الدعوى رقم 199 لسنة 32 ق "دستورية" جلسة 2 / 1 / 2021
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثاني من يناير سنة 2021م، الموافق الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1442 هـ.
برئاسة السيد المستشار / سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور عادل عمر شريف وبولس فهمى إسكندر والدكتور محمد عماد النجار والدكتور عبد العزيز محمد سالمان والدكتور طارق عبد الجواد شبل وطارق عبد العليم أبو العطا نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 199 لسنة 32 قضائية "دستورية".
المقامة من
حنان فوزى سيد أحمد الغراب
ضـــد
1- رئيس الجمهوريــــــــــــــــــة
2- رئيس مجلس الوزراء
3- وزير العــــــــــدل
4- وزير الإسكان والمرافق والتنمية العمرانية
5- النائــــــــب العــــــــــــام
الإجراءات
بتاريخ الثامن من ديسمبر سنة 2010، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى، قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبة الحكم بعدم دستورية نصوص المواد (38/1، 39/1، 102/1) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر جلسة 5/12/2020، وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم، أصليًّا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها. وقررت المحكمة إصدار الحكم في الدعوى بجلسة اليوم.
المحكمــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن النيابة العامة، كانت قد أسندت إلى المدعية، في الجنحة رقم 775 لسنة 2010 مركز شبين الكوم، أنها بتاريخ 12/1/2010، أقامت بناء – دور ثالث علوى – بدون ترخيص. وقدمتها إلى المحاكمة الجنائية، بطلب عقابها بالمواد ( الأولى، والفقرة الأولى من المادة الثانية، والمادة الثالثة، و38، 39، 102) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008. وبجلسة 9/2/2010، قضت المحكمة غيابيًّا بحبس المدعية ثلاثة أشهر مع الشغل. عارضت المدعية في الحكم، وإبان نظر المعارضة، قدمت مذكرة، دفعت فيها بعدم دستورية مواد الاتهام، وبجلسة 31/10/2010 ، قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت لها بإقامة الدعوى الدستورية، فأقامت الدعوى المعروضة، بطلباتها السالفة البيان.
وحيث إن المادة (38) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، قبل تعديلها بالقانون رقم 23 لسنة 2015، تنص على أنه " تسرى أحكام هذا الباب في شأن تنظيم أعمال البناء على كافة أعمال العمران بوحدات الإدارة المحلية والمناطق السياحية والصناعية والتجمعات العمرانية الجديدة وعلى المباني والتجمعات السكنية التي يصدر بتحديدها قرار من الوزير المختص".
وتنص المادة (39) من القانون ذاته في فقرتها الأولى على أنه "يحظر إنشاء مبان أو منشآت أو إقامة أعمال أو توسيعها أو تعليتها أو تعديلها أو تدعيمها أو ترميمها أو هدم المباني غير الخاضعة لقانون هدم المباني غير الآيلة للسقوط جزئيًّا أو كليًّا أو إجراء أى تشطيبات خارجية دون الحصول على تراخيص في ذلك من الجهة الإدارية المختصة بشئون التخطيط والتنظيم وفقًا للاشتراطات البنائية وقت إصدار الترخيص ولما تبينه اللائحة التنفيذية لهذا القانون".
كما تنص الفقرة الأولى من المادة (102) من القانون السالف البيان على أنه " يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات أو الغرامة التي لا تقل عن مثلى قيمة الأعمال المخالفة ولا تجاوز ثلاثة أمثال هذه القيمة، كل من قام بإنشاء مبان أو إقامة أعمال أو توسيعها أو تعليتها أو تعديلها أو تدعيمها أو ترميمها أو هدمها بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة".
وحيث إن المدعية تنعى على نص المادة (38) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008 – قبل تعديله بالقانون رقم 23 لسنة 2015 – مخالفته مبدأ المساواة، باستبعاد تطبيق أحكام ذلك القانون على بعض أعمال العمران، وقصر نطاق سريانه المكاني على أماكن محددة، منها وحدات الإدارة المحلية. وتنعى على نص المادة (39/1) من القانون ذاته، إخلاله بمبدأ تكافؤ الفرص، وعلى المادة (102/1) من القانون المشار إليه، عدم تناسب عقوبة الغرامة مع جسامة الجرم المنصوص عليه في ذلك النص، مما تنحل معه هذه الغرامة إلى افتئات على الحماية التي كفلها الدستور لحق الملكية الخاصة.
وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن المصلحة الشخصية المباشرة شرط لقبول الدعوى الدستورية، ومناط هذه المصلحة أن تتوافر رابطة منطقية بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية؛ وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع.
وكان المقرر أيضًا في قضاء هذه المحكمة أن إلغاء النص التشريعي المطعون فيه لا يحول دون الطعن عليه بعدم الدستورية من قبل من طبق عليهم ذلك النص خلال فترة نفاذه، وترتبت بمقتضاه آثار قانونية بالنسبة إليهم، وبالتالي توافرت لهم مصلحة شخصية في الطعن بعدم دستوريته.
وحيث إن البناء موضوع اتهام المدعية يقع بدائرة الوحدة المحلية لمركز شبين الكوم، وقد نسب إليها إقامته بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة، بما تكون معه مواجهة بالعقوبة المقررة لهذا الفعل، المنصوص عليها بالشطر الأول من الفقرة الأولى من المادة (102) من القانون رقم 119 لسنة 2008، التي نصت في شطرها الثاني على تأثيم فعل إقامة مبان بدون ترخيص، متماهية، في الحكم عينه، مع حظر الفعل ذاته، الوارد بنص الفقرة الأولى من المادة (39) من القانون المشار إليه. وكانت المصلحة الشخصية المباشرة للمدعية تتحقق في الطعن على النص الذى خضع بمقتضاه البناء الذى أقامته لقانون البناء السالف البيان، كما تتحقق هذه المصلحة في إبطال النص العقابي لهذا الفعل، دون النص على حظر إقامة مبان بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة، الوارد في الفقرة الأولى من المادة (39) من القانون رقم 119 لسنة 2008، مادام أن ذلك النص ، بذاته، لا يتضمن جزاءً جنائيًّا، له أي انعكاس على الدعوى الموضوعية، وإنما استغرق حكمة، في مجال حظر فعل البناء بدون ترخيص، نص الشطر الثاني من الفقرة الأولى من المادة (102) المار بيانها، التي استطالت بذلك الحظر إلى دائرة التأثيم الجنائي. ومن ثم يتحدد نطاق الدعوى المعروضة، فيما نص عليه صدر المادة (38) من القانون رقم 119 لسنة 2008 – قبل تعديله بالقانون رقم 23 لسنة 2015 – من أنه "تسرى أحكام هذا الباب في شأن تنظيم أعمال البناء على كافة أعمال العمران بوحدات الإدارة المحلية"، وكذلك ما تنص عليه الفقرة الأولى من المادة (102) من القانون ذاته من أنه " يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عـن خمس سنوات أو الغرامـة التي لا تقل عن مثلى قيمة الأعمال المخالفة ولا تجاوز ثلاثة أمثال هذه القيمة، كل من قام بإنشاء مبان .... بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة".
وحيث إن من المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أن الرقابة الدستورية على القوانين من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة تستهدف أصلاً صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، باعتبار أن نصوص هذا الدستور تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي أثارتها المدعية على النصين المطعون عليهما – محددين نطاقًا على ما سلف بيانه – تندرج تحت المطاعن الموضوعية، التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثم فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على النصين المطعون عليهما، اللذين مازالا قائمين ومعمولاً بأحكامهما، في ضوء أحكام الدستور القائم الصادر سنة 2014.
وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن المساواة أمام القانون ليست مبدأ تلقينيًّا منافيًا للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صمّاء تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للدولة أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائمًا من التدابير، لتنظيم موضوع محدد وتوقى شر تقدر ضرورة رده، وكان دفعها الضرر الأكبر بالضرر الأقل لازمًا، فإن تطبيقها مبدأ المساواة لا يجوز أن يكون كاشفًا عن نزواتها، ولا منبئًا عن اعتناقها لأوضاع جائرة تثير ضغائن أو أحقادًا تتفلت بها ضوابط سلوكها، ولا هشيمًا معبرًا عن بأس سلطاتها، بل يتعين أن يكون موقفها اعتدالاً في مجال تعاملها مع المواطنين، فلا تمايز بينهم إملاءً أو عسفًا، ومن الجائز بالتالي، أن تغاير السلطة التشريعية – ووفقًا لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، على أن تكون الفوارق بينها حقيقية لا اصطناع فيها ولا تخيل، ذلك أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذى يقيم تقسيمًا تشريعيًّا ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها.
وحيث إن البين من المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، في شأن المادة (38) من ذلك القانون، قبل تعديلها بالقانون رقم 23 لسنة 2015، أنها حددت نطاق سريان باب تنظيم أعمال البناء على كافة وحدات الإدارة المحلية من المدن والقرى، وكان ما أوردته تلك المذكرة إنما هو استصحاب لمسئولية الدولة – في مجال تنظيم مرفق البناء والتشييد – عن وضع الخطط الاستراتيجية العامة للتنمية العمرانية، في ضوء الواقع العمراني القائم، واحتياجات التوسعة المستقبلية، بمراعاة الأحوزة العمرانية المعتمدة داخل كل وحدة محلية، والضرورات المرفقية القائمة، والطابع البيئي والسكاني لكل منطقة.
وحيث إن المادة (38) من القانون رقم 119 لسنة 2008، المار ذكرها، تقرر خضوع جميع أعمال العمران التي تتم بوحدات الإدارة المحلية لأحكام الباب الثالث من قانون البناء المشار إليه، وكان التنظيم المرفقي للبناء والعمران من أدخل ما تختص بإقراره السلطة التشريعية، وكان إقرارها إيّاه منضبطًا بدافع التنمية العمرانية ذات الوجه الحضاري، الذى يستشرف قيم العيش المتمدن، بما يفرضه على الدولة من التزام بمد المرافق الأساسية لجميع وحدات الحكم المحلى، وما يقابله من التزام القائمين على تنفيذ ترخيص البناء في تلك الوحدات المحلية، بالشروط البنائية التى تبينها اللائحة التنفيذية للقانون المذكور، وإذ أقرت المادة (53) من الدستور مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والحريات والواجبات العامة، فإن إعماله، في نطاق الدعوى المعروضة، يُلزم بالمساواة بين القائمين على أعمال العمران بالأماكن التي يسري في شأنها النص المطعون عليه، مع مفارقته غيرها من الأماكن التي لا ينطبق في شأنها ذلك النص، وهو عين ما أفصحت عنه عبارة النص ذاته، من خضوع أعمال العمران داخل جميع الوحدات المحلية لأحكام الباب الثالث في شأن تنظيم أعمال البناء. ومن ثم فإن قالة إخلال النص المطعون فيه بمبدأ المساواة، بقصر سريان أحكامه على أعمال البناء التي تقام في النطاق المكاني الوارد في ذلك النص، دون غيرها، إنما ينشد الانسلاخ التام من تطبيق أحكام القانون رقم 119 لسنة 2008، على كافة أعمال البناء بدون ترخيص، والمساواة في المعاملة القانونية مع غير المخاطبين بهذا القانون، وذلك على الرغم من اختلاف المراكز القانونية لكل منهم اختلافًا بيّنًا - على ما خُص به المخاطبون بحكم القانون المشار إليه من حقوق والتزامات – سلف بيانها – ومن ثم يضحى نعى المدعية على نص المادة (38) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008 – قبل تعديله بالقانون رقم 23 لسنة 2015 – غير قائم على سند يقيمه، خليقًا بالالتفات عنه، ورفضه.
وحيث إن المتواتر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن نص التجريم يتحدد من منظور اجتماعي، وموافقته للدستور من عدمها، تحدده الضرورة التى اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن ترسم الدستور في اتجاهه إلى النظم المعاصرة ومتابعة خطاها والتقيد بمناهجها التقدمية، قد أورد في المادة (95) منه، أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون الذى ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنًا ماديًّا لا قوام لها بغيره يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحًا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء في زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًّا كان هذا الفعل أم سلبيًّا، ذلك أن العلائق التي ينظرها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها من بعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير القصد الجنائي، لا تعزل المحكمة نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعًا واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها، ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرًا خارجيًّا وماديًّا عن إرادة واعية، ولا يتصور بالتالي وفقًا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته – تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا خارجيًّا مؤاخذًا عليه قانونًا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيًّا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة. وكان المقرر أيضًا في قضاء هذه المحكمة أن الأصل في الجرائم العمدية جميعها، أنها تعكس تكوينًا مركبًا، باعتبار أن قوامها تزامن بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقل واع خالطها، ليهيمن عليها ويكون محددًا لخطاها، متوجهًا إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، فلا يكون القصد الجنائي إلا ركنًا معنويًّا في الجريمة مكملاً لركنها المادي، ومتلائمًا مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت الجريمة المنصوص عليها في الشطر الثاني من الفقرة الأولى من المادة (102) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008 – محددة نطاقًا على ما سلف بيانه – تندرج ضمن الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، الواردة خارج الكتاب الثاني من قانون العقوبات، بحسبان انطوائها على إخلال بمقتضيات الشروط البنائية داخل وحدات الحكم المحلى، وما يستتبعه ذلك من افتئات على ضوابط التخطيط العمراني والتنسيق الحضاري المقرر، وما ينطوي عليه أيضًا من أخطار تهدد حياة وأموال شاغلي المباني غير المرخص بها، التي أقيمت في غيبة من شروط وضوابط السلامة الإنشائية التي حددتها اللائحة التنفيذية للقانون المشار إليه، وما يمثله ذلك من إخلال بالتزام الدولة – بأجهزتها المختلفة – بالحفاظ على أمن وسلامة مواطنيها، فضلا عن الإضرار بالعناصر الإيجابية للذمة المالية للدولة، بالإفلات من سداد رسوم الترخيص، تلك الأضرار التي تتعاظم فيما لو أقيمت مبانٍ بدون ترخيص على أرض مملوكة للدولة ملكية عامة أو خاصة في دائرة وحدة محلية. إذ كان ذلك، وكانت عبارة النص المؤثم لفعل إقامة مبان في دائرة إحدى الوحدات المحلية بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة، قد صيغت صياغة واضحة، لا خفاء فيها ولا غموض، مستظهرة، في إفصاح جهير، ماهية الركن المادي لتلك الجريمة، وحددته في إقامة مبانٍ في دائرة وحدة محلية – مدينة أو قرية – دون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة، وقطعت بكونه من الأفعال العمدية، التي يقارنها قصد جنائي عام، يرنو إلى تحقيق النتيجة الإجرامية الناشئة عن الفعل المادي، ليتسق ركنا الجريمة، في وحدة تنال – حال تحققها – من المصلحة المحمية بالنص المطعون فيه، ومن ثم يغدو النص مستويًا على قواعد الدستور ومبادئه المقررة في شأن التجريم في المواد الجنائية.
وحيث إن الأصل في العقوبة – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – هو معقوليتها، فلا يكون التدخل فيها إلا بقدر، نأيًا بها عن أن تكون إيلامًا غير مبرر، يؤكد قسوتها في غير ضرورة، ذلك أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم بعض العلائق التي يرتبط بها الأفراد فيما بين بعضهم البعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذ العقوبة أداة تقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها. وهو بذلك يتغيا أن يحدد – من منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيًّا ممكنًا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررًا إلا إذا كان مفيدًا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزًا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريًّا، غدا مخالفًا للدستور.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن العقوبة التخييرية، أو استبدال عقوبة أخف أو تدبير احترازي بعقوبة أصلية أشد – عند توافر عذر قانوني جوازي مخفف للعقوبة – أو إجازة استعمال الرأفة في مواد الجنايات بالنزول بعقوبتها درجة واحدة أو درجتين إذا اقتضت أحوال الجريمة ذلك التبديل، عملاً بنص المادة (17) من قانون العقوبات، أو إيقاف تنفيذ عقوبتي الغرامة أو الحبس الذى لا تزيد مدته على سنة إذا رأت المحكمة من الظروف الشخصية للمحكوم عليه أو الظروف العينية التي لابست الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بعدم العودة إلى مخالفة القانون على ما جرى به نص المادة (55) من قانون العقوبات، إنما هي أدوات تشريعية يتساند القاضي إليها – بحسب ظروف كل دعوى – لتطبيق مبدأ تفريد العقوبة، ومن ثم ففي الأحوال التي يمتنع فيها إعمال إحدى هذه الأدوات، فإن الاختصاص الحصري بتفريد العقوبة المعقود للقاضي يكون قد استغلق عليه تمامًا، بما يفتئت على استقلاله ويسلبه حريته في تقدير العقوبة، ويفقد جوهر وظيفته القضائية، وينطوي على تدخل محظور في شئون العدالة.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكانت العقوبة المنصوص عليها في الشطر الأول من الفقرة الأولى من المادة (102) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008 – محددة في مجال تطبيقها على إقامة مبان بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة – هي عقوبة تخييرية بين الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات أو الغرامة التي لا تقل عن مثلى قيمة الأعمال المخالفة ولا تجاوز ثلاثة أمثال هذه القيمة، وكانت عقوبة الحبس السالف بيانها – وهى أخف العقوبات السالبة للحرية – إنما قررت لمواجهة جريمة عمدية، تهدد من ناحية سلامة شاغلي تلك المباني، وأموالهم، ومن ناحية أخرى تضر بمصلحة عامة مؤكدة، وتتصدى لظاهرة تفشى إقامة مبان غير مرخصة من جهة الإدارة، بما تحمله هذه الظاهرة من دلالات سلبية ، تنال من توجه الدولة نحو إنشاء بيئة حضارية، وتنتهك مشروعاتها في مجالات التخطيط العمراني والتنسيق الحضاري. وتقوض فرصها في القضاء على تجمعات بنائية عشوائية، تتداعى في وجودها كل فرص التنمية البشرية، فضلاً عما تُحمّله للمرافق الإنشائية من أحمال لا طاقة لها بحملها، وكانت عقوبة الغرامة المار بيانها، كعقوبة أصلية بديلة عن عقوبة الحبس، روعي عند إقرارها أنها ترد على الجانى قصده في شأن تحقيق منافع مالية من إقامة مبان غير مرخص بها من جهة الإدارة – على التفصيل السابق بيانه -، وكانت نسبية هذه الغرامة تهدف إلى رد الضرر الناشئ عن الجريمة، وإيلام مرتكبها بالنيل من العناصر الإيجابية لذمته المالية، بإلزامه بأداء مثلى قيمة الأعمال المخالفة أو ثلاثة أمثالها، مما يردع الجاني ردعًا يتحقق به أحد أغراض العقوبة. متى كان ذلك، وكانت العقوبة الواردة بالنص المطعون عليه، في مجال التفريد القضائي، قد التزمت ضوابطه، وانضبطت بحدوده، بدءًا من مراوحة عقوبة الحبس بين حد أدنى لا ينقص عن 24 ساعة، إلى حد أقصى لا يجاوز خمس سنوات، والشأن ذاته في عقوبة الغرامة المالية، التي يُقضى بها بين حد أدنى مقداره مثلى قيمة الأعمال المخالفة، وحد أقصى مقداره ثلاثة أمثال هذه القيمة، وكانت عقوبة الحبس – إن قُضى بها – مدة لا تزيد عن سنة، يجوز إيقاف تنفيذها، كما يجوز إيقاف تنفيذ عقوبة الغرامة في حديها الأدنى والأقصى، مما مؤداه أن النص المطعون عليه – في مجال العقوبة المقررة به – يتيح لمحكمة الموضوع أداتين تشريعيتين، أي منهما، تمكنها من إعمال سلطتها في تفريد العقوبة، بوزن إثم كل جانٍ على حده، ومن ثم يكون النص المطعون عليه -(102/1) من قانون البناء- في شأن التجريم والعقاب، جاء موافقًا لأحكام الدستور، ويغدو الطعن عليه لا أساس له، خليقًا بالالتفات عنه.
وحيث إن النصين المطعون عليهما – محددين نطاقًا على ما سلف بيانه – لا يخالفان أحكامًا أخرى في الدستور
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعية المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.