الصفحات

الاثنين، 5 أغسطس 2024

الدعوى رقم 60 لسنة 22 ق دستورية عليا "دستورية" جلسة 6 / 7 / 2024

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت السادس من يوليه سنة 2024م،

الموافق الثلاثين من ذي الحجة سنة 1445ه.

برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن سعد الدين عباس نواب رئيس المحكمة

وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 60 لسنة 22 قضائية "دستورية"

المقامة من

هاني عطية محمد محمود المكاوي

ضد

1- رئيس الجمهورية

2- رئيس مجلس الوزراء

3- وزير العدل

4- إمام حسن النجمي

----------------

الإجراءات

بتاريخ الرابع عشر من مارس سنة 2000، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية المواد (302/2 و303 و306 و307) من قانون العقوبات، المعدل بالقانون رقم 93 لسنة 1995، والمواد (214/1 و215 و216) من قانون الإجراءات الجنائية.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرتين، طلبت فيهما الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.

--------------

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - في أن النيابة العامة أحالت المدعي إلى المحاكمة الجنائية أمام محكمة جنايات القاهرة في الجنحة رقم 12455 لسنة 1998، المقيدة برقم 1076 لسنة 1997، حصر أمن دولة عليا، لأنه خلال الفترة من 7/6/1997 حتى 5/5/1998، بدائرة قسم حدائق القبة، قذف بإحدى طرق العلانية في حق إمام حسن النجمي (عميد كلية العلاج الطبيعي بجامعة القاهرة)، بأن أسند إليه – بطريق النشر- أمورًا لو صحت لأوجبت عقابه واحتقاره عند أهل وطنه، وذلك في المقالات التي كتبها في جريدة الأحرار، ونعته فيها بالتزوير والإضرار بالمال العام، والامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية، وكان ذلك بسوء قصد وبدون إثبات حقيقة كل فعل أسنده إليه، وطلبت عقابه بالمواد (171 و302/1 و303/2 و307) من قانون العقوبات المعدل بالقانون رقم 93 لسنة 1995. وإذ تدوولت الدعوى أمام تلك المحكمة، دفع المدعي بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (302)، والفقرة الثانية من المادة (303)، والمادتين (306 و307) من قانون العقوبات، والفقرة الأولى من المادة (214)، والمادتين (215 و216) من قانون الإجراءات الجنائية. وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع، وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية؛ فأقام الدعوى المعروضة. مضت محكمة الموضوع في نظر الدعوى، وقضت غيابيًّا بجلسة 13/2/2018، بمعاقبة المدعي بتغريمه أربعين ألف جنيه، وألزمته بأن يؤدي إلى المدعى عليه الأخير مبلغ ألفين وواحد جنيه، على سبيل التعويض المدني المؤقت.

وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن المادة (29) من قانونها قاطعة في دلالتها على أن النصوص التشريعية التي يتصل الطعن عليها بالمحكمة الدستورية العليا اتصالًا مطابقًا للأوضاع المقررة قانونًا، هي تلك التي تُطرح عليها بعد دفع بعدم دستوريتها يبديه أحد الخصوم أمام محكمة الموضوع، وتقدر هي جديته، وتأذن لمن أبداه برفع الدعوى الدستورية، أو إثر إحالة الأوراق مباشرة إلى هذه المحكمة من محكمة الموضوع؛ لقيام دلائل لديها تثير شبهة مخالفة تلك النصوص لأحكام الدستور، ولم يُجز المشرع الدعوى الأصلية سبيلًا للطعن بعدم دستورية النصوص التشريعية. متى كان ذلك، وكان المدعي قد قصر دفعه بشأن نص المادة (303) من قانون العقوبات أمام محكمة الموضوع على فقرتها الثانية وحدها، وهو ما كان محلًّا لتصريح المحكمة؛ ومن ثم لا تكون الدعوى في شأن نص الفقرة الأولى من المادة ذاتها قد اتصلت بالمحكمة الدستورية العليا اتصالًا صحيحًا؛ مما يتعين معه القضاء بعدم قبول الدعوى في هذا الشق منها.

وحيث إن الفقرة الثانية من المادة (302) من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 93 لسنة 1995، تنص على أنه "ومع ذلك فالطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة لا يدخل تحت حكم الفقرة السابقة إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبشرط أن يثبت مرتكب الجريمة حقيقة كل فعل أسنده إليه، ولا يغني عن ذلك اعتقاده صحة هذا الفعل".

 وتنص الفقرة ذاتها بعد استبدالها بالقانون رقم 147 لسنة 2006 على أنه "ومع ذلك فالطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة لا يدخل تحت حكم الفقرة السابقة إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبشرط أن يثبت المتهم حقيقة كل فعل أسنده إلى المجني عليه، ولسلطة التحقيق أو المحكمة، بحسب الأحوال، أن تأمر بإلزام الجهات الإدارية بتقديم ما لديها من أوراق أو مستندات معززة لما يقدمه المتهم من أدلة لإثبات حقيقة تلك الأفعال".

وتنص الفقرة الثانية من المادة (303) من قانون العقوبات، المستبدلة بالقانون رقم 95 لسنة 1996 على أنه " فإذا وقع القذف في حق موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة، وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، كانت العقوبة الحبس مدة لا تجاوز سنتين وغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين".

وتنص الفقرة ذاتها، معدلة بالقانون رقم 147 لسنة 2006، على أنه "فإذا وقع القذف في حق موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة، وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، كانت العقوبة غرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه".

وتنص المادة (306) من القانون ذاته، المعدلة بالقانون رقم 93 لسنة 1995 على أنه " كل سب لا يشتمل على إسناد واقعة معينة بل يتضمن بأي وجه من الوجوه خدشًا للشرف أو الاعتبار يعاقب عليه في الأحوال المبينة بالمادة (171) بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين".

وتنص المادة (307) من القانون المشار إليه، المعدلة بالقانون رقم 93 لسنة 1995 على أنه " إذا ارتكبت جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد من 182 إلى 185 و303 و306 بطريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات رفعت الحدود الدنيا والقصوى لعقوبة الغرامة المبينة في المواد المذكورة إلى ضعفيها".

وتنص المادة (214) من قانون الإجراءات الجنائية، المستبدلة بالقانون رقم 170 لسنة 1981 على أنه " إذا رأت النيابة العامة بعد التحقيق أن الواقعة جناية أو جنحة أو مخالفة وأن الأدلة على المتهم كافية رفعت الدعوى إلى المحكمة المختصة، ويكون ذلك في مواد المخالفات والجنح بطريق تكليف المتهم بالحضور أمام المحكمة الجزئية ما لم تكن الجريمة من الجنح التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر - عدا الجنح المضرة بأفراد الناس فتحيلها النيابة العامة إلى محكمة الجنايات مباشرة، .....".

وتنص المادة (215) من القانون ذاته، المستبدلة بالقانون رقم 107 لسنة 1962على أنه " تحكم المحكمة الجزئية في كل فعل يعد بمقتضى القانون مخالفة أو جنحة عدا الجنح التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر على غير الأفراد".

وتنص المادة (216) من القانون المشار إليه، المعدلة بالقانون رقم 353 لسنة 1952 على أنه " تحكم محكمة الجنايات في كل فعل يُعدّ بمقتضى القانون جناية وفي الجنح التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر عدا الجنح المضرّة بأفراد الناس وغيرها من الجرائم الأخرى التي ينص القانون على اختصاصها بها".

وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة، يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وهو كذلك يقيد مباشرتها لولايتها في شأن هذه الخصومة، فلا تفصل في غير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي. ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين، أولهما: أن يقيم المدعي - وفى حدود الصفة التي اختصم بها النص المطعون عليه - الدليل على أن ضررًا واقعيًّا - اقتصاديًّا أو غيره - قد لحق به، سواء أكان هذا الضرر الذي يتهدده وشيكًا، أم كان قد وقع فعلًا. ويتعين دومًا أن يكون هذا الضرر مباشرًا، منفصلًا عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلًّا بالعناصر التي يقوم عليها، ممكنًا تصوره ومواجهته بالترضية القضائية تسوية لآثاره. ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائدًا إلى النص المطعون فيه، وليس ضررًا متوهمًا أو منتحلًا أو مجهلًا، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلًا على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دلَّ ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك إن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية عما كان عليه قبلها.

متى كان ذلك، وكانت النيابة العامة لم تتهم المدعي بارتكاب جريمة السب المنصوص عليها في المادة (306) من قانون العقوبات؛ ومن ثم فإن الفصل في دستورية هذا النص لا يكون له انعكاس على الدعوى الموضوعية، لتغدو مصلحة المدعي في الطعن عليه منتفية، ولزامه القضاء بعدم قبول الدعوى في هذا الشق منها.

وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه لا يكفي توافر شرط المصلحة عند رفع الدعوى الدستورية، وإنما يتعين أن تظل هذه المصلحة قائمة حتى الفصل فيها، فإذا زالت المصلحة بعد رفع الدعوى الدستورية، وقبل الفصل فيها، فلا سبيل للتطرق إلى موضوعها.

وحيث إن نص الفقرة الثانية من المادة (302) من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 93 لسنة 1995، والمستبدلة بالقانون رقم 147 لسنة 2006، قد انتظم سببًا لإباحة فعل كل من يطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة، وحدده في أن يكون فعله قد حصل بسلامة نية ولا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وأن يثبت المتهم حقيقة كل فعل أسنده إلى المجني عليه، وناط بسلطة التحقيق أو المحكمة - بحسب الأحوال– أن تلزم الجهات الإدارية بتقديم ما لديها من أوراق أو مستندات معززة لما يقدمه المتهم لإثبات حقيقة تلك الأفعال.

وحيث إن المادة (32) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الصادر بالقانون رقم 180 لسنة 2018، تنص على أنه "لا يعاقب الصحفي أو الإعلامي جنائيًّا على الطعن في أعمال موظف عام، أو شخص ذي صفة نيابية عامة، أو مكلف بخدمة عامة بطريق النشر أو البث إلا إذا ثبت أن النشر أو البث كان بسوء نية، أو لا أساس له من الصحة، أو كان عديم الصلة بأعمال الوظيفة أو الصفة النيابية أو الخدمة العامة". ولما كان مفاد هذا النص ومقتضاه، أن المشرع قد خص الصحفي أو الإعلامي بسبب لإباحة طعنه في أعمال موظف عام، أو شخص ذي صفة نيابية عامة، أو مكلف بخدمة عامة، يغاير في نطاقه وحدوده سبب الإباحة المنصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة (302) من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 93 لسنة 1995 والمستبدلة بالقانون رقم 147 لسنة 2006، ذلك أنه لم يكلف الصحفي أو الإعلامي، في حال الطعن في أعمال الفئات الثلاث المار بيانها، بإثبات سلامة نيته وعدم تعدي الطعن إلى غير أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وإثبات حقيقة كل فعل أسنده إلى المجني عليه، وإنما ناط بسلطة التحقيق أو المحكمة، بحسب الأحوال، أن تثبت طبقًا للقواعد العامة للإثبات في المواد الجنائية، أن الطعن في أعمال أي من الفئات الثلاث، الذي يتم بطريق النشر أو البث، كان بسوء نية، أو لا أساس له من الصحة، أو كان عديم الصلة بأعمال الوظيفة أو الصفة النيابية أو الخدمة العامة، بما مؤداه أن المدعي – بصفته صحفيًّا – لم يعد اعتبارًا من تاريخ العمل بالقانون رقم 180 لسنة 2018 الفائت ذكره، مخاطبًا بنص الفقرة الثانية من المادة (302) من قانون العقوبات، المطعون عليه؛ ومن ثم لم تعد له مصلحة شخصية مباشرة في الطعن عليه. ولا يغير من ذلك الاحتجاج بتماثل حكم المادة (32) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المار ذكره، مع ما أورده عجز النص المطعون فيه، بعد استبداله بالقانون رقم 147 لسنة 2006، فيما تضمنه من تخويل سلطة التحقيق أو المحكمة – بحسب الأحوال- أن تأمر بإلزام الجهات الإدارية بتقديم ما لديها من أوراق ومستندات معززة لما يقدمه المتهم من أدلة لإثبات حقيقة تلك الأفعال، بالنظر إلى أن التعديل الآنف بيانه، لم يرفع عمن يطعن في أعمال أي من الفئات الثلاث السالف ذكرها بالنص، عبء المبادرة إلى إثبات حقيقة كل فعل أسنده إلى المجني عليه، محددًا دور سلطة التحقيق أو المحاكمة في إلزام الجهات الإدارية بتقديم ما لديها من أوراق ومستندات معززة لما يقدمه المتهم ابتداءً – من أدلة لإثبات حقيقة ما أسنده من أفعال للمجني عليه، ولا كذلك الحال فيما استنه نص المادة (32) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المشار إليه، من تكليف سلطة التحقيق أو المحكمة أن تثبت عند الإحالة أو الإدانة – بحسب الأحوال – أن الطعن الذي وجهه الصحفي أو الإعلامي إلى أعمال أي من الفئات الثلاث المذكورة بهذا النص، لا أساس له من الصحة. متى كان ذلك، وكانت المصلحة الشخصية المباشرة للمدعي من الطعن على نص الفقرة الثانية من المادة (302) من قانون العقوبات، بعد تعديلها واستبدالها المار بيانه، قد زالت، فإن القضاء بعدم قبول الدعوى في هذا الشق منها يغدو متعينًا.

وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلًا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائي الأسوأ، غير أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقًا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائي سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التي تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسًا، وذلك إعمالًا لقاعدة القانون الأصلح للمتهم، تلك القاعدة التي وإن اتخذت من نص المادة (5) من قانون العقوبات موطئًا وسندًا، إلا أن صون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور الحالي بنص المادة (54) منه يقيم هذه القاعدة ويرسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها، ذلك أن ما يعتبر قانونًا أصلح للمتهم، وإن كان لا يندرج تحت القوانين التفسيرية التي تندمج أحكامها في القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه، باعتبارها جزءًا منه يبلور إرادة المشرع التي قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التي أثمها القانون القديم، أو يعدل تكييفها أو بنيان العناصر التي تقوم عليها، أو يُعدل عقوباتها بما يجعلها أقل بأسًا، إنما ينشئ للمتهم مركزًا قانونيًّا جديدًا، ويُقوض مركزًا سابقًا؛ ومن ثم يحل القانون الجديد – وقد صار أكثر رفقًا بالمتهم، وأعون على صون الحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقًّا طبيعيًّا لا يمس – محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل يُنحي ألحقهما أسبقهما.

متى كان ذلك، وكان المشرع قد ألغى عقوبة الحبس المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة (303) من قانون العقوبات، وذلك بموجب المادة الثانية من القانون رقم 147 لسنة 2006، فإنها تُعد قانونًا أصلح للمدعي - وإن ضاعف عقوبة الغرامة إلى مثليها-، تلتزم محكمة الموضوع بتطبيقه عليه دون النص ذاته قبل استبداله، وكان نص المادة (307) من القانون ذاته قد رفع الحدود الدنيا والقصوى لعقوبة الغرامة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة (303) من قانون العقوبات إذا ارتكبت الجريمة بطريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات – وهو الاتهام المسند إلى المدعي -، وكانت نصوص المواد (214/1 و215 و216) من قانون الإجراءات الجنائية، قد عقدت الاختصاص بنظر الجنح التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر، عدا الجنح المضرة بآحاد الناس، إلى محكمة الجنايات، وكان المدعي قد قُدم إلى تلك المحكمة، لمحاكمته طبقًا للمادتين (303/2 و307) من قانون العقوبات، فإن نطاق هذه الدعوى يتحدد بهذين النصين بعد استبدال أولهما بالقانون رقم 147 لسنة 2006، وتعديل ثانيهما بالقانون رقم 93 لسنة 1995، وبنصوص الفقرة الأولى من المادة (214) من قانون الإجراءات الجنائية، المستبدلة بالقانون رقم 170 لسنة 1981، والمادة (215) من القانون ذاته، المستبدلة بالقانون رقم 107 لسنة 1962، والمادة (216) من القانون المشار إليه، المستبدلة بالقانون رقم 353 لسنة 1952، وقبل استبدال نصوص قانون الإجراءات الجنائية الثلاثة الفائت ذكرها بالقانون رقم 1 لسنة 2024.

وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، بحسبانه مستودع القيم التي يجب أن تقوم عليها الجماعة، وتعبيرًا عن إرادة الشعب منذ صدوره، ذلك أن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها النظام العام في المجتمع، وتشكل أسمى القواعد الآمرة التي تعلو على ما دونها من تشريعات؛ ومن ثم يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من تشريعات - أيًّا كان تاريخ العمل بها - لضمان اتساقها والمفاهيم التي أتى بها، فلا تتفرق هذه القواعد في مضامينها بين نظم مختلفة يناقض بعضها البعض، بما يحول دون جريانها وفق المقاييس الموضوعية ذاتها التي تطلبها الدستور القائم كشرط لمشروعيتها الدستورية. متى كان ذلك، وكانت المطاعن التي وجهها المدعي للنصوص المطعون عليها تندرج تحت المطاعن الموضوعية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي؛ ومن ثم فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على دستورية النصوص المطعون عليها، التي لا تزال قائمة ومعمولًا بها، في ضوء أحكام الدستور الحالي الصادر سنة 2014.

وحيث إن المدعي ينعى على نص المادتين (303/2 و307) من قانون العقوبات، انتفاء الضرورة الاجتماعية لتأثيم الأفعال المنصوص عليها في أولهما؛ قولاً منه إن قواعد المسئولية المدنية تكفي لمواجهة الأخطار الاجتماعية المترتبة على هذا الفعل، وأن التجريم في أحوال الطعن في عمل الموظف العام يرهق الحق في حرية الرأي، وهو جوهر النظام الديموقراطي الذي لا يتصور قيامه في غيبته، وهو ما يخالف أحكام الدستور والعديد من المعاهدات الدولية التي صدقت عليها مصر؛ ومن ثم فإن ترتيب مسئولية جنائية على مباشرة حرية الرأي يغدو أمرًا محظورًا دستوريًّا، وأن عقوبة الغرامة المرصودة للجريمة المنصوص عليها في المادة السالف بيانها، والتي رُفع حداها الأدنى والأقصى، إذا ارتكبت بطريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات، بموجب نص المادة (307) من قانون العقوبات، يتعين أن تقتصر على صورها الأشد جسامة، التي تستطيل إلى الأعراض، أو تهدد السلم العام، أو حال العلم بزيف القول وعدم صحته.

وحيث إن إباحة نقد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته، تُعد حقًّا مكفولًا لكل مواطن، تمكنه من عرض الآراء وتداولها، بما يحول- كأصل عام- دون إعاقتها أو فرض قيود مسبقة على نشرها، وهى حرية يقتضيها النظام الديموقراطي، وليس مقصودًا بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته، ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة وعبر الحدود المختلفة، وعرضها في آفاق مفتوحة تتوافق فيها الآراء في بعض جوانبها أو تتصادم في جوهرها ليظهر ضوء الحقيقة جليًّا من خلال مقابلتها ببعض، وقوفًا على ما يكون منها زائفًا أو صائبًا، منطويًّا على مخاطر واضحة أو محققًا لمصلحة مبتغاة، ومن غير المحتمل أن يكون نقد الأوضاع المتصلة بالعمل العام، تبصيرًا بنواحي التقصير فيه، مؤديًا إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة، وليس جائزًا بالتالي أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة أو مواطن الخلل في أداء واجباتها، وكلما نكل القائمون بالعمل العام- تخاذلًا أو انحرافًا- عن حقيقة واجباتهم مهدرين الثقة العامة المودعة فيهم، كان تقويم اعوجاجهم حقًّا وواجبًا مرتبطًا ارتباطًا عميقًا بالمباشرة الفعالة للحقوق التي ترتكز في أساسها على المفهوم الديموقراطي لنظام الحكم، ويندرج تحتها محاسبة القائمين على العمل العام، وإلزامهم مراعاة الحدود والخضوع للضوابط التي فرضها الدستور عليهم.

وحيث إن الدستور القائم قد نص في المادة (65) منه على أن حرية الرأي مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير، فإن الدستور يكون قد كفل بهذا النص حرية التعبير عن الرأي بمدلول جاء عامًّا، ليشمل حرية التعبير عن الآراء في مجالاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويندرج تحتها الحق في النقد، وما ذلك إلا لأن الحق في النقد – وخاصة في جوانبه السياسية – يعتبر إسهامًا مباشرًا في صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأثرًا حتميًّا لما أوجبه الدستور في المادة (5) منه من تلازم المسئولية مع السلطة، وهو ما لا يكون إلا بإتاحة وسائل الطعن في عمل الموظف العام أو من في حكمه، كضرورة لازمة للسلوك المنضبط في الدول الديموقراطية، وعائقًا دون الإخلال بحرية المواطن في أن يعلم، وأن يكون في ظل التنظيم البالغ التعقيد للعمل الحكومي قادرًا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه، وإذا كان الدستور الحالي قد أكد في مادته رقم (68) على التزام الدولة بالإفصاح عن المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية مؤكدًا على ملكية الشعب لها، وهو حق للمواطنين تكفله الدولة وتلتزم بإتاحته لهم بشفافية فقد دل ذلك على استواء الحق في نشر هذه الحقائق كأحد الحقوق الدستورية المصونة، ولو كانت تتضمن طعنًا في العمل العام، فليس للسلطة التنفيذية أن تتخير من الآراء ما يكون منها في تقديرها موضوعيًّا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق في الحوار العام، وهو حق يتعين أن يكون مكفولًا لكل مواطن وعلى قدم من المساواة الكاملة. فإذا ما حاد الرأي المنشور عن استهداف الصالح العام، وكان النقد منطويًّا على آراء تنعدم قيمها الاجتماعية، كتلك التي تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التي تكون منطوية على الفحش من القول، أو محض التعريض بالسمعة، أو الحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة تتعرض به لمصلحة حيوية، فإن الحماية الدستورية تنسحب عنها، لتخضع إلى المساءلة الجنائية.

وحيث إن الدستور في مقام ترسيمه للحقوق الدستورية اللصيقة بشخص المواطن على ما حددته المادة (92) من الدستور، وهي تلك الحقوق الدستورية التي لا يجوز المساس بها، ولا التنازل عنها، أعلى من شأن الكرامة الإنسانية، بحسبانها الأساس الذي لا تتنفس الحرية الشخصية إلا بضمان وجوده، فنص في المادة (51) منه، على أن الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها، فشملت الحماية الدستورية المقررة لهذا الحق كل إنسان دون اعتبار إلى جنسيته أو نوعه، أو مركزه الوظيفي، ليكون كل اعتداء عليها - في غير أحوال الإباحة - إخلالًا بهذا الحق الدستوري، ومن جهة أخرى ألقى على الدولة واجبًا في أن تتصون بسائر تشريعاتها للكرامة الإنسانية، فتحول دون المساس بها، وأن تقوم على حمايتها والذود عنها؛ قاصدًا من ذلك أن يكفل لكل إنسان يحيا على أرض هذا الوطن الحق في صون كرامته، وحفظها من المساس بها، ومن تجليات هذا الحق الدستوري، أن ألقى الدستور في المادة (59) منه على الدولة التزامًا أصيلًا بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها، بل يمتد ولكل مقيم على أرضها، وهو التزام لا يقتصر على حفظ النفس من الاعتداء المادي عليها، بل إلى حفظ الكرامة الإنسانية كذلك، ومن أخص خصائصها تأثيم الاعتداء عليها بكل فعل يوجب عقاب المجني عليه أو احتقاره عند أهل قومه، متى وقع خارج حدود الإباحة.

وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، فإن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها، أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيّا أن يحدد من منظور اجتماعي، ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفا للدستور، إلا إذا كان مجاوزًا حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية، ومن ثم يتعين على المشرع، حين يقدر وجوب التدخل بالتجريم حماية لمصلحة المجتمع، أن يجري موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وضمان حريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.

وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات المنصوص عليه في المادة (95) من الدستور، إنما يتحدد على ضوء عدة ضمانات، يأتي على رأسها وجوب صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع، متصيّدًا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بيّنة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها ونزولًا عليها. وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنًا ماديًّا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحًا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء، في زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًّا كان هذا الفعل أم سلبيًّا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهى التي يتصور إثباتها ونفيها، وهى التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها عن بعض، وهى التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعًا واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها؛ ومن ثَمَّ تعكس هذه العناصر تعبيرًا خارجيًّا وماديًّا عن إرادة واعية، وبالتالي لا يتصور- وفقًا لأحكام الدستور - أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا خارجيًّا مؤاخذًا عليه قانونًا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيًّا في صور مادية لا تخطئها العين؛ فليس ثمة جريمة.

وحيث إن افتراض أصل البراءة الذي نص عليه الدستور في المادة (96) منه - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - يُعد أصلًا ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها، وقد غدا حتمًا عدم جواز نقض البراءة بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من مجموعها عقيدتها، حتى تتمكن من دحض أصل البراءة المفروض في الإنسان، على ضوء الأدلة المطروحة أمامها، التي تثبت كل ركن من أركان الجريمة، وكل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبًا فيها، وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة.

وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة، أنه لا تجوز معاملة المتهمين بوصفهم نمطًا ثابتًا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، بما مؤداه: أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وتقرير استثناء من هذا الأصل - أيًّا كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه: أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم، وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة، بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وبما يقيد الحرية الشخصية دون مقتضى، ذلك أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل قاضٍ سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرًا لها، في الحدود المقررة قانونًا، فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبرًا لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها، وأن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة بما يوائم بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في كل حالة بذاتها، مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يكون إنفاذها إلا عملًا مجردًا يعزلها عن بيئتها، دالًّا على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامدًا فجًّا منافيًا لقيم الحق والعدل.

متى كان ذلك، وكان المشرع قد حدد أفعال الركن المادي للجريمة المعاقب عليها في الفقرة الثانية من المادة (303) من قانون العقوبات، معدلة بالقانون رقم 147 لسنة 2006، في إسناد واقعة غير صحيحة لموظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة، أو مكلف بخدمة عامة، وذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، مما يوجب - لو صحت – عقاب من أُسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانونًا، أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه، وتطلب المشرع في النص المطعون عليه توافر قصد جنائي عمدي لدى المتهم قوامه العلم بصفة المجني عليه، وأن الواقعة التي يسندها إليه كانت بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، مجاوزًا فيما تقدم حدود وضوابط الإباحة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة (302) من القانون ذاته، أو تلك المنصوص عليها في المادة (32) من القانون رقم 180 لسنة 2018 – بحسب الأحوال -، ليكون القذف في حق هذه الفئات، مدخلًا إلى التشهير بهم دون حق، وإيذاء مشاعرهم إعناتًا أو التهوين من قدرهم عدوانًا، أو لمنعهم من أداء واجباتهم كيدًا أو لددًا؛ بما لازمه أن يكون تأثيم فعل الجاني - والحال هكذا – قد استوى على مدارج الشرعية الدستورية، ويكون النعي عليه بمخالفة الدستور لغوًا.

وحيث إن العقوبة المرصودة بنص الفقرة الثانية من المادة (303) المطعون عليها قد استوفت مقتضيات القيد الدستوري المنصوص عليه في المادة (71) من الدستور، بحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، في غير أحوال الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فإنه يكون قد سلم من مخالفة هذا القيد الدستوري، وكان المشرع قد قرر عقوبة الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ولا تزيد عن عشرين ألف جنيه، وهي عقوبة تتدرج بين حدين أدنى وأعلى، تاركًا للمحكمة أن تقدر القدر المناسب منها بحسب جسامة الفعل المنسوب للمتهم، وخطورته الإجرامية؛ فإنه يكون قد انضبط بأحكام دستورية العقوبة، ولم يجترأ على تخومها، وهو عين ما التزمه المشرع إذ شدد عقوبة الغرامة المنصوص عليها في المادة (307) من قانون العقوبات، لتبلغ ضعفي الحدين الأدنى والأقصى المنصوص عليهما في الفقرة الثانية من المادة (303) المار ذكرها، وهو تقدير عقابي مبرر، حال وقوع القذف بطريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات، لما لهذه الوسيلة من سعة نشر، ليبلغ الضرر مداه باطلاع عدد غير محدود على وقائع غير صحيحة، نسبت لموظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة، أو مكلف بخدمة عامة، بمناسبة أدائه الوظيفة، أو النيابة أو التكليف العام؛ ومن ثم يكون تشديد العقوبة عند اتخاذ هذه الوسيلة مبررًا موضوعيًّا يتوافق مع ضوابط العقاب في الدستور.

وحيث إن المشرع قد أتاح للمحكمة الجنائية -إذا ما خلصت للإدانة- أن تقدر لكل حال ما يناسبها من العقوبة، مراعية في ذلك جسامة الفعل، وخطورة فاعله، وكان المشرع لم يحل بهذين النصين بين المحكمة وبين حقها في القضاء بالبراءة إن تشككت في الواقعة، أو ثبت لديها قيام سبب للإباحة أو مانع للمسئولية، ولم يمنعها من استعمال مكنة وقف تنفيذ العقوبة إن رأت لذلك مبررًا، وكان هذا التقدير في عمومه محمول من زاوية دستورية، ليتناسب مع الجرم المرتكب؛ ومن ثم فإن نص الفقرة الثانية من المادة (303) المستبدلة بالقانون رقم 147 لسنة 2006 والمادة (307) من قانون العقوبات، يكونان قد وافقا أحكام التجريم والعقاب في الدستور، وسلما من مظنة مخالفتها؛ وتقضي المحكمة تبعًا لذلك برفض الدعوى في هذا الشق منها.

وحيث إنه عن نعي المدعي على نصوص المواد (214/1 و215 و216) من قانون الإجراءات الجنائية إخلالها بمبدأ المساواة، والحق في التقاضي، إذ أقامت تمييزًا غير مبرر بين جنح القذف التي تختص بها محكمة الجنح، بما يتيح نظرها على درجتين، وبين جرائم القذف التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر، على موظف عام أو من في حكمه، بسبب أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، التي تختص محكمة الجنايات بنظرها على درجة واحدة.

وحيث إنه عما نعى به المدعي على النصوص المشار إليها من حظر نظر الدعاوى التي تختص بها محكمة الجنايات على درجتين – قبل العمل بالقانون رقم 1 لسنة 2024 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية – فإن هذا الحظر قد انتظمته الفقرة الأخيرة من المادة (381) من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على أنه " لا يجوز الطعن في أحكام محاكم الجنايات إلا بطريق النقض أو إعادة النظر"، وكان المدعي لم يطعن على هذا النص، ووجَّه الخصومة الدستورية إلى نصوص قانون الإجراءات الجنائية السالف بيانها، فإن نعيه في الشأن المار ذكره، لا يتصل بالنصوص المطعون عليها؛ مما يتعين الالتفات عنه، وينحصر منعاه على نصوص قانون الإجراءات الجنائية، فيما تضمنته من إسناد الاختصاص بنظر الجنح التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر، عدا الجنح المضرة بأفراد الناس، إلى محكمة الجنايات، دون محكمة الجنح.

وحيث إن هذا النعي - في النطاق الذي تحدد به – غير سديد، ذلك أن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مبدأ المساواة أمام القانون يتعين تطبيقه على المواطنين كافة، باعتباره أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي ، وعلى تقدير أن الغاية التي يستهدفها تتمثل أصلًا في صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، وأضحى هذا المبدأ – في جوهره– وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا يقتصر نطاق تطبيقها على الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، بل يمتد مجال إعمالها كذلك إلى تلك التي كفلها المشرع للمواطنين، في حدود سلطته التقديرية، وعلى ضوء ما يرتئيه محققًا للصالح العام. إذ كان ذلك، وكان من المقرر أيضًا أن صور التمييز المجافية للدستور، وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين للانتفاع بها، بما مؤداه أن التمييز المنهي عنه دستوريًّا هو ما يكون تحكميًّا، ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها يُعتبر هذا التنظيم ملبيًا لها، وتعكس مشروعية هذه الأغراض إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع لبلوغها متخذًا من القواعد القانونية التي يقوم عليها هذا التنظيم سبيلًا إليها؛ إذ إن ما يصون مبدأ المساواة ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذى يقيم تقسيمًا تشريعيًّا ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها بالأغراض المشروعة التي يتوخاها، فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، أو كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهيًا؛ كان التمييز انفلاتًا وعسفًا، فلا يكون مشروعًا دستوريًّا.

وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في تنظيمه لحق التقاضي – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أنها سلطة تقديرية ، جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزنًا، وليس من قيد على مباشرة المشرع لهذه السلطة إلا أن يكون الدستور ذاته قد فرض في شأن مباشرتها ضوابط محددة تعتبر تخومًا لها ينبغي التزامها، وفى إطار قيامه بهذا التنظيم لا يتقيد المشرع باتباع أشكال جامدة لا يريم عنها، تفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز له أن يغاير فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء مفاهيم متطورة تقتضيها الأوضاع التي يباشر الحق في التقاضي في نطاقها، وبما لا يصل إلى إهداره، ليظل هذا التنظيم مرنًا، فلا يكون إفراطًا يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافًا بها عن أهدافها، ولا تفريطًا مجافيًا لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قوامًا، التزامًا بمقاصدها، باعتبارها شكلًا للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالًا.

متى كان ذلك، وكان البين أن رائد المشرع في إسناد الاختصاص بنظر جنح القذف التي تقع بطريق النشر على موظف عام أو من في حكمه بسبب أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، هو مراعاة ما يستوجبه القضاء في هذه الجريمة من الوقوف على حدود إباحة الفعل – إن توافرت شرائطها القانونية – التي تتساند في جوهرها إلى حرية الرأي والحق في التعبير، وهما من بين الحقوق الشخصية التي لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصًا – على ما جرى به نص المادة (92) من الدستور - ولا كذلك الحال بالنسبة لجريمة القذف في حق آحاد الناس، التي يقضى في شأنها على ضوء أحكام الفقرة الأولى من المادتين (302 و303) من قانون العقوبات، دون أن يكون مطروحًا على محكمة الجنح تقصي أسباب الإباحة التي انتظمها نص الفقرة الثانية من المادة (302) من القانون ذاته، أو المادة (32) من القانون رقم 180 لسنة 2018، بحسب الأحوال؛ ومن ثم أسند المشرع إلى محكمة الجنايات الاختصاص بنظر الجنح التي تقع بواسطة الصحف، عدا الجنح المضرة بآحاد الناس، على النحو الذي انتظمته نصوص قانون الإجراءات الجنائية المطعون عليها، لما يتمتع به قضاتها من خبرات قضائية متراكمة، تؤهلهم للفصل في جريمة خصها المشرع بسبب إباحة لم يقرره لغيرها من جرائم الباب السابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات. لما كان ذلك؛ فإن إسناد الاختصاص إلى محكمة الجنايات بنظر الجريمة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة (302) من قانون العقوبات، على ما تجري به نصوص المواد (214/1 و215 و216) من قانون الإجراءات الجنائية، يكون واقعًا في إطار السلطة التقديرية للمشرع، وقام على أسباب موضوعية تبرره.

وحيث إنه لما تقدم، وكانت النصوص المطعون عليها - في حدود النطاق المحدد سلفًا - لا تخالف أي حكم آخر من أحكام الدستور؛ فإن هذه المحكمة تقضي برفض الدعوى.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أنه يتعين على محكمة الموضوع أن تلتزم قضاءها بتقدير جدية الدفع، وأن تتربص قضاء المحكمة الدستورية العليا، وإلا كان ذلك نكولًا من جانبها عن التقيد بنص المادة (192) من الدستور القائم، التي تخول المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح. غير أنه وقد انتهت هذه المحكمة فيما تقدم إلى القضاء برفض الدعوى، فلا تثريب على محكمة الموضوع إن كانت قد استمرت في نظر الدعوى الموضوعية، وقضت فيها غيابيًّا بجلسة 13/2/2018، بإدانة المدعي استنادًا إلى النصوص المطعون عليها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق