل الملكية والحقوق العينية المقررة على العقار المتصرف فيه وخصوصًا ارتفاقات الري والصرف وأشار القانون أنه يجب أن يرفق بالطلب ما يؤيد البيانات الواردة فيه خاصة بالصفة والتكليف وأصل الملكية من مستندات.

وقد حدد القانون في المادة (23) المستندات التي تقبل في إثبات أصل الملكية والحق العيني المتصرف فيه وهي أربعة:

1 - المحررات التي سبق شهرها.

2 - المحررات الثابتة التاريخ قبل أول يناير سنة 1924 من غير وجود توقيع أو ختم لإنسان توفي وطبعًا هذا تنفيذًا لقانون سنة 1923 الذي اعتبر العقود الثابتة التاريخ قبل سنة 1924 في حكم العقود المسجلة والقانون رقم (30) سنة 1942 الذي استبعد وجود الختم أو توقيع لإنسان توفي كطريقة من طرق إثبات التاريخ فيما يختص بجواز شهر المحررات.

وهذا النص الحكيم استبعد ما كان يلجأ إليه بعض الأفراد من افتعال عقود ملكية وإعطائها تاريخًا سابقًا لسنة 1924 ووضع ختم أو توقيع لإنسان أو استحضاره شهادة إدارية أو شهادة بوفاة ذلك الشخص ومحاولة اعتبار هذا العقد في حكم العقود المسجلة تهربًا من تعذر إثبات ملكيتهم على الوجه الصحيح.

ويحضرني أنه أثناء رئاستي لمحكمة المنصورة المختلطة ضبط عند أحد وكلاء الأشغال أوراق بيضاء تحمل في ذيلها ختمًا لشخص توفي قبل سنة 1924 وكان يحتفظ بها لتسهيل مأمورية من يلجأ إليه من الأفراد فيملأ الورقة على اعتبار أن العقار الذي تصرف فيه بيع إليه من ذلك الشخص.

3 - الوصايا التي تمت قبل أول يناير سنة 1947 بتوفر شرطيها (الوفاة والقبول) والحكمة في هذا أن الوصية الوصية كطريق من طرق التمليك لم تكن خاضعة للشهر في ظل النظام القديم.

4- المحررات السابقة التاريخ على سنة 1924 إذا كان قد سبق أخذ بها في عقد شهر أو نقل التكليف بمقتضاه لمن صدر لصالحه والحكمة في هذا أن إنسانًا يحمل عقدًا سابق تاريخه على سنة 1924 بأي طريق ويملك به عقارًا معينًا فباع منه النصف بعقد مسجل قبل القانون الجديد ويريد الآن أن يتصرف في النصف الآخر من العقار فالقانون الجديد يبيح له حق التصرف استنادًا على هذا العقد أسوة بما اتبع في ظل القانون السابق.

5 - واعتبر القانون كذلك في المادة (55) (وهذا حكم وقتي) بطريق الاستثناء كمستند من مستندات الملكية العقود التي تحمل تاريخًا سابقًا على سنة 1924 إذا كانت قد اعتبرت سندًا للتمليك في عقد تم توثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وأصدر بشأنه حكم صحة التعاقد أو توقيع قبل أول يناير سنة 1947.

وبمجرد تلقي الطلب في المأمورية ودفع مبلغ 100 قرش بصفة كفالة تصادر بقوة القانون إذا لم يسجل المحرر في بحر سنة من تاريخ تقديم الطلب تقوم المأمورية بتدوينه في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية الطلبات وذلك حسب تاريخ وساعة تقديمه ثم تعطي إيصالاً لصاحب الشأن مبين به رقم أسبقيته في هذا الدفتر وما يرفق به من مستندات ثم تتولى المأمورية بحث الطلب من الناحيتين القانونية والهندسية فإذا ما وجد مستوفٍ أشر عليه بالقبول للشهر ورد إلى صاحب الشأن أما شخصيًا وأما بواسطة البريد في ظرف ثلاثة أيام من التأشير عليه بالقبول ويقوم صاحب الشأن بتجهيز مشروع المحرر من واقع الطلب المؤشر عليه بالقبول ثم يعاد إلى نفس المأمورية مرفقًا به أصل الطلب والمستندات وبمجرد تقديم مشروع المحرر تقوم المأموية بتدوينه حسب تاريخ وساعة وروده في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية مشروعات المحررات وتعطي بذلك إيصالاً لصاحب الشأن تبين به رقم أسبقيته في ذلك الدفتر فإذا ما وجد المشروع مطابقًا للبيانات الواردة في الطلب المؤشر عليه بالقبول تقوم المأمورية بالتأشير عليه بصلاحيته للشهر بختم مخصوص اسمه صالح للشهر.

تقوم كذلك بوضع هذا الختم على كافة المستندات والوثائق التي ستلحق بالعقد مثل التوكيل والمكلفة والإعلام الشرعي وقرارات المجالس الحسبية.

وما دام المشروع قد أصبح صالحًا للشهر فيصدق على التوقيعات فيه أو يوثق ثم يقدم لمكتب الشهر المختص لإجراء عملية الشهر نفسها.

ولعل نظام تدوين الطلبات ومشروعات المحررات في دفاتر خاصة هو من ضمن الأشياء الجديدة التي استحدثها القانون إذ أنشأ بذلك نظامًا للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات يظهر أثره في حالة تقديم طلبات متعارضة أو ممكن أن تتعارض فيها المصلحة، فمثلاً – شخص رهن عقار ثم باعه وقدم طلبان أحدهما للرهن والثاني للبيع أو شخص يملك عقارًا باع منه 15 قيراطًا ثم باع 12 قيراطًا من نفس العقار فيقضي القانون في هذه الحالة بإيقاف الفصل في الطلب اللاحق إلى أن تستوفي إجراءات الطلب الأول.

وفي حالة إعادة الطلب الأول مستوفي أو مشروع الطلب الأول مؤشرًا عليه بالصلاحية لا يعاد الطلب الثاني أو مشروع المحرر الثاني إلا بعد انقضاء فترة موازية للفترة الواقعة بين تقديم كل منهما على ألا يتجاوز سبعة أيام في الطلبات وخمسة أيام في مشروعات المحررات.

ولا شك أن نظام الأسبقية سيضع حدًا لعيوب القانون القديم ويحمي المشتري الجاد الذي يباشر إجراءات نقل الملكية - إنما هذه الحماية ليست مطلقة بالقانون يحميه طالما هو مستمر حثيثًا في إنهاء كافة العمليات إذ يمكن أن تنعكس الأسبقية الخاصة بالطلب في مشروع المحرر لو أن صاحب الطلب الأول أهمل في تقديم مشروع المحرر في الوقت المناسب إذ لا يمكن أن تستمر حماية القانون لصاحب الطلب الأول إلى ما لا نهاية.

فإذا فرضنا أن الطلب الأول غير مستوفي منح صاحبه مهلة خمسة عشر يومًا لاستيفاء البيانات الناقصة وأوقفت الطلبات اللاحقة دون أن تستوفي فهذه المدة ليست على سبيل التحديد فيمكن لأمين المكتب أن يمدها إذا اتضح له أن عدم الاستيفاء يرجع إلى سبب خارج عن إرادة الطالب، فإذا لم يستوفى الطلب إما لعجز وإما لتقصير فلا تزول الأسبقية إلا بقرار مسبب من أمين المكتب بعد عرض الأمر عليه كتابة بواسطة المأمورية.

وهذا القرار يعلن لصاحب الشأن الذي له في ظرف عشرة أيام وهذه نقطة هامة جدًا إذ يحدث في بعض الأحيان أن يلجأ صاحب الطلب الغير مستوفٍ إلى الإدارة العامة للشهر ولا يلجأ للحق الذي يمنحه إياه القانون، فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لمن طلب إليه استيفاء بيان لا يرى وجهًا لاستيفائه أو لمن تقرر سقوط أسبقيته بسبب نقص في البيانات أن يقوم في ظرف عشرة أيام بتجهيز مشروع المحرر وتوثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وسداد الرسم عنه ثم الالتجاء إلى أمين المكتب ويطلب منه إعطاء محررة رقم شهر مؤقت ويجب على أمين المكتب في هذه الحالة أن ينفذ هذه الرغبة وأن يقوم من جهته بعرض الموضوع بكافة نواحيه على قاضي الأمور الوقتية الواقع في دائرتها المكتب بعد أن يكون صاحب الشأن قد قام بسداد الكفالة وقدرها نصف في المائة من قيمة الالتزام على ألا تتجاوز عشرة جنيهات - فإحدى حالتين:

1- إما أن يرى القاضي أن الأوراق مستوفاة وتحققت بذلك الشروط الواجب توافرها للشهر فيأمر به وبذلك يصير الرقم الوقتي نهائيًا ويتأشر بذلك في الدفاتر وترد الكفالة لصاحبها.

2 - وإما أن يرى القاضي أن مكتب الشهر محق وأن الشروط غير متحققة فيما مر بإلغاء الرقم الوقتي الذي يصير إلغاؤه والتأشير بذلك في الدفاتر وتصادر الكفالة بقوة القانون (التأشير الهامشي مادة (37)).

هذه هي المرحلة التمهيدية التي يجب أن يمر بها أي محرر صالح للشهر سواء كان عقدًا أو أوراق إجراءات أو صحف دعاوى أو أحكام صحة تعاقد وفيما يختص بهذه الأخيرة فقد نص عليها القانون صراحة أي أن صدور حكم بصحة التعاقد لا يعفي من صدر لصالحه من المراجعة الأولية لنوع العقد الصادر الحكم بصحته.

بقيت مرحلة الشهر التي تتم بإحدى الطرق الثلاث: التسجيل أو القيد أو التأشير الهامشي وهي مرحلة قديمة معروفة ليس فيها جديد إلا أن الفهارس الأبجدية وهي أساس الشهادات العقارية أصبح يدرج فيها جميع أصحاب الشأن في المحرر بعد أن كان يكتفي بدرج اسم المتصرف فيها فقط.

لذلك اعتبارًا من أول يناير سنة 1947 يمكن أن يكون طلب الشهادة عن التصرفات الصادرة لصالح الشخص بعد أن كانت قاصرة على التصرفات الصادرة ضده فقط.

أما فيما يختص بالمحررات الواجبة الشهر فإنما ما يستخلص من القانون الجديد أن كل محرر خاص بحق عيني عقاري مهما كان نوعه سواء بين الأحياء أو تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت يخضع لنظام الشهر العقاري وبذلك أضاف القانون الوصية والوقف ومراسيم نزع الملكية للمنفعة العامة وقرارات توزيع طرح البحر ورتب القانون جزاءً صارمًا فيما يختص بالحقوق العينية الأصلية ونفس الجزاء المنصوص عليه في القانون القديم بأن الملكية لا تنشأ ولا تنتقل ولا تتغير ولا تتبدل إلا بالتسجيل، أما الحقوق العينية التبعية والتصرفات والأحكام النهائية المقررة لحق عيني عقاري حتى ولو كانت قسمة أموال موروثة فلا تسري على الغير إلا إذا تم شهرها.

وأخضع القانون للشهر الإيجارات والسندات التي ترد على منفعة العقار لأكثر من تسع سنوات والمخالصات والحوالات التي تزيد عن ثلاث سنوات مقدمًا ورتب جزاء أنها لا تسري قبل الغير إلا للمدد السابقة.

وأحدث ما في القانون هو شهر حق الإرث ويتم بشهر السند أو الحكم المثبت لحق الإرث مع قائمة بعقارات التركة وهذا الحق للوارث أو لكل صاحب مصلحة ورتب جزاءً على هذا يتلخص في عدم تمكين الوارث من التصرف إلا إذا كان حق إرثه التالي لسنة 1946 مسجلاً وهذا طبيعي إذ لم يكن في استطاعة الشارع أن يضع حدًا للقاعدة القانونية التي تقول - بانتقال الملكية بمجرد الوفاء ورغبته مع ذلك في إلزام الورثة بتسجيل حقوقهم لإظهار جميع التطورات في الملكية العقارية في البلاد فرأى أن يوفق بين الأمرين فالوارث يملك لا نزاع فيه ولكن نمنعه من التصرف إلا إذا قام بتسجيل حق الإرث ومن فوائد هذا النظام الجديد أن يظهر الديون العادية التي قد تكون للغير قبل التركة حماية للوارث وللمتعامل معه ولنفس الدائن ولذلك أجبر القانون كل صاحب دين عادي قبل التركة أن يقوم بشهر دينه بطريق التأشير الهامشي على هامش تسجيل حق الإرث فإذا تم التأشير في بحر السنة من تسجيل حق الإرث كان له أثر رجعي قبل التركة وإذا تسجل بعد سنة كانت له مرتبة من وقت إجرائه فقط ولذلك تسري قبله جميع تصرفات الوارث السابقة وللوارث أن يقصر الشهر على جزء معين من عقارات التركة ولكن في هذه الحالة نعتبر هذا الجزء وحده لا يمكن أن يتصرف فيها الوارث إلا في حدود نصيبه الشرعي في الميراث وآخر حدود الوحدة هي مكتب الشهر بدائرة المديرية.

أما فيما يختص بعرائض الدعاوى فقد نص القانون في المادة (15) على أن كل دعوى الغرض منها الطعن في التصرف وجودًا أو صحة أو نفاذًا وهذا تعريف شامل وذكر على سبيل المثال دعاوى البطلان والفسخ والإلغاء والرجوع يجب شهرها بطريق التأشير الهامشي فإذا لم يكن العقد المطعون فيه مسجلاً شهرت هذه الدعاوى بطريق التسجيل كذلك يجب تسجيل دعاوى استحقاق أي حق من الحقوق العينية أو دعاوى صحة التعاقد مما استبعد دعاوى صحة التوقيع.

وطريقة الشهر واحدة بالنسبة للمحررات وصحف الدعاوى أي أنها يجب أن تمر بالمرحلة التمهيدية قبل إعلانها وقيدها ولكن لا تتم عملية الشهر الحقيقية فيها إلا بعد قيدها بجدول المحكمة وذلك رغبة من الشارع في الاستيثاق من جدية الدعوى على أن قيدها في جدول المحكمة سيفصل فيها على أي الحالات.

ولا يجب أن يفهم أن نص القانون على وجوب تسجيل هذه الصحف معناه امتناع المحاكم عن نظر الدعاوى إذا لم تكن صحفها قد شهرت أو إيقاف نظر الدعاوى إلى أن يتم شهر صحائفها لأن القانون رتب جزاءً غير مباشر على إهمال تسجيل عرائض الدعاوى إذ قد نص على أنه إذا صدر حكم نهائي بشأن حق عيني عقاري وكانت صحيفة الدعوى مسجلة أو مؤشر بها ثم شهر الحكم وهذه الأحكام لا تشهر إلا بطريق التأشير الهامشي فإن حق صاحب الشأن يتقرر بأثر رجعي ابتداءً من تاريخ تسجيل عريضة الدعوى أي أنه بمعنى آخر إذا أهمل تسجيل العريضة وصدر له حكم ثم طلب شهرة فهنا يتطلب منه إجراءين:

1 - أن يسجل العريضة.

2 - ويؤشر بمنطوق الحكم على هامش العريضة.

ويمكن أن تتم هاتين العمليتين في نفس الوقت إنما حقه لا يتقرر إلا من تاريخ تسجيل العريضة وقد نص القانون على الالتجاء إلى قاضي الأمور المستعجلة في حالة التأشير بدين عادي على التركة أو بصحيفة الدعوى للنظر في إلغائه إذا كان سند الدين العادي المطعون فيه طعنًا جديًا أو كانت الدعوى ظاهرة الكيدية.

ومما استحدثه القانون أيضًا النص على وجوب شهر حق امتياز البائع منفصلاً عن تسجيل عقد البيع الوارد فيه ويتم ذلك الشهر بقائمة تحرر من واقع عقد البيع وموقع عليها من صاحب الشأن توقيعًا عاديًا وتقدم للمكتب المختص لإجراء شهرها وقد نص القانون على أن مرتبة امتياز البائع لا تترتب إلا من تاريخ إجراء ذلك القيد حتى ولو كان عقد البيع مسجلاً.

ولا يفوتني أن أذكر بهذه المناسبة أن جميع الحقوق العينية التبعية التي تشهر بطريق القيد أي بطريق قائمة تحرر من واقع العقد المرتب للحق العيني يجب أن تكون القائمة موقعًا عليها من طالب القيد توقيعًا عاديًا إلا إذا كان الحق المراد شهره لم يكن خاضعًا لإجراء القيد قبل القانون الجديد مثل رهن الحياز العقاري وامتياز البائع وامتياز المقتسم السابق على سنة 1947 فإن هذه الحقوق وقد خضعت للقيد وبالتالي للتجديد العشري يجب أن تتم إجراء قيدها من جديد قبل انتهاء عشرة سنوات على تاريخ العقد المسجل المرتب لها أو في بحر سنة 1947 أي المدتين أطول.

ففي هذه الحالة الأخيرة يجب أن تكون القائمة مصدقًا على التوقيع فيها كما يجب أو تمر بكافة إجراءات الشهر طبقًا للنظام الجديد.

هذا جزء من كثير كان بودى أن استوفى عرضه على حضراتكم ولكني سأقتصر على ذلك خوفًا من التشهير بالشهر.

وإني أشكر مجلس النقابة الذي هيأ لي هذه الفرصة كما أشكر حضراتكم لتفضلكم بالحضور والاستماع إلى وأرجو أن أوفق إلى فرصة أخرى لأوفى المسائل العديدة التي جاء بها القانون لاستيفاء حقها من البحث.

القسم الثاني

تحدثنا إلى حضراتكم في المحاضرة الماضية عن إجراءات الشهر بطريقة مبدئية وعما استحدثه القانون الجديد من نظام للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات لعله إن لم يمنع بطريقة قاطعة التصرف مرتين في عقار واحد سيوقف مثل هذه المعاملات ويقلل منها بدرجة تقطع الشكوى السابقة على القانون الجديد وتبث الطمأنينة في نفوس المتعاقدين مع صاحب عقار معين، وشرحنا ما يترتب على هذه الأسبقية من حق لصاحب الطلب الأول في حالة ما إذا تعارض معه طالب لاحق وبينا أن هذه الحماية حماية نسبية أي أن القانون يحمي صاحب الطلب الأول طالما يسير حثيثًا وبطريقة جدية في كافة إجراءات الشهر من تمهيدية إلى نهائية.

وقد بينا أيضًا ما أخضعه القانون لإجراءات الشهر من محررات جديدة لم تكن خاضعة له من قبل كما عددنا المحررات التي غير القانون طريقة الشهر فيها مثل رهن الحياز العقاري الذي أصبح يقيد بعد أن كان يسجل، ثم بينا لحضراتكم طريقة الطعن في تصرفات المكتب في حالة ما إذا كلف أصحاب الشأن استيفاء بيان لا يروا وجهًا لاستيفائه أو في حالة صدور قرار من الأمين لسقوط أسبقية الطلب الأول في حالة تعارض طلبين.

وسأقوم اليوم بتكملة ما لم يتسع الوقت في المحاضرة السالفة إلى شرحه وبيانه ومما يتصل اتصالاً وثيقًا بالناحية العملية في القانون.

قلنا لحضراتكم أن إجراءات الشهر تتم بثلاث طرق التسجيل والقيد والتأشير الهامشي وكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها يجب اتباعها فيما يختص بالإجراءين الأول وهما التسجيل والقيد فيما عدا فارق بسيط وهو أن التسجيل يتم بشهر المحرر نفسه، أما في حالة القيد فلا يشهر إلا ملخص للمحرر اصطلح على تسميته بالقائمة تحرر بمعرفة صاحب الشأن ويوقع عليها منه توقيعًا عاديًا وتقدم إلى مكتب الشهر العقاري مع المحرر المرتب للحق العيني التبعي وهذه القائمة المحررة على الورق الأزرق الخاص هي التي يصير شهرها ويحتفظ بالمحرر كمستند من مستندات إجراء الشهر.

ولقد قابلتنا صعوبة في حالة الرهن الرسمي وهو الرهن التأميني وفي حالة عقد البيع الرسمي الذي يحوي امتيازًا للبائع فإن إجراءات إعطاء صورة من هذين العقدين لشهر القائمة على أساسها قد تتطلب وقتًا وبذلك يتعذر على صاحب الشأن إجراء القيد في هذه الفترة مما قد يعرض حقه للتزاحم أو لضياع الأسبقية في الشهر إذا ما تم شهر حق عيني لآخر سواء كان أصليًا أو تبعيًا في بحر المدة التي تعطي فيها صورة المحرر الرسمي ولذلك وإلى أن يصدر قانون التوثيق المعروض الآن على مجلس الشيوخ موحدًا الهيئة التي تتولى الشهر والتوثيق قد رأينا مخاطبة رئاسة محكمة الاستئناف المختلطة التابع لها أقلام التوثيق الحالية أن تطلب إلى أصحاب الشأن تقديم نسختين من المحرر تعتبر إحداهما أصلاً والثانية صورة تسلم إلى صاحب الشأن في نفس اليوم حتى يمكن أن نبادر إلى شهر القائمة الخاصة به.

وبهذه المناسبة نقول إن مراجعة الموثق للأهلية أو الرضاء أو الصفة أو ما يؤيد ذلك من مستندات لا يعفي المسجل أي موظف الشهر من المسؤولية بحال فعليه أن يراجع هذه المستندات مراجعة دقيقة وأن يراجع العقد الذي تم توثيقه حتى يتأكد من أن إجراء القيد المرتب للحق العيني فعلاً قد تم طبقًا للقانون.

ولا يخفي على حضراتكم أن هذه المهمة الأخيرة أي مهمة القيد هي التي تعطي للعقد قوته وحجيته ويجب إذن أن تحاط بكافة ضمانات المراجعة اللازمة.

ويجب أن تشتمل القائمة أو ملخص العقد على اسم الدائن وصفته كاملة ومحل إقامة مختار في دائرة المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها العقار موضوع المحرر.

ورتب القانون جزاءً على عدم اختيار محل الإقامة أن كل إعلان إليه في قلم كتاب هذه المحكمة يكون صحيحًا وتترتب عليه كافة النتائج، ثم يذكر اسم المدين أو من رتب الحق العيني على عقاره أن كان غير مدين وتعريفه تعريفًا كافيًا، ثم تاريخ السند والجهة التي أصدرته ومصدر الدين المضمون كاملاً وتاريخ استحقاقه وبيان العقار بالدقة والإيجار للراهن إذا كان قد نص عليه في عقد رهن الحيازة العقاري.

ولو أن القانون نص على وجوب ذكر هذه البيانات كاملة إلا أنه نص في المادة (41) أنه لا يترتب على إغفال بيان من هذه البيانات بطلان إلا إذ نتج عن ذلك ضرر للغير بل أنه اشترط أيضًا أن لا يطلب البطلان إلا من وقع عليه الضرر فعلاً - وأعطى في هذه الحالة للمحكمة سلطة تقديرية، فلها أن تبطل القائمة أو أن تقصر من مداها تبعًا لطبيعة الضرر ومداه، على أنه فيما يختص بمقدار الدين فقد جاء صراحة في القانون أنه في حالة حصول خلاف بين العقد والقائمة فيما يختص بقيمة الدين فتقصر قيمة القائمة على أي المبلغين أقل في كل منهما.

وقد اشترط القانون أنه يجب تجديد القيد في خلال عشر سنوات وإلا سقط القيد وليس معنى هذا أن من سقط قيده لعدم تجديده في خلال العشر سنوات فقد كافة حقوقه فإن القانون منحه الحق في إجراء قيد جديد تكون له مرتبته من وقت إجرائه ولكن مع تحديد بسيط وهو أن يكون ذلك ممكنًا قانونًا أي أن يكون العقار ما زال في ذمة المدين فإذا كان العقار قد خرج من ذمة المدين لأي سبب من الأسباب امتنع مكتب الشهر عن إجراء القيد الجديد، ولا يكون لكل تجديد قوة إلا في خلال عشر سنوات من تاريخ إجرائه أي بمعنى آخر إذا جدد شخص قيدًا مضى عليه تسع سنوات ونصف فلا يسري لعشر سنين زائد النصف بل لعشر سنين فقط من تاريخ حصوله.

وأوجب القانون التجديد حتى في أثناء سير إجراءات نزع الملكية وإلى أن ينقضي الحق أو يطهر العقار وبوجه خاص إذا بيع العقار قضاء وانقضى ميعاد زيادة العشر.

ولست أنا في معرض أن أبين لحضراتكم ما ترتب على هذا النص الأخير من نتائج قانونية إذ سنقتصر الآن ونبقى في نطاق الدائرة العملية، وما دمنا في صدد القيد فيحسن أن لا ننتقل إلى وضوع آخر قبل الكلام على المحو أو محو هذا القيد – فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لا يجوز محو القيد إلا بعقد رسمي أو بحكم نهائي فالأصل إذن أن يكون التقرير بالمحو موثقًا ولكن لما كان رهن الحيازة العقاري يتم بعقد عرفي مصدق على التوقيع فيه كان من التصعيب على المدين أن نلزمه بالحصول على إقرار موثق لمحو قيد بعقد عرفي ولذلك رأى الشارع أن يكتفي في هذه الحالة بتقرير عرفي صادر للدائن مصدق على التوقيع فيه أسوة بما يتم في الرهن الحيازي نفسه.

ويتم شهر عقد المحو أو الحكم النهائي بالمحو بطريق التأشير الهامشي وسيأتي الكلام عن هذه الطريقة فيما بعد فإذا ما ألغى المحو لسبب من الأسباب عادت للقيد مرتبته الأولى ومع ذلك فلا يكون لهذا القيد قيمة بالنسبة إلى من تلقى حقًا بحسن نية من المدين في الفترة بين إجراء المحو وإلغائه ولا أود هنا أيضًا أن استعرض ما أثاره هذا النص من تخريجات قانونية مبقيًا ذلك إلى فرصة أخرى إذا سمحت بذلك النقابة ولم أكن قد أثقلت عليكم بهذه المادة العقيمة ووددتم أن تشرفوني مرة أخرى للاستماع إلى).

ونظم القانون طريقة الشهر بطريق التأشير الهامشي وهي كما قلت لحضراتكم في المحاضرة الأولى تشهر بها دعاوى الطعن صحة ونفاذًا ووجودًا في عقود سبق شهرها أو الأحكام التي تصدر في هذه الدعاوى أو في دعاوى استحقاق الحقوق العينية أو في دعاوى صحة التعاقد ويشهر بها أيضًا حق الدائن العادي على التركة وأخيرًا محو القيد وإلغائه.

وتتلخص الإجراءات الخاصة بالتأشير الهامشي في تقديم طلب إلى مكتب الشهر المختص أي الذي شهر فيه المحرر المراد إجراء التأشير على هامشه ويكون هذا الطلب مشتملاً على اسم الطالب وتعريفه تعريفًا شاملاً وعلى بيان المحرر المراد التأشير على هامشه ورقم شهره والسند الذي يبيح التأشير سواء كان عقدًا أو إقرارًا أو حكمًا ومضمونه والجهة التي أصدرته وأسماء ذوي الشأن فيه ويرفق بالطلب كافة المستندات المؤيدة بما جاء به.

ويبحث هذا الطلب في مكتب الشهر المختص للتأكد من صحة ما جاء به من بيانات ومطابقتها للمستندات المرافقة له على أنه قد يحدث في بعض الأحيان أن يتم عقد على عقار كقيد مثلاً ثم يراد محو هذا القيد بعد مرور فترة معينة فسيبين بطبيعة الحال في عقد المحو بيان العقار المراد تطهيره بهذه الطريقة من الحق العيني وقد يحدث في مثل هذه الحالة أن تكون البيانات المساحية قد اختلفت فيما بين الفترتين أي فترة القيد وفترة إجراء المحو وقد يترتب على ذلك أن يتصور المكتب أن العقار المراد محو الحق العيني عنه هو بخلاف العقار الوارد في قائمة القيد وفي هذه الحالة قد صرح القانون للمكتب بإحالة الأوراق إلى المأمورية المختصة للتأكد من هذا الخلاف في بيانات لا شك جوهرية فإذا لم تكن هناك صعوبة قام المكتب بإجراء التأشير المطلوب في هامش المحرر المنوه عنه في الطلب وأمكن إعطاء صاحب الشأن شهادة بحصول ذلك وعلى المكتب أن يوافي المكتب الرئيسي للشهر شهريًا ببيان التأشيرات الهامشية التي تمت فيه حتى يصير التأشير بها في الصور الثواني للعقود أو المحفوظة لديه.

أما إذا تبين للمكتب أن طلب التأشير غير مستوفٍ فله أن يطلب من صاحب الشأن استيفاء البيانات الناقصة بكتاب موصي عليه في ميعاد لا يتجاوز شهرًا وأحد أمرين:

1 - إما أن تستوفى الأوراق ويتم التأشير كما سبق شرحه لحضراتكم.

2 - وإما لا يقوم صاحب الشأن باستيفاء البيانات رغم منحه مدة أخرى فإذا تحقق للمكتب أن التأخير راجع إلى سبب خارج عن إرادته فيحفظ أمين المكتب طلب التأشير الهامشي وهذا القرار (قرار الحفظ) يبلغ إلى صاحب الشأن بخطاب موصي عليه مصحوب بإخطار وصول لمن حفظ طلبه بالسبب المذكور أن يتظلم في ظرف عشرة أيام من تاريخ إبلاغه قرار الحفظ المسبب إليه إلى قاضي الأمور الوقتية إلى المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها المكتب ويصدر القاضي قراره في هذا الشأن على وجه السرعة تبعًا لتحقق أو تخلف الشروط التي يتطلبها القانون لإجراء التأشير.

فقد نص القانون على أنه لا يجوز الطعن في قرار القاضي بأي طريق ولم يفت الشارع أن يرتب ما قد يؤثر على حق طالب التأشير الأول إذا كانت هناك طلبات تأشير لاحقة تتعارض أو يمكن أن تتعارض فيها المصلحة مع طالب التأشير الأول فنص على أنه في هذه الحالة لا يتخذ المكتب أي إجراء في الطلب اللاحق إلا بعد انقضاء المواعيد التي سبق أن بينتها أي شهر للاستيفاء وعشرة أيام للطعن بعد إبلاغ قرار الحفظ لصاحب الشأن.

وقد نص القانون في حالة التأشير الهامشي للديون العادية على التركة في حالة شهر حق الإرث وفي حالة الدعاوى المؤشر بها في هامش عقد سبق شهره على أن لمن أشر ضده وله مصلحة أن يلتجئ إلى القضاء في هذه الحالة نص القانون على قاضي الأمور المستعجلة لا قاضي الأمور الوقتية وأن يطلب إلغاء التأشير بالدين العادي إذا كان السند الذي أجرى التأشير بمقتضاه مطعون فيه طعنًا جديًا أو إذا كانت الدعوى المؤشر بها ظاهرة الكيدية أي لم ترفع إلا لغرض كيدي محض والحكمة طبعًا في اختيار قاضي الأمور المستعجلة أن هنا يقتضي الأمر لنوع من التقاضي يختصم فيه صاحب الشأن من أجرى التأشير في مصلحته.

وقد تحدثت إلى حضراتكم في المحاضرة السابقة عن شهر حق الإرث عما يستتبع هذا الشهر من حق للمبدأ القائل (بألا تركه إلا بعد سداد الدين) وأشرح لحضراتكم الآن طريقة إجراء هذا الشهر، فالمفروض أولاً أن الشهر يخضع لكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها وتبدأ بتقديم طلب للمأمورية يبين فيه فضلاً عن اسم الوارث طالب الشهر أو من يقوم مقامه أو أي ذي شأن أو أي ذي مصلحة اسم المورث وتعريفه ومحل الوفاة والورثة وتعريفهم تعريفًا كاملاً وبيان العقار والحقوق العينية المترتبة عليه والتكليف وأصل ملكية المورث ويذكر في الطلب رسم الأيلولة على التركات المستحق وما دفع منه ويجب أن يقرن الطلب بالمستندات المؤيدة لما جاء فيه وهي السند أو الإشهاد أي الحكم المثبت لحق الإرث والمستند الذي يفيد الصفة إن وجد وكشف رسمي عن عقارات المورث وسندات ملكية المورث وفي حالة تعذر الحصول عليها وهذه هي الحالة الوحيدة التي تكلم فيها قانون الشهر العقاري عن وضع اليد يكتفي بأن يقدم طالب الشهر صورًا من المكلفة ابتداءً من سنة 1923 لغاية تاريخ الوفاة وتطبق على الطلب كافة الإجراءات التي سبق أن شرحناها في المحاضرة السابقة ثم تؤشر المأمورية على سند الإرث والقائمين المبين بها عقارات التركة بالصلاحية للشهر وذلك بعد التأكد من مطابقة البيانات الواردة في قائمة الجرد (التركة) للبيانات الواردة في الطلب ثم يقوم طالب الشهر بالتوقيع على قائمة الجرد والتصديق على توقيعه فيها وتسلم إلى المكتب ليصير شهرها دون رسم عنها عدا رسم التصوير والحفظ وهو مبلغ زهيد جدًا.

ولا يفوتني أن أذكر أن القانون نص على وجوب شهر حق الإرث التالي لسنة 1947 عند التصرف أما حق الإرث السابق لسنة 1947 فلا يشهر إلا اختياريًا.

ترون حضراتكم أن القانون الجديد وقد رسم الطريق لإجراءات الشهر رمى فيها إلى أن يضفي على عملية الشهر صفة قانونية وأن يحيطها منذ البداية بكافة الضمانات المؤيدة بالمستندات اللازمة حتى تصير المعاملات العقارية على أساس سليم وطيد فأصبح المتعاقد الآن مع شخص يضمن إلى حد بعيد أنه متعامل مع مالك كما أنه قطع بعض الإشكالات التي كانت تنتج في حالات معينة مثل الاختصاص مثلاً فقد كان أمر الاختصاص يعطي لطالبه دون تحري لملكية المدين للعقار وعلى مسؤولية المالك مما كان يعرِّض بعض الأشخاص لرؤية عقاراتهم مثقلة بحق الاختصاص بينما ليس بينهم وبين الدائن أية صلة، وصحيح أنه في حالة التجاء هؤلاء الأشخاص إلى المحاكم كان القضاء يلقي عبء الإثبات على عاتق الدائن أي أنه كان يطلب من الدائن إثبات ملكية العقار لمدينة فعلاً، ولا يخفي مع ذلك ما كان لهذا من مضايقة لأصحاب الشأن إذ ما حاجتهم - ولا صلة بينهم وبين الدائن - إلى الالتجاء إلى المحاكم حيث قد يعرضون لسوء دفاع يضيع عليهم حقوقهم وقد نص القانون الجديد على مثل هذه الحالة وأصبح لا يعطي أمر اختصاص إلا إذا تأشر على مشروعه بالصلاحية للشهر أي بعد أن يكون قد مر بجميع مراحل الشهر وبمعنى آخر أن يكون قد أثبت الدائن بالمستندات التي يتطلبها القانون أن مدينه مالك.

ترون حضراتكم من مجرد عرض الإجراءات التي رسمها قانون الشهر العقاري للتوصل بمقتضاها إلى شهر محرر معين اتجاه الشارع المصري نحو وضع أسس للشهر تقربه إلى حد كبير من نظام السجلات العينية، وسأبين لحضراتكم بطريقة عاجلة مبلغ هذا الاتجاه وما تحقق منه فعلاً، فكلنا يعرف أن لنظام السجل العيني مميزات أربع - المميز الأول أن الشهر فيه مطلق أي بمعنى آخر أن الشهر إجباري في نقل الملكية حتى بين المتعاقدين وهذا هو مضمون المادة التاسعة من القانون الجديد، والمميز الثاني أن الشهر عيني وخاص، عيني أي أنه ينسب إلى العقار لا إلى أشخاص المتعاملين، وخاص لأنه لكل وحدة معينة من العقار صفحة خاصة في سجل عام، والمميز الثالث أن لهذا النظام قوة وحجية تامة قبل الكافة وبمعنى آخر أنه بمجرد إدراج العملية فيه تصبح ولا يرقى إليها الطعن ويصبح من تعامل مع من قيد كمالك للعقار في حماية من كل دعوى غير ظاهرة في السجل وهذا يتطلب من ناحية أخرى أن يؤشر بالدعاوى التي ترفع ضد البيانات المدرجة في السجل لحماية رافعها من القرينة المطلقة التي تستمد من القيد في هذه السجلات، وقد رأيتم حضراتكم أن القانون الجديد قد أوجب شهر مثل هذه الدعاوى، والمميز الرابع والأخير لنظام السجلات العينية هو قانونية هذه الصفحات، ويستخلص من هذا أنه للمهيمنين على شؤون السجل العيني الحق في التأكد من صحة العقود المقدمة للشهر ومطابقتها للقانون بل إن هذه الرقابة تمتد إلى بحث أهلية المتعاقدين وصفاتهم مؤيدة بالمستندات وهذا التأكد هو من الإجراءات التي أخذ بها قانون الشهر العقاري فأصبح لا يفصلنا عن نظام السجلات العينية إلا أمران، أن يصبح الشهر عينيًا وخاصًا وأن تعطى للسجلات الحجية قبل الكافة.

وأشعر أنني قد أطلت على حضراتكم في موضوع أكرر أنه عقيم ولذلك أرجو أن تعذروني وأن تقبلوا شكري الخاص الموجه إلى مجلس النقابة وإلى حضراتكم لما هيأتموه لي من فرصتين سمحا لي بعرض سريع للإجراءات لعل أن يكون فيه مصلحة للجميع.

ما هو أصل الوقف

مجلة المحاماة – العدد الرابع
السنة الأولى - أول أكتوبر سنة 1920
ما هو أصل الوقف
ولأي داعٍ أخرج عن اختصاص المحاكم الأهلية
تخرج عن اختصاص المحاكم الأهلية المسائل المذكورة بالمادة السادسة عشرة من لائحة ترتيبها.
ومن ضمن هذه المسائل ما يتعلق بأصل الوقف - فما هو أصل الوقف؟
من جهة اللغة
إن أصل الشيء هو أساسه ووجوده وإن ما عدا الأصل هو فروع الشيء تتفرع من الأصل.
من جهة القانون
إن أصل الوقف هو عبارة عن الأركان الجوهرية التي يُبنَى عليها إنشاء الوقف وتكوينه أو بعبارة أخرى هو كل ما يكون أركان وجوده وشرائط صحته وما عدا ذلك من مسائل الوقف فهو فروع عن وجود الأصل، لذلك أجمع الفقهاء على أن الوقف يمكن أن يكون له وجود بدون الشرائط وأما الشرائط فلا يمكن أن يكون لها وجود إلا إذا ثبت وجود أصل الوقف.
ولقد رأى الشارع أن الحكم في أصل الوقف يحتاج إلى معلومات شرعية خاصة ومراجعات طويلة في كتب الشرع والقياس على فتاوى فقهائه.
فالقاضي الشرعي هو الذي يستطيع أن يعرف إذا كانت الصيغة التي استعملها المنشئ في إنشاء وقفه تدخل في الألفاظ الخاصة التي ينعقد بها الوقف وهو الذي يستطيع بعد مراجعة كتب الفقهاء وتحكيم سوابق الشرع هل هذه الصيغة مقترنة أو غير مقترنة بما لا يجعل الوقف ينعقد.
والقاضي الشرعي هو الذي يعرف أن يحكم في أهلية الواقف الخاصة، وهو الذي يعرف إذ كان المال الموقوف يصح وقفه شرعًا أو لا يصح كل ذلك تطبيقًا لقواعد الشرع.
فالنظر إذن في أصل الوقف يحتاج إلى قضاة درسوا دراسة شرعية مكينة، وهذا الأمر لا يتوفر وجوده دائمًا لدى القضاة الأهليين لذلك استثنى الشارع أصل الوقف من اختصاصهم.
ويظهر مراد الشارع بوضوح تام:
أولاً: بما جاء في النص الموجود في النسخة الفرنسية من لائحة ترتيب المحاكم وهو ينطق بأن المراد من أصل الوقف إنما هو صحة أركانه وانعقاده.
ثانيًا: بما جاء في المادة (15) من لائحة المحاكم الشرعية الصادر بها الأمر العالي المؤرخ 17 يونيه سنة 1880 فإن هذه المادة عند كلامها على كيفية قسمة الاستحقاق والعمل بشروط الوقف فرقت بين أصل الوقف من جهة وبين الاستحقاق والشروط من جهة أخرى فجاء فيها ما نصه:
(إذا حصل تنازع في استحقاق وقف بين مستحقيه وكان أصل الوقف ثابتًا لا نزاع فيه وكان لهذا الوقف كتاب مسجل).
فاللائحة الشرعية التي كان العمل جاريًا عليها وقت وضع لائحة المحاكم الأهلية عبر فيها الشارع عن أصل الوقف بشيء غير الشروط والاستحقاق.
ثالثًا: أحكام الشريعة الإسلامية في تعريف أصل الوقف فقد جاء في المادة (567) من قانون العدل والإنصاف للمرحوم قدري باشا:
(إن كل ما تعلقت به صحة الوقف من شرائط المالك ونحوها يتوقف عليه صحة العقد فهو من أصله).
وجاء في كتاب محمد بك زيد في الوقف صحيفة (135):
(وأصل الوقف هو كل ما توقفت عليه صحته فإذا شهد اثنان بأن هذه الأرض وقف ولكنهما قالا لم نعاين ذلك بل اشتهر عندنا أو سمعنا من الناس قبلت شهادتهما على الراجح وحكم بوقفيتها ولو شهدا بالتسامع على شرائط الوقف التي يشترطها الواقف في الوقفية من تخصيص الغلة وكيفية صرفها لم تقبل هذه الشهادة).
وجاء في نفس هذا المؤلف صحيفة (11):
(لو كان الشرط غير مؤثر على أصل الوقف ولا على المنفعة كما إذا اشترط أنه يبدأ من ريع الوقف بقضاء دينه صح كل من الوقف والشرط اتفاقًا).
وجاء في صحيفة (193) من مؤلف في الوقف للشيخ عبد الجليل عبد الرحمن عشوب:
(أصل الوقف عند الفقهاء كل ما تتوقف عليه صحته من شروط في الصيغة أو في الواقف أو الموقوف أو الجهة الموقوف عليها، والمراد بشرائط الوقف ما عدا ذلك من كل ما يشتمل عليه كتاب الوقف من الشروط التي يشترطها الواقف في الولاية على وقفه أو صرف غلتها).
وجاء في الجزء الثالث صحيفة (415) الطبعة الثالثة من (رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين):
(كل ما يتعلق بصحة الوقف ويتوقف عليه فهو من أصله وما لا يتوقف عليه فهو من الشرائط).
وفي الفتاوى الهندية الجزء الثاني صحيفة (345):
(الشهادة على الوقف بالشهرة تجوز وعلى شرائطه لا، ومعنى قول المشائخ لا تقبل الشهادة على شرائطه أنه بعد ما بينوا الجهة وقالوا هذا وقف على كذا لا ينبغي لهم أن يشهدوا أنه يبدأ من غلته فيصرف إلى كذا ثم إلى كذا ولو ذكروا ذلك لا تقبل شهادتهم).
فيؤخذ من هذا أن الشرط شيء وأصل الوقف شيء آخر.
رابعًا: قضاء المحاكم في هذا الصدد:
( أ ) جاء في حكم استئنافي صادر في 6 مارس سنة 94 منشور بمجموعة الحقوق السنة التاسعة صحيفة (62) ما يأتي: (نص المادة (16) إنما يقصد به منع المحاكم الأهلية من نظر المنازعات التي يتراءى لها أنها تمس أصل الوقف لا منعها من نظر المسائل الحسابية والاستحقاق وكل ما كان منصوصًا عنه بعبارة صريحة في كتاب الوقف).
(ب) وجاء في حكم استئنافي صادر في 20 يناير سنة 98 منشور بالحقوق سنة 12 صـ 49 (قرر علماء الحنفية أن كل ما يتعلق بصحة الوقف ويتوقف عليه فهو من أصله كأهلية الواقف للتبرع ونحوها وما لا يكون كذلك فليس منه كمسائل اشتراط النظر والتغيير والتبديل والإخراج والإدخال وغيرها من الشرائط التي يشترطها الواقف في كتاب وقفه وتختص المحاكم الأهلية بنظر المنازعات الواقعة فيه).
(جـ) وجاء في حكم استئنافي صادر في 22 فبراير سنة 1906 (تختص المحاكم الأهلية بالمنازعات الخاصة بالأوقاف ولا يستثنى من ذلك سوى ما كان فيها خاصًا بأصل الوقف والمراد بأصل الوقف الأركان الجوهرية التي ينبني عليها إنشاء الوقف وتكوينه، وبعبارة أخرى أن كل ما يتوقف عليه الوقف فهو من أصله وما لا يتوقف عليه فهو من الشرائط).
(د) وجاء في حكم استئنافي صادر في 12 يونيه سنة 1915 (أن ما جاء المادة (16) من إخراج المنازعات المتعلقة بأصل الوقف من اختصاص المحاكم الأهلية العام إنما يقصد به المسائل التي لها مساس بأصل وجود الوقف ذاته وعليه فمتى لم يكن النزاع متعلقًا بأصل أو صحة الوقف فكافة المنازعات التي تقع على أي شرط من شروطه التي لا يكون لوجودها أو عدم وجودها تأثير على الوقف نفسه بل مجرد تغيير في كيفيته إنما هي من اختصاص المحاكم الأهلية العام الاعتيادي).
ومما يجب ملاحظته أنه لا يمكن الرجوع إلى أحكام المحاكم المختلطة لأن لائحتها خالية من هذا التخصيص الموجود في لائحة ترتيب المحاكم الأهلية.

عدم دستورية الحرمان من الجمع بين المعاشين المدني والعسكري

قضية رقم 165 لسنة 25 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد ، السابع من مارس سنة 2010م ، الموافق الحادى والعشرين من ربيع الأول سنة 1431 ه .

برئاسة السيد المستشار / فاروق أحمد سلطان رئيس المحكمة

وعضوية السادة المستشارين/ ماهر البحيرى وعدلى محمود منصور وعلى عوض محمد صالح وماهر سامى يوسف ومحمد خيرى طه والدكتور عادل عمر شريف نواب رئيس المحكمة

وحضور السيد المستشار الدكتور / حمدان حسن فهمى رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد / ناصر إمام محمد حسن أمين السر

أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 165 لسنة 25 قضائية "دستورية " .

المقامة من

ورثة المرحوم / رمسيس عبد الجواد قنديل ، وهم :

1 السيدة / ماجدة عبد الوهاب إمام سماحة

2 السيد / عمرو رمسيس عبد الجواد قنديل

3 السيدة / ياسمين رمسيس عبد الجواد قنديل

ضد

1 السيد رئيس الجمهورية

2 السيد رئيس مجلس الوزراء

3 السيد المشير وزير الدفاع

4 السيد المستشار وزير العدل

5 السيد رئيس الهيئة القومية للتأمين والمعاشات

الإجراءات

بتاريخ الخامس والعشرين من شهر مايو سنة 2003 ، أودع المدعون صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا ، طلبا للحكم بعدم دستورية نص الفقرة الخامسة من المادة (99) من قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة الصادر بالقانون رقم 90 لسنة 1975 .



وقدمت كل من هيئة قضايا الدولة والهيئة القومية للتأمين الاجتماعى مذكرة ، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .

وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها .

ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق ، والمداولة .

حيث إن الوقائع تتحصل حسبما يتبين من صحيفة الدعوى ، وسائر الأوراق فى أن مورث المدعين كان قد أقام الدعوى رقم 4054 لسنة 53 قضائية ، أمام محكمة القضاء الإدارى ، طلبا للحكم بأحقيته فى صرف ما يستحقه من معاش عن مدة خدمته المدنية بوزارة الخارجية فى الفترة من 15/4/1968 حتى إحالته للمعاش فى 22/10/1997 ، مع الاستمرار فى صرف المعاش العسكرى الذى تقرر له عند إنهاء خدمته العسكرية لسبب عدم اللياقة الطبية لإصابته أثناء العمليات الحربية وبدون حد أقصى ، وذلك على سند من القول بأنه كان يعمل بالقوات المسلحة منذ تخرجه بتاريخ 14/7/1957 حتى أصيب أثناء العمليات الحربية فأنهيت خدمته لعدم اللياقة الطبية ، وسوى معاشه وفقا للمادة (31) من القانون رقم 116 لسنة 1964 فى شأن المعاشات والمكافآت والتأمين والتعويض للقوات المسلحة . وبعد حصوله على ليسانس الحقوق ، عين بوزارة الخارجية تعيينا جديدا دون أن يضم مدة الخدمة العسكرية ، وظل يجمع بين معاش الإصابة العسكرى وراتبه ، حتى إحالته إلى المعاش فى 22/10/1997 حيث فوجئ بصرف مبلغ 88ر12497 جنيه ، الذى يمثل تعويض الدفعة الواحدة عن مدة خدمته المدنية بوزارة الخارجية ، دون صرف معاش شهرى له على سند من نص الفقرة الخامسة من المادة (99) من القانون رقم 90 لسنة 1975 . وأثناء نظر هذه الدعوى توفى المدعى فقام ورثته بتصحيح شكلها ودفعوا بعدم دستورية نص الفقرة الخامسة من المادة (99) المشار إليها . وبعد أن قدرت تلك المحكمة جدية دفعهم صرحت لهم بإقامة الدعوى الدستورية فأقاموا الدعوى الماثلة .

وحيث إن الفقرة الخامسة من المادة (99) من قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة الصادر بالقانون رقم 90 لسنة 1975 ، قبل تعديلها بالقانون رقم 87 لسنة 2004 ، تنص على أن " وفى حالة الاحتفاظ بالمعاش العسكرى يسرى فى شأن المعاش العسكرى كافة الزيادات التى تتقرر فى شأن المعاشات العسكرية . ويطبق فى شأنه حكم المادة (41) من هذا القانون . ولا يستحق عن مدة الخدمة المدنية التى لم تدخل فى تقدير معاشه العسكرى مهما كان سبب الاستحقاق غير تعويض الدفعة الواحدة عن مدة الاشتراك فى الأجر الأساسى محسوبا طبقا للمادة (27) من قانون التأمين الاجتماعى ، ويصرف هذا التعويض فور انتهاء مدة الخدمة المدنية ، أما مدة الاشتراك عن الأجر المتغير فيستحق عنها معاشا فقط أيا كان مقدارها محسوبا وفقا لأحكام قانون التأمين الاجتماعى ، بمراعاة توافر شروط مدة الخدمة المدنية فى حساب الحد الأدنى لمعاش هذا الأجر ، ومع التقيد بالحد الأقصى لمعاش هذا الأجر ، وعدم تجاوز مجموع معاش الأجر المتغير وإجمالى معاشه العسكرى وزياداته الحد الأقصى لمعاش الأجر الأساسى والمتغير وفقا لقانون التأمين الاجتماعى والقرارات المنفذة له " .

وحيث إنه وفقا للمصلحة الشخصية المباشرة للمدعين فى دعواهم الموضوعية التى ترتبط بها الدعوى الدستورية ، فإن نطاق الدعوى الدستورية الماثلة يتحدد بما ورد فى النص المطعون عليه من أنه " لا يستحق عن مدة الخدمة المدنية التى لم تدخل فى تقدير معاشه العسكرى مهما كان سبب الاستحقاق غير تعويض الدفعة الواحدة عن مدة الاشتراك فى الأجر الأساسى محسوبا طبقا للمادة (27) من قانون التأمين الاجتماعى ، ويصرف هذا التعويض فور انتهاء مدة الخدمة المدنية" ، إذ إن هذا النص فقط هو الذى يؤدى إلى حرمانهم من معاش مورثهم عن مدة خدمته المدنية ، دون باقى عبارات النص المذكور .

وحيث إن المدعين ينعون على النص المطعون عليه بالنطاق المحدد سلفا أنه إذ حرم مورثهم من معاشه عن مدة خدمته المدنية مهما طالت مدة اشتراكه فيها اكتفاء بتعويض الدفعة الواحدة ، فإنه بذلك يكون قد انتقص من الحقوق التأمينية المقررة لمورثهم الأمر الذى يمثل اعتداء على حق الملكية والحق فى المعاش وإهدارا للحق فى العمل وإخلالا بمبدأ المساواة ، وذلك لما يقيمه من تفرقة بين ذوى المراكز القانونية المتماثلة ، فضلا عن نيله من الرعاية التى كفلها الدستور لأفراد القوات المسلحة بصفة عامة والمصابين منهم فى عمليات حربية بصفة خاصة .

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الدستور قد حرص فى المادة (17) منه على دعم التأمين الاجتماعى حين ناط بالدولة مد خدماتها فى هذا المجال إلى المواطنين بجميع فئاتهم فى الحدود التى يبينها القانون ، من خلال تقرير ما يعينهم على مواجهة بطالتهم أو عجزهم عن العمل أو شيخوختهم ، ذلك أن مظلة التأمين الاجتماعى هى التى تكفل بمداها واقعا أفضل يؤمن المواطن فى غده ، وينهض بموجبات التضامن الاجتماعى التى يقوم عليها المجتمع وفقا لنص المادة (7) من الدستور ، بما يؤكد أن الرعاية التأمينية ضرورة اجتماعية بقدر ما هى ضرورة اقتصادية ، وأن غايتها أن تؤمن المشمولين بها فى مستقبل أيامهم عند تقاعدهم أو عجزهم أو مرضهم ، وأن تكفل الحقوق المتفرعة عنها لأسرهم بعد وفاتهم . وقد عهد الدستور بنص المادة (122) منه إلى المشرع بصوغ القواعد التى تتقرر بموجبها على خزانة الدولة المرتبات والمعاشات والتعويضات والإعانات والمكافآت والجهات التى تتولى تطبيقها ، لتهيئة الظروف الأفضل التى تفى باحتياجات من تقررت لمصلحتهم ، وتكفل مقوماتها الأساسية التى يتحررون بها من العوز وينهضون معها بمسئولية حماية أسرهم والارتقاء بمعيشتها . وإذ صدرت نفاذا لذلك قوانين التأمين الاجتماعى المتعاقبة ، مقررة الحق فى المعاش ومبينة حالات استحقاقه وقواعد منحه وشروط اقتضائه ، مُتضمنة الربط بين مدة الاشتراك وقيمة المعاش المستحق ، وعدم إهدار أية مدة اشتراك فى التأمين بحسبان أن الاشتراكات التى أداها المؤمن عليه هى جزء من ناتج عمله ، وثمرة جهده ، اقتطعها من حاجة يومه لغده . ولازم ذلك ، أن الحق فى المعاش متى توافر أصل استحقاقه وفقا للقانون فإنه ينهض التزاما على الجهة التى تقرر عليها مترتبا فى ذمتها بقوة القانون . بحيث إذا توافرت فى المؤمن عليه الشروط التى تطلبها القانون لاستحقاق المعاش استقر مركزه القانونى بالنسبة إلى هذا المعاش بصفة نهائية ، ولا يجوز من بعد التعديل فى العناصر التى قام عليها أو الانتقاص منه ، ذلك أن المساس به بعد اكتماله ليس إلا هدما لوجوده ، وإحداثا لمركز قانونى جديد يستقل عن المركز السابق الذى نشأ مستوفيا لشرائطه بما يخل بالحقوق التى رتبها بإنكار موجباتها .

وحيث إن القانون رقم 116 لسنة 1964 فى شأن المعاشات والمكافآت والتأمين والتعويضات للقوات المسلحة الذى تم صرف المعاش العسكرى لمورث المدعين فى ظل العمل به يقضى بمنح معاش لمن يصاب بعجز كلى أو جزئى بسبب العمليات الحربية ، ثم حل محله قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة الصادر بالقانون رقم 90 لسنة 1975 ونص على منح معاش شهرى لكل من تنتهى خدمته العسكرية بسبب إصابته فى العمليات الحربية التى يكون قد نتج عنها عجز كلى أو جزئى . ومفاد ذلك أن المشرع تقديرا منه لمن يصاب فى عمليات حربية عند أدائه للواجب الوطنى فى الخدمة العسكرية ، قرر منحه معاشا عسكريا تعويضا عن إصابته ، فهو معاش إصابة عن عجز تقرر صرفه طبقا لأحكام قانون التأمين والمعاشات للقوات المسلحة ، ولا شأن له بالمعاش المستحق عن مدة الخدمة المدنية التى يقضيها أحدهم فى إحدى الوظائف المدنية ، والذى تنتظمه الأحكام التى وردت فى قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 . إذ كان ذلك وكان النص المطعون عليه قد أبدل تعويض الدفعة الواحدة بالمعاش الشهري المستحق لهذه الفئة ، فحرمهم بذلك من ميزة تأمينية تقررت لهم تخولهم الجمع بين المعاشين المدني والعسكري ، وذلك بقصره الاستحقاق عن مدة الخدمة المدنية على تعويض الدفعة الواحدة فى جميع الأحوال ، سيما وأن المعاش العسكرى لم يتقرر على أساس حساب مدة خدمة ، وإنما على أساس قدر التضحية التى بذلت أثناء العمليات الحربية ، مما يجعل حرمانهم من المعاش عن مدة خدمتهم المدنية مصادرة لحقهم فى المعاش ، كما أن ضياع المبالغ المقتطعة من راتبهم كاشتراكات مقررة قانونا بحرمانهم من تقرير معاش يمثل اعتداء على حق الملكية ، وذلك بالمخالفة لنص المادتين (34 و122) من الدستور .

وحيث إنه تقديرا للآثار المالية التى ستترتب على الأثر الرجعى للقضاء بعدم دستورية النص المطعون عليه ، فإن المحكمة تقرر إعمال الرخصة المخولة لها بنص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 ، وتحدد اليوم التالى لنشر هذا الحكم فى الجريدة الرسمية تاريخا لسريانه ، وذلك دون إخلال بحق المدعى فى الإفادة من الحكم الصادر بعدم دستورية النص المطعون عليه .

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة :

أولا : بعدم دستورية الفقرة الخامسة من المادة (99) من قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة الصادر بالقانون رقم 90 لسنة 1975 قبل تعديله ، فيما نصت عليه من " ولا يستحق عن مدة الخدمة المدنية التى لم تدخل فى تقدير معاشه العسكرى مهما كان سبب الاستحقاق غير تعويض الدفعة الواحدة عن مدة الاشتراك فى الأجر الأساسى محسوبا طبقا للمادة (27) من قانون التأمين الاجتماعى ، ويصرف هذا التعويض فور انتهاء مدة الخدمة المدنية " ، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماه .

ثانيا : بتحديد اليوم التالى لنشر هذا الحكم تاريخا لإعمال أثره .

عدم دستورية احتفاظ العامل المعين بمكافأة شاملة بأجره الذى كان يتقاضاه عند تعيينه فى وظيفة دائمة

قضية رقم 128 لسنة 30 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد ، السابع من مارس سنة 2010م ، الموافق الحادى والعشرين من ربيع الأول سنة 1431 ه .
برئاسة السيد المستشار / فاروق أحمد سلطان رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : السيد عبد المنعم حشيش ومحمد خيرى طه وسعيد مرعى عمرو والدكتور عادل عمر شريف وتهانى محمد الجبالى ورجب عبد الحكيم سليم نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور / حمدان حسن فهمى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / ناصر إمام محمد حسن أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 128 لسنة 30 قضائية " دستورية " والمحالة من المحكمة الإدارية لوزارتى النقل والمواصلات فى الدعوى رقم 566 لسنة 51 قضائية بجلسة 16/12/2007 .
المقامة من
السيد / أشرف ابراهيم محمد حسين
ضد
السيد رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للبريد
الإجراءات
بتاريخ 14 ابريل سنة 2008 ، ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 566 لسنة 51 قضائية بعد أن قضت المحكمة الإدارية لوزارتى النقل والمواصلات بمجلس الدولة بجلسة 16/12/2007 بإحالة نص الفقرة الأخيرة من المادة (15) من لائحة العاملين بالهيئة القومية للبريد إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستوريته .
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل فى أن أشرف إبراهيم محمد حسين كان قد أقام الدعوى رقم 566 لسنة 51 قضائية أمام المحكمة الإدارية لوزارتى النقل والمواصلات بمجلس الدولة ، طالبا الحكم بأحقيته فى الاحتفاظ بأجره بالمكافأة الشاملة وقدره 201 جنيه ، مع إعادة حساب العلاوة الخاصة والحوافز وطبيعة العمل والأجور الإضافية على هذا الأجر ، وما يترتب على ذلك من آثار أخصها صرف الفروق المالية المترتبة على ذلك من تاريخ استلام العمل ، قولا منه أنه كان يعمل بالهيئة القومية للبريد بوظيفة محام بالإدارة القانونية بمكافأة شاملة قدرها 201 جنيه ، واستمر فى العمل حتى عين بموجب القرار رقم 1752 بتاريخ 3/10/1995 بالدرجة الثانية التخصصية بالإدارة ذاتها وبدون فاصل زمتى بمرتب قدره 58 جنيه ، فتقدم للهيئة يطلب الاحتفاظ بأجره الذى كان يتقاضاه بالمكافأة الشاملة ، إلا أن الهيئة رفضت ذلك ، فتقدم بطلب إلى لجنة التوفيق المختصة ، التى أوصت بأحقيته فى الاحتفاظ بأجره بالمكافأة الشاملة ، وإذ رفضت الهيئة تنفيذ توصية اللجنة ، فقد أقام دعواه أمام المحكمة الإدارية لوزارتى النقل والمواصلات بمجلس الدولة توصلا للقضاء له بطلباته المتقدمة ، وبجلسة 16/12/2007 قضت المحكمة بإحالة نص الفقرة الأخيرة من المادة (15) من لائحة العاملين بالهيئة القومية للبريد إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستوريته ، على سند من قيام شبهة مخالفته للمادتين 13 ، 40 من الدستور .
وحيث إن المادة (15) من لائحة العاملين بالهيئة القومية للبريد الصادرة بقرار وزير المواصلات والنقل البحرى رقم 70 لسنة 1982 تنص على أن
" يستحق العامل أجره اعتبارا من تاريخ تسلمه العمل ما لم يكن مستبقى بالقوات المسلحة فيستحق أجره من تاريخ تعيينه .
ويستحق العامل عند التعيين بداية الأجر المقرر لدرجة وظيفته .
واستثناء من ذلك إذا أعيد تعيين العامل فى وظيفة من مجموعة أخرى فى نفس درجته أو فى درجة أخرى احتفظ له بالأجر الذى كان يتقاضاه فى وظيفته السابقة إذا كان يزيد على بداية الأجر المقرر للوظيفة المعين عليها بشرط ألا يجاوز نهايته . ويسرى هذا الحكم على العاملين السابقين بالجهاز الإدارى للدولة ووحدات الحكم المحلى والهيئات العامة وشركات القطاع العام والمعاملين بنظم وظيفية خاصة الذين يعاد تعيينهم بالهيئة . كما يسرى هذا الحكم على العاملين المعينين بمكافآت شاملة عند تعيينهم فى وظائف دائمة " .
وحيث إن مفاد ما تقدم أن الأصل هو استحقاق العامل عند التعيين بداية الأجر المقرر للوظيفة المعين عليها ، إلا أنه استثناء من هذا الأصل احتفظت الفقرة الأخيرة من المادة (15) المطعون فيها ، لمن كان معينا بمكافأة شاملة ثم عين فى وظيفة دائمة ، بأجر يساوى المكافأة التى كان يتقاضاها ، إذا كانت تزيد على بداية الأجر المقرر للوظيفة المعين عليها ، وذلك بشرط ألا يجاوز نهاية الأجر المقرر لتلك الوظيفة ، وهو النص الحاكم لموضوع النزاع المطروح على محكمة الموضوع والذى تدور رحاه حول مدى أحقية المدعى فى الاحتفاظ بالمكافأة الشاملة التى كان يتقاضاها إبان عمله بالهيئة عند تعيينه فى وظيفة دائمة بها ، ومن ثم فإن شرط المصلحة يكون متحققا بالنسبة لهذا النص ، بحسبان أن الفصل فى مدى دستوريته سيكون له أثره وانعكاسه على الدعوى الموضوعية والطلبات المطروحة بها وقضاء محكمة الموضوع فيها .
وحيث إن الأصل فى سلطة المشرع فى مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها وتعتبر تخوما لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها ، وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين ، فإن ما تقره القواعد القانونية فى هذا النطاق لا يجوز أن ينال من الحقوق التى كفل الدستور أصلها سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها .
وحيث إن من المقرر أن النصوص القانونية التى ينظم بها المشرع موضوعا محددا لا يجوز أن تنفصل عن أهدافها ، ذلك أن كل تنظيم تشريعى لا يصدر من فراغ ، ولا يعتبر مقصودا لذاته ، بل مرماه إنفاذ أغراض بعينها يتوخاها ، وتعكس مشروعيتها إطارا للمصلحة العامة التى أقام المشرع عليها هذا التنظيم باعتباره أداة تحقيقها ، وطريق الوصول إليها .
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن العمل – وفى إطار الخصائص التى يقوم عليها باعتباره حقا وواجبا وشرفا وفقا لنص المادة (13) من الدستور – مكفول من الدولة ، سواء بتشريعاتها أو بغير ذلك من التدابير ، وإعلاؤها لقدر العمل وارتقاؤها بقيمته يحملها على تقدير من يمتازون فيه ، ليكون التمايز فى أداء العاملين مدخلا للمفاضلة بينهم ، وهو ما يعنى بالضرورة أن الشروط الموضوعية وحدها هى التى يعتد بها فى تقدير العمل وتحديد المقابل المستحق عنه ، والأوضاع التى ينبغى أن يمارس فيها ، والحقوق التى يتصل بها ، وأشكال حمايتها ووسائل اقتضائها ، وأن ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة (13) من الدستور من أن العمل لا يجوز أن يفرض جبرا على المواطنين إلا بمقتضى قانون ، ولأداء خدمة عامة ، وبمقابل عادل ، مؤداه أن الأصل فى العمل أن يكون إراديا قائما على الاختيار الحر ، فلا يفرض عنوة على أحد إلا أن يكون ذلك وفق القانون وبمقابل عادل ، وهو ما يعنى أن عدالة الأجر لا تنفصل عن الأعمال التى يؤديها العامل سواء فى نوعها أو كمها ، فلا عمل بلا أجر ، ولا يكون الأجر مقابلا للعمل إلا بشرطين أولهما : أن يكون متناسبا مع الأعمال التى أداها العامل ، مقدرا بمراعاة أهميتها أو صعوبتها وتعقدها وزمن إنجازها ، وغير ذلك من العناصر الواقعية التى يتحدد على ضوئها نطاقها ووزنها ، ثانيا : أن يكون ضابط التقدير موحدا ، فلا تتعدد معايير هذا التقدير بما يباعد بينها وبين الأسس الموضوعية لتحديد الأجر ، وهو ما يعنى بالضرورة ألا يكون مقدار الأجر محددا التواءً أو انحرافا ، فلا يمتاز بعض العمال عن بعض إلا بالنظر إلى طبيعة الأعمال التى يؤدونها وأهميتها ، فإذا كان عملهم واحدا فإن الأجر المقرر لجميعهم ينبغى أن يكون متماثلا ، بما مؤداه أن قاعدة التماثل فى الأجر للأعمال ذاتها تفرضها وتقتضيها موضوعية الشروط التى يتحدد الأجر فى نطاقها .
وحيث إن الدستور أولى مبدأ المساواة الذى نص عليه فى المادة 40 منه أهمية كبرى ، باعتباره ركيزة أساسية للحقوق والحريات على اختلافها ، وأساسا للعدل والسلام الاجتماعى ، وأن غايته صون الحقوق والحريات فى مواجهة صور التمييز التى تنال منها أو تقيد ممارستها ، باعتباره وسيلة لتقرير الحماية المتكافئة بين المراكز القانونية المتماثلة ، فإذا قام التماثل فى المراكز القانونية التى تنتظم بعض فئات المواطنين ، وتساويهم تبعا لذلك فى العناصر التى تكونها، استوجب ذلك وحدة القاعدة القانونية التى ينبغى تطبيقها فى حقهم ، فإن خرج المشرع على ذلك سقط فى حمأة المخالفة الدستورية .
وحيث إنه متى كان ما تقدم وكان النص المطعون فيه قد قضى باحتفاظ العامل المعين بمكافأة شاملة بأجره الذى كان يتقاضاه عند تعيينه فى وظيفة دائمة ، ولو كان يزيد على بداية الأجر المقرر للوظيفة المعين عليها ، والذى يمنح لزملائه المعينين فى الوظيفة ذاتها ، وذلك رغم أن الوظيفة التى يشغلونها واحدة ، فوق كونهم جميعا يخضعون لنظام قانونى واحد ، بما مؤداه تماثل مراكزهم القانونية ، الأمر الذى يكون معه النص الطعين قد أخل بقاعدة التماثل فى الأجر للأعمال ذاتها ، التى تقتضيها موضوعية الشروط التى يتحدد الأجر فى نطاقها ، كما يتعارض مع حق العامل فى اقتضاء الأجر العادل لقاء عمله الذى يتكافأ مع عمل نظيره ، وذلك بالمخالفة لنص المادة (13) من الدستور ، كما يقع هذا النص بما تضمنه من تمييز تحكمى لا يستند إلى أسس موضوعية تبرره ، مصادما لنص المادة (40) من الدستور .
ولا ينال مما تقدم أن من كان معينا بمكافأة شاملة اكتسب خبرة فى مجال الوظيفة التى كان يباشر أعمالها ، بما يلزم أن ينعكس أثر ذلك على أجره ، ذلك أن المواد 16 ، 17 ، 18 من لائحة العاملين بالهيئة الصادرة بالقرار رقم 70 لسنة 1982 المشار إليه المعدلة بقرار وزير النقل والمواصلات رقم 92 لسنة 1944 قد عالجت هذه المسألة فأجازت حساب مدة الخبرة العملية التى يدخل ضمنها مدة العمل بمكافأة شاملة على أساس أن تضاف إلى بداية أجر التعيين علاوة دورية من علاوات درجة الوظيفة المعين عليها عن كل سنة من سنوات الخبرة التى يتقرر حسابها ، والتى تزيد على الحد الأدنى للخبرة المطلوب توافرها لشغل الوظيفة بحد أقصى خمس علاوات ، وبشرط ألا يسبق زميله المعين فى الهيئة فى المجموعة النوعية ذاتها فى وظيفة من الدرجة نفسها فى التاريخ الفرضى لبداية الخبرة المحسوبة سواء من حيث الأقدمية فى الوظيفة أو الأجر .
وحيث إن إعمال الأثر الرجعى للحكم بعدم دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (15) من لائحة العاملين بالهيئة المطعون فيها ، سيؤدى إلى المساس بالمراكز القانونية للعاملين الذين أفادوا من هذا النص إبان فترة سريانه ، ومن ثم فإن المحكمة إعمالا للرخصة المخولة لها بمقتضى نص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 المعدل بالقرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 ، وحفاظا على استقرار المراكز القانونية لهؤلاء العاملين ، تحدد لسريان هذا الحكم وإعمال أثره تاريخا آخر هو اليوم التالى لنشره .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة : أولا : بعدم دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (15) من لائحة العاملين بالهيئة القومية للبريد الصادرة بقرار وزير المواصلات والنقل البحرى رقم 70 لسنة 1982 فيما نصت عليه من أنه " كما يسرى هذا الحكم على العاملين المعينين بمكافآت شاملة عند تعيينهم فى وظائف دائمة " . ثانيا : بتحديد اليوم التالى لنشر هذا الحكم تاريخا لإعمال أثره .

عدم دستورية تقادم الحق فى المطالبة برد الضرائب والرسوم

قضية رقم 100 لسنة 28 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد ، السابع من مارس سنة 2010م ، الموافق الحادى والعشرين من ربيع الأول سنة 1431 ه .
برئاسة السيد المستشار / فاروق أحمد سلطان رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : ماهر البحيرى وعدلى محمود منصور وعلى عوض محمد صالح وماهر سامى يوسف والسيد عبد المنعم حشيش ومحمد خيرى طه نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور / حمدان حسن فهمى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / ناصر إمام محمد حسن أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 100 لسنة 28 قضائية " دستورية " ، المحالة من محكمة جنوب القاهرة الابتدائية ، بموجب حكمها الصادر فى الدعوى رقم 7629 لسنة 2005 مدنى كلى .
المقامة من
السيد / شريف ضياء الدين صلاح الدين
ضد
السيد وزير المالية بصفته الرئيس الأعلى لمصلحة الضرائب على المبيعات .
-----------
الإجراءات
بتاريخ العاشر من يونيه سنة 2004 ، ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 7629 لسنة 2005 مدنى كلى بعد أن قضت محكمة جنوب القاهرة الابتدائية بوقف الدعوى وإحالتها إلى المحكمة الدستورية العلبا للفصل فى دستورية نص البند الثانى من المادة (377) من القانون المدنى .
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
------------
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق - تتحصل فى أن المدعى كان قد استورد بضاعة بغرض الاتجار ، وبعد أن أوفى بالضريبة الجمركية وضريبة المبيعات المستحقين فى هذا الشأن ، طالبته مصلحة الضرائب على المبيعات بأداء مبالغ أخرى على ذمة البيع الأول ، فأوفى بها بالرغم من انتفاء السند القانونى للمطالبة بها ، مما دعاه إلى التقدم بالطلب رقم 2795 لسنة 2004 للجنة التوفيق فى المنازعات ، التى أصدرت قرارا بعدم اختصاصها بنظر الطلب ، فأقام الدعوى رقم 7629 لسنة 2005 مدنى كلى أمام محكمة جنوب القاهرة الابتدائية ، ضد المدعى عليه بصفته بطلب الحكم بإلزامه برد مبلغ 581993 جنيها ، المبالغ المسددة بغير سند من القانون على ذمة البيع الأول ، والفوائد بواقع 4% من تاريخ المطالبة القضائية . دفعت هيئة قضايا الدولة بسقوط حق المدعى فى استرداد المبالغ المطالب بها بالتقادم الثلاثى المنصوص عليه فى البند (2) من المادة 377 من القانون المدنى . وإذ تراءى لمحكمة الموضوع شبهة عدم دستورية النص السالف بعد تعديله بالقانون رقم 646 لسنة 1953 بشأن تقادم الضرائب والرسوم فقد أوقفت الفصل فى الدعوى وأحالت الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية ذلك النص .
وحيث إن البين من نص المادة (377) من القانون المدنى – قبل تعديلها بالقانون رقم 646 لسنة 1953 بشأن تقادم الضرائب والرسوم – أن المشرع قد حرص على توحيد مدة التقادم المسقط للضرائب والرسوم المستحقة للدولة مع مدة تقادم الحق فى المطالبة برد الضرائب والرسوم التى دفعت بغير حق بتحديدها بثلاث سنوات ، إلا أنه بعد التعديل السالف الإشارة إليه أصبحت مدة تقادم مستحقات الدولة الضريبية خمس سنوات ، فى حين ظلت مدة التقادم المقررة فى الحالة الأخرى دون تعديل وهى تلك التى تضمنها نص البند (2) من المادة 377 من القانون المدنى ، ومن ثم فإن نطاق الدعوى الماثلة وفقا لمصلحة المدعى التى تنعكس على طلباته فى الدعوى الموضوعية تنحصر فيما نص عليه البند (2) من المادة السالفة الإشارة إليها من أن " ويتقادم بثلاث سنوات الحق فى المطالبة بالضرائب والرسوم التى دفعت بغير حق ……… " .
وحيث إن حكم الإحالة ينعى على النص المطعون عليه أنَّه مايز بين مدة التقادم المسقط لحق الدولة فى المطالبة بالضرائب والرسوم بجعلها خمس سنوات ، فى حين قَصَرَ مُدَّة سقوط حق الممول فى استرداد الضرائب والرسوم التى سددت بغير حق على ثلاث سنوات ، بالرغم من أن كلا الطرفين يجمعهما مركز قانونى واحد ناشئ عن حقهما فى المطالبة بالدين الضريبى باعتبار أن كليهما دائن به مما يتعارض مع مبدأ المساواة المنصوص عليه فى المادة 40 من الدستور .
وحيث إن هذا النعى سديد فى جوهره ، ذلك أنَّه من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن مبدأ المساواة يعد وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة للحقوق والحريات المنصوص عليها فى الدستور والقانون ، ومن ثم فلا يجوز للمشرع عند إعماله لسلطته التقديرية فى مجال تنظيم الحقوق أن يقيم تمييزا غير مبرر تتنافر به المراكز القانونية التى تتماثل عناصرها ويتعين أن تنتظمها أسس موضوعية موحدة لا تمييز فيها بين المؤهلين قانونا للانتفاع بها والتى يتكافأ أطرافها أمام القانون . لما كان ذلك ، وكان المشرع قد أجرى بالقانون رقم 646 لسنة 1953 بشأن تقادم الضرائب والرسوم تعديلا على مدة تقادم الضرائب والرسوم المستحقة للدولة بجعلها خمس سنوات ، فى حين أبقى على مدة التقادم المقررة لحق الممول فى المطالبة برد الضرائب والرسوم التى دفعت بغير حق بثلاث سنوات ، والتى تضمنها النص المطعون عليه ، مغايرا بذلك المنهج الذى حرص عليه – قبل التعديل – بتوحيد مدة التقادم فى الحالتين السالفتى الإشارة ، ومن ثم فإنه يكون قد أقام تمييزا غير سائغ للدولة بأن اختصها بمدة تقادم للحق الضريبى تزيد على المدة المقررة للممول فى هذا الشأن ، بالرغم من تكافؤ مركزيهما القانونى ، لكونهما دائنين بدين ضريبى ، مما يستوجب وحدة القاعدة القانونية التى ينبغى أن تنتظمها فى شأن سقوط الحق فى المطالبة بالدين الضريبى لتحقيق الحماية القانونية المتكافئة لكلا الطرفين – وذلك بالمخالفة لمبدأ المساواة المنصوص عليه فى المادة 40 من الدستور .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية البند (2) من المادة (377) من القانون المدنى فيما نص عليه من " ويتقادم بثلاث سنوات أيضا الحق فى المطالبة برد الضرائب والرسوم التى دفعت بغير حق " .