الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 10 ديسمبر 2021

السبب الصحيح في التقادم الخمسي والأوضاع الشكلية في التسجيل الجديد عبد السلام ذهني بك

مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة السابعة - مارس

السبب الصحيح في التقادم الخمسي
والأوضاع الشكلية في التسجيل الجديد
للدكتور عبد السلام ذهني بك القاضي بمحكمة مصر الكلية الأهلية
والأستاذ السابق للقانون المدني والتجاري بكلية الحقوق بالجامعة المصرية

السبب الصحيح عند الرومان:
1 - الأوضاع الشكلية في العهد الأول.
2 - القاضي الروماني وصحيفة النزاع والملكية الحيازية.
3 - ما يرمي إليه القاضي الروماني من منشوراته السنوية.
السبب الصحيح والقانون الفرنسي:
1 - أركان السبب الصحيح من الوجهة القانونية البحتة.
2 - السبب الصحيح والعقود الباطلة بأنواعها الثلاثة.
3 - السبب الصحيح والأوضاع الشكلية للعقود الشكلية.
السبب الصحيح في القانون المصري:
1 - القانون المصري والفرنسي واحد.
2 - المذهب القائل باعتبار المالك من طبقة الغير.
3 - أركان التقادم الخمسي ثلاثة: التعاقد والمدة والنية.
4 - في التقادم الخمسي والتقادم الطويل وأثر السبب الصحيح في الأول.
5 - اختلاف وجهة النظر في تقرير السبب الصحيح عند الرومان وفي القوانين المصرية والفرنسية الحاضرة.
6 - السبب الصحيح والتقادم الخمسي شرط مصادفة المجلس الحسبي ونظرية علم الأفراد بقيود القانون.
السبب الصحيح وقانون التسجيل الجديد:
1 - الالتزامات الشخصية بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد.
2 - الأوضاع الشكلية وانتقال الملكية وارتباطها بالالتزامات الشخصية.
3 - العقد غير المسجل والبطلان المطلق.
قررنا بكتابنا في الأموال (صـ 571 - 575 ن 398 - 399) وبمقالنا المنشور بمجلة المحاماة (المجلد (6) صـ 597 - 629) وبرسالتنا في التسجيل وحماية المتعاقدين والغير (صـ 22 ن 21) أن نظرية التقادم الخمسي قد تأثرت بقانون التسجيل الجديد، وأنه لا بد في العقد لأجل أن يكون سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني الصحيح أن يكون مسجلاً، وأنه في حالة عدم تسجيله لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بمضي خمس سنوات، وأنه لا بد من مضي مدة 15 سنة للتملك، أي لا بد من التقادم الطويل، وقد أوضحنا ذلك على الأخص بكتابنا في الأموال وأتينا بالعلل القانونية من جميع وجوهها، بما أوجزناه بمقالنا بالمحاماة.
ولقد قرأنا أخيرًا للأستاذ حامد بك فهمي المحامي بحثًا قيمًا بمجلة المحاماة (المجلد (7) صـ 97 - 103) أفاض فيه القول بنقض رأينا وذهب فيه غير ما ذهبنا، وقال بصحة السبب الصحيح إذا لم يكن مسجلاً، وأن التقادم الخمسي جائز برغم عدم تسجيل العقد الحاصل بين البائع غير المالك والمشتري، ورجع في تأييد رأيه إلى القانون الروماني وإلى أصول التسجيل الفرنسي الموضوع سنة 1855، وإلى ما قرره قضاؤه وفقهه، وإلى القانون المصري وقضائه وفقهه، وإلى أن قانون التسجيل الجديد لم يمس التقادم الخمسي في شيء ما، ثم ختم بحثه بأن (اشتراط تسجيل السبب الصحيح لإفادة الملك، من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه الفقيه).
وإنا وإن كنا نعلم أن هذا البحث لا يُعرض على القضاء المصري إلا ابتداءً من أول يناير سنة 1928، لأنه لا بد من مضي خمس سنوات على الأقل حتى يكون للبحث محل أمام القضاء، وحتى يمكن للمشتري أن يدعي الملكية بالتقادم الخمسي في ظل قانون التسجيل الجديد، فإنا لا نرى مندوحة مع ذلك من بحث الموضوع قبل حلول أوأن الفصل فيه قضائيًا، لأن من شأن القائمين بالحركة الفقهية، أن يتلمسوا مواطن الأخذ والرد في القانون، حتى يستطيع أصحاب الشؤون في المعاملات أن يأخذوا عدتهم للطوارئ المقبلة من حيث الاختلاف في الآراء، وحتى ينضج الرأي بين أيدي المختلفين بما يدلون به من وجهات النظر المختلفة.
وإنا نرى البدء أولاً بالنظرية الرومانية وكيف عالج القاضي الروماني préteur قوة القيود التشريعية القديمة في عصر الطفولة للرومان، وعمل على التوفيق بينها باعتبارها رمزًا للصيغة الرومانية البحتة، وبين تطور الحالات الاجتماعية عندهم، بل كان يذيعه سنويًا على الكافة بمنشوره السنوي edictum من الأصول القانونية القيمة حتى يعلم جماهير الناس بما سيقضي به القاضي فيما إذا تخاصم إليه المتنازعون، ثم نعرج بعد ذلك على بيان نظرية التسجيل الحاضر، وأن القانون الفرنسي الصادر في 23 مارس سنة 1855 وهو مصدر التسجيل المصري المختلط الموضوع سنة 1875 والأهلي سنة 1883، لم يأخذ مطلقًا بمذهب القاضي الروماني وما أذاعه بمنشوره، وأن الفقه والقضاء الفرنسيين سارا في طريق السبب الصحيح والتقادم القصير بغير الطريقة الرومانية، على العكس مما جاء بمقال الناقد حامد بك ثم نعود بعد ذلك إلى قانون التسجيل الجديد الصادر في 26 يونيو سنة 1923 وبيان ما أحدثه من مبدأ جديد في تقرير التسجيل وفي جعله من الأوضاع الشكلية من حيث نقل الملكية فقط، برغم ما للعقد في ذاته من الأثر القانوني في تقرير التزامات شخصية بين عاقديه، وفي هذا الإيضاح تبرز الفروق البينة بين السبب الصحيح الروماني والسبب الصحيح الفرنسي، والمصري في عهد القانون المدني، والسبب الصحيح في عهد قانون التسجيل الجديد، وسنبين في أي طائفة من طوائف البطلان الثلاثي أو الثنائي يقع عقد البيع غير المسجل وقد أصبح التسجيل من الأوضاع الشكلية، وما هو أثر ذلك مع قيام الالتزامات الشخصية، وما رتبناه على هذه الأخيرة من أصول وأحكام من حيث المطالبة بالتسليم وما إلى ذلك.
القانون الروماني والسبب الصحيح:
رأينا أن نثبت بكتابنا في الأموال (صـ 1002 - 27 1 ن 681 - 693) بابًا خاصًا في إثبات الملكية وكيفية الدفاع عنها وتطور أداة الدفاع عن الملكية في العصور الرومانية والعصور الوسطى وفي عهد القانون الفرنسي الحاضر وقضائه وفقهه، وأخيرًا في عهد القانون المصري وقضائه، وبينّا بكتابنا أطوار الملكية عند الرومان وما قرروه من الملكية الحيازية، أي الملكية الناقصة propriété bonitaire بجانب الملكية الرومانية البحتة propriété quiritaire التي كانت وقفًا على جماعة الرومان أنفسهم، والتي كانت لا تنتقل إلا بأوضاع شكلية خاصة، أهمها البيع العلني أو الإفراغ العلني mancipatio للأشياء النفيسة res mancipi (وكلمة mancipatio أو mancipium مكونة من كلمتين: manus بمعنى اليد وcapio بمعنى مسك: إشارة إلى أن المشتري يضع يده على المبيع ويدعي ملكيته له في حضرة البائع الذي لا ينازع (انظر في ذلك مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء ص 39 - 42)، وإذا حصل التبايع في هذه الأشياء النفيسة بغير طريقة الإفراغ العلني وحصل بالمناولة اليدوية traditio، فلا يكتسب المشتري الملكية الرومانية البحتة المحمية بدعوى إثبات الملكية rei vindicatio، إنما يكتسب فقط الملكية الحيازية، وهذه الملكية النافعة كما يسميها حامد بك (المحاماة (7) صـ 99 العامود الأول في منتصفه) وإن كانت لا ترتفع إلى مستوى الملكية الرومانية البحتة ولا تستفيد من دعوى إثبات الملكية، إلا أن القاضي الروماني بوبليسيوس publicius قرر لها دعوى خاصة صورية لحمايتها سُميت باسمه la publicienne يستعين بها صاحبها في حمايتها ضد الغير، وكان يعمل القاضي المحضر، الذي يحرر صحيفة النزاع formule ويرفعها إلى القاضي الذي يفصل فيها، في أن يفترض في تلك الصحيفة فرضًا صوريًا أن المشتري قد تملك بالتقادم مع أنه في الحقيقة لم تمضِ مدة التقادم.
ولقد أتينا بهذه اللمحة الرومانية السريعة برسالتنا في التسجيل، وكنا نرمي بها إلى بيان وجه الشبه بين الملكية الناقصة عند الرومان، وما يتقرر للمشتري في وقتنا الحاضر، في ظل قانون التسجيل الجديد من الحقوق بشأن العقار المبيع له، وضرورة حماية هذه الحقوق ضد البائع وضد الغير أيضًا (انظر رسالتنا في التسجيل صـ 8 - 10 ن 13 - 14) وقصدنا من ذلك أن نعمل على رفع الغرابة التي يمكن أن تلاحظ على ما قررناه بشأن العقد غير المسجل من ضرورة حماية صاحبه ضد كل من يعتدي على حقوقه بشأن العقار المبيع، إذ قررنا للمشتري الحق في مقاضاة البائع بتسليمه العقار المبيع، والعمل على احترام الالتزامات القانونية الناشئة عن البيع غير المسجل، وما إلى ذلك من الحقوق الأخرى.
قلنا بأن القاضي الروماني préteur وقد قرر بمنشوره السنوي الذي يذيعه كل عام على الأفراد قبل البت شكليًا فيما يُرفع إليه من الأقضية، قرر الملكية النافعة أو الملكية الناقصة أو الملكية بحكم القاضي propriété prétorienne، لمن اشترى شيئًا نفيسًا بغير الأوضاع الشكلية وقرر أيضًا هذه الملكية الحيازية habere in bonis لمن اشترى من غير مالك بسبب صحيح وحسن نية (انظر جاستون مي G May في القانون الروماني، الطبعة الرابعة عشرة سنة 1922 صـ 268)، وأصبح بذلك لدى الرومان نوعان من الملكية: الرومانية البحتة والملكية الناقصة، ثم تطور هذان النوعان مع تطور إجراءات المرافعات عندهم، وعلى الأخص عندما زال العمل بصحيفة الدعوى التي كان يجهزها القاضي المحرر لها، بما يشبه عندنا اليوم قاضي التحضير المصري، واندمجت الملكيتان معًا، أي توحدت الملكية، وارتفعت عنها القيود الشكلية القديمة والأوضاع المعقدة التي أصبحت لا تلتئم مع رقي المدنية عند الرومان وما أصابوه من وفرة في المرافق الحيوية.
وقد عول الرومان في تقريرهم لأداة الحماية لدى صاحب الملكية النافعةpossesseur bonitaire على السبب الصحيح jnsta causa وحسن النية، ويرون، كما نرى نحن في العصور الحاضرة، بالسبب الصحيح العملية القانونية Acte juridique التي تحصل بين البائع والمشتري، أي البيع، ويترتب عليها تقرير التزامات في ذمة كل واحد من الطرفين (جاستون مي صـ 328 ن 88 - انظر أيضًا جيرار Girardفي القانون الروماني الطبعة السابعة سنة 1924 صـ 319 - وانظر مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء صـ 138 وما بعدها) والمراد بالسبب الصحيح وبالعملية القانونية، أن يتراضى العاقدان على نقل الملكية من يد أحدهما إلى يد الآخر، كما يقول جيرار، أو أن يكون السبب الصحيح دالاً بنفسه على رغبة المتعاقدين في الإفراغ والكسب، كما يقول حامد بك نقلاً عن المؤلف (ديد ييه) الذي رجع إليه (المحاماة 7 صـ 99 العامود 2 في وسطه).
وهنا قرر حامد بك (صـ 99 العامود 2 في وسطه) ما يأتي (ولذا لم يشترطوا في السبب الصحيح الوارد على مال منسيبي (يريد الشيء النفيس res mancipi) أن يقع بالأوضاع الشكلية الواجب اتباعها في نقل الملكية الرومانية) ثم عقب حضرته ذلك بما يأتي: (وإلى مثل هذه النتيجة بلغ الفقهاء والشارحون للقانونين الفرنسي والمصري).
ثم أورد حضرة الناقد بعد ذلك ما قرره فقهاء العصور الحاضرة ابتداءً من بوتييه في تعريف السبب الصحيح، وما قرره بودري ودي هلس، وعلى الأخص هذا الأخير (ج 3 صـ 352 ن 118) في أنه لا يشترط في السبب الصحيح أن يكون قد نقل الملكية فعلاً، بل السبب الصحيح هو العقد الذي يرمي بطبيعته إلى نقل الملكية، لولا أنه قد عابه عيب واحد وهو صدوره من غير مالك.
ومن هذا البيان لحضرة الناقد نرى أنه يريد القول بصحة السبب الصحيح وجعله ذا أثر في التقادم الخمسي، ما دام قد انصرف هذا السبب الصحيح إلى مجرد النية لدى العاقدين في نقل الملكية، وأنه لا عبرة مطلقًا بالقيود الشكلية والأوضاع المرعية القانونية التي تكون مقررة لصحة السبب الصحيح في ذاته، والتي لا تنتقل الملكية إلا بها وبتوافرها، أي أن حضرة الناقد قصر السبب الصحيح على مجرد النية في نقل الملكية، وأن هذه النية هي المعول عليها دون الأوضاع الشكلية، فإذا وقعت ولم تحصل الأوضاع الشكلية، اعتبر بأن هناك سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحجة حضرة الناقد في ذلك، القانون الروماني، وما أجازه الرومان في تقرير الملكية النافعة أي الملكية الحيازية أو الناقصة، لمن تملك شيئًا نفيسًا من غير طريقة الإفراغ العلني بالأوضاع الشكلية المعروفة عندهم، وما قرره بوتييه في أن المراد بالسبب الصحيح أن يكون صالحًا للاطمئنان به عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر.
وهذه القاعدة التي يقررها حضرة الناقد، في أن فقهاء الفرنسيس والمصريين أخذوا بالقاعدة الرومانية، قاعدة لا نقره عليها، وكذلك طريقة التدليل في تقريرها طريقة لا نقره عليها أيضًا.
أما بشأن القاعدة في ذاتها وبأن علماء العصر الحاضر من فرنسيين ومصريين لم يأخذوا بالنظرية الرومانية القضائية البحتة، فالأمر في ذلك يرجع إلى ما قرره حقًا حضرة الناقد في قوله: (ورأيتهم لا يعتبرون العقود غير المنعقدة أو الباطلة بطلانًا مطلقًا أصليًا سببًا صحيحًا، ويعتبرون العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا كبيع القاصر والمكره) فكيف يقال حينئذٍ بأن الحاضرين أخذوا بنظرية الغابرين، في الوقت الذي لم يأخذوا فيه بها؟ ولقد سبق لنا أن بينّا بكتابنا في الالتزامات النظرية العامة (صـ 235 - 247 ن 253 - 264) أقام البطلان الثلاثي، البطلان المعدم للعقد، والبطلان المطلق، والبطلان النسبي، وأقسام البطلان الثنائي وهو البطلان المطلق بوجه عام والبطلان النسبي، ورأينا أن البطلان المطلق يجعل العقد كأنه لم يكن، سواء أكان ينقص العقد ركن من أركان تكوينه كالمبيع في البيع، أم ينقصه شرط شكلي من الأوضاع العلنية المقررة لتكوين العقد بالذات، كشرط الرسمية في عقد الهبة مثلاً، إذ العقد في الحالتين يعتبر غير موجود، لا تلحقه إجازة تصححه وترفع شائبته، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي، فلا هبة، لأن رضاء العاقدين وحده لا يكفي لإنشاء عقد الهبة، بل لا بد من ركن الرسمية، وبدونه لا أثر للهبة من الوجهة القانونية، وهذا الركن في الوضع الشكلي للعقد الرسمي، أي ركن الشكلية للعقد الشكلي acte solennel، لازم لوجود العقد من الناحية القانونية، فإذا وجد العقد شكلي الأصل دون أن يتوافر فيه ركن الشكلية، فلا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي (انظر كتابنا في الأموال صـ 571 ن 398 وما بعدهما).
والإفراغ العلني عند الرومان mancipatio أي البيع بالميزان في حضرة الشهود الخمسة وما إلى ذلك، هو عقد شكلي، بحيث لا تنتقل الملكية عندهم إلا به، وقبل حصول البيع العلني، يحصل الإنفاق البسيط pactum بين المتعاقدين على البيع، فإذا تمت العلانية انقلب الإنفاق المجرد من كل أثر قانوني، إلى عقد ملزم منشئ لحقوق ومقرر لواجبات، وإذا لم تحصل العلانية، فلا ينتج التعاقد البسيط أثرًا قانونيًا ما.
ولكن لما كان القاضي الروماني المحضر للدعوى والمحرر لصحيفة النزاع لا يفصل في النزاع في ذاته ولكنه يحدد بصحيفته موضوع النزاع، وكان يذيع على الكافة منشوره edictum السنوي بما سينويه من العمل بالمبادئ القانونية التي يقررها هو قبل العمل بها - لما كان ذلك القاضي préteur يعمل على التخفيف من شدة الأوضاع الشكلية للقانون الروماني القديم البحت، فإنه كان يجري في ذلك مع سنة الرقي، ويصرف همه في أن يجعل المبادئ القانونية من المرونة بحيث يجب أن تتفق مع ما يقطعه الشعب الروماني كل يوم من أشواط المدنية في مجالات الرقي، لذا أباح الملكية الناقصة، أي الملكية القضائية، وقرر لها أداة لحمايتها كما رأينا، واستند في تقريرها إلى اعتبار المشتري للشيء بغير الأوضاع الرومانية البحتة، مالكًا بالتقادم، وهذا الاعتبار صوري مجازي لا حقيقة له، إذ افترض القاضي بأن المشتري قد ظل واضعًا يده المدة المكسبة بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم يضع يده هذه المدة، وقد فعل ذلك، القاضي الروماني واستعان بالمجاز والصورية ليصيب غرضين:
أولاً: احترام القيود الشكلية الرومانية البحتة.
ثانيًا: جعل هذه القيود الشكلية بحيث لا تعيق سير الأمور الحيوية الخاضعة لنواميس الرقي الطبيعي.
وقد انتهت الملكية بنوعيها، الملكية الرومانية البحتة، والملكية القضائية، إلى نوع واحد، وتوحدت الملكية لما هجر الرومان أوضاعهم الشكلية الأولى التي كانت تلتئم مع طبائعهم عندما كانوا شعبًا صغيرًا، وقبل أن تدخل إليهم المدنية، وقبل أن يتوسعوا في معاملاتهم التجارية مع الغير.
ومن هنا نتبين أن القاضي الروماني préteur في تقريره للملكية الحيازية وحمايته للحائز الذي لم يملك بالطرق والأوضاع الشكلية المعروفة، وتعويله على مجرد حصول العملية القانونية acte jiridique بين الطرفين وانصرافهما إلى نية تمليك الواحد منهما للآخر، أو كما يقول بوتييه كما نقله عنه الأستاذ حامد بك، أن المراد من السبب الصحيح (أن يكون صالحًا للاطمئنان عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر) - هذا القاضي الروماني وقد أراد بالسبب الصحيح العملية القانونية التي تنم وحدها عن نية التمليك، لا عن نقل الملكية بالذات، لم يعمل ذلك ولم يجزه ويقره بمنشوره السنوي، إلا لأنه كان يرمي إلى معالجة شؤون رومانية بحتة، وأنه كان يريد التوفيق بين احترام الأوضاع الشكلية الرومانية القديمة، وبين عدم تعطيل حركة النمو الاجتماعي القسري الذي يسوق الشعب الروماني في تيار الرقي الجارف.
ولما جاءت القوانين الفرنسية وقررت العقود الشكلية ومن بينها الهبة، فإنها قررت تقريرًا صريحًا بأن (العقد الباطل شكلاً لا يصلح سببًا للتملك بمضي المدة من عشر سنوات إلى عشرين سنة) (المادة (2227) من قانون نابليون) وهذا الحكم خاص بما يقابل عندنا التقادم الخمسي، وهو ما جرى عليه الفقه والقضاء الفرنسي، أي أن العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص ركن الشكلية فيه، لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، بل لا بد للتملك من مضي 15 سنة.
وعلى هذا يكون القول من حضرة الناقد بأن فقهاء العصر أخذوا بالقاعدة الرومانية قولاً لم يصب مكانه من الصحة، كما أن طريقة التدليل في تقرير هذه القاعدة، طريقة لم تصادف مكانها من الصحة أيضًا، لأن العلة عند الرومان في تقرير القاعدة لديهم لم تكن هي العلة عندنا في عصورنا الحاضرة.
عقد البيع غير المسجل وقانون التسجيل الجديد:
إذا علمنا ما تقدم فلننظر الآن فيما إذا كان عقد البيع في ظل قانون التسجيل الجديد، وفي حالة عدم تسجيله، عقدًا ناقلاً للملكية، أم هو غير ناقل لها، وبعبارة أخرى هل هذا العقد غير المسجل عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط (بصرف النظر عن كونه في ذاته عقدًا منشئًا لالتزامات ومقررًا لحقوق) أم هو عقد باطل بطلانًا نسبيًا تلحقه الإجازة؟ وفي الحالة الأولى لا يعتبر سببًا صحيحًا، وفي الحالة الثانية يعتبر كذلك.
ونحن نقول بأن عقد البيع غير المسجل في ظل قانون التسجيل الجديد، عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط، وعلى هذا الاعتبار لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحضرة الناقد حامد بك يقول العكس.
وأدلة حضرته نوجزها فيما يأتي:
1 - أن عقد البيع غير المسجل، ما دام أنه منشئ لحقوق والتزامات، فهو إذن (صالح لأن يطمئن به المشتري في تلقي العين ممن هي تحت يده، لتضمنه الالتزام بنقل ملكيتها إليه، وإن لم ينقلها بالفعل).
2 - أن الفقه الفرنسي، ما عدا القليل منه، والقضاء الفرنسي، وكذلك الفقه والقضاء بمصر، كل ذلك يرى أن لا محل لتسجيل السبب الصحيح حتى يحتج به ضد المالك الحقيقي (كلمة (المشتري) الواردة بمقال الناقد صـ 101 العامود الثاني السطر 6 في آخره، حقيقتها (المالك الحقيقي)).
3 - أن المادة (76) مدني الخاصة بالسبب الصحيح لم ترد بالمواد الملغاة بقانون التسجيل الجديد المصري، ولا يمكن على كل حال أن يمسها هذا القانون بشيء ما.
4 - أن المادة (264) مدني المقررة لبطلان عقد البيع الصادر من غير المالك الحقيقي، لا يلحقها أيضًا قانون التسجيل الجديد الذي انصرف إلى تقرير ضرورة تسجيل العقد الصادر من المالك الحقيقي لا إلى تقرير تسجيل العقد الصادر من غير المالك الحقيقي.
5 - أن المالك الحقيقي لا يمكن اعتباره داخلاً ضمن طائفة الغير الذين تلقوا الملكية عن مالك واحد وحفظوها بالتسجيل، وليس من الغير أيضًا الدائن العادي ولا من تلقى الملكية عن غير المالك الحقيقي.
6 - أن العقد الذي يصدر من غير المالك الحقيقي، لا ينقل الملكية حتى ولو تسجل فإن هذا العقد ولا تسجيله ينقلان الملكية، إنما الذي يُكسب الملكية للمشتري من غير مالك هو في الواقع وضع اليد مدة خمس سنوات.
هذه هي أدلة حضرة الناقد، ونرى الآن أن ندلي بأدلتنا نحن في تقرير رأينا الذي قلنا به، وننقد أدلته في طريق إقامتنا الحجة على صحة رأينا.
قلنا في مواطن عدة مما نشرناه مقالات وتأليفًا، وأقرنا عليه القضاء الأهلي والمختلط أخيرًا وأقرنا عليه الأستاذ حامد بك بمقاله الأخير والسابق عليه، إن عقد البيع لم يصبح في ظل قانون التسجيل الجديد عقدًا شكليًا Acte solennel، بل ظل كما كان من قبل عقدًا رضائيًا acte consensuel ينعقد بتمام حصول الرضاء والقبول من الطرفين، ويترتب على انعقاد العقد صحته وتقرير حقوق وواجبات ترجع لطبيعة العقد، وهو ما يسمى بالالتزامات الشخصية الواردة بالمادة الأولى من قانون التسجيل، ورجعنا في تقرير هذه القاعدة وفي التدليل عليها إلى المادة (873) من القانون الألماني الصادر سنة 1872 وإلى الأعمال التحضيرية لمشروعي توحيد أقلام التسجيل بمصر والسجلات العقارية الموضوعين بمعرفة اللجنة الدولية المختلطة سنة 1904 وإلى مناقشات اللجنة التي وضعت قانون التسجيل الجديد وإلى مذكرته الإيضاحية (ورجع القضاء المختلط إلى تقرير اللجنة البلجيكية: انظر حكم محكمة مصر المختلطة الصادر في 21 يناير سنة 1926 وتعليقنا عليه بمجلة المحاماة 6 صـ 827) ومن شأن هذه الحقوق والواجبات أن تبيح لكل عاقد الحق في المطالبة بها والخضوع لها قبل تسجيل العقد، فللبائع حق مطالبة المشتري بالوفاء بالثمن، وللمشتري حق مطالبة البائع بالتسليم، وإذا امتنع البائع عن العمل على المصادقة على توقيعه طبقًا للمادة (6) من قانون التسجيل، جاز للمشتري رفع الدعوى إما بطلب الحكم بصحة التوقيع، أو بطلب الحكم بصحة التعاقد ثم تسجيل الحكم في الحالتين مع العقد، فتنتقل الملكية، ولا تنتقل الملكية إلا بالتسجيل، والتسجيل هنا مظهر من الأوضاع الشكلية solennel لازم لنقل الملكية، وبدونه لا يمكن ويستحيل نقل الملكية، والقاضي نفسه لا يملك أن يصدر حكمه ليحل محل الوضع الشكلي وهو التسجيل، وكل ما له الحكم بصحة التعاقد، فإذا تسجل الحكم مع العقد انتقلت الملكية، وإلا فلا تنتقل مطلقًا بدونه، وهذا الوضع الشكلي للتسجيل في نقل الملكية هو ككل وضع من الأوضاع الشكلية للعقود الشكلية actes solennels لا يتقرر الحق بدونه، وهو يحكي تمامًا الوضع الشكلي لعقد الرهن العقاري غير الحيازي، أي العقد التأميني hypothéque، فإذا تعاقد دائن ومدين على أن يرهن هذا الأخير للأول عقارًا له رهنًا رسميًا ولم يفِ بوعده فلا يملك الدائن ولا القاضي حق إكراه المدين على الرهن، وكل ما للقاضي الحكم بتعويض للدائن، كل ذلك لأن الرهن عقد شكلي لا ينعقد إلا بتمام الوضع الشكلي والإجراءات الشكلية، ولا يستطيع القاضي أن يحل فيها بحكم محل القيود المقررة بالقانون (انظر كتاب التأمينات لنا صـ 133 ن 125).
إذا تقرر ذلك، ولا شبهة فيه، أصبح عقد البيع في ذاته عقدًا صحيحًا ونافذًا من حيث تقرير التزامات وحقوق ناشئة عن طبيعة البيع، ولا يمكن أن يكون نافذًا للملكية إلا بتسجيله، ومن غير التسجيل يستحيل استحالة مطلقة نقل الملكية إلى المشتري، وعقد البيع على هذا الاعتبار عقد رضائي وشكلي في آنٍ واحد، فهو رضائي لأنه ملزم لطرفيه بالتراضي والاتفاق عليه، وشكلي لأن الملكية لا تنتقل فيه إلا بأوضاع شكلية حتمها القانون، ولا محل لاحتمال القول بالغرابة في أن يكون العقد الواحد في ذاته رضائيًا وشكليًا، ذلك لأن الجمع بين رضائية وشكلية العقد الواحد هو من وضع الشارع المصري الذي أراد أن يكون العقد غير المسجل ملزمًا وغير ناقل للملكية في آن واحد، وفعل الشارع المصري الأخير ذلك على خلاف ما قرره مشروع السجلات العقارية سنة 1904 في أن يكون عقد البيع رسميًا ومسجلاً، بحيث إذا انعقد عرفيًا فيصبح باطلاً بطلانًا مطلقًا لا يترتب عليه أي أثر ما، أي لا ينتج الالتزامات الشخصية المقررة بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد (انظر كتابنا في الأموال صـ 869 ن 593 وما بعدهما) والتعاقد على البيع لعقد غير المسجل يشبه التعاقد على الرهن الرسمي دون حصول الرهن، إذ التعاقد فيهما صحيح من حيث تقرير حقوق، وليس التعاقد هذا وفي ذاته باطل، إنما القيود الشكلية فيها تجعل التعاقد عليها تعاقدًا لا بد في نفاذه من عقد شكلي خاضع لإجراءات شكلية قررها الشارع بالذات للنظام العام، والأوضاع الشكلية في الرهن الرسمي هي حضور المدين الراهن أمام الموثق مع شهوده وما إلى ذلك، ولا يملك القاضي إلزام المدين بتنفيذ هذا الالتزام، والأوضاع الشكلية في التسجيل هي وضع العقد في ملف على حدة طبقًا لقانون التسجيل الجديد، وبنظام خاص لتسهيل العلانية لدى الكافة، لا حاجة فيها إلى حضور البائع شخصيًا، ولذا إذا أمر القاضي بتسجيل العقد، صح تنفيذ أمره لبعده عما له مساس بالحرية الشخصية للبائع.
إذا علم ما تقدم، ففي أي طائفة من العقود الباطلة يمكن وضع عقد البيع غير المسجل فيها؟ فهل يوضع في طائفة العقود الباطلة بطلانًا مطلقًا، أو في طائفة العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا؟ فإن قيل بالبطلان النسبي، وجب اعتبار عقد البيع غير المسجل سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وإن قلنا بالبطلان المطلق وجب عدم اعتباره سببًا صحيحًا، ولزم على ذلك، التقادم الطويل بمدة 15 سنة.
والعقد الباطل بطلانًا نسبيًا عقد صحيح في ذاته شابته شائبة ترجع لشخص أحد العاقدين وهو المجني عليه، فإذا لزمته الشائبة بطل مفعول العقد، وإذا زالت برغبة المجني عليه ولفعله هو نفذ العقد.
فإذا وقع العقد تحت سلطان الإكراه فسد العقد وزال مفعوله، ولكن يجوز للعاقد الذي وقع الإكراه عليه أن يتنازل عن حقه في تمسكه بسبب الإكراه، وبذا يصح العقد، وكذلك القول فيما إذا عاب العقد عيب الغلط أو الغش، وإذا عاب العقد فقد الأهلية لدى أحد العاقدين بأن كان قاصرًا جاز للقاصر وحده الطعن في العقد بالبطلان، ويجوز له السكوت عن الطعن بعد بلوغه، وبذا يصح العقد وينفذ.
ومن هنا نرى أن البطلان النسبي يرجع لعمل الفرد وحقه الشخصي، فإن شاء التمسك به، فيبطل العقد، وإن شاء التنازل عنه فيصح العقد، دون أن يكون هناك دخل في الحالتين للنظام العام، والبطلان النسبي على هذا الاعتبار بطلان شخصي خاص لا عام (راجع كتابنا في الالتزامات النظرية العامة صـ 243 ن 262).
والعقد الباطل بطلانًا مطلقًا عقد شابه عيب يتصل بالنظام العام اتصالاً محكمًا ولا يتعلق برغبة العاقدين وحرية رضائهما فيه، بل لا بد من الخضوع للأوضاع الشكلية التي قررها القانون، كالرسمية في الرهن التأميني أو في الهبة، ويجوز لكل من العاقدين وللغير أيضًا التمسك بالبطلان، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي جاز للواهب نفسه طلب بطلان العقد، كما يجوز للقاضي أن يقضي به من تلقاء نفسه، لأن البطلان متعلق بالنظام العام، لا بالمصلحة الشخصية البحتة للأشخاص، وهذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يقبل التصحيح، أي لا يملك العاقدان تصحيحه بإرادتهما دون الخضوع للأوضاع الشكلية (الالتزامات لنا في النظرية العامة صـ 239 - 241 ن 256 - 258).
هذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأنه وإن كان قد شملته رغبة الطرفين في التمليك، في حالة الهبة مثلاً، واطمأن فيه الموهوب إليه، إلا أن الرغبة المحضة للطرفين لا تكفي لنقل الملكية، بل لا بد لركن الشكلية، وهذا الحق في المطالبة بالبطلان لا يسقط عن الواهب بالتقادم الطويل فيما إذا كان مدعيًا، كما لا يسقط حق الدفع بالبطلان إذا كان الواهب مدعى عليه (المادة (2262) مدني فرنسي والمادة 208/ 272 مدني مصري - الالتزامات لنا النظرية العامة صـ 241 - 242 ن 259 - 260. إنما يرى القضاء الفرنسي، في أنه إذا صح عدم جواز زوال حق طلب البطلان بالتقادم، أي عدم جواز اكتساب العقد الباطل بطلانًا مطلقًا قوة قانونية بفعل الزمن وهو التقادم، فإنه يرى من طريق آخر أن التقادم يحدث أثره وينصب على الشيء محل عقد الهبة فيكتسب الموهوب له ملكيته له بالتقادم: انظر الهامش (1) من صفحة 241 من كتابنا في الالتزامات. وانظر كتابنا في الأموال صـ 572 ن 399 والهامش (3)، وفي عدم جواز سقوط الدفع بالبطلان المطلق مهما طال الزمن فذلك يرجع للقاعدة المعروفة القائلة بأن الدعاوى معقودة بزمن وأما الدفوع exceptions فهي دائمة خالدة: انظر في ذلك كتابنا في القانون التجاري صـ 329 ن 252).
وإذا علم الآن البطلان النسبي والبطلان المطلق ففي أيهما يدخل عقد البيع غير المسجل؟ قلنا إنه يدخل في طائفة البطلان المطلق، لأن التسجيل هنا شرط لازم لصحة العقد في نقله للملكية، ولا يقبل تصحيحًا ولا تأييدًا بغير التسجيل، وهذا العقد لا يعتبر سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني العصري، لا بالمعنى الروماني القضائي، لأن العقد الذي يعتبر في عصورنا الحاضرة سببًا صحيحًا هو العقد الذي يملك بطبيعته وكيانه القانوني فيما إذا صدر من المالك الحقيقي verus dominus فإذا فرض وصدر العقد من هذا المالك الحقيقي دون مراعاة الأوضاع الشكلية فيه فإنه لا يملك، وإذا صدر من غير المالك فلا يملك أيضًا بالتقادم الخمسي، لأنه لا يعتبر سببًا صحيحًا قد توافرت فيه أركان الصحة القانونية اللازمة للعقود الشكلية.
ولا يعتبر العقد سببًا صحيحًا ليس فقط إلا عند توافر شروط الأوضاع الشكلية فيه إذا كان من العقود الشكلية actes solennels، بل لا يعتبر سببًا صحيحًا أيضًا إلا إذا حاز الشروط القانونية التي يقررها القانون بالذات في سبيل حماية البائع حماية شخصية، ويقع ذلك فيما إذا بيع عقار القاصر لمشترٍ دون مراعاة أخذ مصادقة المجلس الحسبي، إذ في هذه الحالة لا يجوز للمشتري اعتبار عقده سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي بل لا بد له من التقادم الطويل مدة 15 سنة (استئناف أهلي في 20 مارس سنة 1906م ر 1، 8 صـ 57 عدد 029 - ح 21 صـ 0257 - مرجع القضاء ص 382 ن 01377 - ح 22 ص 083 - مرجع القضاء صـ 381 ن 01375 - د، 907، 1، 0406 - كتابنا في الأموال صـ 572 والهامش (5) وصـ 574 والهامش 02 - ومرسى المزاد الذي يحصل على جهة الإدارة عقب إجراءات نزع الملكية إن جاءت مخالفة للقوانين والأوامر لا يعتبر سببًا صحيحًا لتمليكها العين بوضع اليد خمس سنوات: انظر في ذلك زقازيق حكم استئنافي 14 فبراير سنة 1906 ح 22 صـ 0169 - مرجع القضاء صـ 382 ن 1383) وألا يرى في ذلك بأن الحكم بعدم اعتبار عقد البيع الصادر من الوصي دون مراعاة قيد مصادقة المجلس الحسبي سببًا صحيحًا هو حكم أبلغ في عدم اعتبار العقد الذي ينقصه ركن شكلي من الأوضاع الشكلية سببًا صحيحًا؟ إن العقد الذي ينقصه وضع شكلي لازم لإنشائه، والعقد الذي ينقصه شرط لازم لصحته كمصادقة المجلس الحسبي، هو عقد لا يمكن اعتباره سببًا صحيحًا، والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن القيد القانوني بالوضع الشكلي إن كان العقد رسميًا، أو القيد القانوني بالمصادقة، هذا القيد من الشروط التي قررها القانون بالذات لصحة العقد، ويستحيل قانونًا وبداهةً أن يكون العقد الخالي عن هذا القيد الشكلي أو التصادقي سببًا صحيحًا، لأن السبب الصحيح هو العمل القانونيacte juridique المملك في ذاته فيما لو صدر من المالك الحقيقي، وكل ما ينقص العقد هو صدوره من غير المالك فقط، أي أن العذر الذي جعل الشارع يغتفر فيه للمشتري خطأه إنما هو العذر الخاص بجهل المشتري بعدم ملكية البائع له، واعتقاد هذا المشتري في أنه اشترى من المالك الحقيقي، والخطأ هنا واقع، وواقع فقط، على خطأ موضوعي لا قانوني، وأما إذا وقع الخطأ على أمر قانوني واشترى المشتري دون مراعاة القيد الشكلي أو التصادقي، فإن الشارع لا يغتفر للمشتري خطأه، لأنه من المفروض على كل فرد كائنًا من كان أن يعرف القانون وقيوده (المادة (29) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية).
وإذا كان العقد الذي تنقصه مصادقة المجلس الحسبي لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم، وهو ليس بالعقد الشكلي الخاضع لأوضاع شكلية، ألا يكون من باب أولى عقد البيع غير المسجل الذي يعتبر عقدًا شكليًا فيما يتعلق، ويتعلق فقط، بنقل الملكية؟ إن التسجيل كشرط لازم لنقل الملكية، قيد وضعي قانوني لا يستطيع معه المشتري أن يقول باعتبار عقد البيع سببًا صحيحًا، لأنه وإن كان البيع عملية قانونية يطمئن إليها المشتري عند التعاقد في نقل الملكية إليه، فإنه يجب أن يلاحظ أن هذا الاطمئنان ليس بصحيح قانونًا إلا إذا قام المشتري من جانبه بما يقضي عليه به القانون من شروط لازمة لصحة العقد، بحيث إذا أهمل المشتري في مراعاة الشروط القانونية التي يجب على المشتري أن يعلمها ويعرفها تمام المعرفة، فلا يصح مطلقًا اعتبار العقد في هذه الحالة سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأن التقادم الخمسي لا يصح الأخذ به واعتباره وسيلة في التملك إلا إذا كان المشتري حسن النية، ومعنى حسن النية ليس فيما يتعلق بالشروط القانونية لصحة العقد، بل ينصرف حسن النية فقط إلى جهل المشتري بملكية المبيع لشخص آخر غير البائع له، ولا يمكن أن ينصرف حسن النية إلى جهل المشتري للشروط القانونية، ولا ينفذ التقادم الخمسي إلا إذا اصطحب حسن النية بالسبب الصحيح، والسبب الصحيح هو العملية القانونية التي اطمأن إليها المشتري واعتبرها أداة لنقل الملك إليه، ولا يصح اطمئنان المشتري ويؤخذ باطمئنانه قانونًا إلا إذا عمل من جانبه ما يحتمه عليه القانون، ولا يمكن أن يعتبر في جهله حسن النية، وفي هذه الحالة لا يستفيد مطلقًا من التقادم الخمسي، وحسن النية الذي يبيح التملك بالتقادم الخمسي هو اعتقاد المشتري أن البائع له مالك، أي الخطأ الموضوعي erreur de fait، وأما الخطأ القانوني erreur de droit فلا يمكن اعتباره حسن نية مملك بالتقادم (إلا في حالة وضع اليد وتملك الثمار فإن الخطأ القانوني يعتبر بمثابة حسن نية يجيز تملك الثمار لواضع اليد: بلانيول ج (1) الطبعة الثامنة سنة 1920 صـ 703 ن 2293).
هذا ولا يقف السبب الصحيح في أن يطمئن فيه مكتسب الملكية إلى تملك العقار، بل يجب في ذاته أن يكون صالحًا لنقل الملكية، أي منشئًا لها، وعلى ذلك فلا يعتبر سببًا صحيحًا الوفاء بوجه عام والإرث والقسمة والأحكام والصلح والعقد المعلق على شرط (راجع في تفصيل ذلك كتابنا في الأموال صـ 566 - 570 ن 396 - 397).
ومما مر يتبين أن السبب الصحيح ليس هو بوجه عام كل عملية قانونية acte juridique يطمئن إليها المشتري بوجه عام في نقل الملكية إليه، وأنه لا عبرة في التقادم الخمسي بالعملية القانونية التي تنصرف إلى مجرد إظهار النية في نقل الملكية، وأن العبرة فيه إنما هو وضع اليد - إنما السبب الصحيح من الوجهة القانونية الصحيحة في عصورنا القانونية الحاضرة وطبقًا للأصول القانونية الواقعة droit positif، هو العملية القانونية المنشئة للملكية بحيث تقع صحيحة في ذاتها وطبقًا للقيود القانونية سواء كانت هذه القيود قد وردت لحماية النظام العام بوجه عام، أو وردت لحماية بعض المصالح الفردية الجديرة بحماية القانون، كضرورة مصادقة بعض الهيئات العامة على تصرفات أولي الأمر، فإذا جاءت العملية القانونية وشابها نقص في القيود القانونية العامة أو الخاصة فلا يجوز اعتبارها سببًا صحيحًا، بل يجب اعتبارها سببًا غير صحيح، ولا عبرة مطلقًا بمجرد رغبة العاقدين في نقل الملكية، ما دام أن هذه الرغبة قد تقيدت بقيود قانونية عامة (في حالة العقود الشكلية) أو خاصة (في حالة العقود الخاضعة لمصادقة بعض الهيئات).
وأما القول من جانب حضرة الناقد حامد بك فهمي في أن الشرائع الحاضرة والفقهاء الحاضرين قد أخذوا بالنظرية الرومانية القضائية القديمة فهو قول لا نقره عليه كما قلنا لأن عمل القاضي الروماني في تقرير أداة حماية للمشتري بغير الأوضاع الشكلية العتيقة إنما كان يرمي به إلى الإفلات من قوة القيود الرومانية القديمة، وإلى جعل الحقوق طليقة في طريق التطور الاجتماعي، مع المحافظة بقدر الإمكان على احترام القيود القانونية القديمة، ولذا استعان القاضي الروماني كما قلنا بالمجاز والصورية في تقريره أداة الحماية للمشتري، بأن افترض فيه مجازًا بأنه تملك بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم تمضِ عليه مدة التقادم المملكة.
ولا يمكن بحال تشبيه التشريع العصري وعمل القضاء العصري بما كان عليه الرومان وعلى الأخص في عهدهم الأول عهد الطفولة والقيود الجافة الشاذة بما كان يلتئم مع حالتهم شبه البدوية، وأكبر دليل على ذلك أن العقد الحاضر، وهو الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص الوضع الشكلي فيه، لا يصلح سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي كما رأينا.
إذا علمنا ذلك كله فإنا نرى أن الأدلة التي احتج بها حضرة الناقد حامد بك على صحة رأيه لا تصلح لدحض النظرية التي قلنا بها، والآن نستعرضها واحدًا فواحدًا ونرد عليها:
الدليل الأول (راجعه في مكانه):
يقول حضرة الناقد بأن السبب الصحيح هو ما اطمأن إليه المشتري وقت التعاقد بوجه عام، وهذا التعميم بلا تقييد غير صحيح من الوجهة القانونية كما رأينا، بل لا بد في السبب الصحيح المملك بالتقادم الخمسي والذي يطمئن إليه المشتري، أن يكون حاويًا لقيوده القانونية التي اشترطها القانون بالذات، كما بينا ذلك، ويظهر لنا أن حضرة الناقد متأثر بالنظرية الرومانية. وقد بينّا أن لا محل للأخذ بها في عصورنا الحاضرة، وقد تغيرت أصول القوانين وأحكامها.
الدليل الثاني (راجعه في مكانه):
يقول الناقد بأنه لا يشترط في السبب الصحيح أن يكون مسجلاً حتى يحتج به على المالك الحقيقي، ويرجع في ذلك إلى الفقه والقضاء هناك وهنا، ونقول نحن بأن المسألة وإن كانت خلافية وصدرت أحكام فرنسية متناقضة فيها كما بينّا ذلك بكتابنا في الأموال (صـ 844 ن 582) إلا أنّا نميل إلى الأخذ بعدم ضرورة تسجيل السبب الصحيح، في عهد القانون المدني لا في عهد قانون التسجيل الجديد، حتى يكون حجة على المالك الحقيقي.
ويرى الناقد حامد بك أن قانون التسجيل الجديد لم يأتِ بجديد بشأن هذه القاعدة، أي لا ضرورة في نظره إلى تسجيل السبب الصحيح حتى يحتج به على المالك الحقيقي، ويستند في ذلك إلى الحجج التي أوجزناها في الأدلة (3) و(4) و(5) و(6) وهي:
الدليل الثالث:
يقول الناقد إن المادة (76) مدني الخاصة بالسبب الصحيح لم ترد ضمن المواد الملغاة بقانون التسجيل الجديد ولا يمكن على كل حال أن يمسها هذا القانون بشيء ما، والذي نلاحظه على هذا الدليل الثالث ما يأتي:
إن الشارع في وضعه لقانون التسجيل الجديد قد احتاط بالمادة (16) في أنه بعد أن ذكر المواد التي ألغاها هذا القانون، قرر إلغاء كل نص مخالف له ولم يرد له ذكر بقانون التسجيل الجديد، وبفرض أن الشارع لم يضع هذه القاعدة فإن المواد المخالفة له تصبح لاغية ولا محالة، والمواد التي يجب أن تعتبر ملغاة هي المواد الخاصة بنقل الملكية، ذلك النقل الذي حصل بأداة قانونية مملكة أي بعملية قانونية أو عمل قانوني acte juridique مملك، وهذه الأداة القانونية هي العقد، أي عقد البيع، أي البيع فقط، سواء كان صادرًا من المالك الحقيقي أو غير المالك الحقيقي، لأن البيع فيهما واحد من حيث كونه أداة قانونية صالحة لنقل الملكية، فالعقد الصادر من المالك الحقيقي صالح في ذاته لنقل الملكية، ولا ينقصه إلا التسجيل، والعقد الصادر من غير المالك الحقيقي صالح أيضًا، ولكن ليس وحده بل لا بد لشرط آخر، لنقل الملكية، وينقصه شرط يعوض عليه ما فاته من شرط لازم له، وهو صدوره من المالك الحقيقي، وهذا النقص فيه لا يمكن سده إلا بوضع اليد، فلا وضع اليد وحده يملك، ولا العقد ذاته يملك، بل لا بد للاثنين معًا ومعهما حسن النية ابتداءً، وقد جاء قانون التسجيل وأضاف شرطًا أصليًا جوهريًا على العقد الناقل للملكية، وهو شرط التسجيل حتى تنتقل الملكية، والتي بدونه لا يمكن، ولا يمكن أن تنتقل الملكية، والتسجيل الجديد هنا وضع شكلي لازم للعقد حتى تنتقل الملكية به بالفعل والواقع، وإذا كان التسجيل من الأوضاع الشكلية فهو نافذ على الأداة القانونية، وهي البيع، صدر البيع من المالك الحقيقي أو من غير المالك الحقيقي، لأنه ينصب على الأداة، أي على العملية القانونية، وهذا الوضع الشكلي من جانب الشارع يجب أن ينفذ على العقد في ذاته مهما كانت الصفة القانونية لمصدره، مالكًا حقيقيًا كان أو غير مالك، لأن الشارع راعى في تقريره لهذا القيد العلني والوضع الشكلي النظام العام، ولذا لا يملك المتعاقدان من إرادتهما حرية تجعلهما في حل من نقل الملكية بمجرد تبادل الرضاء، بل هذه الإرادة أصبحت معطلة ولا تستطيع وحدها نقل الملكية، والتسجيل على هذا الاعتبار أمر تشريعي صادر من الشارع نفسه لا محيص عن نفاذه في عقد البيع، وعقد البيع نفسه بصرف النظر عن مصدره وعقد البيع غير المسجل يستحيل أن يكون في ذاته ناقلاً للملكية، بل ينقصه شرط جوهري وهو التسجيل، وقد رأينا أن السبب الصحيح من الوجهة القانونية العلمية الصحيحة، ليس فقط كل عملية قانونية تحصل بين البائع غير المالك وبين المشتري، بل يجب أن يتوافر في هذه العملية صلاحيتها في ذاتها لأن تكون ناقلة للملكية فيما لو صدرت من المالك الحقيقي، وإذا كان البيع، وهو صادر من المالك الحقيقي، لا ينقل وحده وفي ذاته الملكية، فكيف يمكن القول بأن هذا البيع نفسه، إذا صدر من غير المالك الحقيقي، يصبح في ذاته أداة قانونية ناقلة للملكية؟ إن قيل بأن العبرة في التقادم الخمسي إنما هو وضع اليد وحده ومرور مدة الخمس السنوات، فهذا القول غير صحيح من الوجهة القانونية كما بينّا ذلك في مكانه، لأن في التقادم الخمسي لا بد من توافر الأركان الثلاثة السبب الصحيح ووضع اليد وحسن النية ابتداءً، والركن الواحد فيها لا ينقل الملكية مطلقًا، ومن الواجب على من يتمسك بالتقادم الخمسي أن يقيم الدليل على وجود كل ركن على حدة، ولا يستطيع الادعاء بحسن النية مثلاً إلا إذا أقام الدليل من جانبه، وهو محمل بالإثبات، على أنه فعل ما يمكن عمله قانونًا حتى تأكد من صحة تملك البائع له، بحيث إذا لمح في عمله إهمال لو فطن إليه لعلم بأن البائع له غير مالك، فلا يعتبر في هذه الحالة حسن النية (انظر في ذلك كتابنا في التأمينات صـ 123 ن 119) وكذلك في السبب الصحيح يجب أن يعرف المشتري بأن عقد البيع وحده ليس كافيًا ولو صدر من المالك الحقيقي في نقل الملكية بل لا بد فيه من التسجيل، هذا ويجب أن يلاحظ هنا أن من شأن مضي مدة الخمس سنوات أن يصحح العيب في العقد، والعيب اللاحق بالعقد هو صدوره من غير المالك، هذا في عهد القانون المدني، وأما في عهد قانون التسجيل الجديد، فإن هناك عيبًا آخر لحق العقد فوق عيبه الأول، والعيب اللاحق هو عدم التسجيل، وعدم التسجيل هذا، وهو وضع شكلي، لا يسقط كما بينّا بالتقادم الطويل ومن باب أولى التقادم القصير، وحق المطالبة بالبطلان المطلق غير قابل للتقادم في ذاته، إنما الذي يترتب على مضي المدة الطويلة، هو أن محل التعاقد يصبح وقد خرج بفعل الزمن عن ملك المدعي، ومما يؤكد صحة القول بعدم جواز سقوط حق البطلان بالزمن، أنه يصح أن يستحيل إلى دفع فرعي exception يجوز التمسك به مهما طال الزمن فيما إذا هوجم صاحب حق البطلان المطلق وأصبح مدعى عليه، وذلك أخذًا بالقاعدة التي ذكرناها في أن الدعاوى مؤقتة والدفوع خالدة.
ويجب أن نلاحظ هنا أنه وإن صح القول بأن العقد غير المسجل منشئ مع ذلك لحقوق وواجبات، وصح ما قلناه أيضًا بأنه يجوز للمشتري مطالبة البائع بالتسليم، ورفع دعوى بصحة التعاقد أو صحة الإمضاء وتسجيل الحكم فيهما، وأنه بناءً على ذلك لا يجوز للبائع دفع الدعوى قِبله بالبطلان المطلق الناشئ عن عدم التسجيل، باعتبار أن التسجيل عملية من الأوضاع الشكلية التي يمكن حصولها دون حاجة لعمل شخصي من جانب البائع: قلنا إن صح ذلك كله وهو صحيح حتمًا فإن العقد في ذاته قبل التسجيل من حيث الالتزامات الشخصية فقط، شيء، والعقد في ذاته قبل التسجيل من حيث نقل الملكية شيء آخر، فهو في الأول ملزم وصحيح، وفي الثاني غير نافذ وحده في نقل الملكية، ولأنه غير نافذ في نقل الملكية، لذا تقرر له أثر من حيث الالتزامات الشخصية، إذ لا محل لهذه الأخيرة إذا انتقلت الملكية، ولا تنتقل هذه إلا بالوضع الشكلي الخاص، وهو التسجيل.
والتسجيل الجديد يخالف على طول الخط التسجيل القديم، إذا كان القديم وسيلة علانية للغير، وهم حملة الحقوق العينية العقارية عن عقار واحد وعن مالك واحد، وأما التسجيل الحاضر فهو وضع شكلي وشرط جوهري لنقل الملكية في ذاتها، ولا بد أن يترتب على ذلك حتمًا أن يصبح التسجيل أيضًا وسيلة علانية وأداة إشهار على الكافة، فالتسجيل الحاضر ليس هو التسجيل الماضي فحسب، بل ركن من أركان أثر العقد في نقل الملكية، وبه تتحتم طبيعة وبداهة العلانية، إنما هو وضع من الأوضاع الشكلية اللازمة لتكوين العقد تكوينًا قانونيًا صحيحًا قبل أي شيء آخر.
الدليل الرابع من أدلة الناقل (راجعه في مكانه):
يقول بأن المادة (264) القائلة ببطلان عقد البيع الصادر من غير المالك الحقيقي لا يلحقها قانون التسجيل الجديد، وقد بينّا نحن أن التسجيل يقع على عقد البيع في ذاته مهما كان مصدره، المالك الحقيقي أو غيره، ما دام أن التسجيل أصبح شرطًا لازمًا لنقل الملكية حالاً، إن صدر من المالك الحقيقي، أو مستقبلاً إن صدر من غير المالك الحقيقي ومضت مدة التقادم، وقد رأينا أن أثر المدة إنما يقع، ويقع فقط، على تصحيح العقد من حيث صدوره من غير المالك ولا يمكن أن يقع على تصحيح العقد من حيث شائبة النقص فيه وهي عدم تسجيله، وقد بينّا أن هذه الشائبة وهي تتعلق بوضع شكلي روعي فيه النظام العام ويترتب عليها البطلان المطلق، لن تزول بفعل الزمن أي بالتقادم الطويل ومن باب أولى التقادم القصير.
الدليل الخامس (راجعه):
يقول الناقد إن المالك لا يعتبر من طبقة الغير فلا يستفيد من التسجيل، وقد بينّا نحن أن التسجيل قد وُضع ولوحظ فيه النظام العام، وأنه وضع شكلي يستفيد منه كل شخص من طبقة الغير أم لا، ويحكم به القاضي من تلقاء نفسه، نعم وإن كان البائع لا يصح أن يتمسك في وجه المشتري بعدم التسجيل كما بينّا ذلك في مكانه فإن ذلك يرجع ويرجع فقط، إلى أن العقد غير المسجل منشئ لالتزامات شخصية اشتغلت بها ذمة البائع، باعتبار أنه ملزم بتمكين المشتري من القيام بإتمام عملية التسجيل، ولأنه من سعى في نقض ما تم على يديه فسعيه مردود عليه، أما التسجيل في ذاته باعتباره وضعًا شكليًا وركنًا جوهريًا في نقل الملكية، فإنه يجب إقصاؤه جانبًا عن الالتزامات الشخصية التي قررتها المادة الأولى من قانون التسجيل الذي ما وُضع إلا تمهيدًا لنظام السجلات العقارية المنوي إنشاؤه فيما بعد.
والقاعدة التي يقول بها صاحب النقد في أن المالك لا يعتبر من الغير، إنما تصح في عهد القانون القديم وهو القانون المدني، في موطن التقادم الخمسي، ولكن لا تصح هذه القاعدة الآن وقد أصبح التسجيل وضعًا شكليًا يستحيل أن تنتقل الملكية بغيره، ولكل ذي شأن ومصلحة، حق الاستفادة منه، والمالك الحقيقي ذو شأن ظاهر في ذلك، ولا يمكن الاحتجاج عليه بمضي المدة وحده، بل لا بد في أن تكون العملية القانونية التي اطمأن إليها المشتري، وهي السبب الصحيح، عملية صالحة في ذاتها لنقل الملكية، بحيث لو كانت صدرت من المالك الأصلي لانتقلت الملكية، وما دام أنها غير ناقلة للملكية فيما إذا صدرت من المالك الحقيقي بسبب عدم تسجيلها، فهي كذلك غير ناقلة للملكية إذا صدرت من غير المالك الحقيقي.
الدليل السادس (راجعه):
يقول صاحب النقد بأن العبرة في التقادم الخمسي إنما هو مضي المدة فقط، وقد بينّا أن القول على هذا الإطلاق غير مجدٍ، بل لا بد في التقادم الخمسي من توافر الأركان الثلاثة: السبب الصحيح المملك قانونًا، ووضع اليد وحسن النية. والواحد منها دون الآخرين غير كافٍ لصحة التقادم الخمسي.
هذا هو ما أردنا أن نرد به على نقد حضرة الناقد حامد بك، وإنا نرى أن لا نختمه بما ختم به مقاله في (أن اشتراط تسجيل السبب الصحيح من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه الفقيه) ونعتقد على غير ما يعتقد هو أن القول بالتسجيل في السبب الصحيح في عهد قانون التسجيل الجديد ليس من (العبث الذي يتنزه عنه الفقيه) وما ظننا أننا كنا فيما نشرناه من بحوث مستفيضة في هذا الشأن باللغة العربية في مؤلفاتنا ومقالاتنا وباللغة الفرنسية في مجلة جازيت المحاكم المختلطة، بحال (من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه كل فقيه) بل كنا نعمل على ضوء ما وفقنا إليه من أعمال تحضيرية وأصول قانونية عامة، وما كان القضاء الفرنسي (من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه كل قضاء) عندما قرر اعتبار المالك الحقيقي في طبقة الغير في حالة التقادم الخمسي (محكمة استئناف الجزائر في 15 نوفمبر سنة 1890، د 91، 5، 0405 - س، 91، 2، 53) ولو أن القضاء الفرنسي قد عدل عن هذا الرأي (وأحدث الأحكام دائرة العرائض بمحكمة نقض باريس في 28 فبراير سنة 905 س، 906، 1، 505 مع تعليق الأستاذ Napuet. راجع في ذلك كابتان. ج أول الطبعة الثانية سنة 1919 صـ 968، وكتابنا في الأموال صـ 844 ن 582) كما أن القضاء المصري لم يكن أيضًا بحال من (العبث الذي...) عندما قرر بأن الدائن العادي يعتبر من طبقة الغير، ويجوز له التمسك بعدم تسجيل عقد المشتري في عهد التسجيل القديم (استئناف مختلط 72 مايو سنة 1914م ت ق، 26، 398 والجدول العشري الثالث صـ 655 ن أ. 68. استئناف أهلي 28 مايو سنة 1912م ر 1 ـ 13 صـ 266 عدد 128 ومجموعة عياشي صـ 130 ن 579 ح 28 صـ 0213 - وأقر هذه القاعدة بعض الشرائع الأجنبية، ومنها القانون البلجيكي والإسباني والهولندي. انظر في ذلك كابتان المتقدم صـ 0963 - بلانيول ج 1 ن 2623 صـ 816) - إنما هي آراء يدلي فيها كل بما يوفق إليه وليس فيها من الشذوذ ما يسمى عبثًا، وأملنا فيما بسطناه هنا من هذا البحث الغاص بالحجج أن لا نكون (من العبث الذي...) كما أنّا نعتقد بحق بأن مقال الناقد لم يكن (من العبث الذي...) والحقيقة ضالة الباحثين. والله الموفق.

النظام الحالي لتسجيل الحقوق العقارية في مصر ومشروع إنشاء التسجيلات العقارية المستر جول واتليه

مجلة المحاماة

أبحاث قانونية وشؤون قضائية
النظام الحالي
لتسجيل الحقوق العقارية في مصر
ومشروع إنشاء التسجيلات العقارية
بقلم
جناب المستر جول واتليه
المستشار الملكي بقسم قضايا وزارات المالية والزراعة والمعارف العمومية


1 - تعدد أقلام التسجيل والمشروعات الرامية إلى توحيدها (سنة 1875 إلى سنة 1904)

1/ لما أُنشئت المحاكم المختلطة من نصف قرن كانت علانية التصرفات العقارية منحصرة في أقلام كتاب المحاكم الشرعية وقاصرة على العقود الرسمية دون سواها.
وهذه العقود أو (الحجج) كانت تحرر بعناية تامة تحت إشراف القاضي ومع مراعاة الدقة التامة في تحديد الأملاك وتمييزها وتعيين المتعاقدين ولذا هي لا تزال موضع إعجاب كل من رجع إليها اليوم ويمكن القول بأن علنية التصرفات العقارية فيما عدا الأملاك الموقوفة كانت تفي تمامًا بالغرض المنشود في ذلك العهد.
2/ على أنه لما أُنشئت المحاكم المختلطة وسن تشريع مدني مبنٍ على مبادئ القانون الفرنسي انقلب النظام القضائي المتبع وأصبحت أقلام التسجيل المختلطة مركز علانية التصرفات العقارية وحلت في ذلك محل أقلام كتاب المحاكم الشرعية.
3/ وسنسرد فيما يأتي بعض الأسباب التي عجلت في حدوث هذا الانقلاب بالرغم من أن اختصاص المحاكم الشرعية بقي كما كان فيما يتعلق بالعقود الرسمية - أول هذه الأسباب أن النظام القضائي الجديد أباح التعاقد بعقود عرفية وجعلها ناقلة للملكية وقابلة للتسجيل فصار من السهل على المتعاقدين تحرير عقودهم بلا مصاريف ولا انتقال بخلاف العقود التي تسجل بالمحاكم الشرعية أو التي لا بد من تحريرها بصيغة رسمية بمعرفة القاضي الشرعي مما جعلها كثيرة التكاليف.
فضلاً عن ذلك فإن الشريعة الغراء المعمول بها دون غيرها في المحاكم الشرعية لا تعتمد للتأمين على القروض العقارية إلا البيع الوفائي والرهن الحيازي والغروقة بينما أن التشريع الجديد أضاف إلى هذه التصرفات تصرفًا عقاريًا حديثًا ألا وهو الرهن العقاري الذي انتشر بسرعة مدهشة في البلاد ولما كان هذا النوع من الرهن لا يسجل إلا في أقلام كتاب المحاكم المختلطة المنشأة حديثًا فقد زاد ذلك في الإقبال على التسجيل فيها. وأخيرًا مما يجب ملاحظته فإن التصرفات العقارية ما كانت تعتبر حجة على الأجانب إلا بعد تسجيلها في أقلام المحاكم المختلطة ولم يبقَ من اختصاص خاص للمحاكم الشرعية إلا العقود العامة بمسائل الوقف.
4/ على أن واضعي لائحة ترتيب المحاكم المختلطة رأوا ضرورة توحيد إجراءات التسجيل ليوفروا على المتقاضين مشقة الالتجاء في كل مسألة إلى أقلام كتاب المحاكم الشرعية والمختلطة معًا وذلك بأن أشاروا بإيجاد موظف دائم من موظفي قلم الكتاب المختلط في قلم كتاب المحاكم الشرعية وموظف من المحاكم الشرعية في قلم كتاب المحاكم المختلط ليتحققوا من تبادل العقود المسجلة بين القلمين ليسجلا فيها معًا، على أن إشارة الشارع لم يُعمل بها وأهملت أحكام المادتين (31) و(32) (باب أول) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة كما أهملت أحكام المادتين (372) و(373) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية.
5/ وعند إنشاء المحاكم الأهلية سنة 1883 كانت معظم التسجيلات العقارية تحصل في أقلام كتاب المحاكم المختلطة ومع أن القانون المدني الأهلي نص على إنشاء أقلام تسجيل أهلية مطابقة تمامًا لنظام أقلام التسجيل المختلطة إلا أن هذه الأقلام الأهلية لم تنشأ فعلاً وقصر عمل أقلام كتاب المحاكم الأهلية على تسجيل بعض أوراق متعلقة بإجراءات نزع الملكية (إعلان التنبيه بالدفع، حكم نزع الملكية، حكم رسو المزاد) وكذا تسجيل اختصاص الدائن بعقارات مدينه وطلبات الأخذ بالشفعة والأحكام القاضية بها وبعض مستندات ذات صبغة إدارية خاصة بمسائل ردم البرك والمستنقعات، ويلاحظ أن طلبات الأخذ بالشفعة والأحكام الصادرة فيها هي وحدها دون غيرها من التسجيلات التي يبلغها أقلام كتاب المحاكم الأهلية لقلم كتاب المحكمة المختلطة لتسجيلها فيها.
6/ يتضح مما تقدم أن أول ما يلاحظ على نظام علانية التصرفات العقارية في مصر هي تشعب التسجيلات وعدم توحيدها ووجوب الالتجاء إلى أقلام عدة للوقوف على حالة عقار واحد.
وخلل هذا النظام لم يخفَ على الحكومة فلتدارك أمره قدمت في سنة 1880 إلى اللجنة الدولية اقتراحًا هذا نصه:
(تحتفظ الحكومة بحق إنشاء مكاتب خاصة تكلف دون سواها بتسجيل العقود المبرمة بين الأحياء لنقل أو إنشاء حق ملكية أو أي حق عيني آخر سواء كانت هذه العقود عرفية أو محررة أمام المحاكم الشرعية أو أقلام كتاب المحاكم المختلطة (مادة (71) من مشروع الحكومة).
على أن اللجنة رفضت هذا الاقتراح بحجة أنه لا بد من انتظار انقضاء أجل الخمس سنوات أولاً ثم الحصول على موافقة الدول على ذلك بعد أن تضع الحكومة المصرية نظام المكاتب الخاصة المقترح إنشاءها (المحضر الثاني عشر للجنة الفرنسية صـ 13).
طُرحت المسألة مجددًا على بساط البحث في سنة 1884 فأدمجت اللجنة الدولية في مشروع اللائحة الجديدة لترتيب المحاكم المختلطة مادة رقم (27) تحل محل المادتين (31) و(32) من الباب الأول من اللائحة الحالية وهذا نصها. علاقات أقلام كتاب المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية والمحاكم الشرعية ببعضها فيما يختص بالعقود بين الأحياء الناقلة للملكية أو لأي حق عيني آخر المودعة بأقلام كتاب المحاكم المذكورة تحددها القواعد التي ستدون في اللائحة العامة لترتيب المحاكم.
على أن جميع التعديلات المقترحة في سنة 1884 والتي كان يرمي بعضها إلى توسيع اختصاص المحاكم المختلطة في مادة الجنايات لم تعتمد وذلك لخلاف طرأ بين مندوبي الدول فيما يتعلق بعدد وظائف النيابة التي تختص بها كل دولة.
7/ وفي سنة 1890 اقترح أحد أعضاء اللجنة الفنية الدولية إنشاء قلم يختص دون سواه بالرهونات العقارية والتسجيلات، على أن الحالة بقيت على ما هي عليه إلى سنة 1903 حيث عرضت الحكومة المصرية على الدول بمنشور مؤرخ 20 مايو سنة 1903 مشروعين يرمي أحدهما إلى حصر علانية التصرفات العقارية في قلم واحد والآخر إلى إنشاء نظام السجلات العقارية.
ويظهر أن الحكومة كانت تعتقد وجود صلة وثيقة بين المشروعين بمعنى أنه لا بد من توحيد علانية التصرفات لتمهيد وضع نظام السجلات العقارية على أنه في الواقع لا نرى ما يمنع من تنفيذ المشروع الأول دون الثاني لا سيما وأن الأول يحتاج تحقيقه إلى نظام إداري محض لا يمس الحقوق في جوهرها بشيء.
فحصت اللجنة الفرعية مشروع التوحيد هذا بكل دقة ثم عرضت نتيجة فحصها على اللجنة العامة فاعتمدتها ضمن أعمالها التي تمت في البدء من سنة 1904 إلى سنة 1908 إلا أنه للأسف حال دون تنفيذ المشروع خلاف قام بين مصر وبعض الدول بشأن مدى مسؤولية الموظفين المكلفين بالتسجيل.
8/ بالرغم من ذلك سنلخص فيما يلي المبادئ التي بُني عليها هذا المشروع لأنه أول مشروع شامل ووافٍ في بابه:
( أ ) أقلام التسجيل مستقلة عن المحاكم وهي إدارية محض تابعة لوزارة الحقانية إلا أنه من باب التساهل والمجاملة نص على أن المدير العام لأقلام التسجيل يعين بموافقة رأي الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة وأن الموظفين الأجانب في هذه الأقلام يخضعون من الوجهة الجنائية لسلطة المحاكم المختلطة أسوةً بمأموري الضبطية المختلطة.
(ب) لم يحدد المشروع عدد أقلام التسجيل المنوي إنشاؤها على أنه كان في النية إنشاء قلم على الأقل في كل مديرية أو محافظة.
(جـ) التشريع المعمول به بقي على ما هو عليه فيما يختص بما يجب تسجيله من العقود وما لا يجب ما عدا ما يتعلق بالأوقاف فقد وضعت أحكام جديدة لما يجب تسجيله من الأوراق.
(د) كافة العقود الخاضعة للعلنية تقدم للتسجيل أو للقيد للأقلام الجديدة مهما كانت السلطة التي أُبرمت أمامها كحجج الوقف المحررة أمام المحاكم الشرعية وأحكام رسو المزاد الصادرة من المحاكم الأهلية أو المختلطة وطلبات وأحكام الشفعة والأوامر الصادرة بالاختصاص وعقود الرهن... إلخ.
(هـ) لا يقبل للتسجيل إلا العقود الرسمية دون سواها والمكلفون بتحريرها هم كتاب المحاكم المختلطة المخولون هذا الحق، القضاة الشرعيون كتاب المحاكم الأهلية مأمورون عموميون تعينهم الحكومة خصيصًا لذلك.
(و) علاوة على كل ما تقدم كافة العقود الرسمية تُسجل بناءً على طلب الموظف أو المأمور الذي حررها أو استلمها وتحت مسؤوليته.
هذه البيانات لا تزيدنا إلا أسفًا على أن المشروع الذي نحن في صدده لم ينفذ وقت وضعه واعتماده فلو تم ذلك لكان من السهل بعد ذلك إدخال تعديلات جوهرية في مادة حقوق الملكية وإدخال نظام السجلات العقارية في مصر.

2 - مشروع إنشاء السجلات العقارية في مصر الذي حضرته اللجنة الدولية
المعقودة من سنة 1904 إلى سنة 1908

9/ في الوقت الذي بحثت فيه لجنة سنة 1904 الدولية مشروع توحيد أقلام تسجيل التصرفات العقارية عرضت عليها الحكومة مشروعًا آخر من مقتضاه إنشاء سجلات عقارية في الديار المصرية كان أيضًا موضع بحث اللجنة المذكورة.
10/ وقبل ما نخوض بحث هذا المشروع أرى من المناسب أن أعرض وجوه الاختلاف بين نظام السجلات العقارية وبين نظام التسجيل المتبع في الوقت الحاضر في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا ومصر، وسأقتصر طبعًا على بيان الاختلافات الجوهرية بين النظامين أما التفصيلات فلا يتسع لها المقام لا سيما وأن كلا النظامين يتشعب إلى فروع عدة تختلف عن بعضها بعضًا في التفاصيل وعرضها يملأ مجلدات.
11/ ( أ ) لعلانية التصرفات العقارية طريقتان متقابلتان:
طريقة تسجيل الحقوق (نظام السجلات العقارية) وطريقة تسجيل العقود والفرق الجسيم بين الطريقتين يتجلى في العبارة الآتية ففي الأولى تسجل الحقوق بل كل الحقوق مهما كانت حتى التي لا تستمد الوجود من قيدها إذ أنه لا بد من مزاولتها والانتفاع بها تسجيلها وفي الأخرى تسجل العقود بل بعض العقود فقط.
أجل إن تشريعنا الحالي يعترف بوجود حقوق عقارية عينية لا تستند إلى عقود كتابية فالملكية يمكن أن تكتسب بمضي المدة وكذا بعض حقوق الارتفاق والحقوق العينية تنتقل بالميراث الشرعي (بلا وصية) وبالاتفاقات الشفهية فضلاً عن أن الحقوق العينية المتعاقد عليها بين الأحياء هي وحدها الواجبة التسجيل أما الحقوق العينية التي تنتقل بالميراث أو بالوصية فليست خاضعة لنظام التسجيل.
يتضح مما تقدم أن العلانية في نظام السجلات العقارية تامة كاملة تشمل جميع الحقوق بينما أنها في نظام التسجيل ناقصة لا تشمل إلا جانبًا بسيطًا من الحقوق.
فالسجل العقاري إذًا يرشد بلا ريب إلى كل ما على عقار من الحقوق نظرًا لأن كل التصرفات بلا استثناء تثبت فيه بما في ذلك من العقود المقررة للملكية فتسجيلها مضمون بما فرضه الشارع من الغرامات وبما سنه من عدم جواز التصرف في الملك موضوع تلك العقود قبل تسجيلها.
12/ (ب) أساس نظام السجلات العقارية هو أن العقود الناقلة للملكية لا مفعول لها ولا تنقل الملكية حتى بين المتعاقدين إلا بتسجيلها والتسجيل هو في ذاته الناقل للملكية أو المنشئ للحق.
من المعلوم أن قانون الثورة الفرنسية هو الذي وضع المبدأ القائل بأن حقوق الملكية تنتقل بين المتعاقدين بمجرد حصول التعاقد وهذا المبدأ أحدث انقلابًا عظيمًا في علم القانون ووصفه المؤلفون بأنه تحرير للحقوق من عبودية النظام الشكلي القديم الذي كان معمولاً به إلى ذلك العهد.
فالقاعدة المقررة في القانون الروماني هي أن الإنفاق على البيع لا ينقل الملكية بل يوجد فقط التزامات شخصية بين البائع والمشتري، وكل تعهد بالبيع لم يكن من نتائجه نقل ملكية المبيع إلى المشتري بل إن هذه الملكية ما كانت تنتقل إلا بإتمام إجراءات التسليم وطالما هذه الإجراءات لم تتم فلا تنتقل الملكية ولا يصبح المشتري مالكًا وكل ما لهذا الأخير هو حق شخصي للمشتري يخوله إرغام البائع على القيام بإجراءات التسليم الناقلة للملكية وبعبارة أخرى فإن التسليم أي وضع الشيء في حيازة المشتري هو الذي يتم به انتقال الملكية ولا نزال نرى أثرًا لهذا المبدأ الروماني في بعض القوانين المعمول بها الآن كالقانون المدني الإسباني مثلاً وفي بعض جهات فرنسا لا سيما الجهات الشمالية وفي بلجيكا والبلاد الألمانية كانت القاعدة القانونية المعتمدة في سالف الأزمان أن مجرد الإنفاق لا ينقل الملكية ولا بد لاكتساب الحق العيني من وضع الشيء في حوزة مالكه الجديد مع اتباع إجراءات معينة نذكر منها بوجه خاص وجوب تسجيل عقد البيع في سجل قضائي خاص.
ولما أزالت الثورة الفرنسية سيادة الأشراف وسلطتهم القضائية احتفظت بقاعدة وجوب تسجيل عقود البيع لنقل الملكية وذلك في المناطق البادي ذكرها التي كان فيها التسليم شرط لازم لنقل الملكية (راجع قانون 19 - 27 سبتمبر سنة 1790) على أن هذه القاعدة للأسف أُهملت فيما بعد ووضع التشريع الجديد (قانون أول نوفمبر سنة 1798) المبدأ الذي لا يزال العمل جاريًا به في فرنسا وفي البلاد التي اقتبست تشريعها من التشريع الفرنسي كمصر للآن وهو المبدأ القاضي بأن الملكية تنتقل بين الطرفين بمجرد الاتفاق ولكن لا بد من تسجيل عقد الاتفاق ليكون حجة على الغير، وهاك نص المادة (26) من هذا القانون:
(العقود الناقلة للملكية أو للحقوق القابلة للرهن العقاري يجب تسجيلها في قلم التسجيل الواقع في دائرته العقار وطالما هذا التسجيل لم يحصل فلا يجوز التمسك بها قِبل الغير الذي يكون قد تعاقد مع البائع واتبع أحكام هذا القانون).
على أنه بعد صدور قانون نابليون أتى زمن بطل فيه التزام تسجيل العقود لتكون حجة قِبل الغير ولم يقرر ثانيًا إلا ابتداءً من أول يناير سنة 1856 بمقتضى القانون الصادر في 23 مارس سنة 1855 وهو للآن أساس النظام المتبع في فرنسا والذي يحتم إجراء التسجيل لتكون العقود حجة على الغير.
أما نظام السجلات العقارية فقاعدته الأساسية هي أن لا تنقل الملكية حتى بين طرفي المتعاقدين بمجرد الاتفاق، وضرورة التسجيل أمر واضح لأن السجل العقاري يجب أن يشير إلى جميع الحقوق المترتبة على العين المقيدة به.
والأمر بخلاف ما بينّا في البلاد الخاضعة لنظام تسجيل العقود فأغلبها تتبع النظام القائل بانتقال الحقوق بين المتعاقدين بمجرد حصول الاتفاق على أن هذه القاعدة ليست نتيجة لازمة لاتباع هذا النظام إذ توجد بعض البلاد كهولندا واليونان لم تنشأ فيها سجلات عقارية ومع ذلك تتبع مبدأ عدم نقل الحقوق العينية حتى بين المتعاقدين ما لم يحصل التسجيل.
وسنبين أن في مصر قد قرر الشارع تمهيدًا لإدخال نظام السجلات العقارية بوجوب إجراء التسجيل ابتداءً من أول يناير سنة 1924 لنقل الحقوق حتى بين المتعاقدين وذلك بدون ترك تسجيل العقود المتبع، فبغض النظر عن فوائد إنشاء السجلات العقارية فهناك أسباب نظرية أخرى تبرر قاعدة عدم النقل بدون التسجيل، ذلك أنه ليس من المعقول أن حق الملكية وهو أقدس الحقوق وأقواها يؤسس على مجرد اتفاق قد يبقى في طي الكتمان وبما أن الغرض هو إيجاد حق عيني يمكن التمسك به قِبل الغير فمن الواجب أن هذا الحق يكون له هذا المفعول من منشئه.
علاوة على أن العامة كثيرًا ما تسيء فهم القاعدة القائلة بأن نقل الحق العيني يتم بين الطرفين بمجرد الاتفاق وبأنه لا يحتج به على الغير طالما لم يسجل العقد المثبوت فيه ويترتب على سوء فهم هذه القاعدة أن كثيرًا ما يصرف المشتري النظر عن تسجيل عقد البيع معتمدًا على ذمة البائع وعلى تأييد حقه الجديد بمضي المدة واجتنابًا للقيام بإجراءات التسجيل الشاقة وتخلصًا من دفع الرسوم المفروضة عليها.
ونتيجة ذلك أن عددًا كبيرًا من العقود المتعلقة بعقارات تظل بلا تسجيل في جميع البلدان التي تتبع النظام الفرنسي وهذا أمر لا يصح اعتباره مرضيًا.
ولذا فللجنة التي شكلت في بلجيكا لإعادة النظر في القانون المدني والتي للأسف لم تتبع إرشاداتها إلى الآن أشارت بلا تردد بترك المبادئ الفرنسية في مواد التسجيل ونصت في المادة (711) من مشروعها التحضيري على أن ملكية العقار لا تنتقل إلى المالك الجديد إلا بعد أن يقوم المالك بما فرضه عليه القانون من الإجراءات الرامية إلى نشر حقه وقد بررت المبدأ الجديد بأن عرضت وجوه الفرق بين الحقوق العينية والحقوق الشخصية قائلةً:
(الحق الشخصي موضوعه تعهدات ملقاة على عاتق شخص أو بضعة أشخاص معينة فصاحب الحق إن أراد الحصول على حقه وتنفيذ التعهدات المأخوذة في صالحه لجأ لذلك إلى الشخص أو إلى الأشخاص الذين تعهدوا دون سواهم فلا مانع في هذه الحالة من القول بأن مجرد اتفاق ذوي الشأن كافٍ لإنشاء الحق الشخصي حيث إن لا علاقة لهذا الحق بغيرهم ولا يمس إلا هم، ولن يطالب باحترامه أو بتنفيذه إلا الذين تعهدوا، وبمجرد رضاهم دون تدخل غيرهم ينشأ الحق ويترتب عليه ما ترتب..
والأمر بخلاف ذلك فيما يتعلق بالحقوق العينية لا سيما حق الملكية ويقابل هذا الحق واجبات مفروضة على الجميع فإذا ما يتعدى فرد من الأفراد من غير الطرفين على الملك حق للمالك مقاضاة المتعدي أيًا كان: فهل يعقل أن مثل هذه التعهدات العمومية تنشأ عن مجرد اتفاق يُجرَى في الخفاء بين طرفين ويظل مجهولاً للجميع؟)
13/ والآن فلنعد إلى ما كان ربما يجب أن نبتدئ به ولكن هذا الموضوع متشعب لدرجة أننا لا ندري من أي نقطة يحسن الكلام أولاً.
إن قيد العقود عبارة عن نسخ صورتها في سجلات يخصص عادةً كل منها لوحدة جغرافية مثل الناحية أو البلدة أو القرية وأحيانًا تستبدل الصورة بالأصل ذاته الذي يوضع بملف وكذا أصل الحوافظ في حالة الرهن ويتبع في نسخ العقود ترتيب تقديمها للتسجيل وقيدها في السجل المخصوص المعروف بسجل العرائض هو الذي يحدد ترتيبها في الأولوية.
وهناك فهارس تسمح بإيجاد العقود وارد بها أسماء الملاك الملتزمين أي اسم البائع عند نقل الملكية والمدين في حالة الرهن إلا أنه مع هذا فمن المتعذر الوقوف على اسم المالك الحالي لعقار معين امتلك حقه بموجب عقد حُرر بين أحياء لأن الوارد في الفهرست هو اسم البائع دون غيره، علاوة على ذلك فمن المعلوم أنه يوجد عدد عظيم من الحقوق غير مؤسسة على تعاقد فلا تقع تحت حكم التسجيل، ومن أصعب الأمور أيضًا الكشف على الحقوق المترتبة على العقارات واستخراج الشهادات العقارية يتطلب وقتًا طويلاً إذ أنه لا بد من الرجوع إلى عدة فهارس موضوعة سنة بعد سنة لكل ناحية على حدة، وباتباع هذا النظام يكون الأساس الحقيقي في الملكية راجع إلى وضع اليد المدة الطويلة وبدونه يصعب في أحوال عديدة إقامة الدليل على ملكية صاحب الحق الحالي.
والأمر عكس ذلك في نظام السجلات العقارية التي هي في آنٍ واحد سجلات وفهارس كل صحيفة من صحائفها مخصصة لعقار معين أي لكل قطعة أرض أو لعدة قطع متلاصقة مملوكة لشخص واحد وبذا يستعوض القيد الجاري باسم المالك أي القيد الشخصي بالقيد الواقعي على قاعدة الوحدة العقارية ومن ذلك فيظهر لأول وهلة أهمية هذه التفرقة.
يتضح مما تقدم أنه يكفي مجرد إلقاء نظرة على صحيفة سجل عقاري مخصصة لعقارٍ ما للوقوف في الحال على كافة الحقوق المتعلقة بهذا العقار فلا لزوم إذًا للمباحث الطويلة المقيدة في مختلف الفهارس التي لا تخلو من الوقوع في الخطأ والتي تؤدي إلى معلومات ناقصة عن حالة العقار.
ونظرًا لأن أساس الحقوق العقارية مهما كانت هو قيدها في السجلات العقارية فلا توجد حقوق عينية عقارية في نظام السجلات المشار إليها غير التي صار قيدها بها وعليه لا يكون للامتلاك بوضع اليد أي محل.
14/ ولا أرى أن يحتمل الجدال في أفضلية نظام السجلات العقارية والقيد العيني على نظام قيد العقود والتسجيل الشخصي وإن كانت جميع البلدان لم تتبع هذا النظام فهذا يرجع إلى الصعوبات العملية الجسيمة التي تعترض إدخاله في بلاد قديمة حيث تتشعب الأملاك ويكثر عددها كثرة عظيمة.
أما في البلاد الحديثة الاستعمار كتونس ومراكش والكنغو وأستراليا فلم تتردد في إدخال نظام السجلات العقارية كما وضعه السير روبرت تورنس لأول مرة في سنة 1855 في جنوب أستراليا والذي يعوق إدخال هذا النظام هو أول عملية لقيد كافة الحقوق المتعلقة بأراضي قطر كامل، وهذا القيد الأول على جانب عظيم من الأهمية لأنه أساس نظام السجلات العقارية المقبلة.
صعوبات عديدة تعترضه من الوجهتين الفنية والقانونية فضلاً عن أن تكاليفه هي باهظة بطبيعة الحال.
أما الصعوبات القانونية هي ناتجة عن أن القيد في السجلات العقارية سيعتبر في المستقبل حجة قاطعة فلا يمكن إجراؤه إلا باتخاذ كافة الضمانات الممكنة منعًا من هضم الحقوق الثابتة ولذلك يجب أن ينظر في وضع مواعيد وفي احتمال رفع معارضات وفي إيجاد جهات قضائية للنظر فيها.
وأما الصعوبات الفنية فهي من نوع آخر فيجب أن تعين الوحدة العقارية التي يصير قيدها في السجلات بطريقة جغرافية بدقة حسابية كافية لهذا يلزم عمل دفاتر حصر مرتبة ترتيبًا محكمًا بتحديد العقار تحديدًا يندر وقوع الخطأ معه وأساس هذا التحديد هو نظام المثلثات (Trigonométrie) يجب التوسع فيه كمًا والإكثار في عدد الأوتاد وهذا مما يستلزم عددًا كبيرًا من المستخدمين ونفقات جسيمة ولا يمكن إجراؤه إلا ببطء.
وفي البلاد التي اتبع فيها نظام قيد العقود فدفاتر القيد لم توضع فيها إلا لأغراض مالية فتنقصها الدقة وغير مستوفاة يومًا بيوم أما نظام السجلات العقارية يستدعي قيدًا في غاية الضبط والدقة ويستصوب تتبع كافة التغييرات التي تطرأ على الملك أولاً بأول.
فالصعوبات التي تعترض حصر الأملاك للمرة الأولى هي جسيمة لدرجة أنه من المتعذر إجراء قيد عام يكون إلزاميًا وكاملاً عن كافة الأملاك الواقعة في أحد الأقطار في الوقت الذي يتبع فيه نظام السجلات العقارية وعمل مثل هذا لا يكون نصيبه إلا الفشل.
أما في البلاد الجديدة أمثال أوستراليا وتونس ومراكش حيث توجد أملاك واسعة الأطراف ولا أهمية لما يقع فيها من اختلاف الحدود وإن كان جسيمًا فإدخال نظام السجلات العقارية وبالتالي عملية القيد الأولى وقد سبق ونبهنا بأنه هو أصعب وأدق عملية في هذا السبيل يحصل بطريقة اختبارية بناءً على طلب الأهالي أنفسهم وهذا ما كان السبب في أن هذا النظام لم يمتد بسرعة وعدم وجود سجلات مناسبة هو الذي حملهم إلى اتباع هذه الخطة ولكن إن كان هذا النظام يصح في بلاد فيها أملاك واسعة لا يهم فيها دقة التحديد فإنه خطر جدًا في البلاد التي بها أملاك كثيرة مقسمة لأنه عند الشروع في قيد القطعة الأخيرة يخشى من ظهور تراكم القطع على بعضها وعدم صحة خريطة المساحة بأكملها بعد أن تم وضعها جزءًا بعد جزء.
وهناك طريقة أخرى تسمح بإدخال نظام السجلات العقارية شيئًا فشيئًا وهي أن تجعل القيد إلزاميًا بالنسبة لبعض العقارات في السجل العقاري وذلك إما بمناسبة تسجيل العقود الناقلة للملكية أو المؤيدة لها وإما يكون هذا الإلزام بالتتابع بالنسبة لنوع معين من العقارات.
وأفضلية هذه الطريقة التي ترمي إلى إدخال نظام السجلات العقارية بالتدريج على الطريقة الاختيارية المعروضة سابقًا ترجع إلى أن القيد في السجلات العقارية يكون إجباريًا لا اختياريًا وإلى أن الوصول بعد أمد قريب إلى قيد جميع عقارات القطر في السجلات الجديدة قد يكون أمره مضمونًا على أن هاتين الطريقتين لا يمتنع معهما الضرر الناشئ من وجود نظامين مختلفين لا يمكن التوفيق بينهما وجارٍ في وقت واحد طالما أن عملية قيد جميع الأملاك لم تكن قد تمت وتصير الأملاك منقسمة إلى قسمين قسم مقيد في السجلات العقارية وخاضع لأحكامها وقد بيناها فيما سبق وقسم يظل خاضعًا لأحكام التشريع القديم.
17/ يستنتج مما تقدم أن الطريقة المثلى لإدخال نظام السجلات العقارية في بلدٍ ما هي إدخال نظام السجلات العقارية تمامًا في منطقة بعد الأخرى بقدر ما يتيسر ذلك عمليًا ويجب أن نستبعد فكرة إدخال هذا النظام دفعة واحدة في كامل أنحاء القطر.
18/ والآن وقد انتهينا من هذه الاعتبارات العمومية يمكن الرجوع إلى مسألة إدخال السجلات العقارية بالقطر المصري بنوع خاص.
سبق أشرت إلى أن الحكومة المصرية عرضت منذ سنة 1904 على الدول الأجنبية مشروعًا ملحقًا بالمنشور الرقيم 20 مايو سنة 1903 وقد قامت اللجنة المتفرعة من اللجنة الدولية للإصلاح القضائي وكذا اللجنة الخاصة بدرس المشروعات بفحص هذا المشروع بين سنة 1904 وسنة 1908 وتصدق عليه في سنة 1908 بأغلبية الآراء في اللجنة العامة.
وهذا ملخص مميزات المشروع الخاص بإدخال نظام السجلات العقارية في مصر: فهي أنه يرمي إلى إدخال هذا النظام بالتدريج منطقة فمنطقة وعلى أن العقارات الواقعة في منطقةٍ ما خاضعة له يجب قيدها كلها بلا استثناء.
19/ وإجراءات قيد العقارات للمرة الأولى مبينة بكل دقة فقد بدئ أولاً باتخاذ طرق النشر العامة والخاصة التي يضمن معها ذوو الشأن بالشروع في عملية القيد ثم يباشر بعد ذلك في فحص العقارات من وجهتين وجهة التمييز بين كل عقار وآخر من حيث موقعها ووجهة الوقوف على كافة الحقوق العينية التي على كل عقار وذلك بواسطة عمل تحريات في موقع الأرض وهذا التحقيق يدعى لحضوره ذوو الشأن وممثلو السلطة المحلية وتحرر الصحائف الأولى من السجلات بمساعدة الرجال الفنيين أمثال عمال المساحة ورجال القانون على أن البيانات الواردة في هذه الصحائف تكون مؤقتة ولذوي الشأن حق الطعن فيها في بحر سنة ويُرفع هذا الطعن أمام محكمة خاصة ويُقضَى فيها ابتدائيًا من قاضٍ واحد وفي الاستئناف من محكمة مكونة من ثلاثة أعضاء وهؤلاء القضاة يُنتخبون من بين قضاة المحاكم المختلطة الذين والحالة هذه كان يجب ازدياد عددهم نظرًا للأعمال الجديدة التي أحيلت عليهم.
20/ فإذا ما صار تنظيم أول قيد بهذه الدقة جاز اعتبار البيانات الواردة في صحائف السجلات العقارية نهائية وغير قابلة للطعن وهذا ما نص عليه المشروع بالعبارة الآتية:
البيانات الواردة في السجلات العقارية التي أصبحت نهائية لعدم حصول منازعة فيها في الميعاد أو بناءً على حكم صدر في موضوع منازعة تقدم تكون غير قابلة للطعن من قِبل الغير فيما يتعلق بالحقوق العينية المثبوتة فيها.
وبذا يعطي القيد الأول للملكية أساسًا جديدًا وتصير السجلات العقارية المرجع الوحيد الذي يركن إليه فيما يطرأ عليه من التغييرات في المستقبل ولا أرى محلاً للكلام عن التفاصيل المتعلقة بشكل صحائف السجلات العقارية أو بطريقة مسكها ولا فيما يتعلق بأملاك الحكومة العمومية والخصوصية بنوع خاص ولا بأرض الصحراء أو الجزائر.
21/ وعلانية الحقوق العقارية تكون مكفولة على أتم وجه فبينما أنه يُكتفَى في النظام الحالي بتسجيل بعض عقود معينة نرى أن الأمر بخلاف ذلك في نظام السجلات العقارية فالعلانية فيه شاملة لكل العقود التي تترتب عليها إنشاء أو انتقال أو إقرار أو تعديل أو زوال الحقوق العينية علاوة على ذلك تشمل العلانية الحقوق الناشئة عن غير عقد أو اتفاق مثل الحقوق الآيلة بطريق الميراث الشرعي وهذه العلنية أصبحت لا ترمي فقط إلى إحاطة الغير بانتقال حق عيني من شخص إلى آخر بل صار اتفاق الطرفين غير كافٍ لهذا الانتقال ولا بد من العقد الرسمي الذي يكون وحده قابلاً للقيد ولا تنتقل الملكية سواء كان بين المتعاقدين أو بالنسبة للغير إلا بواسطة التسجيل وعلى ذلك فاتفاق الطرفين من شأنه إيجاد التزامات شخصية بمعنى أن كل من تلقى حقًا بمقابل له أن يطالب البائع بتعويض إن امتنع عن تحرير العقد الرسمي وله أيضًا أن يحصل على حكم يحل محل هذا العقد ويكون قابلاً للتسجيل.
22/ والآن ننظر ما هي قوة الإثبات التي يمكن إعارتها للسجلات العقارية. إنه من البد أن نتائج القيد تختلف عن بعضها بسبب مصدر نقل العين إن كان بين الأحياء أو بسبب الوفاة وسواء كان متعلقًا بحق أصلي أو فرعي ونحن في جميع هذه المسائل مضطرون للاختصار.
فلنبدأ بحالة انتقال الملكية بين الأحياء: وأول ما يجب علينا ملاحظته أنه ليس هناك قوة إثبات للقيد بين طرفي المتعاقدين بل لكل منهما حق الطعن في الحقوق العينية طبقًا للقواعد العامة رغم قيدها بالسجلات العقارية (مادة (18) من المشروع) وإنما لقوة الإثبات مفعول في مواجهة الغير ونعني بالغير هنا ليس فقط من لهم حقوق على العقار موضوع النزاع سجلوها طبقًا للقانون وإنما نقصد أيضًا كل شخص آخر عدا المتعاقدين حل محلهم بالميراث.
والحق ينشأ أو ينتقل في كل الأحوال حتى بين المتعاقدين بمجرد قيده في السجلات أما قوة الإثبات فلا تترتب دائمًا بمجرد القيد.. مثال ذلك دعوى البطلان التي يرفعها عديم الأهلية يصح رفعها في خلال السنة التي تلي القيد وهذا الأجل يكون خمس سنين إن كانت دعوى البطلان مرفوعة من مالك فقد ملكه بعقد مزور.
واكتساب الحقوق بمضي المدة لا يزال ممكنًا بمعنى أن من حاز عقارًا مقيدًا في السجلات العقارية باسم خلافه يكتسب ملكية هذا العقار إن مضت على حيازته خمس عشرة سنة على أنه لا يمكنه أن يتصرف في هذا العقار إلا بعد أن يثبت ملكيته بحكم قضائي ويقيد هذا الحكم في السجلات العقارية وطالما لم يتم هذا القيد يظل المالك المقيد اسمه صاحب الحق في التصرف في العقار تصرفًا قانونيًا.
أما فيما يختص بالحقوق التبعية مثل الرهن والاختصاص والامتياز فقيدها في السجلات العقارية لا يزيل عيوب العقد المثبت للدين ولا عيوب الدين ذاته.
أما انتقال الحقوق بالميراث فلا قوة فيها للقيد بالسجلات بين المتخاصمين فالوارث الظاهري وورثته من بعده والموصى لهم جميعهم خاضعون لدعوى استرداد الميراث وكذلك من الجائز أن يتعرض شخص موصى إليه لشخص آخر موصى إليه أيضًا إذا كان حق الأول أسبق على حق الثاني وإنما إذا باع الوارث أو الموصى إليه عقارًا أو رتب عليه للغير حقوقًا عينية خاضعة للتسجيل فإذ ذاك يصح التمسك بقوة الإثبات.
ومتى قُيدت هذه الحقوق صارت ثابتة في مواجهة الوارث الحقيقي أو الموصى له على شرط أن تكون قد ترتبت بحسن نية وبعوض على أن دعوى البطلان إذا رفعها الوارث الحقيقي أو الموصى إليه في ظرف السنة من تاريخ الوفاة تبطل كل هذه التصرفات ولو كان صدورها بحسن نية، وعلاوة على ما تقدم مما نلفت إليه النظر هو أن الوارث أو الموصى إليه لا يسعهما التصرف في حقوقهما الموروثة إلا بعد قيدها.
ولا أرى محلاً هنا للكلام بالتفصيل على طريقة مسك السجلات العقارية وما يتأشر بها بقصد ضمان حق ما حفظ مؤقتًا ولا عن البيانات التي تسمح بعلانية أسباب عدم الأهلية وغير ذلك.
23/ وخلاصة القول أن المشروع الذي وضعته اللجنة الدولية في سنة 1904 - 1908 قد وُضع بعد بحث متقن ولو نظرنا إليه من الوجهة القانونية المحضة لوجدناه عملاً يكاد يكون مستوفيًا وكل ما يمكن أن يؤخذ عليه أنه تجاهل الصعوبات الفنية التي تعترض إدخال السجلات العقارية على بلد مثل القطر المصري منقسمة مأهولة بالسكان وبها أملاك عديدة.
على أن هذا المشروع أهمل لأسباب ثانوية تماثل الأسباب التي حالت دون تنفيذ مشروع توحيد أقلام التسجيل ولا يسعنا إلا أن نأسف شديدًا لأن مشروع توحيد أقلام التسجيل وإيجاد السجلات العقارية لم ينفذ منذ سنة 1908 فلو كان تنفذ وقتئذٍ لكنا الآن على وشك الانتهاء من إدخال النظام الجديد بدلاً من الشروع فيه الآن بعد ضياع كل هذا الزمن.

3 - مباحث وإرشادات لجنة دوسن
(1918 - 1920)

24/ في خلال الحرب العظمى وعلى أثر انتهائها أعيدت مسألة السجلات العقارية على بساط البحث على أساس جديد بعد إجراء مباحث دقيقة مرتبطة بحالتنا الداخلية وبالامتيازات الحديثة التي تمت في الخارج.
ومن سنة 1918 - 1920 قامت لجنة تحت رياسة المستر دوسن مدير مصلحة المساحة وقتئذٍ متفرعة من لجنة الامتيازات بحث للمرة الثانية من ابتداء القرن الحالي ببحث مسألة إدخال السجلات العقارية في الديار المصرية بحثًا عامًا.
25/ ونتيجة هذا البحث دونت في عدة تقارير مهمة مرقومة بنمر متسلسلة من (1) إلى (6) علاوة على الورقة المرقومة نمرة (7) والتي تتضمن مشروعين ابتدائيين يتعلق أولهما بالسجلات العقارية والآخر بالعقود الرسمية وأهم التقارير المذكورة هي الواردة تحت نمرة (3) و(6) على أنه من يهمه الأمر يجب عليه مراجعتها كلها لأنها جديرة بالاطلاع.
26/ وأول ما شعرت به اللجنة الفرعية المذكورة التي نسميها لجنة دوسن لسهولة التعبير هو ضرورة توحيد أقلام التسجيل الحالية التي لا تزال باقية على ما هي عليه منذ مباحث اللجنة الدولية في سنة 1904 ولزوم الشروع في درسها مع نظام السجلات العقارية وقد لفت نظر هذه اللجنة اختلاف الطرق المتبعة في مسك السجلات التي كانت موجودة إذ ذاك.
فتوطيدًا لإدخال نظام السجلات العقارية ورغبةً في الإسراع في إعطاء شهادات الرهنيات أشارت بالإسراع في وضع فهرس عام مكون من قسائم (فيشات) يشتمل على كافة التصرفات المقيدة الماضية منها والحاضرة وقدرت عدد التصرفات التي تمت من سنة 1876 إلى سنة 1917 بمليون ونصف تقريبًا.
27/ وكانت لجنة دوسن هذه تؤمل أنه مع قيامها بعمل هذا الفهرست العام عن الصرفات السابقة أن ينشأ في الحال فهرست واقعي ببيان الأملاك التي حصل التصرف فيها بمقتضى عقود سابقة وللأسف قد أدت التجربة التي أجرتها في ناحيتين اختارتها وهما ناحية كوم الأحمر (بمركز بني سويف وأبو الغيط بمركز قليوب) على أن وضع الفهرست الواقعي على هذه الصورة أمر محال لأن البيانات الواردة في 22 % من العقود لا تسمح بالاستدلال على الأحواض الكائنة بها الأملاك وفي 27 % من تلك العقود كان يمكن الاستدلال على الحوض الواقعة به ولكن كان من المتعذر حتى مع الانتقال لموقع العين تمييزها إلا أنها واقعة بحوض معين فاضطرت اللجنة إلى العدول عن وضع الفهرست الواقعي كما عدلت عن فهرست القسائم (الفيشات).
28/ على أن هذه التجارب أفادت من بعض الوجوه فإنها ألفتت الأنظار إلى نقص العقود فيما يختص بتعيين الأشخاص المتعاقدين وبتحديد الملك، وسنرى فيما يلي الإجراءات التي اتخذت لتدارك هذا النقص.
وفي الأثناء أخذت لجنة دوسن سالفة الذكر في درس الحالة التي كانت عليها سجلات الزمام بمصر درسًا متقنًا والتعديلات التي يلزم إدخالها عليها لجعلها ملائمة لنظام السجلات العقارية، وقد سبق لي أن قلت في بدء هذه المحاضرة عندما عرضت عليكم مبادئ هذا النظام العامة وميزاته الجوهرية إن هذا النظام أدخل في بعض البلاد بغير أن يسبقه عمل تجربة بمسح العقارات بها هذا ما حصل في أوستراليا وكندا وتونس ومراكش بينما أن الألساس واللورين والنمسا والمجر وألمانيا وسويسرا كانت لديها دفاتر مساحة بالأملاك عند العمل بنظام السجلات العقارية وهذا الاختلاف بين بلاد وأخرى يُعزى فقط إلى عوامل تاريخية على أن إدخال نظام السجلات العقارية على بلد مسحت عقاراتها أسهل بالرغم من أن فك الزمام لم يحصل في الغالب إلا لجباية الأموال إذ أنه توجد في كل بلد مصلحة مختصة بأعمال المساحة ومنقطعة لها وقد اعتاد أهلوها على أعمال هذه المصلحة.
أما فيما يختص بمصر فإن أعمال فك زمامها لا تؤدي إلى تمييز عقارٍ ما عن العقار المجاور تمييزًا دقيقًا يسمح بقيد حقوق الملكية بضمانة كافية.
من الواجب مبدئيًا إعادة النظر في شبكة العلامات المساحية في كل القطر، نعم إن علامات المثلثات من الدرجتين الأولى والثانية حالتها لا بأس بها ولكن علامات مثلثات الدرجتين الثالثة والرابعة في حاجة لمراجعة كبيرة وتجديد وتقوية.
أما علامات الترافرس والعلامات المساعدة فيجب إنشاؤها من جديد لأن العلامات القديمة من هذين النوعين التي أُنشئت أثناء فك الزمام كانت كلها مؤقتة، فضلاً عن ذلك فقد اختفى أغلبها.
مما تقدم يعلم أن المساحة التفصيلية وحدها في حاجة لبرنامج إعدادي كبير يجب تنفيذه قبل البدء في تحديد الأملاك العقارية وإدخالها في السجل العقاري.
ومصر كما لا يخفى هي إحدى ممالك العالم حيث العقارات كثيرة القطع مرتفعة القيمة وحيث الحدود الفاصلة بين القطع وبعضها غير ظاهرة في الطبيعة، هذا ولقد قيد في دفاتر المساحة أثناء فك الزمام الأخير حوالي 2.5 مليون قطعة ممكن تقسيمها إلى ثلاث فصائل الفصيلة الأولى وهي عبارة عن 36.1 % من المجموع تقل مساحة كل قطعة فيها عن 12 قيراطًا والفصيلة الثانية وهي عبارة عن 56.1 % من المجموع يتراوح مسطح كل قطعة فيها 5 أفدنة و12 قيراطًا أما الفصيلة الثالثة وهي عبارة عن 7.8 % فقط من المجموع فمساحة كل قطعة فيها أكثر من 5 أفدنة.
وعلى ذلك ففي قطر كالقطر المصري حيث لا يزيد متوسط مسطح القطعة عن فدان و12 قيراطًا يحتاج الأمر لبذل دقة وعناية كبيرتين في تعيين الموقع الطبيعي للعقارات أكثر مما تستلزمه الحالة في بلاد كبلاد تونس أو بلاد ويلز الجديدة الجنوبية حيث متوسط مسطح القطعة في الأولى 412 فدانًا وحيث يملك 46.65 % من أراضي الثانية 720 شخصًا فقط أي بمعدل 31576 فدانًا لكل شخص من هؤلاء.
أما دوائر الفرق المسموح المقررة بمعرفة لجنة دوسن فهي 25 سهمًا فيما يتعلق بالأراضي الزراعية و10 أسهم فيها يتعلق بأراضي المدن، وهذا الفرق كما لا يخفى هو فرق حسابي أو بمعنى آخر إذا فرض وعملت مساحات متتالية لمنطقةٍ ما في أحسن الظروف وعلى أساس شبكة العلامات المساحية الموجودة حينئذٍ ففرق المقاسات التي أجراها المساح بين كل مساحة وأخرى يجب أن لا يتجاوز الأرقام المتقدم ذكرها.
29/ بعدما انتهت لجنة دوسن من بحث المسألة من الوجهة الفنية التطبيقية فيما يختص بمسح الأراضي وأزالت كل الصعوبات التي اعترضتها انتقلت إلى فحص طريقتين أساسيتين اتبعت إحداهما في تونس والأخرى في سويسرا عند إدخال نظام السجلات العقارية على هذين القطرين وعملت بذلك تقريرًا واحدًا ولا شك في أن الطريقة السويسرية هي التي اتبعت عند وضع النظام المرغوب تطبيقه في مصر، وقد أكدت اللجنة أن النظام السويسري ربما كان أحسن الأنظمة المتبعة في الوقت الحاضر.
30/ والتقرير المرقوم نمرة (5) تناول تاريخ فك الزمام في مصر من سنة 1879 لسنة 1906 مع إيضاح الخطأ الذي ارتكب فيه وببيان ما يمكن استنتاجه من التجربة الماضية في سبيل إيجاد سجلات مساحة حقيقية.
31/ انتهت لجنة دوسن من أعمالها في أواخر سنة 1920 فكان تقريرها تقريرًا ختاميًا ذا أهمية تذكر يحسن فحصه إجماليًا فاستبعدت اللجنة أولاً فكرة إنشاء سجلات عقارية بضمانة سواء كان بشكل قيد وعام بلدة بلدة أو بشكل غير منتظم يحصل إما تبعًا لاختبار الأفراد أو لنوع الأملاك التي يصير قيدها أو للطوارئ العرضية مثل قيد الحقوق ثم أشارت بما يأتي:
أولاً: إنشاء السجلات العقارية في الحال على أساس الوحدة العقارية تخصص كل صحيفة لوحدة منها ولكن بدون ضمان الحقوق المسجلة بها.
ثانيًا: تقرير وجوب فحص العقود المقدمة للقيد سواء كان من وجهة الشكل أو من وجهة مطابقة الحقوق للطبيعة ومشروعية الحقوق:
أما الفحص من وجهة الشكل فتكلف به مصلحة المساحة التي ستراعي تمييز العقار عن الآخر وتراقب عدم معارضته لما هو وارد بالعقد وعدم تعديه على حدود العقار المجاور أو على الحقوق السابق التسليم بها ولا بد للقيام بهذه المهمة من إيجاد خريطة مساحة تكون مستوفاة التأشيرات على الدوام بمقياس 1/ 1000 تشمل تحديد الأملاك وفصلها من بعضها.
أما الفحص من الوجهة القانونية فنتيجته تستلزم قبول العقود الرسمية فقط للتسجيل مما يدعو إلى إيجاد موظفين محلفين يخولون حق التأكد من أهلية الطرفين للتعاقد ومراجعة الحجج والمستندات المقدمة.
وعلاوة على ما تقدم قد أشارت اللجنة الفرعية بما يأتي:
أولاً: ضرورة قيد العقود في السجلات العمومية حتى يصح انتقال الحقوق قانونًا سواء كان بين الطرفين المتعاقدين أو في مواجهة الغير.
ثانيًا: وجوب اتخاذ التدابير اللازمة لنشر حجج الوقف القديمة ولعلانية انتقال الحقوق بسبب الوفاة.
ثالثًا: لا تكتسب الحقوق بمضي المدة ما لم ترتكز على سندٍ ما، فبهذه الطريقة تُستعمل السجلات العقارية لقيد الحقوق المدعى بها ولكن بغير ضمان ومع احتمال تعديلها في المستقبل وبهذه الكيفية نكون قد احتفظنا بسائر مزايا نظام تسجيل العقود الحالي وفقط نكون قد استبدلناه بطريقة التسجيل على أساس الوحدة العقارية قبل أن تتحد نهائيًا الحقوق على العقار وهذا مما يؤدي شيئًا فشيئًا إلى تحديد الحقوق تحديدًا صحيحًا بفضل العوامل الثلاثة الآتية:
أولاً: مراقبة الحقوق من البدء من الوجهتين الشكلية والقانونية مراقبة دقيقة.
ثانيًا: مفعول الوقت.
ثالثًا: مفعول الأحكام القضائية.
ولهذه الطريقة أيضًا مزية تجنب الصعوبات التي تعترض القيد المنتظم الذي عمل لهذا الغرض وهو يسمح بإدخال عملية القيد في أنحاء القطر في مدة وجيزة ويصل بنا تدريجيًا إلى درجة من الضبط تزداد سنة بعد أخرى حتى تمكننا من إدخال نظام السجلات العقارية بضمانة تلك الحقوق.
لا شك في أن هذه الطريقة التي بيناها والتي تشير لجنة دوسن باتباعها على جانب عظيم من الملائمة وهي مقتبسة من الطريقة التي اتبعت في ألمانيا والنمسا وسويسرا وتسمح بالوصول تدريجيًا من سنة إلى أخرى إلى إيجاد السجلات العقارية مع الضمان.
وبعبارة أخرى فإننا نتبع طريقة القيد الفعلي أو جعل تسجيل الحقوق إجباريًا وهذا من المميزات الأساسية للسجلات العقارية ثم نفحص فحصًا دقيقًا كل حق يترتب على عقار معين إلى أن تتوطد تلك الحقوق وتسمح بالوصول بلا خطر إلى طريقة السجلات العقارية كاملة مع الضمان عليها.

4 - أعمال اللجنة الخاصة
التي شُكلت تحت رياسة عبد الفتاح باشا يحيى
من سنة 1922 لسنة 1926

32/ قلنا سابقًا إن لجنة دوسن انعقدت في يوليه سنة 1917 بصفتها لجنة متفرعة من لجنة الامتيازات ولذا كانت مباحثها وآراؤها مبنية على احتمال إلغاء الامتيازات ولو فيما يتعلق بشكلها الحالي وله على أثر توحيد القضاء المصري يكون للحكومة حق التشريع المطلق مما يمكنها من تعديل أقلام التسجيل الحالية ومن توحيدها وكان رأي اللجنة أن تناط أعمال السجلات العقارية بمصلحة المساحة وتكون تابعة لوزارة المالية وأما تحرير العقود الرسمية ومراجعة هذه العقود من الوجهة القانونية فيكون من اختصاص وزارة الحقانية.
على أن لجنة الامتيازات لم تستمر في العمل إلا سنتين كما تعلمون فلم يبقَ لها أثر بعد حوادث سنة 1919 واللجنة الفرعية المسماة لجنة دوسن انتهت أعمالها في ديسمبر سنة 1920 من غير أن تفرض تنفيذ مشروعها في حالة بقاء الامتيازات.
33/ ولكن لجنة دوسن أعيد تشكيلها بصفة لجنة مستقلة بموجب قرار صدر من مجلس الوزراء في أول مايو سنة 1920 فقامت بأعمال جسيمة وقل وجود لجنة حكومية قامت بمأموريتها بعناية تامة مثلها فهل ترى يذهب مجهودها سدى كما حصل في سنة 1908.
وفي إبريل سنة 1922 رأت الوزارتان صاحبتا الشأن (وزارة المالية ووزارة الحقانية) أن تعرضا تقارير دوسن على مجلس الوزراء حتى إذا وافق على ما بها يبادر في تنفيذ ما اقترحته مع مراعاة الحالة السياسية الجديدة.
فبعد أن بسطت الوزارتان في المذكرة التي رفعتاها إلى مجلس الوزراء تاريخ المباحث التي تمت عن السجلات العقارية بمصر ختمتها بالصيغة الآتية:
(وقد أوضحنا أعلاه أن لجنة السجلات العقارية بنت اقتراحاتها في الموضوع الموكول إليها بحثه على أساس أن الامتيازات ستُلغَى وأن الحكومة المصرية سيكون لها مطلق الحرية في وضع التشريع الذي يحقق إصلاح نظام السجلات العقارية ولكن بعد أن قامت اللجنة المذكورة بطبع مستنداتها رقم (1) إلى (6) تبدلت الحالة وتبين أن الامتيازات باقية وأن المحاكم المختلطة امتد أجلها لمدة غير معينة.
فإذا كان مجلس الوزراء يوافق مبدئيًا على اقتراحات اللجنة وهي المبينة في نهاية المستند رقم (6) يتعين البحث بصفة خاصة في الوسائل التي تؤدي لتطبيق وتنفيذ هذا الإصلاح على الأجانب أصحاب الامتيازات وعلى المصريين على السواء وللوصول إلى هذه الغاية يحسن تشكيل لجنة لبحث هذا الموضوع تمثل فيها المحاكم المختلطة بأن تتكون من سبعة أعضاء أربعة يعينهم مجلس الوزراء وثلاثة تعينهم محكمة الاستئناف المختلطة).
34/ واعتمد مجلس الوزراء في قراره الصادر في 25 إبريل سنة 1922 نتائج واقتراحات لجنة دوسن وشكل لجنة خاصة لدراسة نظام السجلات العقارية برئاسة حضرة صاحب السعادة عبد الفتاح يحيى باشا فوالت هذه اللجنة اجتماعاتها من سنة 1922 إلى اليوم.
35/ وأول ما لاحظته هذه اللجنة لأول وهلة أن النجاح في عملها يستلزم الاسترسال فيه تدريجيًا والسير بتمهل في طريق تنفيذ مشروع السجلات العقارية.
وفي شتاء سنة 1922 - 1923 وجهت اللجنة أنظارها إلى تحسين نظام العلانية في أقلام الرهونات المختلطة وهي كما تعلمون تسجل 97 % من مجموع العقود وكانت نتيجة بحثها أن صدر المرسومان نمرة (18) ونمرة (19) لسنة 1923 الرقيمان 12 يوليه و26 نوفمبر سنة 1923.
والقرارات اللازمة لتنفيذها لا سيما قرارات 12 يوليه و26 نوفمبر سنة 1923 وقد نفذ هذا التشريع الجديد ابتداءً من أول يناير سنة 1924.
36/ والمبدأ الأساسي الذي بُني عليه هذا التشريع هو أنه لا بد من التسجيل ليتم انتقال الملكية بين طرفي المتعاقدين أولاً وفي مواجهة الغير ثانيًا.
وهذا التشريع الجديد وضع لأول مرة قاعدة تسجيل الحقوق ويعتبر الخطوة الأولى نحو إنشاء السجلات العقارية وقد ترتب على إقراره العدول عن بعض المبادئ الأساسية التي بُني عليها القانون المدني المعمول به الآن أهمها انتقال الملكية بمجرد اتفاق الطرفين.
ولئلا يفاجأ الأفراد بهذا المبدأ الجديد اهتمت الحكومة على وجه خاص بنشر التشريع الجديد في سائر أنحاء القطر حتى يلم به جميع ذوي الشأن.
ولكن هذا التشريع الجديد لم يحتم تسجيل جميع العقود وبقي بعضها غير خاضع لهذا التسجيل إلا أن الحكومة تواصل السعي لتعميم التسجيل على جميع العقود، على أنه لا بد من مرور مدة من الزمن حتى يرسخ هذا المبدأ في أذهان الأفراد وحتى يفطنوا إلى وجوب تسجيل عقودهم، وكما أنه عند وضع نظام التسجيل في أقلام كتاب المحاكم المختلطة لم يقتنع الفلاح في بادئ الأمر بوجوب تسجيل تصرفاته حتى تكون حجة على الغير تراه الآن يحاول الاستغناء عن التسجيل ويكتفي بتحرير عقده على ورق التمغة وأخذ إشارة مصلحة المساحة عليه وتسجيل الإمضاءات أو إثبات التاريخ على أنه لما يتحقق في المستقبل أن هذه الإجراءات غير كافية وأن المحاكم ستقضي بضياع حق الملكية عليه لعدم قيامه بالتسجيل عندها يشعر بضرورة هذا التسجيل ويخضع لنظامه الجديد، وبهذه المناسبة نلاحظ أن جميع عقود التصرف في مديرية المنوفية تسجل بلا استثناء والسبب في ذلك أن مصلحة المساحة تباشر الآن تحديد الأملاك والعقارات في المديرية المذكورة على الطبيعة عند كل تصرف ولذلك نرى ضرورة الإسراع في تحديد العقارات على الطبيعة بمناسبة كل تصرف في جميع أنحاء القطر أسوةً بما هو متبع في مديرية المنوفية ابتداءً من أول يناير سنة 1924.
37/ ولما أن أصدرت الحكومة قوانين سنة 1923 رأت الفرصة سانحة لإخضاع كثير من أنواع التعاقد لقاعدة التسجيل بعد أن كانت معفاة منه بمقتضى النظام القديم وأهمها عرائض الدعاوى العقارية المطلوب بها الحكم بإيصال أو تعديل حقوق عينية يُدعى بها والأحكام الصادرة في تلك الدعاوى وكذلك عقود التنازل عن الديون المؤمن عليها برهن عقاري أو بحق امتياز عقاري ورهن تلك الحقوق وتحويلها والتنازل عن الترتيب في رهن عقاري وعرائض دعاوى الاسترداد وأحكامها.
38/ كذلك اتخذت الاحتياطات اللازمة لتعيين أشخاص المتعاقدين بالدقة التامة بأن تحتم ذكر أسماء آبائهم وأجدادهم كما تحتم عليهم تسجيل إمضاءاتهم، كذلك فرض القانون ضرورة تعيين العقار الحاصل التعاقد عليه تعيينًا دقيقًا بأن اشترط ذكر اسم الناحية الكائن بها واسم الحوض ونمرته ونمرة القطعة وظاهر أن هذه الاشتراطات أتت بفائدة جليلة إذ قبل تقريرها كانت العقود تقدم للتسجيل وفيها من التحديد الغامض أو الناقص ما يجعل تعيين العقار صعبًا ومستحيلاً وزيادة على تلك الاشتراطات قد تمهد الطريق للتسجيل على قاعدة الوحدة العقارية.
39/ فضلاً عن ذلك فإن التشريع الجديد أدخل إصلاحًا هامًا في نظام أقلام التسجيل العقاري وسجلات القيد والتسجيل من ذلك أن المحاكم المختلطة أنشأت في المديريات تسع مأموريات علاوة على الأقلام الثلاثة التي كانت موجودة من قبل وكلفت بتسجيل العقود العرفية المتعلقة بعقارات داخلة في دائرتها.
40/ وقد قرر هذا التشريع وجوب تحرير العقود على ورق خاص، وأعدت الحكومة نماذج مطبوعة للعقود الكثيرة التداول لتسهيل مهمة المتعاقدين علاوة على ما تقدم تقرر خلافًا لما هو متبع في نظام التسجيل العقاري ألا يُعاد أصل العقد المسجل إلى المتعاقدين وإنما يُحفظ في أقلام الرهونات وبذلك يمتنع الغش والتزوير في العقود الأصلية وهذا الإجراء مطابق للنظام المتبع في السجلات العقارية.
41/ ومما يلفت النظر أن أقلام الرهونات اتخذت المعدات اللازمة لنقل صور العقود المودعة بها بالفوتوغرافية (التصوير الشمسي) وبذلك تجنبت الالتجاء إلى نسخ تلك العقود ومراجعتها واحتمال حصول غلط في النسخ المنقولة.
42/ وترتب على إدخال هذه التعديلات أن تعاونت المحاكم المختلطة ومصلحة المساحة المصرية في هذا العمل المشترك فمصلحة المساحة هي المكلفة بنقل صور العقود بالتصوير الشمسي وببيع ورق التمغة ونماذج العقود، علاوة على أنه تحتم على المتعاقدين الالتجاء إليها لمراجعة البيانات الواردة في العقود المرغوب تسجيلها بشأن حدود العقارات والتحقق من صحتها، وفي مديرية المنوفية حيث تحديد الأملاك الحاصل التصرف بها جارٍ على قاعدة تحديد العقار على الطبيعة تمهيدًا لإنشاء السجلات العقارية بها مع ضمان الملكية تتبع الآن إجراءات خاصة.
فكلما تقدم للتسجيل أو للقيد عقد يتعلق بعقارٍ ما يقوم عمال مصلحة المساحة بتحديد هذا العقار بواسطة وضع علامات حديدية تتحمل الحكومة مصاريفها علاوة على ما تقدم فإن مصلحة المساحة ترسل إحدى الصور الفوتوغرافية للعقد للمديرية المختصة ليتسنى لها إجراء النقل اللازم في المكلفات.
ها هي التعديلات الأساسية التي أدخلها تشريع سنة 1923 سردناها بعبارة وجيزة لأنه لا يسعنا طبعًا التوسع في الكلام عنها.
43/ وقد بحثت اللجنة الخصوصية التي يرأسها حضرة صاحب السعادة عبد الفتاح باشا يحيى عدة نقط أخرى مرتبطة بنظام علانية التصرفات العقارية فوضعت القانونين رقم (49) و(50) اللذين أجازا للدائن المرتهن تأجير العقار المرهون لمدينه الراهن بشروط تضمن علانية هذا التصرف كما أنهما قررا بطلان الرهن العقاري الذي يبرم في صورة عقد بيع وفائي.
بخلاف ذلك بحثت اللجنة موضوع الديون التي تكون على التركات الإسلامية واقترحت بشأنها اتباع نظام جديد يكلف بمقتضاه الدائنون بإخطار المحكمة الشرعية في ميعاد محدد بما لهم من الديون ومن لم يفعل سقطت حقوقه قِبل من اشترى عقارًا من الورثة بحسن نية.
وأشارت اللجنة أيضًا بوجوب تسجيل جميع الوقفيات القديمة وتنظيم مسألة صحة تصرفات الوارث الظاهر، وقد تناقشت اللجنة في هذه المسائل مع أئمة الشرع الإسلامي الذين اتفقوا معها على هذه المبادئ ولم يبقَ سوى وضع القوانين اللازمة لنفاذها.
وتناقشت اللجنة كذلك في موضوع إلغاء حق الاختصاص وأعدت مشروعًا بذلك أدخل بعض التعديلات في إجراءات نزع الملكية على أن اللجنة لم تتخذ قرارًا نهائيًا في الموضوع.
ترون حضراتكم مما تقدم أن اللجنة التي يرأسها سعادة عبد الفتاح يحيى باشا حذت حذو اللجان التي سبقتها (لجنة سنة 1904 - 1908 الدولية ولجنة دوسن) وقامت بمجهود عظيم لإنجاز المهمة الخطيرة التي عهد بها إليها.
44/ أما مصلحة المساحة فقد قامت هي أيضًا بمجهود عظيم بخلاف الاشتراك مع أقلام التسجيل المختلطة في الأعمال التي بينّاها سابقًا فقد شرعت بالاتفاق مع وزارة المالية التابعة لها ابتداءً من أول يناير سنة 1924 في إنشاء سجل عقاري حقيقي قيدت فيه لكل وحدة عقارية أي أمام كل قطعة جميع البيانات التي تُدرج عادةً في السجلات العقارية الرسمية. أجل إن هذه البيانات مقتبسة فقط مما وُجد مذكورًا في المستندات المقيدة أو المسجلة في أقلام التسجيل المختلط والمنقولة في مصلحة المساحة بالتصوير الشمسي فيحق لنا والحالة هذه أن نسمي هذه السجلات نواة السجلات العقارية وإن كانت لا تشتمل بعد على تسجيلات المحاكم الأهلية والشرعية ولا على العقارات التي انتقلت ملكيتها بالميراث ومن البدهي أن ليس للبيانات الواردة بالسجلات الحالية المشار إليها قوة إثبات أو صيغة رسمية ما، فما هي الآن سوى نوع من الفهرس مرتب على أساس الوحدة العقارية للتصرفات المقيدة والمسجلة في أقلام الكتاب المختلطة.
ومن مزايا السجلات الحالية أنها تمهد الطريق لإدخال السجلات العقارية الحقيقية فإذا استمر العمل بها عدة سنوات وإذا نفذت فكرة قيد العقود والتصرفات المسجلة بالمحاكم الأهلية والشرعية فيها أيضًا نكون قد خطونا خطوة واسعة نحو إدخال السجلات العقارية في هذه الديار أو سهلنا الانتقال بدون صعوبات جسيمة من نظام تسجيل العقود إلى نظام تسجيل الحقوق.
وقد أضيف إلى هذا السجل فهرس بأسماء الملاك لكل ناحية على حدة وسجل آخر للحقوق المتعلقة بكل عقار مرتبًا ترتيبًا أبجديًا بأسماء الملاك في كل مركز وهذا وذاك مدون في صحايف منفصلة كي يسهل في المستقبل اتباع أي ترتيب آخر يرى أكثر مناسبة من الترتيب الحالي.
45/ لا أنكر أننا لا زلنا بعيدين عن نظام السجلات العقارية إلا أن كل ما بذلناه إلى الآن من مجهودات لم يذهب سدى وها قد أدخلنا على النظام الحالي تحسينات هامة وإذا كان المدى لا يزال واسعًا بيننا وبين نظام السجلات العقارية إلا أننا نأمل أن نقطع الطريق خطوة فخطوة حتى نصل إلى تحقيق هذا النظام.
46/ وأول ما يجب علينا فعله الآن هو إلزام ذوي الشأن بتحرير العقود الواجبة التسجيل في صيغة رسمية فإن تحرير العقود بمعرفة كاتب العقود الرسمية يكفل لنا حسن ودقة تحريرها فضلاً عن التحقق من أهلية المتعاقدين وثبوت الملكية، ولسنا أول من فكر في هذا الاقتراح فقد سبقتنا فيه لجنة سنة 1904 الدولية التي اقترحته بمناسبة مشروع توحيد أقلام التسجيل، أجل إن العقود الرسمية هي ضرورية فقط في نظام تسجيل الحقوق إلا أن كثيرًا من البلدان الخاضعة لنظام تسجيل العقود فقط قررت ضرورة تحرير العقود في صورة رسمية.
إني مقتنع تمامًا أن من السهل إعداد طائفة من كتاب العقود الرسمية يعينون من حملة شهادة الليسانس في الحقوق الذين يكثر عددهم في هذه البلاد ويمكن تدريبهم على هذا النوع من الأعمال في بضعة شهور بواسطة تلقي بعض دروس في موضوع العقود الرسمية.
47/ ومتى تم ذلك يصير تعميم استعمال ورق التمغة والتصوير الشمسي في العقود والمستندات التي تحرر في أقلام تسجيل المحاكم الأهلية وفي المحاكم الشرعية مع ضرورة تبليغ صورها إلى مصلحة المساحة أسوةً بما هو جارٍ في أقلام كتاب المحاكم المختلطة.
48/ وكذلك يجب إعداد الوسائل التي تمكن مصلحة المساحة من تعميم تحديد عقارات القطر بأكمله بوضع علامات حديدية كما فعلت في مديرية المنوفية ومن وضع البيانات اللازمة أولاً فأول على خارطة مصر المساحية التي بمقاس 1/1000.
49/ وفي النهاية تعالج مسألة علانية انتقال الحقوق العقارية بالميراث وتنشأ مصلحة خاصة تكلف بمسك السجلات العقارية ويوضع قانون منظم لهذه السجلات مع التصريح بأنه في عدد معين من السنين الأولى لإنشائها لا تكون هذه السجلات ضامنة للحقوق التي تسجل فيها. لا نزاع في أن وضع هذا النظام يكلف الحكومة مبالغ طائلة وطبيعي أن إنشاء سجلات عقارية لا يتم بدون نفقة تتحملها الخزينة إلا أنه يتلاحظ أن الرسوم النسبية الحالية التي لا تتعدى 3.5 % هي في غاية الاعتدال إذا قارناها بما يقابلها في الأقطار الأخرى فضلاً عن أن هذه الرسوم لا تحصل على الثمن الحقيقي للعقار بل على أقل منه بكثير بحيث إن ما يحصل فعلاً لا يزيد على 2 % من قيمة العقار الحقيقية ولذا نرى أنه يقتضي سن قانون يفرض نهائيًا ولمدة طويلة رسومًا نسبية قدرها 3.5 % على أساس القيمة الحقيقية للعقار فإذا تم ذلك ونفذ بكل دقة زاد ما تحصله الحكومة من هذه الرسوم زيادة كبرى ويتوفر لها المال اللازم لإنشاء هيئة مأموري العقود الرسمية وإيجاد الإصلاحات الأخرى التي يطلبها هذا النظام في أقلام كتاب المحاكم الأهلية والشرعية وفي مصلحة المساحة.
50/ إن قطرًا كالقطر المصري حيث الأراضي الزراعية هي مورد الثروة وحيث هي موزعة بين السكان على قطع صغيرة للغاية لا يمكن أن يهمل فيه هذا الإصلاح الحيوي بسبب كثرة النفقات التي يستلزمها، والمزايا التي تترتب على تحقيق هذا النظام لا يستهان بها، إذ بفضل هذه السجلات يصبح انتقال ملكية العقارات في غاية من السهولة وتصبح التصرفات في متناول كل إنسان وكفى أن تنظر إلى الصعوبات الجمة لتحقيق انتقال الملكية بحسب النظام الحالي وما يستلزمه من وقت وعناء في مراجعة حجج ومستندات الملكية واستخراج شهادات عقارية من جهات مختلفة فضلاً عن الخطأ الذي يتعرض له الإنسان بسبب تشابه الأسماء المصرية ببعضها والتغيير والتبديل في حدود الأقسام الإدارية والعدد العظيم للسجلات والفهارس الجاري العمل بها علاوة على استحالة العثور على بعض التصرفات أو البيانات التي لا يمكن الوصول إليها في النظام الحالي في حين أنه يمكن الاستدلال عليها بسهولة وبكل سرعة ودقة في نظام السجلات العقارية.
ونظام السجلات العقارية هذا يحول دون تعدي الأفراد على أملاك غيرهم ويرفع عن كاهل المحاكم تلك المنازعات العقارية التي تشغلها سنينًا طويلة في بحث أصل الملكية والتصرفات المتوالية والحقوق المرتبة عليها تلك الحقوق التي تتصل ببعضها وتندمج في بعضها وتجعل الحق غامضًا يتعذر الاهتداء والوصول إليه.
هناك فائدة أخرى عظيمة لنظام السجلات العقارية: ألا وهي زيادة قيمة الأملاك العقارية هذه الزيادة قدرها المسيو هوربيه رئيس المحكمة المختلطة بالقاهرة بنسبة 20 أو 25 % من القيمة الحالية (راجع الكتاب الذهبي لليوبيل الخمسيني للمحاكم المختلطة 1876 - 1926 صحيفة 331).
علاوة على ما تقدم فإن هذا النظام ديمقراطي محض وهو يفيد صغار المزارعين بصفة خاصة.
لنظام السجلات العقارية في مصر خصوم نخص بالذكر منهم من يتعايشون من وراء اعتلال النظام الحالي ويستغلون نقصه ومن رأي هؤلاء أن الالتجاء إلى مصلحة المساحة يؤخر التسجيل أو القيد تأخيرًا ضارًا وليس من وراءه فائدة لأحد، على هذا نجيب أنه من المحتمل أن الأعمال تتراكم أحيانًا في مصلحة المساحة لكثرتها ولقلة عدد العمال فلا تستطيع إنجازها كلها بالسرعة اللازمة على أن مسؤولية هذا التأخير لا تقع على عاتق المصلحة وإنما على من يضنون عليها بالمستخدمين اللازمين لها علاوة على ذلك فمن المحقق أن مزايا وفوائد النظام الجديد لا تظهر ولا يشعر بها الجمهور إلا بعد الانتهاء من وضع السجلات العقارية بأكملها.
ومن رأيي أن الاعتراضات الموجهة للنظام الجديد غير جدية وأدعو من لا يشاطرني هذا الرأي أن يتفضل بالانتقال إلى شبين الكوم ليشاهد هناك بنفسه الطريقة العملية لتطبيق هذا النظام وليحادث في الموضوع فلاحي المنوفية الذين تم تحديد أراضيهم على الطبيعة وتسجيلها في السجلات العقارية.
على أنه لبلوغ الغاية المنشودة يتحتم المثابرة في العمل والمواظبة عليه لأن إدخال نظام السجلات العقارية في بلد كمصر يستلزم مجهودًا متواصلاً مدة عشرين عامًا بغير توانٍ وبلا انقطاع.
إن غاية أمنيتي لخير هذا البلد هو أن تقرر الحكومة والبرلمان مواصلة العمل الذي بدئ فيه فإن صحت عزيمتهم على ذلك فخيرًا يفعلون وإلا فالأجدر أن يعدل من الآن عن إدخال نظام السجلات العقارية بمصر اجتنابًا للمتاعب والنفقات الجسيمة التي يستلزمها هذا النظام.
وفي الختام أقول ليس في الأمر استحالة بل إذا أرادت مصر إدخال نظام السجلات العقارية لأمكنها ذلك وتصبح كبلاد سويسرا قدوة لأقطار العالم في هذا العمل الجليل هذا ما أورده لها والسلام.

بحث في الحراسة القضائية إسماعيل مجدي المحامي

مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة الثامنة – 1927/ 1928

بحث في الحراسة القضائية
بمناسبة حكم محكمة أسيوط الاستئنافية
رقم (473) بالعدد الثامن من المحاماة

تنازع بعض القسس مع الدار البطريركية على ملكية كنيسة، وطرح هذا النزاع أمام محكمة أسيوط الأهلية للفصل فيه، وفي الوقت نفسه تقدمت الدار البطريركية إلى محكمة الموضوع بطلب (الحكم بصفة مستعجلة بتعيين حارس قضائي على الكنيسة المتنازع عليها لمباشرة إقامة الشعائر الدينية فيها حتى يتم الفصل في الملكية).
فقضت محكمة أسيوط برفض طلب الحراسة، وقالت في حكمها: (حيث إن من ضمن شروط دعوى الحراسة أن يكون الشيء المراد وضعه تحت الحراسة مما يمكن للغير (Tiers) أن يتولى إدارته، فإذا لم يتوفر هذا الشرط فلا وجه لتعيين حارس، وبناءً على ذلك قضت المحاكم الفرنسوية بأنه لا يجوز أن يعهد في إدارة أجزاخانة أو مصلحة أميرية لحارس قضائي، ومعنى ذلك راجع لتعريف الحراسة وواجبات الحارس، إذ أن الحراسة هي وضع الشيء المتنازع عليه تحت يد شخص ثالث حتى يُفصل في النزاع القائم بخصوصه، ومن واجبات الحارس إدارة الشيء موضوع الحراسة، فإن كان هذا الشيء مما لا يمكن للغير إدارته فلا يمكن تعيين حارس عليه (راجع شرح Boudry على الوديعة صفحة (684) فقرة (1274) وصفحة (674) فقرة (1253) وما بعدها)، وحيث إنه في هذه الدعوى مما لا شك فيه أنه لا يمكن لأي شخص خلاف الطرفين أو من ينوب عن المدعي من رجال الدين أن يتولى إدارة الكنيسة للغرض الذي ذكره المدعي في عريضة دعواه (إقامة الشعائر الدينية) وإذن فهذه الدعوى على غير أساس ويتعين رفضها - وحيث إنه لا محل بعد ذلك للبحث في باقي ما دفع به المدعى عليهما... إلخ).
استأنفت الدار البطريركية هذا الحكم فقضت محكمة أسيوط الاستئنافية بإلغائه بحكمها المنشور في العدد الأخير من المحاماة، وقررت بأنه لا محل لما أخذ به الحكم المستأنف من أن الحراسة لا يصح أن يؤمر بها إلا فيما يمكن للغير أي غير المتخاصمين إدارته إذ لا معنى لهذا التقييد مع وجود النص الصريح على إطلاقه في المادة (491) من القانون المدني.
ولأن هذا الموضوع من الأبحاث الطريفة أمام القضاء واعتقادًا منا بأن الحكم الاستئنافي لا يتمشى مع المبادئ القانونية المقررة، رأينا أن نعلق عليه بهذا البحث الوجيز إتمامًا للفائدة.
الحراسة القضائية هي وضع عقار أو منقول بين يدي شخص ثالث بقصد المحافظة على حقوق طرفي الخصوم ذوي المصلحة في حفظه (Audry , Rou t. 6p. 145).
فالحراسة إذن تتعلق بحماية الحقوق الخاصة للطرفين المتنازعين، وهذه الحقوق في القضية القائمة بين الدار البطريركية وخصومها تتعلق بملكية الكنيسة، ولا شك أن حق الملكية، وهو وحده محل النزاع في قضية الموضوع، لا شأن له بإقامة الشعائر الدينية في الكنيسة، والحراسة القضائية لا يقصد بها إلا المحافظة على المصالح الخاصة والحقوق العينية دون غيرها

Le sequestre judiciaire est ordonné pour sauvegarder des intérêts privés (Dalloz: Rép. Pratique: Dépôt - Sequestre No. 259).
Le Sequestre judiciaire se rattache á l’organisation et á la protection des droits reéls. (Dalloz: Nouv b, biv ann. Art 1961 No. 4)

ومن البداهة أن (إقامة الشعائر الدينية) وهي مهمة الحارس القضائي الذي تطلب الدار البطريركية تعيينه لا تدخل مطلقًا ضمن المصالح الخاصة (intérêts privés) أو الحقوق العينية (droits réels) التي يعين الحارس القضائي لحمايتها والمحافظة عليها، ولهذا كان طلب الحراسة في هذه القضية متنافرًا مع طبيعة معنى الحراسة القضائية من الوجهة القانونية.
على أن هذا التنافر يظهر جليًا فوق ذلك عند البحث في ركن الخطر وهو أحد الركنين الواجب توفرهما ليكون طلب الحراسة مقبولاً.
من المقرر قانونًا أن الحراسة القضائية لا تكون إلا حيث يكون الخطر مهددًا لحقوق أحد الخصمين المتنازعين (Dalloz. N.C. Civ art 1961 No. 46).
على أن الخطر في هذه القضية لا يتعلق بحق أحد الطرفين المتنازعين وهو حق الملكية على العقار المتنازع عليه، وإنما يتعلق بإقامة الشعائر الدينية، وبعبارة أخرى أن طالب الحراسة لا يشكو من خطر يهدد الحق المتنازع عليه، وهو حق الملكية، أو ما يتعلق به من الحقوق الأخرى، حتى يكون من الجائز تعيين حارس قضائي للمحافظة على العقار المتنازع عليه وصيانته وحفظ غلته حتى ينتهي النزاع في موضوع ملكيته، ولكن طالب الحراسة يشكو من تعطيل الشعائر الدينية في الكنيسة المتنازع على ملكيتها ويطلب أن يكون تعيين الحارس لإقامة هذه الشعائر المعطلة.
وهذا النوع من الخطر لا يعرفه القضاء المدني ولا يصح أن يكون محل نزاع أمامه وليس من شأنه أن ينظر فيه أو أن يتلافاه من طريق الحراسة القضائية، لأنه متعلق بمصلحة أدبية عامة غير مقومة بمال، وطلب الحراسة إنما يقصد به أصلاً حماية المصالح الخاصة والحقوق العينية بوضع العين المتنازع على ملكيتها أو حيازتها تحت يد أمين وذلك متى كان هناك خوف من أن واضع اليد الحالي ليس من القدرة المالية بحيث يستطيع في المستقبل أن يعوض ما يصيب العين من التلف تحت يده أو يرد ما يصل إليه من ثمراتها.
وأحكام المحاكم جميعها بهذا المعنى والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد حكمت المحاكم بجواز تعيين الحارس القضائي إذا كانت حيازة أحد المتخاصمين بمفرده تضر بحقوق الآخر ويخشى من تبديد غلاته وعدم صيانتها (استئناف بني سويف، مجلة الحقوق سنة خامسة صـ 380) أو إذا كان يخشى من تبديد إراداته من أشخاص يتضح للمحكمة عدم اقتدارهم فيما بعد على القيام بدفع تعويض الضرر (محكمة الجيزة: الحقوق سنة سادسة صـ 380) أو إذا كان يخشى على العين من وجودها تحت يد الخصم بالنظر لإعساره في الحال أو ترجيح إعساره في المستقبل (بني سويف: الحقوق سنة سابعة صـ 349).
وقضت محكمة الاستئناف بأنه لو قدم الخصم المطلوب رفع يده بطريق الحراسة تأمينات كافية تضمن الريع المتنازع عليه للخصم الطالب الحراسة لم يكن هناك موجب لتعيين حارس (استئناف: حقوق سنة 25 صـ 273).
فالفكرة السائدة إذن في قضاء المحاكم وآراء علماء القانون ترمي إلى عدم إجازة الحراسة إلا في سبيل المحافظة على الحقوق المتنازع عليها إذا كان هناك خطر من بقاء العين المتنازع عليها تحت يد أحد طرفي الخصوم، أي أن يكون ذلك الخصم من عدم الكفاءة المالية بحيث لا يستطيع خصمه الرجوع عليه فيما بعد بما يستحقه.
ولا شك أن هذه الفكرة التي قامت عليها الحراسة القضائية لا تتمشى مطلقًا مع الغرض الذي تطلب الدار البطريركية تعيين الحارس من أجله.
وهذه الفكرة نفسها هي التي لا تجعل محلاً للحراسة متى كان الشيء المتنازع عليه مما لا يتيسر للغير إدارته، وذلك لأن الحراسة في الأصل تقضي بأن تعهد المحكمة بالعين المتنازع عليها إلى شخص ثالث (tiers) تتوفر فيه الكفاءة والأمانة للحراسة، فإذا كان الغرض المقصود من الحراسة مما لا يتيسر لغير الخصوم القيام به خرجت الحراسة عن معناها، وهو وضع العين تحت يد أمين للمحافظة على حقوق الطرفين فيها.
وإلا فإذا كان من الجائز أن تترتب الحراسة على كل نزاع مهما كانت طبيعته، ودفعًا لكل ضرر من أي نوعٍ كان، كما فهمت محكمة استئناف أسيوط من إطلاق نص المادة (491) مدني، لجاز مثلاً للزوج الذي يطلب في دعوى شرعية ضم أولاده إليه أن يطلب من القضاء تعيين حارس قضائي على الأولاد لتربيتهم حتى ينتهي النزاع الشرعي.
ولقد قضت المحاكم بأنه لا يجوز وضع صيدلية أو مصلحة عامة تحت الحراسة القضائية (baudry السابق الإشارة إليه) وقضت أيضًا بأنه لا يجوز تعيين حارس قضائي على (جريدة) لإصدارها مؤقتًا حتى ينتهي النزاع القائم بشأنها(Dalloz: N.C. Civ, art, 1961 No. 13).
من أجل هذا نعتقد أن الحكم بتعيين حارس قضائي على كنيسة لإقامة الشعائر الدينية فيها لا يتفق من الوجهة القانونية مع المعنى المقصود بالحراسة القضائية.

إسماعيل مجدي
المحامي