الصفحات

السبت، 19 فبراير 2022

دستورية حظر البناء في الأراضي الواقعة خارج الأحوزة العمرانية المعتمدة للقرى والمدن

الدعوى رقم 75 لسنة 35 ق "دستورية" جلسة 16 / 1 / 2022

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد السادس عشر من يناير سنة 2022م، الموافق الثالث عشر من جمادى الآخر سنة 1443 ه.

برئاسة السيد المستشار / سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة

وعضوية السادة المستشارين: بولس فهمى إسكندر والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي وعلاء الدين أحمد السيد والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز نواب رئيس المحكمة

وحضور السيد المستشار / عوض عبدالحميد عبدالله رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد / محمد ناجى عبد السميع أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 75 لسنة 35 قضائية "دستورية".

المقامة من

محمد صوفي عبدالمقصود

ضد

1- وزير العدل

2– رئيس مجلس الوزراء

3- رئيس مجلس الشورى (الشيوخ حاليًا)

-----------------------

الإجراءات

بتاريخ الرابع عشر من مايو سنة 2013، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى، قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نص المادة (102) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008.

 

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.

ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر جلسة 4/12/2021، وفيها قررت المحكمة إصدار الحكم في الدعوى بجلسة 1/1/2022، ثم قررت مد أجل النطق بالحكم لجلسة اليوم.

------------------
المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن النيابة العامة، كانت قد أسندت إلى المدعى، في الجنحة رقم 2456 لسنة 2013 مركز سنورس، أنه بتاريخ 9/1/2012، أقام مباني على أرض زراعية قبل الحصول على ترخيص من الجهة المختصة. وطلبت عقابه بالمادتين (152/1، 156/1-2) من القانون رقم 53 لسنة 1966 المعدل بالقانونين رقمي 116 لسنة 1983 و2 لسنة 1985. تدوولت الدعوى أمام محكمة جنح مركز سنورس الجزئية، التي عدلت مواد ووصف الاتهام ليصبح جنحة بالمادة الثانية من مواد إصدار القانون رقم 119 لسنة 2008 والمواد (38، 39، 40/2، 41/1، 98، 102/1) من قانون البناء، وقيدت الدعوى ضد المدعى، لأنه في يوم 9/1/2012 بدائرة مركز سنورس " قام بعمل من أعمال البناء بدون الحصول على ترخيص بذلك من الجهة المختصة خارج الأحوزة العمرانية وذلك على النحو المبين بالأوراق". دفع المدعى بعدم دستورية نص المادة (102) من القانون رقم 119 لسنة 2008، وصرحت محكمة الموضوع للمدعى بإقامة الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى المعروضة. وبجلسة 30/6/2013، حكمت تلك المحكمة حضوريًّا اعتباريًّا بتغريم المدعى مثلي قيمة الأعمال، وضمنت حكمها " أن الطعن المُبدى من المدعى بعدم الدستورية غير جدي في تقدير المحكمة، وليس له تأثير على النتيجة التي ينتهى إليها الحكم، فتقضي برفضه".

 

 وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الدعوى الدستورية وإن كانت تستقل بموضوعها عن الدعوى الموضوعية، باعتبار أن أولاهما تتوخى الفصل في التعارض المدعى به بين نص تشريعي، وقاعدة في الدستور، في حين تطرح ثانيتهما – في صورها الأغلب وقوعًا – الحقوق المدعى بها في نزاع موضوعي يدور حول إثباتها أو نفيها، فإن هاتين الدعويين لا تنفكان عن بعضهما من زاويتين: أولاهما: أن المصلحة في الدعوى الدستورية – وهي شرط لقبولها – مناط ارتباطها بالمصلحة في الدعوى الموضوعية، بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية مؤثرًا في الطلب الموضوعي المرتبط بها، وثانيتهما: أن الفصل في الدعوى الموضوعية متوقف دومًا على الفصل في الدعوى الدستورية. ولا يعدو استباق الفصل في الدعوى الموضوعية، أن يكون هدمًا للصلة الحتمية والعضوية بينها وبين الدعوى الدستورية، ذلك أن قانون المحكمة الدستورية العليا خوّل المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي السلطة الكاملة التي تقدر بها " ابتداء" الدلائل على جدية المطاعن الدستورية الموجهة إلى النصوص التشريعية، فإذا جاز لها " انتهاء" أن تفصل في النزاع الموضوعي المعروض عليها قبل الفصل في الدعوى الدستورية التي ارتبط بها هذا النزاع، كان قضاؤها فيه، دالاً على تطبيقها – في النزاع المعروض عليها – للنصوص التشريعية التي ثارت لديها شبهة مخالفتها للدستور، والتي لا تزال المطاعن الموجهة إليها منظورة أمام المحكمة الدستورية العليا لتقرير صحتها أو بطلانها، وليس ذلك إلا عدوانًا على ولايتها متضمنًا تسليطًا لقضاء أدنى على أحكام المحكمة الدستورية العليا التي تتصدر التنظيم القضائي في جمهورية مصر العربية". ومن ثم، فإن حكم محكمة الموضوع المشار إليه، وقد صدر دون أن يتربص قضاء المحكمة الدستورية العليا، يغدو لا أثر له في استمرار ولاية المحكمة الدستورية العليا، في نظر الدعوى الدستورية المعروضة، ويظل اتصالها بها، مطابقًا للأوضاع القانونية المقررة في قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979.



وحيث إن المادة الثانية من القانون رقم 119 لسنة 2008 بإصدار قانون البناء تنص على أن " تُحظر إقامة أي مبانٍ أو منشآت خارج حدود الأحوزة العمرانية المعتمدة للقرى والمدن أو المناطق التي ليس لها مخطط استراتيجي عام معتمد، أو اتخاذ أي إجراءات في شأن تقسيم هذه الأراضي، ويستثنى من هذا الحظر: أ- الأراضي التي تُقام عليها مشروعات تخدم الإنتاج الزراعي أو الحيواني في إطار الخطة التي يصدر بها قرار من مجلس الوزراء، بناءً على عرض الوزير المختص بالزراعة.

ب- الأراضي الزراعية الواقعة خارج أحوزة القرى والمدن التي يقام عليها مسكن خاص أو مبنى خدمي، وذلك طبقًا للضوابط التي يصدر بها قرار من الوزير المختص بالزراعة.

ويشترط في الحالات الاستثنائية المشار إليها في البندين (أ) و (ب) صدور ترخيص طبقًا لأحكام هذا القانون".



وتنص المادة (102) من قانون البناء المشار إليه على أن " يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات أو الغرامة التي لا تقل عن مثلى قيمة الأعمال المخالفة ولا تجاوز ثلاثة أمثال هذه القيمة، كل من قام بإنشاء مبان أو إقامة أعمال أو توسيعها أو تعليتها أو تعديلها أو تدعيمها أو ترميمها أو هدمها بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة .

كما يُعاقب بذات العقوبة كل من يخالف أحكام المادة الثانية من قانون الإصدار .

ويُعاقب بعقوبة الحبس المشار إليها في الفقرة الأولى، وبغرامة لا تقل عن مثلى قيمة الأعمال المخالفة بما لا يجاوز خمسمائة ألف جنيه، كل من قام باستئناف أعمال سبق وقفها بالطريق الإداري على الرغم من إعلانه بذلك.

وفى جميع الأحوال تخطر نقابة المهندسين أو اتحاد المقاولين – حسب الأحوال – بالأحكام التي تصدر ضد المهندسين أو المقاولين وفقًا لأحكام هذا القانون لاتخاذ ما يلزم بشأنهم".



وحيث إن المدعى ينعى على نص المادة (102) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، إقراره من مجلس تشريعي قُضى ببطلان انتخاب معظم دوائره، وصدوره مناقضًا التزام الدولة بتنمية الريف، ومخالفًا للحق في السكن، مفتئتًا على الحق في الملكية، مشوبًا بالغموض في أحكامه، قاصرًا في غايته على جباية أموال المواطنين، من خلال ما يفرضه عليهم من جزاء، يؤدي إلى إفقارهم.



وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المصلحة الشخصية المباشرة في الدعوى الدستورية – وهى شرط لقبولها – مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية التي تُطرح على هذه المحكمة لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، فلا تفصل المحكمة الدستورية العليا في غير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي.



متى كان ما تقدم، وكان الفعل الذي أُسند إلى المدعى ارتكابه، بمقتضى القيد والوصف المعدلين للاتهام، من قِبل محكمة الموضوع، يتساند تجريمه إلى صدر الفقرة الأولى من المادة الثانية من القانون رقم 119 لسنة 2008 بإصدار قانون البناء، ونُص على عقوبته في الفقرة الثانية من المادة (102) من قانون البناء المشار إليه، التي أحالت في بيان نوع العقوبة وحدودها إلى نص الفقرة الأولى من المادة ذاتها، وكان طعن المدعى بعدم الدستورية، وإن انصب على نص المادة (102) من قانون البناء، دون نص المادة الثانية من قانون الإصدار رقم 119 لسنة 2008، فإن نص الفقرة الثانية من المادة المطعون عليها، وقد أحال بصورة جلية إلى نص التجريم المشار إليه، يكون قد قصد من ذلك إلحاقه بأحكامه منتزعًا إياه من إطاره التشريعي، جاعلاً منه لبنة من بنيانه وجزءًا من نسيجه مندمجًا فيه، ومن ثم تتحقق مصلحة المدعى في الطعن على صدر الفقرة الأولى من المادة الثانية من القانون رقم 119 لسنة 2008، والفقرة الثانية من المادة (102) من قانون البناء فيما تضمنتاه من : حظر إقامة أي مبان أو منشآت خارج حدود الأحوزة العمرانية المعتمدة للقرى والمدن، ومعاقبة كل من يخالف هذا الحظر بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات أو الغرامة التي لا تقل عن مثلى قيمة الأعمال المخالفة ولا تجاوز ثلاثة أمثال هذه القيمة.

وحيث إن من المقرر – في قضاء هذه المحكمة - أن الرقابة الدستورية على القوانين من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة تستهدف أصلاً صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، باعتبار أن نصوص هذا الدستور تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي أثارها المدعى على النصين موضوع الدعوى المعروضة – المحددين نطاقًا على ما سلف بيانه – تندرج ضمن المطاعن الموضوعية، التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثم فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على النصين موضوع الدعوى المعروضة، اللذين مازالا قائمين ومعمولاً بأحكامهما، في ضوء أحكام الدستور القائم الصادر سنة 2014.



وحيث إنه عن النعي على نصوص قانون البناء المشار إليه، صدورها من مجلس تشريعي قُضى ببطلان عدد من الدوائر الانتخابية المتخذة أساسًا لتشكيله، مما يستتبع بطلان ما صدر عنه من قوانين، فإنه مردود؛ بما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا من أن " القول ببطلان قانون معين بناءً على ادعاء صدوره من مجلس نيابي قُضى ببطلان تكوينه، ينحل إلى ادعاء بانتفاء اختصاص هذا المجلس بإقراره، ومن ثم يندرج هذا الادعاء في إطار العيوب الشكلية التي لا يسلم التشريع منها، إذا صدر عن جهة لا اختصاص لها بإقراره أو بإصداره"

وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد استقر على أن " الاستيثاق من توافر الأوضاع الشكلية التي يتطلبها الدستور في القوانين جميعها، يُعتبر سابقًا بالضرورة على الخوض في اتفاقها أو تعارضها مع الأحكام الموضوعية للدستور، فإن الفصل في عوار موضوعي يدل بالضرورة على استيفاء النصوص القانونية المطعون عليها لمتطلباتها الشكلية بما يحول دون بحثها من جديد"

لما كان ما تقدم؛ وإذ سبق للمحكمة الدستورية العليا، أن قضت بجلسة 2/1/2021 في الدعوى رقم 199 لسنة 32 قضائية "دستورية" برفض الطعن على نصى المادتين (38) و(102/1) من قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، وقد نُشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية في العدد (2) (تابع) بتاريخ 14/1/2021، بما يدل على استيفاء نصوص القانون المشار إليه لمتطلبات إقراره وإصداره، ومن ثم يغدو نعى المدعى، في شأن العوار الشكلي لهذا القانون، لا أساس له متعينًا رفضه.

وحيث إن الغايات الكلية من إصدار تشريع قانون البناء، السالف البيان، - على ما يبين من استصفاء الأحكام الواردة بنصوصه، والمبررات التي ساقتها مذكرته الإيضاحية، والمناقشات التي طرحها أعضاء غرفتي السلطة التشريعية في شأنه – إنما تتحدد في إقرار منظومة متكاملة للتخطيط العمراني، والتنسيق الحضاري وتنظيم أعمال البناء والحفاظ على الثروة العقارية، تسرى على كافة التقسيمات الإدارية والجغرافية والنوعية، من خلال رؤية للتنمية العمرانية على المستوى القومي والإقليمي وفى حدود الأحوزة العمرانية المعتمدة وخارجها، لتحقق التنمية المستدامة، وتحدد الاحتياجات المستقبلية للتوسع العمراني، واستعمالات الأراضي المختلفة، وذلك من خلال برامج تنفيذها، ومصادر التمويل على المستوى التخطيطي.

وفي مجال الردع الذي يكفل ضمان تحقيق الغايات التشريعية المار ذكرها، حظرت المادة الثانية من قانون الإصدار رقم 119 لسنة 2008، إقامة أي مبانٍ أو منشآت خارج حدود الأحوزة العمرانية المعتمدة للقرى والمدن، أو المناطق التي ليس لها مخطط استراتيجي عام معتمد، أو اتخاذ أي إجراءات في شأن تقسيم هذه الأراضي، وذلك تقديرًا من المشرع لخطر أي من الأفعال السالفة، على الأمن القومي بمفهومه الاجتماعي والثقافي، وإهدارها عناصر الثروة الوطنية على مستوى الدولة والمواطن، وإضرارها بمقومات التنمية المستدامة، مما دعا المشرع إلى تجريم الأفعال التي يواجهها ذلك الحظر، من خلال العقاب عليها بمقتضى نص الفقرة الثانية من المادة (102) من قانون البناء.

وحيث إن ما ينعاه المدعى على النصين اللذين تحدد بهما نطاق الدعوى المعروضة، من تناقضهما مع التزام الدولة بتنمية الريف، فإنه رُد؛ إذ المقرر في قضاء هذه المحكمة بأن تقديم الدولة لخدماتها الثقافية والاجتماعية والصحية وفقًا لنص المادة (16) من دستور 1971 – المقابلة في حكمها لبعض أحكام الفقرة الثانية من المادة (29) من دستور 2014 - يقتضيها تدخلاً إيجابيًّا من خلال الاعتماد على مواردها الذاتية التي تتيحها قدراتها، ليكون إشباعها لخدماتها هذه، متدرجًا وواقعًا في حدود إمكاناتها، خلافًا لموقفها من الحقوق الفردية السلبية – كالحق في الحياة وفى الحرية – التي يكفيها لصونها مجرد الامتناع عن التدخل في نطاقها بما يقيد أو يعطل أصل الحق فيها. ولئن جاز القول بأن الحقوق المدنية والسياسية، لا يمكن فصلها عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سواء في مجال توجهاتها أو بالنظر إلى عموم تطبيقها فيما بين الدول، وأن النوع الأول من الحقوق يعتبر مدخلاً لثانيهما، وشرطًا أوليًّا لتحقيق وجوده عملاً، فإن الفوارق بين هذين النوعين من الحقوق، تكمن في أصل نشأتها وعلى ضوء مراميها، ذلك أنه بينما تعتبر الحقوق المدنية والسياسية من الحقوق التي تمليها آدمية الإنسان وجوهره – إلى حد وصفها بخصائص بنى البشر أو بالحقوق الطبيعية الأسبق وجودًا على الجماعة التي ارتبط بها -، فلا تتكامل شخصيته بدونها، ولا يوجد سويًّا في غيبتها، ولا يحيا إلا بالقيم التي ترددها، ليملك بها إرادة الاختيار مشكلاً طرائق للحياة يرتضيها؛ فإن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان، تتوخى دومًا تطوير أوضاع البيئة التي تواجد فيها مستظلاً بها، ليعيد تكوين بنيانها، مستمدًا رخاءه من الآفاق الجديدة التي تقتحمها، وهى بحكم طبيعتها هذه، تتصل حلقاتها عبر الزمن، وعلى امتداد مراحل لا تفرضها الأهواء، بل تقررها الدول على ضوء أولوياتها، وبمراعاة مواردها القومية وبقدرها، كما أنه إذا جاز القول بأن الحقوق المدنية والسياسية تمهد في الأعم الطريق إلى بناء الهياكل الرئيسية للتنمية وفق الإرادة الحرة، فإن الحقوق الاجتماعية والثقافية والصحية تناهض الفقر والجوع والمرض بوجه خاص، ويستحيل بالنظر إلى طبيعتها، ضمانها لكل الناس في آن واحد، بل يكون تحقيقها في بلد ما، مرتبطًا بأوضاعها وقدراتها ونطاق تقدمها، وعمق مسئولياتها قِبل مواطنيها، وإمكان النهوض بمتطلباتها، فلا تنفذ هذه الحقوق بالتالي نفاذًا فوريًّا، بل تنمو وتتطور وفق تدابير تمتد زمنًا وتتصاعد تكلفتها بالنظر إلى مستوياتها وتبعًا لنطاقها، ليكون تدخل الدولة إيجابيًّا لصونها متتابعًا، واقعًا في أجزاء من إقليمها، منصرفًا لبعض مدنها وقراها إذا أعوزتها قدراتها على بسط مظلتها على المواطنين جميعًا. متى كان ما تقدم، وكان نص صدر الفقرة الأولى من المادة الثانية من قانون الإصدار رقم 119 لسنة 2008، يتماهى - من منطلق غائي - مع تنمية الريف، بحظر أى مبان أو منشآت من شأنها النيل من المخطط الاستراتيجي للأراضي الزراعية التي تخرج عن الأحوزة العمرانية المعتمدة للقرى، وكان ما قرره حكمها في هذا النطاق توجبه ضرورة اجتماعية تلتئم مع تنمية الريف وحماية الرقعة الزراعية والعمل على زيادتها، وتجريم الاعتداء عليها، على نحو يحقق رفع مستوى معيشة سكان الريف، مما يغدو معه نعى المدعى المار ذكره، خليقًا بالالتفات عنه.



وحيث إنه عن نعى المدعى على إخلال النصين اللذين تحدد بهما نطاق هذه الدعوى، بالحق في السكن، فإنه مردود؛ ذلك أن كفالة الدول للمواطنين الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية، مؤداه على ما نصت عليه المادة (78) من الدستور، والمادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التزام الدولة وضع خطة وطنية للإسكان تراعى الخصوصية البيئية، وتكفل إسهام المبادرات الذاتية والتعاونية في تنفيذها، وتنظيم استخدام أراضي الدولة، ومدها بالمرافق الأساسية في إطار تخطيط عمراني شامل للمدن والقرى واستراتيجية لتوزيع السكان، بما يحقق الصالح العام وتحسين نوعية الحياة للمواطنين، ويحفظ حقوق الأجيال القادمة. ومع ذلك فلا تقتضى كفالة الدولة للحق في السكن، قيامها ببناء مساكن لجميع مواطنيها، ولا ضمانها سكنًا خاصًا لكل من لا سكن له، اعتبارًا بأن الحق في السكن يشمل اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون التشرد، والتركيز على الفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا، وضمان لياقة السكن لكل مواطن، وهى تدابير ذات طبيعة تشريعية وتنفيذية، يتم اتخاذها في إطار من السياسة العامة للدولة، وبرامجها التنموية، وأولوياتها الخططية، في حدود مواردها المتاحة

متى كان ما تقدم، وكان حظر النصين التشريعيين اللذين تحدد بهما نطاق هذه الدعوى البناء في الأراضي الواقعة خارج الأحوزة العمرانية المعتمدة للقرى والمدن، ورصد جزاء جنائي لمخالفة هذا الحظر، إنما يندرج ضمن التدابير التشريعية اللازمة لكفالة الحق في السكن بمعناه المتقدم بيانه، كما أن تنظيم هذا الحق – على النحو الذي تضمنه النصان المشار إليهما – لا يمس جوهره أو أصله، ولا ينتقص من عناصره الأساسية، بما يتأدى إلى رفض الطعن على هذين النصين وفق المنعى السالف بيانه.



وحيث إنه عما ينعاه المدعى على النصين موضوع هذه الدعوى، من إخلال بحق الملكية، فإنه مردود بما استقر عليه قضاء هذه المحكمة من أن اضطلاع الملكية الخاصة التي صانها الدستور بمقتضى نص المادة (35)، بدورها في خدمة المجتمع، يدخل في إطار أدائها لوظيفتها الاجتماعية، وهى وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكمًا، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغى رصدها عليها، وبمراعاة أن القيود التي يفرضها المشرع على الملكية للحد من إطلاقها، لا تعتبر مقصودة لذاتها، بل يمليها خير الفرد والجماعة". ومن المقرر أيضًا في قضاء هذه المحكمة أن "الدستور وإن كان قد كفل حق الملكية الخاصة، وأحاطه بسياج من الضمانات التي تصون هذه الملكية، وتدرأ كل عدوان عليها، فإنه في ذلك كله لم يخرج عن تأكيده على الدور الاجتماعي لحق الملكية، حيث يجوز تحميلها ببعض القيود التي تقتضيها أو تفرضها ضرورة اجتماعية، مادامت هذه القيود لم تبلغ مبلغًا يصيب حق الملكية في جوهره، أو يعدم جل خصائصه.



متى كان ذلك، وكان الحظر الوارد بالمادة الثانية من القانون رقم 119 لسنة 2008 بإصدار قانون البناء، إنما ينصب على البناء خارج الحيز العمراني المُعتمد للمدن والقرى، كونها المساحة المُخصصة لأغراض التنمية العمرانية، ليقتصر الحظر بحدوده، مرصودًا على أغراضه، كصورة من صور تنظيم ممارسة النشاط الفردي، ضمانًا لعدم انحرافه عن الغايات المقصودة من مباشرته، دون أن ينال من أصل حق الملكية أو يعدم خصائصها، إذ يظل حق الملكية بعناصره الجوهرية كامل البنيان في شأن تلك الأراضي، التي تخرج عن حدود الأحوزة العمرانية المعتمدة، حتى وإن بات محملاً بأغراض رصدها المشرع عليها، دونما غل يد مالكها عن إدارتها أو التصرف فيها. وفضلاً عن ذلك، فإن المشرع لم يحل كلية دون البناء على تلك المساحات من الأراضي، إنما أجازه من خلال الاستثناءات الواردة عليه، وفقًا لما تمليه ضرورة استغلالها في أغراض تتسق وأغراضها الأصلية، على أن يكون ذلك رهنًا بالحصول على ترخيص بذلك من قِبل الجهة الإدارية المختصة، ضمانًا للغاية ذاتها، ومن ثم فلا يُمثل هذا القيد اعتداءً على حق الملكية، إنما توظيفًا لأغراضها الاجتماعية المُثلى، في ضوء رؤية مُكتملة تستهدف ابتداءً المصلحة المجتمعية، التي تنعكس انتهاءً على المصلحة الفردية، من خلال خطة تنموية شاملة، بما يكون معه النعي على النص بالإخلال بالحماية التي فرضها الدستور للملكية الخاصة قائمًا على غير أساس.

وحيث إنه عما ينعاه المدعى على النصين موضوع الدعوى المعروضة، من مخالفة القواعد الدستورية في شأن التجريم والعقاب، فإنه مردود، بما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا من إن الدستور خول السلطة التشريعية في مجال تنظيمها للحقوق وبما لا إخلال فيه بالمصلحة العامة أن تحدد وفق أسس موضوعية من خلال النظم العقابية التي تقرها، أركان كل جريمة دون أن يفرض عليها طرائق بذاتها لضبطها تعريفًا بها، ودون إخلال بضرورة أن تكون تلك الأفعال التي جرمتها هذه النظم قاطعة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، فلا يشوبها الغموض أو تتداخل معها أفعال مشروعة يحميها الدستور، وكان المقرر أن القوانين الجنائية لا تتناول إلا صور النشاط المُحددة معالمها الواضحة حدودها، التي يمكن ربطها بمضار اجتماعية، وكان القانون الجزائي معني بالأفعال الخارجية التي تناقض المصلحة المقصودة بالحماية أو التي يمكن أن تضر بها، وكان الركن المادي لكل جريمة يعكس التعبير الخارجي عن إرادة مرتكبها باعتبارها إرادة واعية مختارة يُسيطر الفاعل من خلالها على ظروف مادية مُعينة ابتغاء بلوغ نتيجة إجرامية تتمثل في الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون، وكانت إرادة إتيان الأفعال محل التنظيم التشريعي الماثل مع العلم بالوقائع التي تعطيها دلالتها الإجرامية هي التي يتوافر بها القصد الجنائي العام.

كما استقر قضاؤها أيضًا على أن التجريم يتحدد من منظور اجتماعي، وموافقته للدستور من عدمها، تحدده الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مُبررًا من وجهة اجتماعية انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية.



لما كان ما تقدم، وإذ تضمن نص المادة الثانية من القانون رقم 119 لسنة 2008 بإصدار قانون البناء، تحديدًا حصريًا واضحًا لا غموض فيه ولا خفاء للأفعال المادية المحظورة، مُتمثلة في إقامة مبانٍ أو منشآت خارج حدود الأحوزة العمرانية المُعتمدة للمدن والقرى - بحسب نطاق الدعوى المعروضة - التي أُدرجت بنطاق التجريم بموجب نص الفقرة الثانية من المادة (102) من قانون البناء المشار إليه، ليتشكل بإتيان أي منها الركن المادي للجريمة، التي هي بطبيعتها من الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، بحسبان انطوائها على الإخلال بالتنظيم المتكامل الذي تضمنته المخططات الاستراتيجية العامة والتفصيلية التي تضعها الدولة وفقًا للآليات المقررة، لتوزيع استخدامات الأراضي على مستوى الجمهورية بما يحقق الاستفادة القصوى من مساحات الأراضي المتاحة بالدولة، بتقرير الاستغلال الأمثل لكل منها في الأغراض المرصودة عليها، مراعاة لمستهدفات كلية تتمثل في العمل على التوسع العمراني والحفاظ على الأراضي الزراعية، وتمديد الطرق وتوفير الخدمات العامة، لتتناغم هذه الأهداف من أجل تحقيق مصلحة جمعية، مشمولة بمخطط عام بما ينبثق عنه من مخططات تفصيلية، فيكون الإخلال بمُستصغر تفصيله هدمًا لكليات تنظيمه، ملحقًا أبلغ الضرر بالمصلحة المجتمعية التي استهدف المشرع حمايتها وفقًا لأسسها المعتبرة. وإذ قطع بأن هذه الأفعال العمدية يقارنها قصد جنائي عام يهدف إلى تحقيق تلك النتيجة الإجرامية، ليتكامل بذلك بنيان الجريمة بركنيها المادي والمعنوي، وهي التي تنال بتحققها من المصلحة محل الحماية بالنص، على نحو يكون النص قد جاء مستويًا على القواعد الدستورية المقررة في شأن التجريم.



وحيث إنه من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل فيها إلا بقدر، نأيًا بها عن أن تكون إيلامًا غير مبرر، يؤكد قسوتها في غير ضرورة، وذلك أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم بعض العلائق التي يرتبط بها الأفراد فيما بين بعضهم البعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، فإن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذ العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها. وهو بذلك يتغيا أن يُحدد – من منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيًّا ممكنًا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررًا إلا إذا كان مفيدًا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزًا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريًّا غدا مخالفًا للدستور". وكان المقرر كذلك في قضاء هذه المحكمة أن العقوبة التخييرية، أو استبدال عقوبة أخف أو تدبير احترازي بعقوبة أصلية أشد – عند توافر عذر قانوني جوازي مخفف للعقوبة – أو إجازة استعمال الرأفة في مواد الجنايات بالنزول بعقوبتها درجة واحدة أو درجتين إذا اقتضت أحوال الجريمة ذلك التبديل، عملاً بنص المادة (17) من قانون العقوبات، أو إيقاف تنفيذ عقوبتي الغرامة والحبس الذي لا تزيد مدته على سنة إذا رأت المحكمة من الظروف الشخصية للمحكوم عليه أو الظروف العينية التي لابست الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بعدم العودة إلى مخالفة القانون على ما جرى به نص المادة (55) من قانون العقوبات، إنما هي أدوات تشريعية يتساند القاضي إليها – بحسب ظروف كل دعوى – لتطبيق مبدأ تفريد العقوبة، ومن ثم ففي الأحوال التي يمتنع فيها عن إعمال إحدى هذه الأدوات، فإن الاختصاص الحصري بتفريد العقوبة المعقود للقاضي يكون قد استغلق عليه تمامًا، بما يفتئت على استقلاله ويسلبه حريته في تقدير العقوبة، ويفقد جوهر الوظيفة القضائية، وينطوي على تدخل محظور في شئون العدالة.

ولما كان نص الفقرة الثانية من المادة (102) من قانون البناء المشار إليه، قد رصد لمخالفة الحظر الوارد بالمادة الثانية من القانون رقم 119 لسنة 2008 المشار إليه، العقوبة المقررة بالفقرة الأولى من النص المطعون فيه، وقد جاءت هذه الفقرة مقررة لعقوبة تخييرية بين الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات، أو الغرامة التي لا تقل عن مثلى قيمة الأعمال المخالفة ولا تجاوز ثلاثة أمثال هذه القيمة. وكانت عقوبة الحبس هى أخف العقوبات السالبة للحرية، التي تواجه ارتكاب جريمة عمدية، تهدد مصلحة مجتمعية مؤكدة، تتمثل في هدم الأسس التي يقوم عليها التخطيط الاستراتيجي بالدولة، والخروج به عن تلك الرؤية المتكاملة المحققة لأهدافه، وكانت عقوبة الحبس المبينة بالنص المذكور، إن قُضى بها بما لا يجاوز مدة سنة، وكذلك عقوبة الغرامة المقررة بالنص ذاته – في حديها الأدنى والأقصى - مما يجوز إيقاف تنفيذ أيهما، على نحو يؤكد توافر إحدى وسائل التفريد القضائي للعقوبة، بمقتضى النص المطعون فيه، ومن ثم يكون هذا النص، قد جاء مستويًا على القواعد الدستورية المقررة في شأن العقوبة الجنائية.

وحيث إن النصين موضوع هذه الدعوى – المحددين نطاقًا على ما سلف بيانه – لا يخالفان أحكامًا أخرى في الدستور، فإنه يتعين الحكم برفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

 حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات، ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق