الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 مارس 2022

بحث عن مشروع تنقيح القانون المدني الدكتور عبد الرازق أحمد السنهوري

 مجلة المحاماة – العددان الرابع والخامس

السنة الثانية والعشرون – ديسمبر سنة 1941، يناير سنة 1942

محاضرة
الدكتور عبد الرازق أحمد السنهوري بك التي ألقاها بالجمعية الجغرافية الملكية في 24 إبريل سنة 1942 عن مشروع تنقيح القانون المدني

تمهيد:
بعد أن تم مشروع تنقيح القانون المدني، وعرض على رجال القانون لاستفتائهم فيه، بدا لي أنه قد يكون من الخير أن ألقي محاضرة افتتح بها هذا الاستفتاء، فانظر نظرة عامة في المشروع واستعرض المصادر التي استمد منها، وما استحدث من التعديل في القانون المدني القائم، وقد تفضل معالي وزير العدل فدعا حضراتكم لسماعها، ولا شك في أنكم لا تنتظرون في الفترة القصيرة التي حددت لهذه المحاضرة إلا أن تسمعوا استعراضًا عاجلاً، يمس المسائل مسًا سريعًا، ويقتصر على الإشارة إليها في غير دراسة مستفيضة، ولكنه استعراض قد يكون فيه تعريف أولي بالمشروع، تمهيدًا لدراسته فيما بعد.
ويجوز أن نتساءل حتى بعد أن تم مشروع تنقيح القانون المدني، هل كانت هناك حاجة ملحة إلى هذا التنقيح، وهل كان من الضروري أن يكون تنقيحًا شاملاً من شأنه أن يغير من معالم التقنين القائم، وإني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بأن تنقيح التقنين المدني المصري تنقيحًا شاملاً ضرورة تفرضها الظروف التي وضع فيها هذا التقنين، ويقتضيها تقدم التقنينات الحديثة، وما كنت في حاجة لأن أزيد على ذلك لولا اعتراضان سمعتهما من ناحيتين مختلفتين، يقول أصحاب الاعتراض الأول أن التقنين المدني المصري ليس في حاجة إلى تنقيح شامل، ويكفي أن يكمل ببعض النصوص حتى يصبح صالحًا صلاحية تامة للتطبيق في عصرنا الحاضر، ويعترف أصحاب الاعتراض الثاني بحاجة التقنين المدني إلى تنقيح شامل، ولكنهم يخشون أن تكون أحداث الحرب الحاضرة من شأنها أن تغير معالم الحضارة الإنسانية بما لا تحسه في الوقت الحاضر، فإذا تكشفت الأمور بعد ذلك، تبين أن مشروع التنقيح هو نفسه في حاجة إلى التنقيح.
أما الاعتراض الأول فيكفي في الرد عليه أن نستعرض استعراضًا سريعًا عيوب تقنيننا المدني الحالي، وقد لخصتها في مقال نشر بمناسبة العيد الخمسيني للمحاكم الأهلية في العبارات الآتية: (يمكن القول إن تقنينا المدني فيه نقص ثم فيه فضول، وهو غامض حيث يجب البيان، مقتضب حيث تجب الإفاضة، ثم هو يسترسل في التافه من الأمر، فيعني به عناية لا تتفق مع أهميته المحدودة، يقلد التقنين الفرنسي تقليدًا أعمى، فينقل كثيرًا من عيوبه وهو بعد متناقض في نواحٍ مختلفة، ويضم إلى هذا التناقض أخطاء معيبة .... أما النقص فيرجع معظمه إلى قصور تقنيننا عن مجاراة التقدم العظيم الذي قطع مراحله علم القانوني في العصر الحاضر، فهو منقول عن التقنين الفرنسي، والتقنين الفرنسي وضع في أول القرن التاسع عشر، فلا يزال أمام تقنيننا حتى يصبح متمشيًا مع عصره أن يقطع هذه المرحلة الطويلة التي قطعها علم القانون في قرن وثلث قرن، وهذه أجيال طويلة ارتقى فيها القانون ارتقاءً لم يكن أحد يتوقعه.... وهناك مسائل كثيرة نحن في حاجة إلى أن نأخذها لا من التقنين الفرنسي العتيق، بل من التقنينات الحديثة، حيث نشهد أحدث النظريات القانونية مطبقة تطبيقًا تشريعيًا محكمًا... فهناك نظريات عامة قد استقرت في القانون، وأصبحت تراثًا لجميع الأمم، لا نجد لها أثرًا عندنا أو نجد أثرها ناقصًا مقتضبًا، فنظرية سوء استعمال الحق، ونظرية عامة للغبن تتناول كل نواحي القانون، وقانون للجمعيات والمنشآت والأشخاص المعنوية بوجه عام، وتشريع للعمل... ونظام لعقد التأمين ولعقود الاحتكار والمنافع العامة، ونظرية للنيابة في التعاقد، وتنظيم الملكية على الشيوع، والاعتراف بحوالة الدين أسوة بحوالة الحق، وإقرار الإرادة المنفردة مصدرًا للالتزام، والاعتراف بالعقود المجردة وبعقود الإذعان.......... كل هذه نظريات لاحظ لتقنيننا منها، وهي لازمة لا يجوز إغفالها في تشريع حديث..... هذا إلى أن تقنيننا في موضوع من أهم موضوعات القانون هو موضوع العقد، وفي مسألة من أدق مسائل هذا الموضوع هي مسألة تكوين العقد، نراه صامتًا مدهشًا لا يفسره إلا تقليد أعمى للتقنين الفرنسي، وترسم دقيق من مشرعنا لخطي المشرع الفرنسي، حتى في المزالق التي وقع فيها)، هذا ما ذكرناه في المقال المشار إليه، ومنه يتبين بوضوح كيف أن تقنيننا المدني هو في أشد الحاجة إلى تنقيح شامل جامع).
بقى الرد على الاعتراض الآخر، وهو يرمي إلى تأخير التنقيح حتى نتبين أثر الحرب الحاضرة في تطور مدنية البشر، ولست أشاطر أصحاب هذا الاعتراض تخوفهم من هذه الناحية، فإن الحرب مهما عظم أثرها لا تغير تغييرًا جوهريًا في المبادئ الفنية للقانون المدني، قد تغير الحرب من نظم الحكم ومن النظم الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها لا تغير من أصول الصياغة القانونية.
وإذا كان القانون، كما يقول جني Gény الفقيه الفرنسي المعروف، علمًا وصياغة، وكانت الصياغة هي العنصر الأساسي الذي يكسب القانون ذاتيته، فلنا أن نطمئن إلى استقرار النظم القانونية، ويكفي أن نذكر أن العالم في تاريخه الحديث قد شهد ثورتين من أشد الثورات عنفًا وأبعدها أثرًا، الثورة الأولى هي الثورة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر، وقد قلبت نظم الحكم رأسًا على عقب، ومع ذلك فإن التقنين الفرنسي الذي أعقب هذه الثورة لم يكن إلا رجوعًا إلى قانون الماضي، قانون ما قبل الثورة، وبقي هذا التقنين طوال القرن التاسع عشر، ولا يزال باقيًا إلي اليوم، لم يستقر الرأي بعد على تنقيحه، والثورة الأخرى هي الثورة الروسية، شبت في القرن العشرين ولم تكن أقل تأثيرًا في النظم العالمية من الثورة الفرنسية، ومع ذلك نرى التقنين المدني السوفييتي محتفظًا بالصياغة المدنية المعروفة، وهو من التقنينات التي استمد منها المشروع الحالي.
وهناك التقنين الألماني، وهو آية من آيات الفن والعلم، والتقنين السويسري وهو مثل عالٍ من مثل التشريع الديمقراطي، قد كانا سابقين للحرب الكبرى التي نشبت في أوائل هذا القرن، وبقيا بعد هذه الحرب دون تغيير، وهما الآن يشهدان الحرب الحاضرة، وسيبقيان بعدها كلاهما، دون أن يلحقهما تغيير جوهري، وكل ما يمكن أن يحسب حسابه في هذا الصدد هو ما سيعقب الحرب الحاضرة من تغلب النزعة الاشتراكية في النظم الاقتصادية والاجتماعية، وسترون أن المشروع في هذه النزعة يماشي عصره، غير مقصر ولا متخلف.
فتنقيح تقنيننا المدني تنقيحًا شاملاً جامعًا هو إذن ضرورة تنبه لها المسؤولون من رجال القانون في مصر منذ زمن طويل، ودخلت في دور عملي حاسم منذ سنة 1936، إذ تألفت أول لجنة لهذا التنقيح في أول مارس من تلك السنة، وحدد لها عامان للفراغ من عملها مع التفرغ له، وكان رئيس اللجنة هو حضرة صاحب السعادة مراد سيد أحمد باشا وبلغ عدد أعضائها سبعة غير الرئيس، ولم تلبث هذه اللجنة أن حلت بقرار من مجلس الوزراء، بعد أن أنجزت في ثلاث أشهر بعض النصوص التمهيدية المتعلقة بمصادر القانون وبتنازع القوانين، استبقى منها المشروع نصوصًا أربعة هي المواد الأولى فيه وتألفت اللجنة الثانية في نوفمبر سنة 1936 برئاسة معالي كامل صدقي بك، وعدد أعضائها تسعة غير الرئيس، وبقيت إلى شهر مايو سنة 1938 وقد أنجزت النصوص الخاصة بالكفالة وبالشفعة فاستبقى المشروع هذه النصوص كما هي مع تعديل بسيط في ترتيبها.
وتألفت اللجنة الثالثة وهي اللجنة الحالية في أواخر عام 1938 من عضوين اثنين، وقد رأى وزير العدل إذ ذاك، حضرة صاحب المعالي أحمد خشبة باشا، وهو الذي قام بتأليف هذه اللجنة أن خير سبيل لإنجاز العمل هو ألا يكلف به أكثر من عضوين يتفرغان له تفرغًا تامًا، وإلى هذه الفكرة الحكيمة يرجع الفضل في إتمام هذا المشروع.
وأحب أن أقرر منذ الآن أن المشروع لم يحقق الوحدة المرجوة للتقنين المدني، فلا يزال هذا التقنين موزعًا شطرين، شطر الأحوال الشخصية وقد أعد له مشروع تقنين خاص، وشطر الأحوال العينية وقد أعد له هذا المشروع، ويلاحظ من جهة أخرى أن المشروع قد أغفل موضوعين أولهما هو موضوع الملكية الأدبية والفنية والصناعية، إذ أن هناك مشروعًا خاصًا بهذه المسألة لا يزال تحت البحث، والثاني هو موضوع السجل العقاري، إذ الأمر فيه يتوقف على إنجاز مصلحة المساحة للأعمال التمهيدية التي يجب أن تسبق إصدار التشريع الخاص بهذا الموضوع، وقد اقتصر المشروع على إدماج قانون التسجيل الصادر في سنة 1927 مع تعديل طفيف في بعض نصوصه.
ويسرني أن أقرر، قبل أن أفرغ من هذا التمهيد، أن حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا قد تفضل فعني عناية خاصة بدراسة هذا المشروع وأفضى إليّ بملاحظاته على الجزء الأكبر منه، فسجلت هذه الملاحظات وسيكون لها أكبر نصيب من الاعتبار.
والآن نبدأ ببحث المشروع، فنستعرض المصادر التي استند إليها، ثم نلقي عليه نظرة سريعة لنتبين كيف رتبت أحكامه، وما وجوه التنقيح التي حققها، وما هي اتجاهاته العامة.

1 - المصادر التي استند إليها المشروع

أما عن المصادر التي استند إليها المشروع، فلم يكن هناك مجال للتردد، إذ ينبغي أن يرجع في تنقيح التقنين المدني المصري إلى مصادر ثلاثة: إلى القانون المقارن، وإلى القضاء المصري وإلى الشريعة الإسلامية.
فالقانون المقارن يمثل التقدم الحديث لعلم القانون والتشريع، وتتراءى في ثناياه أحدث التطورات القانونية، وأهم ما ينبغي أن يقف عنده المقنن إذا أراد أن يكون تقنينه مرآة صادقة للقانون في عصره، وأن يستجمع في هذا التقنين مزايا كل التقنينات التي سبقته، فيجب إذن أن يكون القانون المقارن هو المصدر الأول بين المصادر التي يستمد منها التنقيح، وينبغي أن نقف من القانون المقارن عند التشريع المقارن، فإننا في صدد عمل تشريعي، وتستخلص حالة التشريع المقارن من حركة التقنينات العالمية التي أعقبت التقنين الفرنسي، مقاربة له تارة، ومجافية له تارة أخرى. وهي حركة بقيت في نشاط طوال القرن التاسع عشر، واستمرت في نشاطها منذ فجر القرن العشرين إلى يومنا هذا، فقد ظهر التقنين النمساوي في سنة 1812 عقب التقنين الفرنسي ثم ظهرت سلسلة طويلة من التقنينات اللاتينية خلال القرن التاسع عشر، نسجت جميعها على منوال التقنين الفرنسي، من ذلك التقنين الإيطالي، والتقنين الإسباني، والتقنين البرتغالي، والتقنين الهولندي، وتقنينات دول أمريكا الجنوبية، وتقنين كندا الجنوبية، واستمرت حركة التقنين اللاتيني في القرن العشرين، في شيء من الجد والتطور، فظهر التقنين التونسي، والتقنين المراكشي والتقنين اللبناني، وظهر فيما بين ذلك المشروع الفرنسي الإيطالي في الالتزامات والعقود، وهو خلاصة التقنينات اللاتينية، جددت فيه حتى صارت تماشي روح العصر، وبدأ وضع المشروع الفرنسي الإيطالي في سنة 1918 إذ قام الأستاذ شيالويا، الفقيه الإيطالي المعروف، ينادي بتوحيد التقنينين الفرنسي والإيطالي، حتى ترتبط الأمتان اللاتينيتان الشقيقتان برباط من وحدة القانون وثيق، وحتى يكون ذلك نواة لتوحيد التقنين في كثير من بلاد العالم، فلقي من الأساتذة الفرنسيين، لاسيما الأستاذ لارنود ترحيبًا بدعوته، وألفت لجنتان، إحداهما فرنسية والأخرى إيطالية، أتمتا التقنين في مدى عشر سنوات.
وقدمتاه لحكومتيهما في سنة 1928، ولم تتخذه فرنسا حتى اليوم تقنينًا رسميًا لها، أما إيطاليا فقد أدمجته في تقنينها المدني الجامع الذي صدر أخيرًا، والمطلع على المشروع الفرنسي الإيطالي لا يسعه إلا أن يعجب بالجهود الكبيرة التي قام بها واضعوه، فقد أكسب هذا المشروع التقنينات اللاتينية العتيقة جدة لم تكن لها، ونفخ فيها روح العصر الذي نعيش فيه، وجمع بين البساطة والوضوح، مع شيء كثير من الدقة والتحديد، على أن المشروع يكاد يكون محافظًا إذا قيس إلي التقنينات العالمية الأخرى، فقد احتفظ بالروح اللاتينية إلى حد جعله يضحى في بعض النواحي التمشي مع روح التقدم الحديثة.
إزاء هذه التقنينات اللاتينية يجب أن توضع التقنينات الجرمانية، وأهمها ثلاثة: التقنين الألماني والتقنين النمساوي والتقنين السويسري.
أما التقنين الألماني فيعد أضخم تقنين صدر في العصر الحديث، وهو خلاصة النظريات العلمية الألمانية مدى قرن كامل، تم تحضير مشروعه الأول في سنة 1887، ونشر هذا المشروع رسميًا للاستفتاء، ثم عرض على الهيئة التشريعية، واتفقت الحكومة مع الأحزاب السياسية على أن تقتصر الأحزاب على النظر في المسائل السياسية والاجتماعية والدينية، تاركة مسائل الصياغة القانونية كما هي دون تعديل، حتى لا يختل تناسقها، فكان ذلك سببًا في السهولة والسرعة اللتين اقترنتا بالموافقة على المشروع، فأصدر في سنة 1896 على أن يعمل به من أول يناير سنة 1900، والتقنين الألماني يبزّ من الناحية الفقهية أي تقنين آخر، فقد اتبع طريقة تعد من أدق الطرق العلمية، وأقربها إلى المنطق القانوني، ولكن هذا كان عائقًا له عن الانتشار، فإن تعقيده الفني ودقته العلمية أقصياه بعض الشيء عن منحي الحياة العملية، وجعلاه مغلق التركيب عسر الفهم.
والتقنين النمساوي يرجع عهده كما قدمنا إلى أوائل القرن التاسع عشر، فقد ظهر في سنة 1812 عقب التقنين الفرنسي، ولكنه لم يتح له من النجاح ما أتيح لهذا التقنين، لذلك بقي محدود الانتشار في أوربا حتى غمره التقنين الألماني، وقد قام النمساويون بتنقيح تقنينهم في أول سني الحرب الماضية، وظهر التنقيح في سنة 1916 فأعاد لهذا التقنين العتيق شيئًا من الجدة المسايرة لروح العصر، ولكنه لم يكن تنقيحًا شاملاً، بل استبقى التقنين القديم بعد إدخال بعض تعديلات جزئية تناثرت متفرقة بين نصوصه المختلفة، فلم يكن للتنقيح أثر كبير في انتشاره.
بقي من التقنينات الجرمانية التقنين السويسري: وهو تقنينان لا تقنين واحد، إحداهما في الالتزامات والعقود، والآخر فيما بقى بعد ذلك من أقسام القانون المدني، والسبب في هذا الازدواج اعتبارات دستورية يضيق المقام عن ذكرها، وقد وضع مشروع التقنين الخاص بالالتزامات والعقود ويشمل التقنين التجاري أستاذ واحد هو الأستاذ فيك Fick ونشر للاستفتاء ثم عرض على الهيئة التشريعية فوافقت عليه جملة واحدة في سنة 1881 بدون أن تناقش تفصيلاته، حتى لا تخل بتناسق التقنين.
وقد أعيد النظر فيه ونقح في سنة 1911، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتقنين الآخر، وضع مشروعه أستاذ واحد هو الأستاذ هيبر Huber، وعرض على الهيئة التشريعية، فأقرته منفصلاً عن تقنين الالتزامات، وتقرر أن يعمل به وبتقنين الالتزامات المنقح من أول يناير سنة 1912، وكان المنتظر أن يكون التقنين السويسري، وهو من صنع الأستاذة، عملاً فقهيًا، فإذا به ذو صبغة عملية بارزة، أما التقنين الألماني، وقد اشترك في تحضيره رجال عمليون، فصبغته الفقهية واضحة مشهورة. ويمتاز التقنين السويسري بالوضوح والبساطة، فيتغاير بهذا مع التقنين الألماني المعقد المغلق وهو يجمع إلى الوضوح والبساطة الدقة والتعمق، ثم يضم إلى ذلك الجدة والتمشي مع أحدث النظريات العلمية ففيه تجتمع مزايا التقنين الألماني من حيث القيمة الفنية، ومزايا التقنين الفرنسي من حيث السلاسة والوضوح، على أن هذا الوضوح خداع في بعض الأحيان، فإن كثيرًا من النصوص في التقنين السويسري يبدو لأول وهلة سهل الفهم قريب المأخذ، فإذا ما محص النص وأنعم النظر فيه، بدا الإبهام والنقص وظهرت الحاجة إلى الدقة والتحديد، وتبين أن الوضوح في صياغة النصوص التشريعية قد ينقلب غموضًا عند تطبيق هذه النصوص (1).
إلى جانب التقنينات اللاتينية والتقنينات الجرمانية ظهر في خلال القرن العشرين طائفة من التقنينات المتخيرة، لا تنحاز إلى إحدى المدرستين انحيازًا مطلقًا، بل تتخير، فتأخذ من كل مدرسة بالذي هو أحسن، وعلى رأس هذه التقنينات التقنين البولوني في الالتزامات والعقود، وقد جمع هذا التقنين بين مزايا التقنينات اللاتينية في الوضوح والسلاسة ومزايا التقنينات الجرمانية في الدقة والتعمق، ويمكن أن يذكر مع التقنين البولوني من التقنينات المتخيرة التقنين الياباني وقد صدر في سنة 1896، والتقنين البرازيلي وقد صدر في سنة 1916 وتقنين السوفييت وقد صدر في سنة 1922، والتقنين الصيني وقد صدر في سنتي 1929 و 1930.
من كل هذه التقنينات المختلفة النزعة المتباينة المناحي، ويبلغ عددها نحو عشرين تقنينًا، استمد المشروع المعروض اليوم للاستفتاء ما اشتمل عليه من النصوص، ولم يوضع نص إلا بعد أن فحصت النصوص المقابلة له في كل هذه التقنينات المختلفة، ودقق النظر فيها، واختير منها أكثرها صلاحية، حتى ليجوز القول بأن المشروع يمثل من ناحية حركة التقنين العالمية نموذجًا دوليًا يصح أن يكون نواة لتوحيد كثير من التقنينات المدنية، ومن أجل هذا لم يغير المشروع في النصوص التي اختارها من التقنيات المختلفة إلا في أضيق ما يكون من الحدود، بحيث يبدو أن التغيير ضرورة لازمة، أو حيث يكون مصدر النص أكثر من تقنين واحد، وفيما عدا ذلك حافظ المشروع على حرفية النصوص التي اختارها، حتى يحتفظ بقيمته النموذجية، فلا يصبح مجرد تقنين جديد يضاف إلى التقنينات الكثيرة التي تظهر من وقت لآخر، هذا إلى أن النص الذي يختار من تقنين معمول به، إذا حوفظ على حرفيته، تكون له مزية على النص الذي يوضع وضعًا، إذ يكون للنص المختار قيمة تشريعية ليست للنص الموضوع، وهو بعد نص قد طبقته المحاكم، ومحصته التجارب، واستقر في مضطرب الحياة المدنية.
وتجدون في المذكرة الإيضاحية التي سترسل إليكم تباعًا بمجرد الفراغ من طبعها، تحت كل نص من نصوص المشروع النص الذي يراد تنقيحه في التقنين المدني المصري الحالي، إن كان هناك نص موجود ثم كل النصوص المقابلة لنص المشروع في جميع التقنينات التي أسلفنا ذكرها من لاتينية وجرمانية ومتخيرة بما في ذلك النصوص التي أخذ منها نص المشروع مكتوبة بحروف بارزة، وهذا وحده يعين على الإفتاء إلى حد بعيد؟ إذ يسهل على الباحث أن يتبين، من مقارنة هذه النصوص بعضها ببعض، قدر صلاحية النص الذي اختاره المشروع، ثم يعقب ذكر
النصوص المقابلة إشارة إلي بعض أحكام القضاء المصري في المسألة التي يتناولها النص، وإشارة أخرى إلى ما يقابل النص في نصوص الشريعة الإسلامية مستمدة في الأكثر من مرشد الحيران ومجلة الأحكام العدلية، وقد قدمنا أن القضاء المصري والشريعة الإسلامية هما المصدران الآخران اللذان استند إليهما المشروع ! وقد آن أن نقول كلمة في كل منهما.
أما القضاء المصري فقد استغل إلى حد كبير فيما تم من عمل التنقيح، لأنه لا يكفي أن يكون المشروع نموذجًا دوليًا بل يجب أيضًا أن يكون متفقًا مع حاجات البلد والقضاء هو خير معبر عن هذه الحاجات وقد كانت مهمة قضائنا بنوع خاص شاقة عسيرة، إذ كان مطلوبًا منه أن يمصر قانونًا أجنبيًا دخل في البلاد بين يوم وليلة، فقام بعمله في كثير من اللباقة والمهارة، لذلك كان في الاستطاعة أن نستخلص منه كثيرًا من الدروس النافعة، ويكفي أن نذكر هنا على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر بعض الأحكام التي استمدها المشروع من القضاء المصري واقتصر فيها على تقنين هذا القضاء وتسجيله.
فهناك موضوعات كاملة أخذت فيها أحكام القضاء من ذلك الملكية الشائعة ولا يكاد يوجد في تقنيننا الحالي نص تشريعي في هذا النوع من الملكية على أهميته وانتشاره في مصر وقد تكفل القضاء المصري بتفصيل أحكامه وقنن المشروع المبادئ التي قررها القضاء في هذا الشأن ومن ذلك قسمة المهايأة تولي القضاء بيان أحكامها وعن القضاء أخذ المشروع هذه الأحكام ودعمها بنصوص استوحاها من عادات البيئة المصرية ومن ذلك الحراسة والحكر وحقوق الارتفاق، والتزامات الجوار تولاها القضاء جميعًا بالتنظيم المفصل وقنن المشروع ما قرره القضاء بشأنها من أحكام ومبادئ.
وإلي جانب تقنين المشروع للقضاء المصري في موضوعات كاملة قنن أيضًا هذا القضاء في كثير من المسائل التفصيلية الهامة ويضيق المقام عن إيراد ما كان يصح إيراده من الأمثلة المتنوعة في هذا الصدد فنجتزئ بالإشارة إلى قليل من هذه المسائل.
قنن المشروع القضاء المصري في التعاقد بالمراسلة، وفي الحالات التي يعتبر فيها سكوت المتعاقد قبولاً، وفي تحديد الأجل إذا اشترط أن يكون الدفع عند المقدرة أو عند الميسرة، وفي جواز تخفيض الشرط الجزائي، وفي عدم جواز تخفيض أجر الوكيل إذا دفع هذا الأجر طوعًا بعد تنفيذ الوكالة، وفي ضمان العيوب الخفية في الإيجار، وفي جعل الريع المستحق في ذمة الحائز سيء النية والديون الثابتة في ذمة ناظر الوقف للمستحقين تتقادم بخمس عشرة سنة لا بخمس سنوات، وفي الهبات والوصايا التي تصدر من المورث لورثته مخفية تحت ستار البيع، وفي بدء سريان التقادم في دعوى ضمان الاستحقاق، وفي اعتبار رهن الحيازة في يد الدائن قاطعًا للتقادم، وفي رجوع حائز العقار المرهون إذا وفى كل الدين على الحائزين الآخرين، وفي انتقال حق الشفعة بالميراث، وفي غير ذلك من المسائل الكثيرة التي ترونها متناثرة في جميع نواحي المشروع.
بقيت الشريعة الإسلامية كمصدر من المصادر التي استند إليها المشروع، وللشريعة الغراء حديث طويل قد تتاح له فرصة أخرى أطول من هذه، ولكني لا أتردد في كل فرصة أن أكرر أن الشريعة الإسلامية تعد في نظر المنصفين من أرقى النظم القانونية في العالم، وهي تصلح أن تكون دعامة من دعائم القانون المقارن.. ولا نعرف في التاريخ نظامًا قانونيًا قام على دعائم ثابتة من المنطق القانوني الدقيق، يضاهي منطق القانون الروماني إلا الشريعة الإسلامية، ومهما تكن حاجة هذه الشريعة إلى حركة علمية قوية تعيد لها جدتها وتنفض ما تراكم عليها من غبار الركود الفكري الذي ساد الشرق منذ أمد طويل، وتكسر عنها أغلال التقليد الذي تقيد به المتأخرون من الفقهاء، فإنها حتى في حالتها الراهنة تصلح أن تكون مصدرًا خصبًا يستمد منه التقنين المصري كثيرًا من الأحكام، وقد استمد المشروع فعلاً من الشريعة الإسلامية كثيرًا من نظرياتها العامة وكثيرًا من أحكامها التفصيلية.
ونبدأ قبل هذا وذاك أن نسترعي النظر إلى ما أدخله المشروع بشأن الشريعة الإسلامية من تجديد خطير، فقد جعلها من بين المصادر الرسمية للقانون المصري، إذ ذكر في أول مادة منه أن القاضي إذا لم يجد نصًا تشريعيًا فإنه يستلهم مبادئ الشريعة الإسلامية، والفروض التي لا يعثر فيها القاضي على نص في التشريع ليست قليلة فسيرجع القضاء إذن للشريعة الإسلامية يستلهم مبادئها في كثير من الأقضية وفي هذا فتح عظيم للشريعة الغراء، لاسيما إذا لوحظ أن ما ورد في المشروع من نصوص هو أيضًا يمكن تخريجه على أحكام الشريعة الإسلامية دون كبير مشقة، فسواء وجد النص أو لم يوجد، فإن القاضي في أحكامه بين اثنتين، إما أنه يطبق أحكامًا لا تتناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وإما أنه يطبق أحكام الشريعة ذاتها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، وأخذ المشروع كما قدمنا من طريق مباشر بنظريات عامة في الشريعة الإسلامية وبأحكام تفصيلية.
وأهم ما اقتبسه من النظريات العامة هو هذه النزعة المادية أو الموضوعية التي تميز الفقه الإسلامي، كما أخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق، وبمسؤولية عديم التمييز وبحوالة الدين، وبمبدأ الحوادث غير المتوقعة.
ونقول كلمة موجزة عن كل من هذه المسائل.
أما عن النزعة المادية، فإنه يمكن تقسيم الشرائع إلى قوانين تتغلب فيها النزعة النفسية أو الشخصية Tondance subjective وهذه هي الشرائع اللاتينية بوجه عام، وأخرى تتغلب فيها النزعة المادية أو الموضوعية Tondance objective وهذه هي الشرائع الجرمانية، ويختلف هذان النوعان من الشرائع، أحدهما عن الآخر في نظرته إلى النظم القانونية، فالشرائع ذات النزعة النفسية تغلب في الالتزام عنصره الشخصي دون موضوعه المادي وتنظر في العقد إلى الإرادة الباطنة النفسية دون الإرادة الظاهرة المادية وتضع معايير نفسية تعتبر فيها النية المستترة لا معايير مادية يعتبر فيها العرف وما ألفته الناس في التعامل، وتجري الشرائع ذات النزعة المادية على العكس من ذلك، فتغلب في الالتزام موضوعه المادي وتنظر في العقد إلى الإرادة الظاهرة وتضع معايير مادية تقف فيها عند العرف المألوف، والنزعة المادية في القانون دليل على تقدمه إذ يكشف بهذه النزعة عن شدة حرصه على ثبات المعاملات واستقرارها، فإذا أردنا تحديد نزعة للشريعة الإسلامية فهذه النزعة لا شك مادية، وإذا كانت العبرة في هذه الشريعة بالمعاني دون الألفاظ إلا أن المعاني التي تقف عندها هي التي تستخلص من الألفاظ لا من النيات المستكنة في الضمير، فالعبرة فيها بالإرادة الظاهرة لا بالإرادة الباطنة، ومن هنا تدقق الفقهاء في كثير من المواطن في تحديد معاني الألفاظ ويرتبون على اختلافها اختلافًا في الحكم، وهم ليسوا متنطعين يضحون المعنى للفظ كما قد يتوهم البعض بل هم يقفون عند الإرادة الظاهرة التي يكشف عنها اللفظ المستعمل حفظًا لثبات التعامل واستقراره، كذلك نجد معايير الشريعة الإسلامية معايير مادية، تنزل عن المألوف في التعامل والمتعارف بين الناس. والمشروع يقتفي أثر الشريعة الإسلامية في كل ذلك فيتميز بنزعة مادية واضحة، نرى هذا في كثير من المعايير التي يأخذ بها وفي نظرته للالتزام حيث يراه عنصرًا ماليًا أكثر منه رابطة شخصية وفي نظرته للعقد حيث يأخذ في كثير من الفروض بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة.
وقد أخذ المشروع أيضًا عن الشريعة الإسلامية نظرية التعسف في استعمال الحق، وهي نظرية تقررها الشريعة في أوسع مدى، ولا تقتصر فيها على المعيار النفسي الذي اقتصرت عليه أكثر القوانين، بل تضم إليه معيارًا ماديًا إذ تقيد كل حق بالأغراض الاجتماعية والاقتصادية التي قرر من أجلها، وقد أخذ المشروع بهذه الأحكام، فقرر المبدأ بمعياريه النفسي والمادي، وأورد له تطبيقات كثيرة، اقتبسها هي أيضًا من الشريعة الإسلامية، ومسؤولية عديم التمييز تأخذ بها التقنينات الجرمانية دون التقنينات اللاتينية، فأخذ المشروع بما ذهبت إليه التقنينات الجرمانية لأنها هي التي تتفق مع الشريعة الإسلامية، وكذلك الأمر في حوالة الدين، تغفلها التقنينات اللاتينية وتنظمها التقنينات الجرمانية متفقة في ذلك مع الشريعة الإسلامية، وقد أخذ المشروع بها اتباعًا للشريعة، ومبدأ الحوادث غير المتوقعة Principe de l'imprévision أخذ به القضاء الإداري في فرنسا دون القضاء المدني، فرجح المشروع الأخذ به استنادًا إلي نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية.
وهناك أحكام تفصيلية كثيرة اقتبسها المشروع من الفقه الإسلامي، نكتفي هنا بمجرد الإشارة إلى بعضها، من ذلك الأحكام الخاصة بمجلس العقد، وإيجار الوقف، والحكر، وإيجار الأراضي الزراعية، وهلاك الزرع في العين المؤجرة، وانقضاء الإيجار بموت المستأجر، وفسخه بالعذر، ووقوع الإبراء من الدين بإرادة منفردة، وندع جانبًا المسائل التي سبق أن اقتبسها التقنين الحالي من الشريعة الإسلامية وجاراه المشروع في ذلك، كبيع المريض مرض الموت، والغبن، وخيار الرؤية، وتبعة الهلاك في البيع وغرس الأشجار في العين المؤجرة والأحكام المتعلقة بالعلو والسفل وبالحائط المشترك ومدة التقادم، أما الأهلية والهبة، والشفعة وأما المبدأ القاضي بالأ تركة إلا بعد سداد الدين، فهذه كلها موضوعات على جانب كبير من الأهمية وقد أخذت برمتها من الشريعة الإسلامية.

2 - نظرة عامة في المشروع

والآن بعد أن استعرضنا المصادر التي استند إليها المشروع، نلقي نظرة عُجلى على المشروع نفسه، فنرى أولاً كيفي رتبت أحكامه.
لم يكن ترتيب المشروع بالأمر الهين، إذ كان ينبغي التفكير في ترتيب يماشي الحركة العلمية ولا يتجافى مع الحقائق العملية، ويستنير في الوقت ذاته بترتيب التقنينات الحديثة التي صدرت في خلال القرن العشرين مع المحافظة بقدر الإمكان على الترتيب الذي اتبعه التقنين الحالي، ولا أدخل في تفصيلات هذا الترتيب، فإن المشروع بين أيديكم تستطيعون بتصفحكم له أن تتبينوا أنه نجا من الخلط والتشويش، اللذين وقع فيهما التقنين الحالي، مع محافظته على التقسيمات الرئيسية التي اتبعها هذا التقنين، وسترون عند دراسة كل موضوع كيف توخي المشروع أن يرتب المسائل ترتيبًا منطقيًا تتسلسل الفكرة فيها فيسهل على الباحث أن يدرك ما بين المسائل المختلفة من ارتباط وما ينتظمها جميعًا من تناسق، وهذا هو سبب ما اتبع في ترتيب الأحكام من تقسيم وتبويب وتفريع، ولم يكن المشروع مبتدعًا في ذلك، بل كان مقتفيًا أثر أحدث التقنينات وأكثرها ذيوعًا وانتشارًا، بل أن العناوين التي وضعت بجانب النصوص لم يبتدعها المشروع بل سبقه إليها التقنين السويسري ودلت التجارب على أنها تيسر البحث تيسيرًا كبيرًا، فإذا ما رئُى في النهاية استبقاؤها فمن الممكن أن تبقى دون أن تعتبر جزءًا من التشريع.
ولا أظنني في حاجة للدفاع عن كثرة النصوص التي اشتمل عليها المشروع، فإن القانون المدني كما تعلمون واسع المدى، ولو قورن هذا المشروع بالتقنين الفرنسي وهو التقنين المعروف بالاعتدال في عدد ما اشتمل عليه من النصوص لتبين أن المشروع أكثر إيجازًا، فإن المواد المتعلقة بالمعاملات في التقنين الفرنسي تبلغ في العدد نحو خمسمائة وألف، يقابلها في المشروع مائتان وألف، أما باقي المواد وتبلغ نحو الأربعمائة فهي موضوعات جديدة لها نظير في التقنين الفرنسي.
بقى أن نستعرض استعراضًا سريعًا أهم ما اشتمل عليه المشروع من وجوه التنقيح المختلفة، وما رسم له من الاتجاهات العامة.
أما عن وجوه التنقيح فيكفي أن أقول إجمالاً أن المشروع قد أدخل موضوعات جديدة، واستوفى موضوعات ناقصة وعالج عيوبًا متفشية، ويضيق المقام عن استعراض كل ذلك فاقتصر الآن على الملاحظات الموجزة الآتية:
أولاً: تجنب المشروع ما وقع فيه التقنين الألماني من التعقيد والغموض، بأن تحاشى الفصل ما بين موضوع العقد وموضوع العمل القانوني، وبذلك دل على نزعة عملية تفضل النزعة التجريدية الفقهية التي اصطبغ بها التقنين الألماني، وخصص بابًا لآثار الالتزام تجنب فيه كثيرًا من أسباب التشويش والخلط مما وقعت فيه التقنينات الأخرى.
ثانيًا: استوفى المشروع موضوعات هي في التقنين الحالي شديدة الاقتضاب على أهميتها، وأصلح كثيرًا من عيوب التقنين الحالي فيها، من ذلك القواعد المتعلقة بتكوين العقد، والدعوى البوليصية والاشتراط لمصلحة الغير والمسؤولية التعاقدية، والمسؤولية التقصيرية، والحراسة والملكية الشائعة، وملكية الطبقات ورهن الحيازة وحق الاختصاص.
ثالثًا: رسم المشروع الخطوط الرئيسية لموضوعات هي في التقنين الحالي متناثرة في جميع نواحيه دون ترتيب أو تنسيق فجمع المشروع بين أطرافها وعرضها جملة واحدة بحيث يتكشف ما بين أجزائها من صلات وما يربطها جميعًا من وحدة في النظر، من ذلك موضوع الحيازة، وحقوق الارتفاق وحقوق الامتياز والحق في الحبس والدفع بعدم تنفيذ العقد، والنيابة في التعاقد.
رابعًا: أوجد المشروع من الموضوعات الجديدة ما كان ينقص التقنين الحالي أشد النقص، من ذلك القواعد المتعلقة بتنازع القوانين، والشخصية المعنوية وحوالة الدين وعقود المنفعة العامة، وعقد التأمين وعقد الهبة، والحكر، وإيجار الوقف، والموضوعان الجديدان الجديران بأن ينوه بهما تنويهًا خاصًا هما الإفلاس المدني وتصفية التركات، ومهما اختلفت وجوه النظر في الإفلاس المدني فلا شك في أننا جميعًا نحس الحاجة الشديدة إلى قواعد تنظيم تصفية التركة، ما دمنا نسلم بمبدأ الشريعة الإسلامية القاضي بالأ تركة إلا بعد سداد الدين.
واكتفى بهذا الإلمام السريع، فإن كل مسألة من هذه المسائل تصلح أن تكون وحدها موضوع محاضرة كاملة، وأرجو أن تتاح لي الفرصة بعد الفراغ من إعداد المذكرة الإيضاحية أن أتناول كل هذه المسائل مسألة مسألة، بما ينبغي من بيان وافٍ في محادثات متعاقبة تنظم لهذا الغرض أما الاتجاهات العامة التي رسمت للمشروع، فيمكن أن نتبين منها ثلاثة:
أولها أن المشروع من ناحية صياغته الفنية ذو نزعة مادية متخيرة، ومعنى ذلك، كما قدمنا أنه يتخير بين النزعتين المادية والنفسية، مع ميل إلى النزعة المادية إيثارًا لاستقرار التعامل، فهو من هذه الناحية يصطبغ بصبغة عملية واضحة أشار إليها الأستاذ شيفالييه في المحاضرة التي ألقاها عن المشروع منذ عهد قريب.
والاتجاه الرئيسي الثاني أن المشروع من ناحية سياسته التشريعية يترك للقاضي حرية واسعة في التقدير، يواجه بها تباين الظروف فيما يعرض له من الأقضية، وهذا أدنى إلى تحقيق العدالة، فلا يحسبن أحد أن القاضي الذي يحد من تقديره قواعد جامدة، والذي تغل يده نصوص ضيقة، بمستطيع أن يكيف الأحكام القانونية بحيث تصلح للتطبيق العادل في الظروف المتغايرة، فهو بين أن يؤدي العدالة الحقة، فيكسر من أغلال القانون، أو يلتزم حدود القانون، فلا يؤدي إلى عدالة حسابية شكلية، وقد أصبح الآن ثابتًا أن القواعد القانونية الجامدة لا تلبث أن تنكسر تحت ضغط الحاجات العملية، وخير منها المعايير المرنة التي تتسع لما يجد من الحوادث، ومما تتكشف عنه حركة التطور المستمر.
والاتجاه الرئيسي الأخير أن المشروع من ناحية ما يقوم عليه من أسس اجتماعية واقتصادية، إنما يجاري نزعات عصره، فلا يقف من الديمقراطية عند معناها القديم بل يماشي ما لحق بها من تطورات عميقة، ستكون بعد الحرب الحاضرة أبعد مدى وأبلغ أثرًا، فالمشروع لا يقدس حرية الفرد إلى حد أن يضحي من أجلها مصلحة الجماعة، ولا يجعل من سلطان الإرادة المحور الذي تدور عليه كل الروابط القانونية بل هو يوفق ما بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة، ثم هو بين الفرد والفرد لا يترك القوي يصرع الضعيف، بدعوى وجوب احترام الحرية الشخصية، فليس الفرد حرًا في أن يتخذ مما هيأته له النظم الاجتماعية والاقتصادية من قوة، تكئة ليتعسف ويتحكم، لذلك ترون المشروع يقف إلى جانب الضعيف فيحميه كل فعل في عقود الإذعان عندما جعل تفسير ما تشتمل عليه من شروط تعسفية محلاً لتقدير القاضي، وكما فعل في النصوص الخاصة بالاستغلال عندما أوجب على القاضي أن يتدخل لنصرة المتعاقد إذا استغلت حاجته أو طيشه أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه، وكما فعل في حماية العامل عندما أحاط عقد العمل بسلسلة قوية من الضمانات تدرأ عنه تعسف رب العمل، وهو إلى كل هذا وقبل كل هذا يضع مبدأ عامًا ينهي فيه عن التعسف في استعمال الحق وترون المشروع كذلك ظاهر الرفق بالمدين فهو يقيد من حق الدائن في التنفيذ ويلزمه أن يبدأ بالمال الذي يكون بيعه أقل كلفة على المدين، ويعالج عيوب حق الاختصاص فلا يجعل هذا الحق غلاً في يد المدين لا يستطيع فكاكه، بل يرسم طريقة لإنقاصه، إما بقصره على جزء من العقار الذي سبق أن رتب عليه، أو بنقله إلى عقار آخر تكون قيمته كافية لضمان الدين، ويوجب على القاضي أن يتدخل لحماية المدين المرهق، إذا طرأت حوادث استثنائية لا يمكن توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي صار مرهقًا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة فواجب القاضي إذ ذاك أن يوازن بين مصلحة المتعاقدين، وأن ينقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، هذا إلى نصوص أخرى كثيرة متناثرة في نواحي المشروع تحمي المدين وتقيه شر تعسف الدائن، وترون المشروع أخيرًا يقيد من حق الملكية فيجعل لهذا الحق وظيفة اجتماعية لا يجوز أن ينحرف عنها المالك، فهو في أول نص يعرف فيه الملكية يقرر أن لمالك الشيء ما دام ملتزمًا حدود القانون أن يستعمله وأن ينتفع به وأن يتصرف فيه، دون أي تدخل من جانب الغير، بشرط أن يكون ذلك متفقًا مع ما لحق الملكية من وظيفة اجتماعية، ثم يورد بعد ذلك من التطبيقات ما يؤكد هذا المعنى ويقويه، فالمالك لا يجوز له أن يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار، يجيز المشروع أن يتدخل الغير في انتفاع المالك بملكه، إذا كان هذا التدخل ضروريًا لتوقي ضرر هو أشد كثيرًا من الضرر الذي يصيب المالك ما دام هذا يحصل على التعويض الكافي، ويضيق المقام عن استيعاب القيود التي فرضها المشروع على حق الملكية ليجعل من هذا الحق لا سلطانًا مطلقًا بل وظيفة اجتماعية، فحيث يتعارض حق المالك مع مصلحة عامة، بل ومع مصلحة خاصة هي أولى بالحماية، فالمشروع يقيد من حق الملكية رعاية للمصالح المشروعة، وتحقيقًا لمبدأ التضامن الاجتماعي.
كل هذا دون غلو ولا إسراف، فلا تزال حرية الفرد، وسلطان الإرادة، وحقوق الدائنين، واحترام الملكية، محلاً لنصوص كثيرة في المشروع، تلمح فيها أثرًا ظاهرًا للتوفيق ما بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة وبذلك يكون المشروع قد سجل بأمانة ما تمخض عنه القرن العشرون من مبادئ مقررة في العدل الاجتماعي، فهو يحمل طابعًا قويًا من حضارة العصر ومدنية الجيل.
هذه هي الاتجاهات العامة التي رسمت للمشروع، أجملتها في قليل من العبارات.
والآن أيها السادة، وقد انتهيت من هذا الاستعراض السريع لما استند إليه المشروع من مصادر، ولما اشتمل عليه من وجوه التنقيح، ولما تضمنه من الاتجاهات الرئيسية، فإني أدع المشروع بين أيديكم، وهو ثمرة جهود طويلة مضنية، وصل الليل فيها بالنهار، فقوموا من اعوجاجه بواسع خبرتكم، وأصلحوا من عيوبه بثاقب رأيكم، فإن مشروعًا مترامي الأطراف كهذا المشروع لا بد من أن تكون فيه مآخذ كثيرة، وقد كشفت بعضها بنفسي وأنا أضع المذكرة الإيضاحية، وإني معتمد على تمحيصكم الدقيق في كشف الباقي، ولا أشك أن مشروعًا واسع المدى كمشروع التقنين المدني، إذا كان الأفضل في إنشائه أن يقوم على أكتاف عدد قليل من الرجال، فإن الأفضل في تمحيصه أن يتناوله أكبر عدد ممكن من الباحثين الناقدين وبقدر ما يكون الخير في القلة عند الإنشاء والبناء يكون الخير في الكثرة عند النقد والتمحيص.
أيها السادة: أنتم تمثلون رجال القانون في مصر، وتمثلون هذه التقاليد العالية التي بوأت مصر مكانًا محترمًا في عالم القانون، وسيوضع المشروع في الميزان تحت نظركم الناقد، وتمحيصكم الدقيق، وإنصافكم الحق، فإن خفت موازينه، فلكم من واسع تجاربكم ما يكفل إصلاحه، حتى ترجح كفته، وإن ثقلت موازينه فمن قضائكم استقى، وبعلمكم اهتدى وإلى تقاليدكم المجيدة يرجع ما عسى أن يكون فيه من خير، فأنتم المرجع الأول والأخير في هذا التقنين الجديد، وقد قطعنا شوطًا من مراحله، ونرجو بمعونة الله وبفضل مؤازرتكم أن نسير في الطريق إلى نهايته، وأن نقطع ما بقي أمامنا من مراحل.
واختتم هذه المحاضرة بأن أشكر لمعالي وزير العدل كريم دعوته، وكبير عنايته بالمشروع وأشكر لكم جميل إصغائكم وحسن استماعكم.


 (1) انظر في المشروع الفرنسي الإيطالي والتقنينين الألماني والسويسري مقالنا الذي نشر بمناسبة العيد الخمسيني للمحاكم الأهلية في مجلة القانون والاقتصاد السنة السادسة ص (44 – 58).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق