الدعوى رقم 217 لسنة 31 ق "دستورية" جلسة 4 / 1 / 2020
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع من يناير سنة 2020م،
الموافق التاسع من جمادى الأولى سنة 1441 هـ.
برئاسة السيد المستشار/ سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار ورجب عبد الحكيم سليم
والدكتور حمدان حسن فهمى والدكتور عبد العزيـز محمـد سالمان والدكتور طارق
عبدالجواد شبل وطارق عبدالعليم أبو العطا نواب
رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس
هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين
السر
أصدرت الحكم الآتى
في الدعوى
المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 217 لسنة 31 قضائية
"دستورية"
المقامة من
رأفت فوزى محمود
ضد
1- رئيس الجمهوريــــة
2- رئيس مجلس الـوزراء
3- وزير العـــــدل
4- وزيـــــر الماليـــــــــة
5- النائب العـــــــــــام
الإجراءات
بتاريخ
الثانى والعشرين من أكتوبر سنة 2009، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب
المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نص المادة(133) من قانون
الضريبة على الدخل الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت
فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير
الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر
الجلسة، وفيها قدم الحاضر عن الدولة مذكرة، طلب في ختامها الحكم أصليًّا بعدم قبول
الدعوى، واحتياطيًّا برفضها، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - حسبما يتبين
من صحيفة الدعوى، وسائر الأوراق - في أن النيابة العامة كانت قد أسندت إلى المدعى
وآخر، في الدعوى رقم 59595 لسنة 2008 جنح قسم المنتزه، أنهما في تاريخ سابق على
عام 2006، بدائرة قسم المنتزه – محافظة الإسكندرية:
1- أخفيا جزءًا من النشاط الخاضع للضريبة بقصد التهرب واستعملا وسائل
احتيالية.
2- قدما الإقرار الضريبى السنوى استنادًا لبيانات مخالفة.
3- امتنعا عن تقديم إخطار بمزاولة النشاط.
وقدمتهما للمحاكمة الجنائية، بطلب عقابهما بالمواد (91/1،
187/ثانيًّا/1) من القانون رقم 157 لسنة 1981 بإصدار قانون الضرائب على الدخل،
المعدل بالقانون رقم 187 لسنة 1993 بإصدار قانون الضريبة الموحدة على الدخل
ولائحته التنفيذية، والمواد (6/3، 32/1، 74/1، والفقرة الأولى والبند (5) من
الفقرة الثانية من المادة 133، والفقرة الأولى من المادة 135) من قانون الضريبة
على الدخل الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005. وبجلسة 8/9/2009، قضت المحكمة
حضوريًّا بتوكيل، بتغريم كل من المتهمين ألفى جنيه، وإلزامهما بأداء الضريبة
المستحقة، وتعويض يعادل مثل الضريبة والمصاريف. ولم يلق هذا القضاء قبولاً لدى
المحكوم عليهما، فطعنا عليه أمام محكمة جنح مستأنف المنتزه بموجب الاستئناف رقم
38584 لسنة 2009، وبجلسة 17/10/2009 طلب الحاضــــر عن المدعى أجلاً لاتخاذ
إجراءات الطعن بعدم دستورية المادة (133) من القانون رقم 91 لسنة 2005 المشار
إليه، فقدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وقررت التأجيل لجلسة 25/10/2009 لتقديم شهادة
بما يفيد الطعن بعدم الدستورية، فأقام المدعى دعواه المعروضة.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة
قضايا الدولة بعدم قبول الدعوى، على سند من أن المدعى قد أقام الدعوى الدستورية
المعروضة دون تصريح واضح من محكمة الموضوع، فذلك مـــــردود بأن المقـــــرر في قضاء
هذه المحكمة أنه ليس لازمًا – في مجال تقدير جدية الدفع المثار أمام محكمة الموضوع
– صدور قرار صريح لمن أثار الدفع بإقامة الدعوى الدستورية، بل يكفيها أن يكون
قرارها في هذا الشأن ضمنيًّا مستفادًا من عيون الأوراق. ومن ثم فإن تعليق محكمة
الموضوع الفصل في الاتهام المسند للمدعى وآخر، على تقديم شهادة بما يفيد الطعن
بعدم الدستورية، بعد أن أبدى المدعى دفعه بعـــدم دستوريـــــة المادة (133) من
القانـــون رقـــم 91 لسنة 2005 أمامهــــــــا، يُعد تصريحًا له بإقامة الدعوى
الدستورية.
وحيث إن قانون الضريبة على الدخل،
الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005، قد وضع التنظيم العام لأحكام هذه الضريبة، وبعد
أن حدد كل ما يتصل بأوضاع فرضها، واستحقاقها، وتحصيلهــــا، نظم في الكتاب السابع
منه أحكام ما يتصل بهذه الضريبة من جرائم وعقوبات، فنص في المادة (133) على أن
"يعاقب كل ممول تهـــــــــــرب من أداء الضريبة بالحبس مدة لا تقل عن ستة
أشهر ولا تجاوز خمس سنوات وبغرامة تعادل مثل الضريبة التى لم يتم أداؤها بموجب هذا
القانون أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ويعتبر الممول متهربًا من أداء
الضريبة باستعمال إحدى الطرق الآتية:
1 - تقديم الإقرار الضريبى الســــنوى
بالاستناد إلى دفاتر أو سجلات أو حسابات أو مستندات مصطنعة مع علمه بذلك، أو
تضمينه بيانات تخالف ما هو ثابت بالدفاتر أو السجلات أو الحسابات أو المستندات
التى أخفاها.
2 - تقديم الإقـــــــــــــــــرار الضريبى السنوى على أساس عدم وجود
دفاتر أو سجلات أو حسابات أو مستندات مع تضمينـــــــــــــه بيانات
تخالــــــــــف ما هو ثابت لديه من دفاتر أو سجلات أو حسابات أو مستندات أخفاها.
3 - الإتلاف العمد للسجلات أو المستندات ذات الصلة بالضريبة قبل
انقضاء الأجل المحدد لتقادم دين الضريبة.
4 - اصطناع أو تغيير فواتير الشراء أو البيع أو غيرها من المستندات
لإيهام المصلحة بقلة الأرباح أو زيادة الخسائر.
5 - إخفاء نشاط أو جزء منه مما يخضع للضريبة.
وفى حالة العود يحكم بالحبس والغرامة
معًا.
وفى جميع الأحوال تعتبر جريمة التهرب
من أداء الضريبة جريمة مخلة بالشرف والأمانة".
وحيث إن مناط المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى
الدستورية – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن
يكون الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها
والمطروحة على محكمة الموضوع. ويتغيا هذا الشرط أن تفصل المحكمة الدستورية العليا
في الخصومة الدستورية من جوانبهـــــــا العملية، وليس من معطياتها النظرية أو
تصوراتها المجردة. وهو كذلك يقيد تدخلهـــــا في تلك الخصومة، ويرسم تخوم ولايتها،
فلا تمتد لغير المطاعن التى يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها على النزاع الموضوعى،
وبالقدر اللازم للفصل فيه. متى كان ذلك، وكان النزاع المثار في الدعوى الموضوعية،
الذى أقيمت الدعوى الدستورية بمناسبته، يدور حول تقديم المدعى للمحاكمة الجنائية،
لاتهامه بارتكاب جريمة إخفاء جزء من النشاط الخاضع للضريبة بقصد التهرب من أداء
الضريبة المقررة قانونًا والمستحقة على أرباحه. وكان الدفع المبدى من المدعى أمام
محكمة الموضوع قد انصب على نص المادة (133) من قانون الضريبة على الدخل الصادر
بالقانون رقم 91 سنة 2005، وهو النص الذى انصرف إليه تقدير محكمة الموضوع لجدية
هذا الدفع، وتصريحها للمدعى برفع الدعوى الدستورية طعنًا عليه، وانحصرت فيه طلباته
الختامية التى ضمنها صحيفة دعواه المعروضة، ومن ثم فإن المصلحة الشخصية المباشرة
في هذه الدعوى تكون متوافرة، بالنسبة للطعن على نص الفقرة الأولى والبند (5) من
الفقرة الثانية من المادة (133) من القانون المشار إليه - قبل استبدالها بالقانون
رقم 11 لسنة 2013 - وهو النص المحدد لنطاق التجريم والعقاب المواجه به المدعى،
الذى ارتكبت الوقائع المنسوبة إليه في ظل العمل به، بحسبان الفصل في دستورية هذا
النص سيكون ذا أثر وانعكاس على المسئولية الجنائية للمدعى، وقضاء محكمة الموضوع في
هذا الشأن، الأمر الذى يتعين معه القضاء بقبول الدعوى بالنسبة لهذا النص في حدود
نطاقه المتقدم، دون أن يمتد إلى ما ورد به من أحكام أخرى.
وحيث إن المحكمة الدستورية العليا سبق
أن حسمت أمر دستورية نص البند (5) من الفقرة الثانية من المادة (133) المطعون فيه،
بحكمها الصادر في الدعوى رقم 50 لسنة 37 قضائية "دستورية" بجلسة
2/3/2019، الذى قضى برفض الدعوى، وقد نُشر هذا الحكم بالجريدة الرسمية بعددها رقم
(10 مكرر ب) بتاريخ 11/3/2019، وكان مقتضى نص المادة (195) من الدستور، ونصى
المادتين (48، 49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة
1979، أن تكون أحكام هذه المحكمة ملزمة للكافة، وجميع سلطات الدولة، وتكون لهــــا
حجيــة مطلقــة بالنسبة لهــم، باعتبارهــا قــولاً فصــلاً في المسألــة المقضــى
فيها، لا يقبل تأويلاً ولا تعقيبًا من أى جهة كانت، وهى حجية تحول بذاتها دون
المجادلة فيه أو إعادة طرحها عليها من جديد لمراجعتها. متى كان ذلك، وإذ سبق وأن
قضت هــــذه المحكمــة في الدعــــوى الدستوريــــــة المشــــار إليها برفض الدعــــوى
المقامــة طعنًا على دستورية نص البند (5) من الفقرة الثانية من المادة (133) من
القانون رقم 91 لسنة 2005 بشأن الضريبة على الدخل، الذى يدخل ضمن نطاق الدعوى
المعروضة، فإن الخصومة الدستورية بالنسبة لهذا النص، وهى عينية بطبيعتها، تكون قد
انحسمت، الأمر الذى يتعين معه القضاء بعدم قبول الدعوى المعروضة في هذا الشق منها.
وحيث إن المدعى ينعى على التقدير
العقابى الوارد بنص الفقرة الأولى من المادة (133) من القانون المشار إليه مخالفته
لأحكام المواد (34، 38، 65) من الدستور الصادر عام 1971، المقابلة لأحكام المواد
(35، 38، 94) من الدستور الحالى، وذلك بتضمنها جزاءات جنائية مفرطة غير متدرجة، لا
تتناسب مع الجرائم المختلفة الواردة بالفقرة الثانية من النص ذاته، وتتنافى مع
ضوابط العدالة الاجتماعية التى يقوم عليها النظام الضريبى في الدولة، وأنها جاءت
منتقصة من العناصر الإيجابية للذمة المالية للممولين الخاضعين لأحكامها، دون أن
تمنح القاضى أية سلطة تقديرية في تحديد الغرامة المناسبة.
وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة
الدستورية العليا أن الرقابة على دستورية القوانين من حيث مطابقتها للقواعد
الموضوعية التى تضمنها الدستور، تخضع للدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة
تستهدف أصلاً صون هذا الدستور، وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون الطبيعة الآمرة
لقواعد الدستور، وعلوها على ما دونها من القواعد القانونية، وضبطها للقيم التى
ينبغى أن تقوم عليها الجماعة، تقتضى إخضاع القواعـــــــــــــــد القانونية
جميعها - وأيًّا كان تاريخ العمل بها – لأحـــــكام الدســـــــتور القائم،
لضــــــمـــــــــــان اتساقها والمفاهيم التى أتى بها، فـــلا تتفرق هذه القواعد
في مضامينها بين نظـــــم مختلفة يناقض بعضها بعضًا، بما يحول دون جريانها وفق
المقاييس الموضوعية ذاتها التى تطلبها الدستور القائم كشرط لمشروعيتها الدستورية.
إذ كان ذلك، وكانت المناعى التى وجهها المدعى إلى النص المطعون فيه تندرج ضمن
المطاعن الموضوعية التى تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعى لقاعدة في الدستور من
حيث محتواها الموضوعى، ومن ثم، فإن المحكمة الدستورية العليا تمارس رقابتها على
دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (133) من القانون رقم 91 لسنة 2005 المشار
إليه، في ضوء أحكام الدستور القائم.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه
المحكمة أن الضريبة بكل صورها، تمثل في جوهرها عبئًا ماليًّا على المكلفين بها،
شأنها في ذلك شأن غيرها من الأعباء المالية التى انتظمها نص المادة (38) من
الدستور، ويتعين بالتالى – وبالنظـــــــر إلى وطأتهـــــــــــــــا وخطورة
تكلفتها – أن يكون العدل من منظور اجتماعى، مهيمنًا عليها بمختلف صورها، محددًا
الشروط الموضوعية لاقتضائها، نائيًا عن التمييز بينها دون مسوغ، فذلك وحده ضمان
خضوعها لشرط الحماية القانونية المتكافئة التى كفلها الدستور للمواطنين جميعًا في شأن
الحقوق عينها، فلا تحكمها إلا مقاييس موحدة لا تتفرق بها ضوابطها، ومن ثم كان
منطقيًا أن يُلزِم الدستور في المادة (38) منه الدولة بالارتقاء بالنظام الضريبى،
وتبنى النظم الحديثة التى تحقق الكفاءة واليسر والإحكام في تحصيل الضرائب، ونص على
أن يحدد القانون طرق وأدوات تحصيل الضرائب والرسوم، وصولاً إلى تحديد المال المحمل
بعبئها والمتخذ وعاءً لها، والملتزمين بها الذين تتوافر بالنسبة لهم الواقعة
المنشئة للضريبة.
وحيث إن الدستور الحالى قد اعتمد
بمقتضى نص المادة (4) منه مبدأ العدل، باعتباره إلى جانب مبدأى المساواة وتكافؤ
الفرص، أساسًا لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية، ومن أجل ذلك حرص الدستور في المادة
(96) منه على جعله ضابطًا للمحاكمة القانونية العادلة والمنصفة، التى يكفل للمتهم
فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، فالعدالة الجنائية في جوهر ملامحها - على ما جرى به
قضاء هذه المحكمة - هى التى يتعين ضمانها من خلال قواعد محددة تحديدًا دقيقًا،
ومنصفًا، يتقرر على ضوئها ما إذا كان المتهم مدانًا أو بريئًا، ويفترض ذلك توازنًا
بين مصلحة الجماعة في استقرار أمنها، ومصلحة المتهم في ألا تفرض عليه عقوبة ليس
لها من صلة بفعــــــــــــــــــــــل أتاه، أو تفتقر هذه الصلة إلى الدليل
عليها، ولا يجوز من ثم أن تنفصل العدالة الجنائية عن مقوماتها التى تكفل لكل متهم
حدًا أدنى من الحقوق التى لا يجوز النزول عنها أو التفريط فيها، ولا أن تخل بضرورة
أن يظل التجريم مرتبطًا بالأغراض النهائية للقوانين العقابية.
وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه
المحكمة أنه يجب أن يقتصر العقاب الجنائى على أوجه السلوك التى تضر بمصلحة
اجتماعية ذات شأن لا يجوز التسامح مع من يعتدى عليها، ذلك أن القانون الجنائي، وإن
اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض،
وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي
أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها، أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن
مقارفتها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد من منظور اجتماعي ما لا يجوز التسامح فيه من
مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفًا للدستور، إلا إذا
كان مجاوزًا حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها،
فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية، انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية.
وحيث إن النطاق الحقيقى لمبدأ شرعية
الجرائم والعقوبات إنما يتحدد على ضوء عدة ضمانات، يأتى على رأسها وجوب صياغة
النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص
شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيدًا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو
يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة
من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها ونزولاً عليها.
وحيث إن الضريبة - على ما جرى عليه
قضاء هذه المحكمة - فريضة مالية تقتضيها الدولة جبرًا من المكلفين
بأدائها إسهامًا من جهتهم في أعبائها وتكاليفها العامة ؛ ومن المقرر أن اتخاذ
العدالة الاجتماعية مضمونًا وإطارًا للنظام الضريبي في البلاد إنما يقتضى بالضرورة
أن يقابل حق الدولة في اقتضاء الضريبة لتنمية مواردها، ولإجراء ما يتصل بها من
آثار عرضية، بحق الملتزمين أصلاً بها، والمسئولين عنها، في تحصيلها منهم، وفق أسس
موضوعية يكون إنصافها نائيًّا لتحيفها، وحيدتها ضمانًا لاعتدالها. متى كان ذلك،
وكان الجزاء الجنائي الذى فرضه المشرع بالنص المطعون فيه، والذى رآه المدعى مغالاً
فيه، إنما تقرر لضرورة تبرره، وهى تنبيه الممولين وحثهم على احترام التزاماتهم
الضريبية، وسدادها في المواعيد المقررة، وعدم تهربهم من أدائها، وهى جريمة أثمتها
المادة (38) من الدستور، وتُعد في العديد من الدول – ومن بينها مصر - من الجرائم
المخلة بالشرف، وذلك تمكينًا للدولة من الاستمرار في أداء الواجـبات والمهام
المعهودة إليها، وتسيير مرافقها العامة بانتظام واضطراد؛ وقد تقرر هذا الجزاء
كوسيلة نهائية وأخيرة لحمل الممول على الوفاء بالتزامه الضريبى، وبعد تجاوز الحدود
التى يجوز التسامح فيها، بما لا يتبقى معه بعد ذلك عذر لعزوف الممول عن سداد
الضريبة في المواعيد المقررة وتهربه من سدادها. وبذلك فإن هذه العقوبة لا تكـون
مقصودة لذاتها، وإنما لتقويم سلوك الأفراد المارق، المنهى عنه جنائيًّا، وفق قواعد
موضوعية يتساوى الجميع أمامها، ومن خلال منظور اقتصادي واجتماعي يكفل تحقيق مصالح
الدولة، ولا يخل بحقوق الأفراد، مما يصبح معه تقرير هذا الجزاء ضروريًا ومفيدًا
ومبررًا، تحقيقًا للغاية من العقوبة، وهى تحقيق الردع العام والخاص، وليس فيه - من
منظور دستوري - مخالفة لمبدأ العدالة الاجتماعية.
وحيث إن
البين من أحكام القانون 91 لسنة 2005 بإصدار قانون الضريبة على الدخل أنه بعد أن
ألغى القانون رقم 157 لسنة 1981 برمته - أعاد ترتيب أوضاع هذه الضريبة إجرائيًّا
وموضوعيًّا، وجاء بنصوص مغايرة للقانون السابق في تحديده للأفعال المجرمة
والعقوبات المقررة لها، نابذًا عقوبة الجناية التي كانت مقررة بمقتضى نص المادة
(178) منه، مستبدلاً بها عقوبة أخف وطأة هي عقوبة الجنحة، وهى الحبس مدة لا تقل عن
ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات، وغرامة تعادل مثل الضريبة التي لم يتم أداؤها،
وأجاز للمحكمة الاكتفاء بالحكم بإحدى هاتين العقوبتين، على ما تقضى به أحكام
الفقرة الأولى من المادة (133) المطعون فيها. بما مؤداه أن القانون الجديد قد أتى
بعقوبات أخف وطأة من سابقه. هذا فضلاً عن أن جرائم التهرب الضريبي، وما توخاه
المشرع من تقرير جزاء لها على النحو المتقدم - منظورًا في ذلك إلى مداه - هو حمل
الممولين على إيفائها مباشرة إلى الخزانة العامة لضمان تحصيلها، والتقليل من تكلفة
جبايتها، فلا يتخلون عن توريدها، وإلا كان ردعهم لازمًا حفاظًا على أموال الدولة.
ومن ثم يكون ذلك الجزاء مبررًا ومفيدًا من وجهة اجتماعية، وهو ما يتفق مع القيم
التى ارتضتها الأمم المتحضرة والتي تؤكد بمضمونها رقى حسها، وتكون علامة على نضجها
عن طريق تطورها.
وحيث إن
الدستور الحالي، إذ نص في المادة (94) منه على خضوع الدولة للقانون، وأن استقلال
القضاء، وحصانته، وحيدته، ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريـــات. كما أكد على
هذه المبـــادئ في المادتين (184، 186) منه. فقد دلَّ على أن الدولة القانونية، هى
التى تتقيد في كافة مظاهر نشاطها، وأيًّا كانت طبيعة سلطاتها، بقواعد قانونية تعلو
عليها وتكون بذاتها ضابطًا لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة. ذلك أن ممارسة
السلطة، لم تعد امتيازًا شخصيًّا لأحد، ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها.
ولأن الدولة القانونية هي التي يتوافر لكل مواطن في كنفها، الضمانة الأولية لحماية
حقوقه وحرياته، ولتنظيم السلطة وممارستها في إطار من المشروعية، وهى ضمانة يدعمها
القضاء من خلال ضمان استقلاله وحصانته، لتصبح القاعدة القانونية محورًا لكل تنظيم،
وحدًّا لكل سلطة، ورادعًا ضد كل عدوان.
وحيث إنه من
المقرر في قضاء هذه المحكمة أن العقوبة التخييرية، أو استبدال عقوبة أخف أو تدبير احترازي،
بعقوبة أصلية أشد – عند توافر عذر قانوني جوازي مخفف للعقوبة – أو إيقاف تنفيذ عقوبتي
الغرامة أو الحبس الذى لا تزيد مدته على سنة، إذا رأت المحكمة من الظروف الشخصية
للمحكوم عليه أو الظروف العينية التي لابست الجريمة، ما يبعث على
الاعتقاد بعدم العودة إلى مخالفة القانون، على ما جرى به نص المادة (55) من قانون
العقوبات، إنما هي أداوت تشريعية يتساند القاضي إليها – بحسب ظروف كل دعوى -
لتطبيق مبدأ تفريد العقوبة، ومن ثم ففي الأحوال التي يمتنع فيها إعمال إحدى هذه
الأدوات، فإن الاختصاص الحصري بتفريد العقوبة المعقود للقاضي، يكون قد استغلق عليه
تمامًا، بما يفتئت على استقلاله، ويسلبه حريته في تقدير العقوبة، ويفقده جوهر
وظيفته القضائية، وينطوي على تدخل محظور في شئون العدالة والقضايا.
وحيث إن
العقوبة المقررة بالنص المطعون فيه، وهى الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز
خمس سنوات، والغرامة التي تعادل مثل الضريبة التي لم يتم أداؤها، أو إحدى هاتين
العقوبتين، قد جاءت في إطار من التدرج والتناسب والمعقولية؛ إذ جاءت عقوبة الحبس
متدرجة بين حدين أدنى وأقصى، لتسمح لقاضى الموضوع بالتدرج في إيقاعها، وفقًا لما
يقدره من خطورة الممول المتهرب، وجسامة ما أتاه من أفعال التهرب. كما أن عقوبة
الغرامة التي تعادل مثل الضريبة، التي لم يتم أداؤها وفقًا لأحكام القانون، فهي من
المعقولية بمكان، بعد أن صارت جاهــرة بعدالتها، إذ حرص المـرع بهذا التقـــرير
لعقوبـــة الغرامـــة، وفـــق ذلك التنظيم، أن يؤمن بها للخزانـة العامة، المبلـغ
الذى كان يتعين على الممول سـداده، لو لم يرتكب فعلاً من أفعال التهرب من الضريبة،
تعويضًا للخزانة العامة عن الضرر الذى أصاب المصلحة الاجتماعية، نتيجة ذلك التهرب.
وفضلاً عن ذلك، فقد أجاز النص المطعون فيه للقاضي، الاختيار بين توقيع عقوبـة
الحبس أو الغرامة. وقد جاء مسلك المشرع في ذلك في إطار السلطة التقديرية المقررة
له، كما استقامت العقوبتان على قواعد تجعلهما ملاءمتين ومبررتين.
وحيث إنه عما
نعى به المدعى من إخلال النص المطعون فيه بالحماية المقررة للملكية الخاصة، إذ
جاءت عقوبة الغرامة منتقصة من العناصر الإيجابية للذمة المالية للممولين الخاضعين
لها، فإنه غير سديد، ذلك أن الإخلال بالحماية المقررة لحق الملكية الخاصة، وفقًا
لنص المادتين (33، 35) من الدستور القائم، لا يتحقق- في الأعم من الأحوال – إلا من
خلال نصوص قانونية تفقد ارتباطها عقلاً بمقدماتها، فلا يكون لها من أساس عــادل،
ولا سند مبرر لتقريرها. ولا كذلك النص المطعون فيه، إذ من بين ما استهدفه المشرع
من رصد عقوبة الغرامة في ذلك النص تحقيق الردع الخاص للمتهرب من أداء الضريبة،
بإيلامه بالانتقاص من ماله بقدر الضريبة التى تهرب من أدائها، حتى لا يعاود ارتكاب
الإثم ذاته، جزاءً وفاقًا لما اقترفته يداه، وهو ما يردع غيره عن مجاراته فيما
اقترفه من إثم، ويوفر في الآن ذاته تعويضًا عادلاً للخزانة العامة للدولة عن الضرر
الذى أصاب المصلحة الاجتماعية نتيجة التهرب، ومن ثـــم فإن رصد عقوبة الغرامة لمن
يقترف هذا الإثم لا يمثل افتئاتًا على الحماية المقررة للملكية الخاصة.
متى كان ما تقدم، فإن النص المطعون فيه، لا يكون قد خالف أحكام المواد (35، 38،
94) من دستور سنة 2014، كما لا يخالف أى أحكام أخرى من هذا الدستور، مما يتعين معه
القضاء برفض هذه الدعوى.
وحيث إن
محكمة جنح مستأنف المنتزه، ولئن استمرت في نظر الدعوى الموضوعية، وقضت فيها بتأييد
الحكم المطعون فيه، وكان يتعين عليها – بعد تقديرها جدية الدفع بعدم الدستورية
وتصريحها للمدعى بإقامة الدعوى الدستورية المعروضة – أن تتربص قضاء هذه المحكمة في
المسألة الدستورية، ألا أن حكمها في الدعوى الموضوعية لا يناقض في أثره ما انتهى
إليه الحكم في الدعوى الدستورية برفضها.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة
برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعى بالمصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل
أتعاب المحاماة.