لم يكن ترتيب المشروع بالأمر الهين، إذ كان ينبغي التفكير في ترتيب يماشي الحركة
العلمية ولا يتجافى مع الحقائق العملية، ويستنير في الوقت ذاته بترتيب التقنينات
الحديثة التي صدرت في خلال القرن العشرين مع المحافظة بقدر الإمكان على الترتيب
الذي اتبعه التقنين الحالي، ولا أدخل في تفصيلات هذا الترتيب، فإن المشروع بين
أيديكم تستطيعون بتصفحكم له أن تتبينوا أنه نجا من الخلط والتشويش، اللذين وقع
فيهما التقنين الحالي، مع محافظته على التقسيمات الرئيسية التي اتبعها هذا
التقنين، وسترون عند دراسة كل موضوع كيف توخي المشروع أن يرتب المسائل ترتيبًا
منطقيًا تتسلسل الفكرة فيها فيسهل على الباحث أن يدرك ما بين المسائل المختلفة من
ارتباط وما ينتظمها جميعًا من تناسق، وهذا هو سبب ما اتبع في ترتيب الأحكام من
تقسيم وتبويب وتفريع، ولم يكن المشروع مبتدعًا في ذلك، بل كان مقتفيًا أثر أحدث
التقنينات وأكثرها ذيوعًا وانتشارًا، بل أن العناوين التي وضعت بجانب النصوص لم
يبتدعها المشروع بل سبقه إليها التقنين السويسري ودلت التجارب على أنها تيسر البحث
تيسيرًا كبيرًا، فإذا ما رئُى في النهاية استبقاؤها فمن الممكن أن تبقى دون أن
تعتبر جزءًا من التشريع.
ولا أظنني في حاجة للدفاع عن كثرة النصوص التي اشتمل عليها المشروع، فإن القانون
المدني كما تعلمون واسع المدى، ولو قورن هذا المشروع بالتقنين الفرنسي وهو التقنين
المعروف بالاعتدال في عدد ما اشتمل عليه من النصوص لتبين أن المشروع أكثر إيجازًا،
فإن المواد المتعلقة بالمعاملات في التقنين الفرنسي تبلغ في العدد نحو خمسمائة
وألف، يقابلها في المشروع مائتان وألف، أما باقي المواد وتبلغ نحو الأربعمائة فهي
موضوعات جديدة لها نظير في التقنين الفرنسي.
بقى أن نستعرض استعراضًا سريعًا أهم ما اشتمل عليه المشروع من وجوه التنقيح
المختلفة، وما رسم له من الاتجاهات العامة.
أما عن وجوه التنقيح فيكفي أن أقول إجمالاً أن المشروع قد أدخل موضوعات جديدة،
واستوفى موضوعات ناقصة وعالج عيوبًا متفشية، ويضيق المقام عن استعراض كل ذلك فاقتصر
الآن على الملاحظات الموجزة الآتية:
أولاً: تجنب المشروع ما وقع فيه التقنين الألماني من التعقيد والغموض، بأن تحاشى
الفصل ما بين موضوع العقد وموضوع العمل القانوني، وبذلك دل على نزعة عملية تفضل
النزعة التجريدية الفقهية التي اصطبغ بها التقنين الألماني، وخصص بابًا لآثار
الالتزام تجنب فيه كثيرًا من أسباب التشويش والخلط مما وقعت فيه التقنينات الأخرى.
ثانيًا: استوفى المشروع موضوعات هي في التقنين الحالي شديدة الاقتضاب على أهميتها،
وأصلح كثيرًا من عيوب التقنين الحالي فيها، من ذلك القواعد المتعلقة بتكوين العقد،
والدعوى البوليصية والاشتراط لمصلحة الغير والمسؤولية التعاقدية، والمسؤولية
التقصيرية، والحراسة والملكية الشائعة، وملكية الطبقات ورهن الحيازة وحق الاختصاص.
ثالثًا: رسم المشروع الخطوط الرئيسية لموضوعات هي في التقنين الحالي متناثرة في
جميع نواحيه دون ترتيب أو تنسيق فجمع المشروع بين أطرافها وعرضها جملة واحدة بحيث
يتكشف ما بين أجزائها من صلات وما يربطها جميعًا من وحدة في النظر، من ذلك موضوع
الحيازة، وحقوق الارتفاق وحقوق الامتياز والحق في الحبس والدفع بعدم تنفيذ العقد،
والنيابة في التعاقد.
رابعًا: أوجد المشروع من الموضوعات الجديدة ما كان ينقص التقنين الحالي أشد النقص،
من ذلك القواعد المتعلقة بتنازع القوانين، والشخصية المعنوية وحوالة الدين وعقود
المنفعة العامة، وعقد التأمين وعقد الهبة، والحكر، وإيجار الوقف، والموضوعان
الجديدان الجديران بأن ينوه بهما تنويهًا خاصًا هما الإفلاس المدني وتصفية
التركات، ومهما اختلفت وجوه النظر في الإفلاس المدني فلا شك في أننا جميعًا نحس
الحاجة الشديدة إلى قواعد تنظيم تصفية التركة، ما دمنا نسلم بمبدأ الشريعة
الإسلامية القاضي بالأ تركة إلا بعد سداد الدين.
واكتفى بهذا الإلمام السريع، فإن كل مسألة من هذه المسائل تصلح أن تكون وحدها
موضوع محاضرة كاملة، وأرجو أن تتاح لي الفرصة بعد الفراغ من إعداد المذكرة
الإيضاحية أن أتناول كل هذه المسائل مسألة مسألة، بما ينبغي من بيان وافٍ في
محادثات متعاقبة تنظم لهذا الغرض أما الاتجاهات العامة التي رسمت للمشروع، فيمكن
أن نتبين منها ثلاثة:
أولها أن المشروع من ناحية صياغته الفنية ذو نزعة مادية متخيرة، ومعنى ذلك، كما
قدمنا أنه يتخير بين النزعتين المادية والنفسية، مع ميل إلى النزعة المادية
إيثارًا لاستقرار التعامل، فهو من هذه الناحية يصطبغ بصبغة عملية واضحة أشار إليها
الأستاذ شيفالييه في المحاضرة التي ألقاها عن المشروع منذ عهد قريب.
والاتجاه الرئيسي الثاني أن المشروع من ناحية سياسته التشريعية يترك للقاضي حرية
واسعة في التقدير، يواجه بها تباين الظروف فيما يعرض له من الأقضية، وهذا أدنى إلى
تحقيق العدالة، فلا يحسبن أحد أن القاضي الذي يحد من تقديره قواعد جامدة، والذي
تغل يده نصوص ضيقة، بمستطيع أن يكيف الأحكام القانونية بحيث تصلح للتطبيق العادل
في الظروف المتغايرة، فهو بين أن يؤدي العدالة الحقة، فيكسر من أغلال القانون، أو
يلتزم حدود القانون، فلا يؤدي إلى عدالة حسابية شكلية، وقد أصبح الآن ثابتًا أن
القواعد القانونية الجامدة لا تلبث أن تنكسر تحت ضغط الحاجات العملية، وخير منها
المعايير المرنة التي تتسع لما يجد من الحوادث، ومما تتكشف عنه حركة التطور
المستمر.
والاتجاه الرئيسي الأخير أن المشروع من ناحية ما يقوم عليه من أسس اجتماعية
واقتصادية، إنما يجاري نزعات عصره، فلا يقف من الديمقراطية عند معناها القديم بل
يماشي ما لحق بها من تطورات عميقة، ستكون بعد الحرب الحاضرة أبعد مدى وأبلغ أثرًا،
فالمشروع لا يقدس حرية الفرد إلى حد أن يضحي من أجلها مصلحة الجماعة، ولا يجعل من
سلطان الإرادة المحور الذي تدور عليه كل الروابط القانونية بل هو يوفق ما بين حرية
الفرد ومصلحة الجماعة، ثم هو بين الفرد والفرد لا يترك القوي يصرع الضعيف، بدعوى
وجوب احترام الحرية الشخصية، فليس الفرد حرًا في أن يتخذ مما هيأته له النظم
الاجتماعية والاقتصادية من قوة، تكئة ليتعسف ويتحكم، لذلك ترون المشروع يقف إلى
جانب الضعيف فيحميه كل فعل في عقود الإذعان عندما جعل تفسير ما تشتمل عليه من شروط
تعسفية محلاً لتقدير القاضي، وكما فعل في النصوص الخاصة بالاستغلال عندما أوجب على
القاضي أن يتدخل لنصرة المتعاقد إذا استغلت حاجته أو طيشه أو عدم خبرته أو ضعف
إدراكه، وكما فعل في حماية العامل عندما أحاط عقد العمل بسلسلة قوية من الضمانات
تدرأ عنه تعسف رب العمل، وهو إلى كل هذا وقبل كل هذا يضع مبدأ عامًا ينهي فيه عن
التعسف في استعمال الحق وترون المشروع كذلك ظاهر الرفق بالمدين فهو يقيد من حق
الدائن في التنفيذ ويلزمه أن يبدأ بالمال الذي يكون بيعه أقل كلفة على المدين،
ويعالج عيوب حق الاختصاص فلا يجعل هذا الحق غلاً في يد المدين لا يستطيع فكاكه، بل
يرسم طريقة لإنقاصه، إما بقصره على جزء من العقار الذي سبق أن رتب عليه، أو بنقله
إلى عقار آخر تكون قيمته كافية لضمان الدين، ويوجب على القاضي أن يتدخل لحماية
المدين المرهق، إذا طرأت حوادث استثنائية لا يمكن توقعها وترتب على حدوثها أن
تنفيذ الالتزام التعاقدي صار مرهقًا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة فواجب القاضي
إذ ذاك أن يوازن بين مصلحة المتعاقدين، وأن ينقص الالتزام المرهق إلى الحد
المعقول، هذا إلى نصوص أخرى كثيرة متناثرة في نواحي المشروع تحمي المدين وتقيه شر
تعسف الدائن، وترون المشروع أخيرًا يقيد من حق الملكية فيجعل لهذا الحق وظيفة
اجتماعية لا يجوز أن ينحرف عنها المالك، فهو في أول نص يعرف فيه الملكية يقرر أن
لمالك الشيء ما دام ملتزمًا حدود القانون أن يستعمله وأن ينتفع به وأن يتصرف فيه،
دون أي تدخل من جانب الغير، بشرط أن يكون ذلك متفقًا مع ما لحق الملكية من وظيفة
اجتماعية، ثم يورد بعد ذلك من التطبيقات ما يؤكد هذا المعنى ويقويه، فالمالك لا
يجوز له أن يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار، يجيز المشروع أن يتدخل
الغير في انتفاع المالك بملكه، إذا كان هذا التدخل ضروريًا لتوقي ضرر هو أشد
كثيرًا من الضرر الذي يصيب المالك ما دام هذا يحصل على التعويض الكافي، ويضيق
المقام عن استيعاب القيود التي فرضها المشروع على حق الملكية ليجعل من هذا الحق لا
سلطانًا مطلقًا بل وظيفة اجتماعية، فحيث يتعارض حق المالك مع مصلحة عامة، بل ومع
مصلحة خاصة هي أولى بالحماية، فالمشروع يقيد من حق الملكية رعاية للمصالح
المشروعة، وتحقيقًا لمبدأ التضامن الاجتماعي.
كل هذا دون غلو ولا إسراف، فلا تزال حرية الفرد، وسلطان الإرادة، وحقوق الدائنين،
واحترام الملكية، محلاً لنصوص كثيرة في المشروع، تلمح فيها أثرًا ظاهرًا للتوفيق
ما بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة وبذلك يكون المشروع قد سجل بأمانة ما تمخض عنه
القرن العشرون من مبادئ مقررة في العدل الاجتماعي، فهو يحمل طابعًا قويًا من حضارة
العصر ومدنية الجيل.
هذه هي الاتجاهات العامة التي رسمت للمشروع، أجملتها في قليل من العبارات.
والآن أيها السادة، وقد انتهيت من هذا الاستعراض السريع لما استند إليه المشروع من
مصادر، ولما اشتمل عليه من وجوه التنقيح، ولما تضمنه من الاتجاهات الرئيسية، فإني
أدع المشروع بين أيديكم، وهو ثمرة جهود طويلة مضنية، وصل الليل فيها بالنهار،
فقوموا من اعوجاجه بواسع خبرتكم، وأصلحوا من عيوبه بثاقب رأيكم، فإن مشروعًا
مترامي الأطراف كهذا المشروع لا بد من أن تكون فيه مآخذ كثيرة، وقد كشفت بعضها
بنفسي وأنا أضع المذكرة الإيضاحية، وإني معتمد على تمحيصكم الدقيق في كشف الباقي،
ولا أشك أن مشروعًا واسع المدى كمشروع التقنين المدني، إذا كان الأفضل في إنشائه
أن يقوم على أكتاف عدد قليل من الرجال، فإن الأفضل في تمحيصه أن يتناوله أكبر عدد
ممكن من الباحثين الناقدين وبقدر ما يكون الخير في القلة عند الإنشاء والبناء يكون
الخير في الكثرة عند النقد والتمحيص.
أيها السادة: أنتم تمثلون رجال القانون في مصر، وتمثلون هذه التقاليد العالية التي
بوأت مصر مكانًا محترمًا في عالم القانون، وسيوضع المشروع في الميزان تحت نظركم
الناقد، وتمحيصكم الدقيق، وإنصافكم الحق، فإن خفت موازينه، فلكم من واسع تجاربكم
ما يكفل إصلاحه، حتى ترجح كفته، وإن ثقلت موازينه فمن قضائكم استقى، وبعلمكم اهتدى
وإلى تقاليدكم المجيدة يرجع ما عسى أن يكون فيه من خير، فأنتم المرجع الأول
والأخير في هذا التقنين الجديد، وقد قطعنا شوطًا من مراحله، ونرجو بمعونة الله
وبفضل مؤازرتكم أن نسير في الطريق إلى نهايته، وأن نقطع ما بقي أمامنا من مراحل.
واختتم هذه المحاضرة بأن أشكر لمعالي وزير العدل كريم دعوته، وكبير عنايته
بالمشروع وأشكر لكم جميل إصغائكم وحسن استماعكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق