القضية رقم 88 لسنة 32 ق " دستورية "
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثالث عشر من يناير سنة 2018م،
الموافق السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة 1439 هـ.
برئاسة السيد المستشار / عبد الوهاب عبد الرازق رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: السيد عبدالمنعـم حشيش وسعيد مرعى عمرو
وبولس فهمي إسكنـدر ومحمود محمد غنيم وحاتم حمد بجاتو والدكتور محمد عماد النجار
نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار / طارق
عبدالعليم أبوالعطا رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 88 لسنة 32
قضائية " دستورية ".
المقامة من
..........
ضــد
1- رئيس مجلس الوزراء
2- ..........
الإجـراءات
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت
فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير
الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار
الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق -
فى أن النيابة العامة كانت قد أسندت للمدعى، في الجنحة رقم 2492 لسنة 2009 جنح
مركز نقادة، أنه فى يوم 29/7/2009، "أعطى بسوء نية للمدعى عليه الثاني، شيكًا
بمبلغ 263500 جنيه، مسحوبًا على البريد المصري فرع نقادة، لا يقابله رصيد قائم
وقابل للسحب مع علمه بذلك". وقدمته للمحاكمة الجنائية، أمام محكمة جنح نقادة،
بطلب عقابه بالمادة (337) من قانون العقوبات، والبند (أ) من المادة (534/1) من
قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999. وحال نظر الدعوى، طلب المدعى
عليه الثاني الحكم بإلزام المدعى بأن يؤدى له مبلغ 5001 جنيه، على سبيل التعويض المدني
المؤقت. وبجلسة 21/11/2009، قضت المحكمة حضوريًّا بحبس المدعى ثلاث سنوات مع
الشغل، وكفالة 500 جنيه لإيقاف التنفيذ، وإلزامه بأن يؤدى للمدعى بالحق المدني
التعويض المدني المؤقت المطالب به. فطعن المدعى على ذلك الحكم، بالاستئناف رقم
10301 لسنة 2009 جنح مستأنف قنا، وبجلسة 11/1/2010، قضت المحكمة غيابيًّا بعدم
قبول الاستئناف، للتقرير به بعد الميعاد. عارض المدعى في ذلك الحكم، وبجلسة
29/3/2010، حال نظر المعارضة، دفع بعدم دستورية المادة الأولى من القانون رقم 179
لسنة 2008 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 16 لسنة 1970 بنظام البريد. وإذ قدرت
المحكمة جدية هذا الدفع وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية، أقام الدعوى المعروضة.
وحيث إن ما أثاره المدعى من مناعٍ على
قرار النيابة العامة بتقديمه للمحاكمة الجنائية لمعاقبته بنص المادة (337) من
قانون العقوبات، والمادة (534/1) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة
1999، لإعطائه للمدعى عليه الثاني شيكًا بريديًّا لا يقابله رصيد قائم وقابل
للسحب، رغم خلو الأوراق مما يفيد رفض صرف الشيك قبل تحريك الدعوى الجنائية، فضلاً
عن إلغاء نص المادة (337) من قانون العقوبات بموجب مواد إصدار قانون التجارة
المشار إليه، مما كان يوجب على النيابة العامة حفظ الأوراق. فتلك المناعي جميعها -
إن صحت - تتصل بكيفية تطبيق النصين المشار إليهما، وهو ما تختص ببحثه والفصل فيه
محكمة الموضوع وحدها، ولا تزاحمها فيه المحكمة الدستورية العليا، التي تنحصر
ولايتها، فيما يعرض عليها من المسائل الدستورية، لتقرير صحة النصوص التشريعية
المطعون عليها، أو بطلانها.
وحيث إن ما
ارتآه المدعى من مخالفة النص المطعون عليه لأحكام قانون البنوك الصادر بالقانون
رقم 88 لسنة 2003، فذلك النعي ينحسر عنه اختصاص المحكمة الدستورية العليا في مجال
رقابتها على دستورية القوانين واللوائح، ومحلها قيام تعارض بين نص تشريعي وحكم في
الدستور، ولا شأن لها بالتعارض بين النصوص القانونية، سواء جمعها قانون واحد، أم
تفرقت بين عدة قوانين. ومن جانب آخر، فإن الهيئة القومية للبريد، باعتبارها هيئة
عامة، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية المستقلة، وتزاول بعض أعمال البنوك، يتوافر فيها
ما ورد فى البند (ب) من المادة (32) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي
والنقد، الصادر بالقانون رقم 88 لسنة 2003. ومن ثم، وإعمالاً للمادة (30) من ذلك
القانون، تخضع فى مجال ما تقوم به من أعمال البنوك، لأحكامه، مع مراعاة أحكام
القانون الخاص بإنشائها.
وحيث إن المادة (33) من القانون رقم 16 لسنة 1970 بنظام البريد، قبل
استبدالها بالقانون رقم 179 لسنة 2008، كانت تنص على أن "تسرى على الشيكات
البريدية أحكام المادة (337) من قانون العقوبات". وإزاء إلغاء نص المادة
(337) من قانون العقوبات، اعتبارًا من 1/10/2005، بموجب نص الفقرة الثانية من
المادة الأولى من مواد إصدار قانون التجارة الصادر بالقانون رقــم 17 لسنة 1999،
المعدل بالقانون رقم 158 لسنة 2003، فقد صدر القانون رقم 179 لسنة 2008 بتعديل بعض
أحكام قانون نظام البريد المشار إليه، ونصت المادة الأولى منه على أن "يستبدل
بنص المادة (33) من القانون رقم 16 لسنة 1970 بنظام البريد، النص الآتي:
مادة (33): استثناء من حكم المادة (475) من قانون التجارة الصادر
بالقانون رقم 17 لسنة 1999، تسرى فى شأن الشيكات البريدية أحكام الفقرات 1، 3، 4
من المادة (534) من القانون المشار إليه".
ونصت المادة الثانية من ذلك القانون على أن " ينشر هذا القانون
فى الجريدة الرسمية، ويعمل به اعتبارًا من اليوم التالي لتاريخ نشره". وقد
نشر ذلك القانون فى العدد 25 (مكررًا) من الجريدة الرسمية بتاريخ 22/6/2008.
وتنص المادة (475) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999
على أن "الشيك الصادر فى مصر، والمستحق الوفاء فيها، لا يجوز سحبه إلا على
بنك، والصك المسحوب فى صورة شيك على غير بنك، أو المحرر على غير نماذج البنك
المسحوب عليه لا يعتبر شيكًا".
وتنص المادة (534) من قانون التجارة المشار إليه على أن:
"1- يعاقب بالحبس وبغرامة لا تجاوز
خمسين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من ارتكب عمدًا أحد الأفعال الآتية:
(أ) إصدار شيك ليس له مقابل وفاء قابل للصرف. (ب) استرداد كل الرصيد أو بعضه أو
التصرف فيه بعد إصدار الشيك بحيث يصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك. (ج) إصدار أمر
للمسحوب عليه بعدم صرف الشيك فى غير الحالات المقررة قانونًا. (د) تحرير شيك أو
التوقيع عليه بسوء نية على نحو يحول دون صرفه.
2- يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في الفقرة السابقة كل من ظهر لغيره
شيكًا تظهيرًا ناقلاً للملكية، أو سلمه شيكًا مستحق الدفع لحامله مع علمه بأنه ليس
له مقابل وفاء يفى بكامل قيمته أو أنه غير قابل للصرف.
3- وإذا عاد الجاني إلى ارتكاب إحدى هذه الجرائم خلال خمس سنوات من
تاريخ الحكم عليه نهائيًّا في أي منها، تكون العقوبة الحبس والغرامة التي لا تجاوز
مائة ألف جنيه.
4- وللمجنى عليه ولوكيله الخاص فى الجرائم المنصوص عليها في هذه
المادة أن يطلب من النيابة العامة أو المحكمة بحسب الأحوال، وفى أية حالة كانت
عليها الدعوى إثبات صلحه مع المتهم.
ويترتب على الصلح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت
مرفوعة بطريق الادعاء المباشر.
وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبة إذا تم الصلح
أثناء تنفيذها ولو بعد صيرورة الحكم باتًّا".
وحيث إن المقرر فى قضاء هذه المحكمة
أن مناط المصلحة الشخصية المباشرة فى الدعوى الدستورية - وهى شرط لقبولها - أن
يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة فى الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في
المسألة الدستورية مؤثرًا فى الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع.
متى كان ذلك، وكانت رحى النزاع فى الدعوى الموضوعية تدور حول ما أسندته النيابة
العامة للمدعى من أنه بتاريخ 29/7/2009 أعطى المدعى عليه الثاني - في الدعوى
المعروضة - شيكًا بمبلغ 263500 جنيه، مسحوبًا على البريد المصري فرع نقادة، لا
يقابله رصيد قائم وقابل للسحب مع علمه بذلك، وطلبت عقابه بالمادة (337) من قانون
العقوبات، والبند (أ) من المادة (534/1) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17
لسنة 1999. وكان تضمين قرار الاتهام للنص الثاني، لمعاقبة المدعى بمقتضاه، هو
إعمال صريح لأحكام المادة (33) من القانون رقم 16 لسنة 1970 بنظام البريد، بعد
استبدالها بالمادة الأولى من القانون رقم 179 لسنة 2008، ليصير نص المادة (33) بعد
الاستبدال "استثناء من حكم المادة (475) من قانون التجارة الصادر بالقانون
رقم 17 لسنة 1999، تسرى فى شأن الشيكات البريدية أحكام الفقرات (1، 3، 4) من
المادة (534) من القانون المشار إليه"، وهو النص الحاكم للفعل المؤثم المنسوب
للمدعى ارتكابه، فإن الفصل فى دستورية ذلك النص بعد استبداله، يؤثر تأثيرًا
مباشرًا على قضاء محكمة الموضوع فى الاتهام المسند للمدعى. ومن ثم، تتوافر للمدعى
مصلحة شخصية ومباشرة فى الطعن على ذلك النص. ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة فى كامل
أحكام المادة (33) من قانون نظام البريد المشار إليه، بعد استبدالها بموجب المادة
الأولى من القانون رقم 179 لسنة 2008.
وحيث إن
المدعى ينعى على النص المطعون عليه - فى النطاق السالف تحديده - أنه أفرد بالتجريم
فعل إصدار شيك بريدي ليس له مقابل وفاء قابل للصرف، ورصد له العقوبة المنصوص عليها
فى المادة (534) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999، حال أن الشيك
البريدي غير مسحوب على بنك، وغير محرر على نماذج البنك المسحوب عليه، على نحو ما
تشترطه المادة (475) من قانون التجارة لاعتبار الصك شيكًا يخضع للحماية الجنائية
الواردة في ذلك القانون، الأمر الذى يوجد تمييزًا غير مبرر بينه وبين من يرتكب الفعل
ذاته بموجب صك كتابي أو مكتبي في صورة شيك، لا تتوافر فيه ضوابط المادة (475) من
قانون التجارة، بتجريم فعل الأول، دون الثانى، واستحقاق فاعله للعقوبة المنصوص
عليها فى المادة (534) من ذلك القانون. فضلاً عن أن القانون رقم 179 لسنة 2008
المشار إليه، تضمن أثرًا رجعيًّا للتجريم، بالمخالفة لنص المادتين (66) و(187) من
دستور سنة 1971 الذى أقيمت الدعوى الدستورية المعروضة فى ظل العمل بأحكامه.
وحيث إن
الرقابة على دستورية القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها
الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، بحسبانه مستودع القيم التي
يجب أن تقوم عليها الجماعة، وتعبيرًا عن إرادة الشعب منذ صدوره، ذلك أن نصوص هذا
الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها النظام العام فى المجتمع،
وتشكل أسمى القواعد الآمرة التي تعلو على ما دونها من تشريعات، ومن ثم يتعين
التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من تشريعات - أيًّا كان تاريخ العمل بها -
لضمان اتساقها والمفاهيم التي أتى بهــا، فلا تتفرق هذه القواعد في مضامينهـا بين
نظم مختلفة يناقض بعضها البعض، بما يحول دون جريانها وفق المقاييس الموضوعية ذاتها
التى تطلبها الدستور القائم كشرط لمشروعيتها الدستورية. متى كان ذلك، وكانت
المطاعن التى وجهها المدعى للنص المطعون عليه - فى النطاق السالف تحديده - تندرج،
فى شق منها، تحت المطاعن الموضوعية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي
لقاعدة فى الدستور من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثم، فإن هذه المحكمة تباشر
رقابتها على النص المطعون عليه، والذى مازال قائمًا ومعمولاً به، في ضوء أحكام
الدستور الحالي الصادر سنة 2014.
وحيث إن
الدستور القائم لم يأت بما يخالف ما أورده المدعى بشأن المبادئ الدستورية الحاكمة
للنص المطعون عليه في دستور سنة 1971، فالثابت أن المادة (40) بشأن المساواة بين
المواطنين في الحقوق والواجبات العامة، والمادتين (66) و(187) بشأن عدم رجعية
النصوص العقابية - ما لم تكن أصلح للمتهم - التي وردت في دستور سنة 1971، تطابق في
مجملها الأحكام الواردة فى المواد (53، 95، 225/2) من الدستور القائم.
وحيث إن ما
نعاه المدعى، على النص المطعون فيه إيجاده تمييزًا غير مبرر بين تجريم فعل من يصدر
شيكًا بريديًّا ليس له مقابل وفاء قابل للصرف، دون فعل من يصدر صكًّا خطيًّا أو
مكتبيًّا في صورة شيك، حال أن كلا الصكين غير محرر على نماذج البنك المسحوب عليه،
والتفرقة في الأحكام بين الشيكات البريدية وتلك الخاضعة لأحكام قانون التجارة
المشار إليه، بما يخل بمبدأ المساواة، مردود بأن الدستور الحالي قد اعتمد بمقتضى
نص المادة (4) منه مبدأ المساواة، باعتباره أساسًا لبناء المجتمع، وصيانة وحدته
الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه على كفالة تحقيق المساواة
لجميع المواطنين أمام القانون وفى الحقوق والحريـات والواجبـات العامة، دون تمييز
بينهم لأى سبب، إلا أن ذلك لا يعنى - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة -
أن تعامل فئاتهم، على تباين مراكزهم القانونية، معاملة قانونية
متكافئة، ولا معارضة صور التمييز على اختلافها، ذلك أن من بينها ما يستند إلى
علاقة منطقية بين النصوص القانونية التي تبناها المشرع لتنظيم معين، والنتائج التي
رتبها عليها، ليكون التمييز بالتالي موافقًا لأحكام الدستور. وكلما كان القانون
مغايرًا بين أوضاع أو مراكز لا تتحد واقعًا فيما بينها، وكان تقديره فى ذلك قائمًا
على أسس موضوعية، مستهدفًا غايات لا نزاع في مشروعيتها، وكافلاً وحدة القاعدة
القانونية فى شأن أشخاص تتماثل ظروفهم، بما لا يجاوز متطلبات هذه الغايات، كلما
كان واقعًا فى إطار السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق،
ولو تضمن تمييزًا. ولا ينال من مشروعيته الدستورية، أن تكون المساواة التي توخاها
وسعى إليها بعيدة حسابيًّا عن الكمال.
كما أن من
المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن مبدأ المساواة أمام القانون، أساس للعدل، وهو أدخل
إلى جوهر الحرية، وأكفل لإرساء السلام الاجتماعي، ولئن جاز القول بأن الأصـل في كل
تنظيـم تشريعي أن يكون منطويًا على تقسيم أو تصنيف أو تمييز من خلال الأعباء التي
يلقيها على البعض أو المزايا التي يمنحها لفئة دون غيرها، إلا أن اتفاق هذا
التنظيم مع أحكام الدستور، يفترض ألا تنفصل النصوص التي نظم بها المشرع موضوعًا
محددًا عن أهدافها، ليكون اتصال الأغراض التي توخاها بالوسائل إليها منطقيًّا،
وليس واهيًا أو واهنًا، بما يخل بالأسس الموضوعية التي يقوم عليها التمييز المبرر
دستوريًّا.
وحيث إنه عن
الضرورة التي دعت المشرع لإقرار القانون رقم 179 لسنة 2008 باستبدال نص المادة
(33) من القانون رقم 16 لسنة 1970 بنظام البريد، ومدى ارتباط الغاية التي سعى لتحقيقها
من خلاله، بالوسيلة التي اتخذها، فمن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن
القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائـق الأفراد
فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، إلا أن هذا القانون يفارقها في
اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها، أو التخلي
عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد، من منظور اجتماعي، ما لا
يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم. بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون
مخالفًا للدستور، إلا إذا كان مجاوزًا حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعـة في
مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية، انتفت عنه شبهة
المخالفة الدستورية. ومن ثم، يتعين على المشرع دومًا إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة
المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
وحيث إن
الأصل في سلطة المشرع فى موضوع تنظيم الحقوق - وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة
- أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور بضوابط محددة تعتبر توخومًا لها لا يجوز
اقتحامها أو تخطيها. ويتمثل جوهر هذه السلطة فى المفاضلة التي يجريها المشرع بين
البدائل المختلفة التي تتزاحم فيما بينها على تنظيم موضوع محدد، فلا يختار من
بينها غير الحلول التي يقدر مناسبتها أكثر من غيرها لتحقيق الأغراض التي يتوخاها،
وكلما كان التنظيم التشريعي مرتبطًا منطقيًّا بهذه الأغراض - وبافتراض مشروعيتها -
كان هذا التنظيم موافقًا للدستور.
وحيث كان ما
تقدم، وكان من بين الخدمات التي تقدمها مكاتب البريد لعملائها، وفقًا لنص المادة
(1) من قانون نظام البريد الصادر بالقانون رقم 16 لسنة 1970، الخدمات المالية،
وينطوي تحت لوائها الشيكات البريدية التى تمنحها لعملائها لاستخدامها في تعاملاتهم
مع الغير، للسحب بموجبها من حساباتهم البريدية الجارية، باعتبارها أداة وفاء تقوم
مقام النقود، وتستحق الدفع لدى الاطلاع عليها، شأنها فى ذلك شأن الشيكات المصرفية
(البنكية)، وهو ما حدا بالمشرع منذ تاريخ العمل بقانون نظام البريد المشار إليه فى
6/4/1970، لإصباغ الحماية الجنائية عليها، بما نص عليه فى المادة (33) منه على أن
"تسرى على الشيكات البريدية أحكام المادة (337) من قانــون العقوبات"،
الخاصة بصور جرائم إصدار شيكات لا يقابلها رصيد قائم وقابل للسحب. واستمرت الحماية
الجنائية للشيكات البريدية على هذا النحـــــو، ولمدة ناهــــزت خمسة وثلاثيـن
عامًا، إلى أن صدر القانـــون رقـم 158 لسنة 2003 بتعديل بعض أحكام قانون التجارة
الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999، إذ تم بموجب المادة الأولى منه إلغاء نص المادة
(337) من قانون العقوبات اعتبارًا من 1/10/2005، ومنذ ذلك التاريخ زالت الحماية
الجنائية عن الشيكات البريدية، لعدم وجود محل للإحالة بشأنها إلى أحكام المادة
(337) من قانون العقوبات، على نحو ما كانت تنص عليه المادة (33) من قانون نظام
البريد، فضلاً عن أن المادة (475) من قانون التجارة المشار إليه، تطلبت فى الصك
الذى يعتبر شيكًا، أن يكون مسحوبًا على بنك، ومحررًا على نماذج البنك المسحوب
عليه، وهو ما لا يتوافر فى الشيكات البريدية، الأمر الذى حدا بالمشرع لإقرار
القانون رقم 179 لسنة 1981، الذى استبدل نصًّا آخر بنص المادة (33) من قانون نظام
البريد، ليصير "استثناء من نص المادة (475) من قانون التجارة الصادر بالقانون
رقم 17 لسنة 1999، تسرى فى شأن الشيكات البريدية أحكام الفقرات 1، 3، 4 من المادة
(534) من القانون المشار إليه". وذلك بهدف - وعلى ما ورد بالمذكرة الإيضاحية
لمشروع ذلك القانون، وما دار بشأنه من مناقشات بمجلس الشعب - مواجهة ما ترتب على
إلغاء نص المادة (337) من قانون العقوبات، مما أدى إلى انحسار الحماية الجنائية
المنصوص عليها بالمادة (33) من قانون البريد عن الشيك البريدي، الأمر الذى يستلزم
إعادة تلك الحماية بتعديل تشريعي لنص تلك المادة، بما يكفل تحقيق الحماية الجنائية
للمعاملات المالية التي تجرى بموجب شيكات بريدية بعد تاريخ العمل بالقانون رقم 179
لسنة 2008، وما يجب أن يتوافر فى التعامل بها من ثقة واطمئنان، باعتبارها أداة
وفاء، تقوم مقام النقود، وتؤدى دورًا اقتصاديًّا بالغ الأهمية. وقد اتسم مسلك
المشرع في هذا الشأن بالموازنة الدقيقة بين مصلحة المجتمع وما يتطلبه من استقرار
المعاملات المالية من جهة، وحقوق وحريات الأفراد من جهة أخرى. وقد ارتبطت الوسيلة
التي اتخذها المشرع فى هذا الشأن، ارتباطًا منطقيًّا وثيقًا بالغاية التي توخاها.
وحيث إن نص
المادة (475) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999، قد اشترط في
الشيك الصادر في مصر، والمستحق الوفـــاء فيها، أن يكون مسحوبًا على بنك، ومحررًا
على نماذج البنك المسحوب عليه، وإلا خرج عن نطاق الحماية الجنائية المقررة في هذا
القانون للشيك، وذلك بهدف ضبط التعامل بالشيكات، وحماية المتعاملين بها، باعتبارها
أداة وفاء تقوم مقام النقود، واجبة الدفع لدى الاطلاع عليها، مما يوجب أن يقتصر
التعامل بها على الشيكات البنكية، نظرًا لأن البنوك لا تقوم بتسليم دفاتر الشيكات
الخاصة بها، إلا لعملائها الذين لديهم أموال مودعة بها، أو قاموا بفتح حسابات
لديها، الأمر الذى يوفر الطمأنينة للتعامل بتلك الشيكات، وأن مصدرها لديه أموال
مودعة لدى البنك المسحوب عليه. وتلك العلة ذاتها تتوافر فى الشيكات البريدية،
باعتبارها أداة وفاء تقوم مقام النقود، كونها ثابتة على نماذج الهيئة القومية
للبريد، ومسحوبة على أحد مكاتبها، ولا يحصـل على تلـك النماذج إلا من كان لديه
حساب لدى إحدى مكاتب البريد، فضلاً عن أنه وفقًا لنص المادة (14) من قانون نظام
البريد المشار إليه، فإن أرصدة الحسابات الجارية بخدمات الشيكات البريدية مضمونة
من الحكومة. ومؤدى ذلك أن الشيكات البريديــة، شأنها شأن الشيكات المصرفيـة
(البنكية)، أداة وفاء، تؤدى دورًا اقتصاديًّا بالغ الأهمية، يفرض على المشرع حماية
المتعاملين بها، وتوفير الأمان لهم، من خلال رصد عقوبات جنائية لمــن يخالف
أحكامها، وهو ما لا يتوافر مناطه فى الشيكات الخطية أو المكتبية. ومن ثم، يختلف
المركز القانوني لمن يصدر شيكًا بريديًّا، ليس له مقابل وفاء كافِ قابل للصرف
بمجرد الاطلاع عليه، عن من يصدر صكًّا خطيًّا أو مكتبيًّا فى صورة شيك غير محرر
على نماذج البنك أو مكتب البريد المسحوب عليه، الأمر الذى يبرر المغايرة فى
المعاملة بينهما.
وحيث إنه عن قصر
التجريم والعقاب على من يصدر شيكًا بريديًّا ليس له مقابل وفاء قابل للصرف
اعتبارًا من 23/6/2008 - تاريخ العمل بأحكام القانون رقم 179 لسنة 2008 باستبدال
نص المادة (33) من قانون نظام البريد المشار إليه - دون من ارتكب الفعل ذاته خلال
المدة من 1/10/2005 - تاريخ إلغاء المادة (337) من قانون العقوبات - وإلى ما قبل
23/6/2008، فمن المقرر فى قضاء هذه المحكمة أنه في الدائرة التي يجيز فيها الدستور
للمشرع أن يباشر سلطته التقديرية لمواجهة مقتضيات الواقع - وهى الدائرة التي تقع
بين حدى الوجوب والنهى الدستوريين - فإن الاختلاف بين الأحكام التشريعية المتعاقبة
التي تنظم موضوعًا واحدًا، تعبيرًا عن تغير الواقع عبر المراحل الزمنية المختلفة،
لا يُعد إخلالاً بمبدأ المساواة، الذى يستقى أحد أهم مقوماته من وحدة المرحلة
الزمنية التي يطبق خلالها النص القانوني الخاضع لضوابط هذا المبدأ، فإذا تباينت
النصوص التشريعية في معالجتها لموضوع واحد، وكان كل منها قد طبق فى مرحلة زمنية
مختلفة، فإن ذلك لا يُعد بذاته إخلالاً بمبدأ المساواة، وإلا تحول هذا المبدأ من
ضابط لتحقيق العدالة، إلى سد حائل دون التطور التشريعي.
وحيث كان ذلك، وكان
نص المادة (33) من قانون نظام البريد الصادر بالقانون رقم 16 لسنة 1970، قبل وبعد
استبداله بالقانون رقم 179 لسنة 2008، وخلال المدة الزمنية الفاصلة بين إلغاء
المادة (337) من قانون العقوبات اعتبارًا من 1/10/2005، وتاريخ العمل بأحكام
القانون رقم 179 لسنة 2008 المشار إليه اعتبارًا من 23/6/2008، قد صدرت جميعها في
دائرة السلطة التقديرية للمشرع، وليس انصياعًا لوجوب دستوري، فإن نصى المادة (33)
من قانون نظام البريد المشار إليه، قبل وبعد استبداله بالقانون رقم 179 لسنة 2008،
يكونان في تعاقبهما قد عبرا عن مرحلتين زمانيتين مختلفتين، تتأبى معهما المقارنة
اللازمة لإعمال مبدأ المساواة، بين من أصـــدر شيكًا بريديًّا منذ تاريخ العمل
بالقانون رقم 158 لسنة 2003 بإلغاء نص المادة (337) من قانون العقوبات اعتبارًا من
1/10/2005، وبين من ارتكب الفعل ذاته بعد تاريخ العمل بأحكام القانون رقم 179 لسنة
2008، اعتبارًا من 23/6/2008.
وحيث إن حاصل
ما تقدم جميعه أن التنظيم الذى أتى به المشرع بالنص المطعون فيه يقوم على أسس
موضوعية تبرره، بما لا مصادمة فيه لمبدأ المساواة الذى كفله الدستور فى المادتين
(4، 53) منه.
وحيث إن ما
ارتآه المدعى من أن أحكام المادة الأولى من القانون رقم 179 لسنة 2008، باستبدال
نص المادة (33) من قانون نظام البريد الصادر بالقانون رقم 16 لسنة 1970، على النحو
سالف البيان، يتضمن أثرًا رجعيًّا لتجريم فعل إصدار شيك بريدي ليس له مقابل وفاء
قابـل للصـرف. فمن المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن المادة (95) من الدستور القائم
وإن نصت على أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون الذى ينص
عليها، مقررة بموجبها قاعدة عدم رجعية القوانين العقابية، مؤكدًا كذلك على تلك
القاعدة بما قررته الفقرة الثانية من المادة (225) من أن الأصل فى أحكام القوانين
هو سريانها من تاريخ العمل بها، وعدم جواز إعمال أثرها فيما وقع قبلها، وأنه لا
خروج على هذا الأصل إلا بنص خاص، وفى غير المواد الجنائية والضريبية، وبموافقة
أغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب، وذلك توقيًا لتقرير عقوبة على فعل كان مباحًا حين
ارتكابه، أو تغليظها على فعل كانت عقوبته أخف. وذلك المبدأ - عدم رجعية القوانين
العقابية الأسوء للمتهم - يقيد السلطة التشريعية إعمالاً لمبدأ شرعية الجريمة والعقوبـــة،
وصونًا للحرية الشخصية التي كفلها الدستور في المــادة (54) منه، بمــا يرد كل
عدوان عليها. والأمر المعتبر في تحديد رجعية القانون العقابي من عدمها، إنما يتعلق
بتاريخ ارتكاب الفعل أو الامتناع الذى يقع بالمخالفة لنص عقابي. إذ كان ذلك، وكانت
المادة الثانية من القانون رقم 179 لسنة 2008 المشار إليه، قد نصت على العمل
بأحكامه اعتبارًا من اليوم التالي لتاريخ نشره فى الجريدة الرسمية، والحاصل بتاريخ
22/6/2008، وهو تاريخ سابق لتاريخ ارتكاب المدعى لجريمة إصدار الشيك البريدي التي
يحاكم عنها في الدعوى الموضوعية، الحاصل فى 29/7/2009، فضلاً عن أن أحكام المادة
الأولى من ذلك القانون لم تتضمن أثرًا رجعيًّا، ومن ثم فإن النعي عليه بمخالفة
أحكام الدستور، في هذا الخصوص، يكون فاقدًا لسنده.
وحيث إنه فى
خصوص ما نعاه المدعى على مسلك المشرع بشأن إدراج أحكام النص المطعون عليه في قانون
نظام البريد الصادر بالقانون رقم 16 لسنة 1970، دون قانون التجارة، وما ارتآه من
اعتبار الشيك البريدي ورقة تجارية وإخضاعه لأحكام الشيك في قانون التجارة، حال
كونه مجرد إذن خصم من الحساب البريدي غير قابل للتداول بطريق التظهير. فذلك كله
مردود أولاً: بما هو مقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا من أن مناط رقابتها
على دستورية النصوص التشريعية، هو مدى اتفاقها أو مخالفتها لأحكام الدستور، ولا
تمتد ولايتها لمناقشة ملائمة التشريع أو البواعث التي حملت السلطة التشريعية على
إقراره، لكون ذلك مما يدخل فى صميم اختصاص السلطة التشريعية وتقديرها المطلق، كما
لا شأن لهذه المحكمة بالسياسة التشريعية التى يستنسبها المشرع لتنظيم أوضاع
بعينها، كلما كان تنفيذها - من خلال النصوص القانونية - لا تناقض حكمًا في
الدستور. ومردود ثانيًا: بأنه وفقًا لنص الفقرة (3) من المادة (486) من قانون
التجارة المشار إليه، يجوز أن يكون الشيك البنكي غير قابل للتداول بطريق التظهير،
ومردود ثالثًا: بأن المادة (33) من قانون نظام البريد بعد استبدالها بالقانون رقم
179 لسنة 2008، لم تحل إلى أحكام الفقرة (2) من المادة (534) من قانون التجارة
الخاصة بجريمة تظهير شيك تظهيرًا ناقلاً للملكية مع العلم بأن ليس له مقابل وفاء يفي
بكامل قيمته أو أنه غير قابل للصرف. ومردود رابعًا: بأن النهج الذى اتبعه المشرع في
القانون رقم 179 لسنة 2008، باستبدال لنص المادة (33) من قانون نظام البريد الصادر
بالقانون رقم 16 لسنة 1970، على نحو يُخضع الشيكات البريدية للأحكام المنصوص عليها
في الفقرات 1، 3، 4 من المادة (534) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة
1999، هو النهج ذاته الذى كان يتبعه المشرع في المادة (33) من قانون نظام البريد -
قبل استبدالها - من سريان أحكام المادة (337) من قانون العقوبات على الشيكات
البريدية. وذلك لاتحاد العلة فى الحالتين، ممثلة في إصباغ الحماية الجنائية على
الشيكات البريدية، شأنها شأن الشيكات البنكية، على ما سلف بيانه.
وحيث كان ما
تقدم، وكان النص المطعون عليه لا يخالف أى حكم آخر فى الدستور، الأمر الذى تقضى
معه المحكمة برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة
برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات، ومبلغ مائتى جنيه مقابل
أتعاب المحاماة.