الصفحات

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2021

تفسير النصوص القانونية وتأويلها الشيخ عبد الوهاب خلاف

مجلة المحاماة - العدد الأول
السنة الحادية والثلاثون

تفسير النصوص القانونية وتأويلها (1)
للأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف

تمهيد:
روى الإمام أبو داود في سننه عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (القضاة ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار).
هذا الحديث الصحيح في أن قاضي الجنة هو من عرف الحق وقضى به، وقاضي الناري هما من عرف الحق وحاد عنه في قضائه، ومن قضى على جهل بالحق وبالوقوف عليه.
والمراد بالجنة جنة الدنيا وهو راحة الضمير واطمئنان القلب وحسن السمعة وثقة الناس، وجنة الآخرة وهي رضا الله ونعيمه وحسن لقائه وجزائه.
والمراد بالنار نار الدنيا، وهي وخز الضمير، واضطراب النفس، وعذاب الريب والشكوك، وسوء السمعة، وفقد الثقة، ونار الآخرة وهي سخط الله وعذابه والخزي يوم لقائه.
وكل قاضٍ يهمه أن يكون قاضي الجنة وأن يسلك في قضائه السبيل التي تنجيه من وخز الضمير في الدنيا ومن عذاب الله في الآخرة، وقد بين الرسول في حديثه الصحيح أنه لا ينجيه من نار الدنيا والآخرة إلا أن يعرف الحق وأن يقضي به.
أما السبيل إلى معرفته الحق في الخصومة المعروضة عليه فهي أن يبذل جهده في أمرين: في معرفة الحق الذي يطابق الواقع من الوقائع المدعاة ليتبين الصدق منها والكذب، وعدته لهذا فطنته وفراسته وملكة تقديره وتطبيقه أصول المرافعات وفي معرفة الحق من نصوص القانون الواجب تطبيقه وفهمها على نور ساطع لا تشوبه أهواء ولا أغراض، وعدته لهذا علمه بنصوص القانون وطرق تفسيرها وتأويلها وإزالة غموضها.
وأما السبيل إلى قضاء القاضي بالحق الذي عرفه فهي إلزامه نفسه أن لا يحيد عما عرف من الحق وأن لا يخشى في الله ذا سلطان وأن لا يسيطر عليه خوف أو رجاء أو رهبة أو رغبة وعدته لهذا دينه وخلقه وشعوره أن الله رقيب عليه.
وفي هذا المقال بتوفيق الله عون للقاضي على معرفة الحق الواجب تطبيقه من نصوص القانون وذلك ببيان القواعد الصحيحة لتفسير نصوص القانون وتأويلها، لأن التفسير والتأويل في كل واحد منهما مجال للأهواء والأغراض، وكثيرًا ما يكون تعطيل النص والعبث به عن طريق تفسيره أو تأويله، وكثيرًا ما تسيطر الأغراض والأهواء فيفسر النص بما ينسخه ويؤول إلى ما لا يحتمله.
وقد قرر علماء أصول الفقه الإسلامي أن الأصل في النص القانوني أن يكون واضح الدلالة على المراد منه، وأن كل نص محتاج إلى بيان لا يجوز أن يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه لأن التكليف بما لا يتبين المراد منه تكليف الإنسان بما لا يفهمه، والتكليف بما لا يفهم غير جائز شرعًا، لأن الإرادة لا تتجه إلى امتثال التكليف إلا بعد فهم النص الذي به التكليف.
فالأصل في النص القانوني أن يكون واضح الدلالة على المراد منه ولا يحتمل الدلالة على غيره ولا يحتاج القاضي إلى اجتهاد في تعيين المراد منه لأن الشارع وضح ما قصده وعين ما أراده وكفى القاضي العناء في الاجتهاد في تبيينه، وهذا يتفق وما جاء في القاعدة (25) من قواعد وآثار فقهية رومانية (خير القوانين ما لا يدع لاجتهاد القاضي إلا القليل).
ولكن قد ترد بعض النصوص القانونية على خلاف هذا الأصل، فقد ترد في النصوص الشرعية وفي النصوص غير الشرعية نصوص يوجد فيها نوع خفاء أو غموض ويحتاج من يطبقها إلى إزالة هذا الخفاء أو الغموض، أو يوجد فيها احتمال للدلالة على أكثر من معنى ويحتاج من يطبقها إلى ترجيح أحد المعاني وتعيين المراد، ومثال ذلك أن يكون في النص لفظ مشترك وهو ما وضع لغة لأكثر من معنى، وقد استعمل الشارع هذا اللفظ في النص ولم يبين أي المعاني أراده فالصيغة إذن بنفسها غير دالة على المعنى المراد، فلا بد للقاضي أو المجتهد من أن يستعين بالقرائن الخارجية على تعيين أي معنى من معاني المشترك أراده الشارع من اللفظ لأن الشارع لا يمكن أن يكون قد أراد سوى معنى واحد من هذه المعاني، فلفظ القرء في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) لفظ مشترك وضع في اللغة للدلالة على الطهر أو الحيض، فهل عدة المطلقة ثلاثة أطهار أم ثلاث حيضات ؟ رجح الشافعية بالقرائن أن المراد ثلاثة أطهار، ورجح الحنفية بالقرائن أن المراد ثلاث حيضات، ولفظ (سنة) في نص المادة (208) من القانون المدني الأهلي (جميع التعهدات والديون تزول بمضي خمس عشرة سنة...) لفظ مشترك يدل لغة على السنة الهجرية وعلى السنة الميلادية فلا بد من تعيين أي المعنيين أراد الشارع وذلك إنما يكون بالقرائن الخارجة عن صيغة النص نفسه.
ولهذا قسم علماء أصول الفقه الإسلامي النصوص القانونية إلى قسمين: نص غير واضح الدلالة على المراد منه وهو ما يتوقف فهم المراد منه على أمر خارج عن صيغته، ونص واضح الدلالة على المراد منه وهو ما يفهم المراد منه من نفس صيغته ولا يتوقف فهمه على أمر خارج عن صيغته، وهذا هو الكثير في النصوص والجاري على الأصل فيها لأن كل شارع سواء أكان التشريع إلهيًا أم وضعيًا لا بد أن يكون له معنى معين أراده بالتشريع وعبر عن هذا المعنى بنص يدل عليه، ولهذا نقصر بحثنا هنا على الواضح الدلالة.
النص الواضح الدلالة:
النص الواضح الدلالة، هو الذي يدل بنفس صيغته على المراد منه من غير توقف على أمر خارج عن صيغته، وإذا كان الواضح الدلالة يدل على معنى معين ولا سبيل إلى أن يفهم منه معنى غيره أي لا يحتمل التأويل فهو النص المفسر، أو الصريح، أو قطعي الدلالة لأن دلالته على المراد منه مقطوع بها ولا سبيل إلى دلالته على غيره.
وأما إذا كان المراد منه، غير متعين فهمه منه، بل يحتمل أن يفهم منه غيره كان النص ظني الدلالة على المراد منه، أي يغلب على الظن أن معناه الظاهر منه هو مراد الشارع به ولكنا لا نجزم ولا نقطع بهذا، ويسمى النص الظاهر أو غير الصريح أو ظني الدلالة.
فقوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ...) نص مفسر صريح لأن المراد منه متعين وهو فرض مقرر للزوج من ميراث زوجته في حال معينة، وقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ...) ظاهر غير صريح لأنه يحتمل أن يكون المراد منه أن الصدقات تصرف لهذه الفئات الثمانية جميعها لا لبعضها ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تخرج عنها.
ومما ينبغي التنبيه له أن النص الواحد قد يكون قطعي الدلالة أي مفسرًا وصريحًا بالنسبة لمعنى، وظني الدلالة أي ظاهرًا أو غير صريح بالنسبة لمعنى آخر، فحديث: (في كل أربعة شاة شاة) قطعي الدلالة في أن النصاب الذي تجب فيه الزكاة من الغنم أربعون، ولكنه ظني الدلالة بالنسبة إلى الواجب نفسه، فالمعنى ظاهر المتبادر أن الواجب في الأربعين شاة هو شاة بعينها، وعلى هذا المعنى لا تجزئ عن الشاة قيمتها ولكن يحتمل أن يكون المراد من الشاة ماليتها لا خصوص عينها، لأن المقصود دفع حاجة الفقير، وكما تدفع حاجته بالشاة نفسها تدفع بقيمتها فكأن الشارع أراد: في كل أربعين شاة تجب صدقة للفقير تعادل شاة منها أو قيمتها، ولهذا الاحتمال ذهب الحنفية إلى أنه في الزكاة تجزئ قيمة الشاة كما تجزئ الشاة نفسها، وذهب الشافعية إلى أنه لا يؤدي الواجب إلا بالشاة ولا تجزئ القيمة.

التفسير

متى يكون النص مفسرًا في اصطلاح الأصوليين:
التفسير في اللغة هو مطلق التبيين، يقال فسر الشيء يفسره أي أبانه، وفي اصطلاح علماء أصول الفقه هو تبين المراد من النص تبيينًا صادرًا من الشارع نفسه، وقاطعًا لاحتمال تأويله، فلا يعتبر تبين النص تفسيرًا في اصطلاح الأصوليين إلا إذا توافر فيه أمران:
أولاً: أن يكون التبيين صادرًا من الشارع نفسه: فإذا كان البيان غير صادر من الشارع بأن صدر من هيئات قضائية أو من شراح القانون فهذا لا يسمى في اصطلاح الأصوليين تفسيرًا لأن التفسير هو ما يقطع الاحتمال ويعين المراد قطعًا وهذا لا يكون إلا من الشارع نفسه الذي يعرف مراده على وجه القطع والجزم، وأما بيان غير الشارع للنص فليس إلا مجرد شرح وإيضاح لا يعين المراد على وجه القطع والجزم.
ولهذا تجب التفرقة بين المذكرة التفسيرية للقانون ومذكرته الإيضاحية، فالمذكرة التي يقدم بها القانون إلى السلطة التشريعية ويتناولها المجلس التشريعي بالبحث ويأخذ بها ويعتمدها تعتبر بيانًا صادرًا من الشارع نفسه وتسمى مذكرة تفسيرية، أما إذا صدر القانون ووضعت له الهيئة التي أعدته مذكرة بيانية فهذه لا تسمى مذكرة تفسيرية وإنما تسمى مذكرة إيضاحية.
وقد يكون التفسير من الشارع بنفس صيغة النص أي أن الصيغة التي عبر بها الشارع صدرت عنه دالة على معنى بعينه ولا تحتمل أن يفهم منها معنى آخر، وبيان المراد من هذا النص يسمى في اصطلاح الأصوليين (التقرير) لأن بيانه من المجتهد أو القاضي ليس إلا تقريرًا وترديدًا لمعنى عينه الشارع، ومثال هذا النص الدال على فرض مقدر في الإرث، والنص الدال على عدد معين من الجلدات في عقوبة جريمة، والنص الدال على عدد من الشهور والأيام في عدة المتوفى عنها زوجها أو عدد من القروء في عدة المطلقة، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون عشرين دينار صدقة، وقوله في كل أربعين شاة شاة، فهذه كلها نصوص مفسرة بصيغتها قطعية الدلالة على مقدار الفرض وعدد الجلدات وعدد الشهور والأيام والقروء وعدد ما تجب فيه الصدقة من الدنانير وما تجب فيه الزكاة من الغنم، فشرح المراد من كل نص من هذه النصوص هو تقرير للمراد منه الذي عينه الشارع.
وقد يصدر النص من الشارع غير مفسر ثم يلحقه الشارع ببيان قاطع يفسره وهذا البيان هو الذي يسمى في اصطلاح الأصوليين التفسير، والأمثلة على ذلك كثيرة، فكثير من الآيات القرآنية جاءت مجملة ثم جاءت السنة مفسرة لها ومفصلة فيعتبر بيان السنة بيانًا تشريعيًا صادرًا من الشارع نفسه لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطاه الله سلطة تبيين القرآن بقوله تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) والتبيين غير التبليغ، ومثال هذا السنن التي فصلت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت لأن القرآن أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت ولم يفصل عدد ركعات الصلاة ولا مقادير الزكاة ولا مناسك الحج والسنن العملية والقولية هي التي فسرت هذا الإجمال فصلى الرسول وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي، وكتب كتبه المشهورة في أنصبة المال الذي تجب فيه الزكاة ومقدار الواجب في كل نصاب، وحج وقال: خذوا عني مناسككم، فكل ذلك يعتبر بيانًا ملحقًا بالنص القرآني وتفسيرًا له لصدوره من الشارع نفسه.
وكذلك كل بيان صدر من الشارع الوضعي بتعيين مراده من النص وقطع الاحتمال في فهمه يعتبر تفسيرًا، ومثال ذلك ما جاء في الفقرة الثالثة من المادة الحادية عشرة من قانون الوقف الجديد رقم (48) لسنة 1946 (ولا يجوز الرجوع ولا التغيير في وقف المسجد ولا فيما وقف عليه) بعبارة (وقف المسجد ما وقف عليه) تحتمل وقف المسجد في الحال أو في المآل، وما وقف عليه في الحال أو في المآل، وبعد صدور القانون تقدم بعض الواقفين إلى المحاكم طالبين سماع الإشهاد برجوعهم في وقفهم فبعض هيئات التصرفات رفضت سماع الأشهاد بالرجوع في الوقف لأن الوقف وإن كان أهليًا الآن فهو وقف على المسجد في المآل وبعض الهيئات سمعت الأشهاد بالرجوع في الوقف لأن الموقوف الآن ليس وقفًا على مسجد، ولهذا الاختلاف في فهم ما أراده الشارع صدر القانون رقم (78) لسنة 1947 الذي فسر به الشارع المراد من النص السابق بحيث أصبح لا يحتمل التأويل وذلك بأن نص في المادة الأولى على ما يأتي (تعديل الفقرة الثالثة من المادة (11) من القانون رقم (48) لسنة 1946 بحيث يصبح نصها كالآتي: (ولا يجوز الرجوع ولا التغيير في وقف المسجد ابتداءً ولا فيما وقف عليه ابتداءً)، فزيادة كلمة (ابتداءً) قطعت الاحتمال وأصبح المعنى المراد تعينًا، فهذا القانون هو قانون تفسيري في حقيقته بمعنى أن الشارع إنما أراد به بيان المراد بالنص السابق وقطع الاحتمال، فهو ليس تعديلاً لأن التعديل يقتضي العدول عن الحكم السابق وإثبات حكم جديد وليس هذا هو مراد الشارع، وأما كلمة (تعديل) الواردة في القانون فهي لا تنصرف إلى تعديل الحكم وإنما تنصرف إلى تعديل الصيغة نفسها حتى تكون دالة دلالة قطعية على المعنى الذي أراده الشارع وهذا هو التفسير.
ثانيًا: أن يكون البيان الصادر من الشارع قاطعًا للاحتمال: فإذا كان البيان صادرًا من الشارع ولكنه غير قاطع للاحتمال فهذا لا يسمى في اصطلاح الأصوليين تفسيرًا وإنما هو مجرد تبيين وتفصيل، ومثال هذا الربا الذي ورد مجملاً في قوله تعالى: (وَحَرَّمَ الرِّبَا)، فإن الرسول بين المراد منه في حديث الأموال الستة الربوية ونصه (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد).
فهذا الحديث لم يحصر الأموال الربوية في هذه الأصناف الستة بحيث لا يكون في غيرها ربا ولكنه ببيان هذه الأصناف ألقى ضوءًا على ما يعتبر فيه الربا من الأموال ولهذا سار المجتهدون في هذا الضوء للوصول إلى الأمر الجامع الذي تشترك فيه وإلى وضع الضابط العام بناءً عليه فالحنفية قالوا الربوي كل مال يضبط قدره بالكيل أو الوزن، والمالكية قالوا الربوي كل مال يقتات به ويدخر، والشافعية قالوا الربوي كل مال للطعام أو التعامل:
فالحديث لم يبين المراد من المال الذي يحرم فيه الربا بيانًا قاطعًا للاحتمال ولهذا كان موضع اختلاف فهو في اصطلاح الأصوليين مجرد بيان وإيضاح ولا يسمى تفسيرًا، ومثال هذا من التشريع الوضعي لفظ - أصل الوقف - الذي ورد في المادة (16) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية مجملاً لا يدل بنفسه على معنى مفصل معين، ولم يصدر من الشارع بيان قاطع يفصل المراد منه، وما صدر من الشارع في الفقرة الثانية من المادة (38) من لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة لم يفصل تفصيلاً قاطعًا ما أراده من أصل الوقف بحيث لا يبقى مجال لاحتمال الاختلاف في أن هذا من أصل الوقف وهذا ليس من أصله وإنما ألقى ضوءًا يستعان به في فهم ما أراده، فهو بيان لا تفسير، ولهذا لا تزال بعض الجزئيات موضع اختلاف في أنها من أصل الوقف أو من غير أصله.
حكم النص المفسر:
حكم النص المفسر سواء أكان مفسرًا بصيغته أن ببيان قاطع صدر من الشارع أنه يجب اتباعه والعمل بحكمه بعينه، وأن الحكم الثابت به يعتبر من النظام العام، ولأفصل هذين الحكمين بعض التفصيل:
أولاً: الحكم الثابت بالنص المفسر يجب اتباعه بعينه: بما أن النص المفسر يدل بنفسه صيغته أو ببيان الشارع نفسه على المراد منه فإرادة الشارع به في الحالين واضحة متعينة، ولذلك يجب اتباع هذا النص والعمل بحكمة بعينه ولا يسوغ تأويله، وكل تأويل له هو خروج عنه، قال الإمام الشافعي في رسالته الأصولية (كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، وعلى سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وإذا كان فيه حكم بعينه فعليه اتباعه، وإذا لم يكن فيه حكم بعينه فعليه طلب الدلالة على الحق فيه بالاجتهاد)، وهذه الجملة هي التي استند علماء الأصول إليها في تقرير القاعدة الأصولية (لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي)، وعلى هذا لا مجال للنظر في أن تكون عدة المطلقة قرءًا واحدًا بدل ثلاثة قروء بناءً على أن حكمة إيجاب العدة تعرف براءة الرحم من الحمل ويكفي لهذا التعرف قرء واحد، ولا مجال للنظر في تعديل فرض مقدر في الإرث، أو عقوبة محددة على جريمة، ولا مجال للنظر في أن نصيب الابن في الإرث ضعف نصيب البنت ونصيب الأخ الشقيق أو الأخ لأب ضعف نصيب الأخ، لأن هذه أحكام ثبتت بنصوص مفسرة والنصوص قطعية الدلالة عليها وليس لمجتهد أو قاضٍ أن يعدل فيها بناءً على أن حكمة التشريع كذا أو المصلحة كذا، لأن معنى هذا إهمال القانون وسن قانون وغيره.
ثانيًا: الحكم الثابت بالنص المفسر من النظام العام:
لفظ (النظام العام) يرد في كثير من النصوص القانونية في مقامات عدة فيقال (الأحكام الآمرة من النظام العام)، ويقال في كثير من المعاهدات والاتفاقات (مع عدم الإخلال بالقواعد المتعلقة بالنظام العام)، ويقال (اختصاص من النظام العام وعدم اختصاص من النظام العام ودفع من النظام العام).
والمعنى العام المقصود بهذا أن كل حكم لا يباح للأفراد أن يتفقوا على مخالفته هو من النظام العام ولهذا قرر علماء القانون الوضعي أن أحكام القانون العام (أي القانون الدستوري والإداري والمالي والجنائي) متعلقة بالنظام العام، وأن أحكام القانون المدني منها ما يتعلق بالنظام العام مثل تحديد سن الرشد بإحدى وعشرين سنة ميلادية فلا عبرة بالاتفاق على أن يكون القاصر رشيدًا قبل هذه السن أو قاصرًا بعدها، ومنها ما لا يتعلق بالنظام العام مثل تضمين البائع عيوب المبيع الخفية فلو اتفق البائع والمشتري على عدم ضمانها فهو اتفاق صحيح يعمل به.
فالأساس الذي يبني عليه أن الحكم من النظام العام في التشريع الوضعي هو موضوع الحكم وكونه متعلقًا بمصلحة المجتمع كله أو بمصلحة خاصة ببعض الأفراد، ولهذا يختلف ما هو النظام العام باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات واختلاف مذاهب المشرعين السياسية والاجتماعية، ولهذا كان عقد التأمين على الحياة أول ما ظهر في بلاد الغرب معتبرًا مخالفًا للنظام العام ثم أصبح الآن غير مخالف للنظام العام.
أما في التشريع الإسلامي فالأساس الذي يبنى عليه أن الحكم من النظام العام هو الدليل الذي دل على الحكم، فكل حكم دل عليه نص صريح قطعي الثبوت والدلالة فهو من النظام العام ولا تجوز مخالفته ولا يباح للأفراد والجماعات أن يتفقوا على خلافه بأية صورة من الصور، ومثل هذا الحكم الذي أجمع عليه المسلمون كافة ولم يعرف بينهم اختلاف فيه أو عمل بما يغايره، وذلك لأنه إذا ورد نص في القرآن ودل الشارع على المراد منه دلالة قاطعة ولم يترك المجتهد أو قاضٍ مجالاً للاجتهاد فيه فإن في هذا دلالة على أن الشارع قصد هذا الحكم بعينه من كل مكلف، ومثله الحكم الثابت بسنة متواترة قطعية الدلالة مثل كيفية الصلاة والحج، والحكم الثابت بإجماع المسلمين، فكل هذه أحكام من النظام العام، ولا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات ومخالفتها خروج عن النص القطعي وعن إجماع المسلمين.
والأحكام الشرعية التي تعتبر من النظم العام بحسب أدلتها القطعية لا يسوغ للقاضي الشرعي أن يقضي بما يخالفها ولو كانت بين دولته ودولة إسلامية أخرى معاهدة تنص على أن تطبق محاكم كل دولة على رعايا الأخرى قانون بلدهم ووجد في هذا القانون حكم يخالف النظام العام الإسلامي، أي يخالف نصًا مفسرًا صريحًا في دستور الأمة الإسلامية لا يطبقه القاضي.
ولإيضاح ذلك نقول إن السلطة التشريعية الإسلامية مفتحة أبوابها لكل مجتهد ولكن في حدود معينة، ومن بين هذه الحدود القاعدة الأصولية التي بيناها وهي (لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي)، فجميع المجتهدين الإسلاميين هم في محيط دائرة اجتهادية أساسية واحدة وتجمعهم جميعًا أسس تشريعية واحدة مهما تباينت بلادهم وبيئاتهم واختلفت وجهات نظرهم وليس بينهم اختلاف أساسي ولا يقر أي واحد منهم ما يخالف نصًا في القرآن أو السنة أو ما يصطدم مع مبدأ مقرر فيهما، ويتبين من هذا أن جميع الدول الإسلامية التي تسن قوانينها من الأحكام الشرعية تربط بوحدة تشريعية جامعة، ولا يوجد بين قوانينها إلا اختلاف جزئي يقتضيه اختلاف البيئات، ولا يخالف قانون منها الدستور العام وهو القرآن والسنة، وعلى أساس هذه الوحدة ساغ أن تتبادل الدول الإسلامية العمل بقوانينها الشرعية بين رعاياها.
وعلى هذا الأساس عقدت معاهدة الصداقة والإقامة بين المملكة المصرية والإمبراطورية الفارسية في 28 نوفمبر سنة 1928 ومعاهدة المودة والصداقة بين مصر وتركيا في 7 إبريل سنة 937، ونص في المعاهدتين على أن تطبق في مساس الأحوال الشخصية أحكام قانون المتقاضين في كل من المملكتين لأن قوانين الأحوال الشخصية في مصر وإيران وتركيا قوانين شرعية.
فإذا خرجت مادة من مواد قانون الأحوال الشخصية في إيران أو تركيا عن حدود مادة صريحة مفسرة في الدستور الإسلامي فلا يسوغ للقاضي الشرعي في مصر أن يطبقها بين الإيرانيين أو الترك لأنه إنما يطبق قانونهم على أساس أنه قانون شرعي لا يخرج عن حدود القرآن والسنة، ولذا احتاطت المعاهدة المصرية التركية لمثل هذا فجاء نص الفقرة (2) من المادة (9) كما يلي:
(وتلزم محاكم كل من الطرفين المتعاقدين بأن تطبق في مسائل الأحوال الشخصية القانون الأهلي الخاص بالمتقاضين مع عدم الإخلال بالقواعد المتعلقة بالنظام العام)، أما إذا خالفت مادة من مواد قوانينهم الشخصية حكمًا اجتهاديًا لم يثبت بنص مفسر قطعي فيجب على القاضي أن يطبق حكمها ولو كان يخالف المعمول به في مصر لأن هذا لا يخل بقواعد النظام العام، ومثال ذلك أن تحدد دولة منها سن الرضاع تحديدًا يختلف عما تقرر في التشريع المصري، أو سن الرشد تحديدًا كذلك.
وقد صدر من المحكمة العليا الشرعية حكم يوم الاثنين 27 شوال سنة 1365 (23 سبتمبر سنة 1946) في قضية الاستئناف رقم (84) سنة 1944 - 1945 امتنعت فيه المحكمة عن تطبيق القانون التركي الذي يقضي بتوريث ذوي الأرحام مع العصبات لمخالفة ذلك للنظام العام وقد جاء في حكمها (فمصر ودينها الرسمي الإسلام بنص الدستور وغالب الأمة من المسلمين لا يمكن أن يتفق مع النظام العام فيها انتهاك حرمة الدين والخروج على قواعده ومخالفة أحكامه الثابتة بدليل قطعي وانعقد الإجماع عليها ولم يخالف فيها أحد من أئمة المسلمين بل لقد تكلم علماء الأصول فيمن ينكر الحكم الثابت بدليل قطعي والمجمع عليه هل يكفر أولاً ؟ وقد نقل فخر الإسلام البزروي في كتاب كشف الأسرار في الأصول جزء (3) أن من ينكر حكمًا مجمعًا عليه بدليل قطعي يكفر لأنه صار بإنكاره جاحدًا لما هو من دين الرسول فصار كالجاحد لصدق الرسول، فليس من اليسير أن يطلب من محكمة شرعية في مصر الخروج على قواعد الدين والحكم بما يخالف الإجماع، ولا شك أن ذلك مما يمس شعور المسلم ويكون له أثره البالغ في نفسه بل ليس مما يرضى به التركي المسلم في تركيا التي رفعت لواء الإسلام أمدًا طويلاً، ومما يؤيد ما ذهبنا إليه ما اتبعته المحاكم الفرنسية وهي مصدر كثير من التشريع فقد امتنعت من توريث السيد لمعتقه، وإن كان القانون الشخصي يجيز ذلك لأنه مخالف للنظام العام في فرنسا، ولم تسمح بتطبيق القانون الشخصي في تفضيل الذكر على الأنثى أو في اختصاص الأكبر بالتركة أو في حرمان الوارث بسبب التحاقه بأحد الأديرة أو توريث ولد الزنا مراعية في ذلك كله النظام العام في فرنسا.
ومن حيث إنه لا يمكن أن يقال إن تطبيق فكرة النظام العام يتعذر معه تطبيق أحكام المعاهدة لأننا إنما نمنع العمل بالقانون التركي فيما إذا تعارض مع حكم مشرعي أجمع عليه المسلمون لثبوته بدليل قطعي كزواج المسلمة بغير المسلم أو مساواة الذكر بالأنثى في الميراث أو ما شابه ذلك، أما ما عدا ذلك مما يكون محل اجتهاد أو خلاف بين الفقهاء وهو يكاد يشمل أكثر الفروع فلا مانع من تطبيق القانون التركي فيه.
(ومن حيث إنه لم يخالف أحد من المسلمين في أن العصبات مقدمة على ذوي الأرحام بل لقد منع بعض الأئمة توريث ذوي الأرحام فيكون طلب الحكم بتوريث ذوي الأرحام مع العصبات أو بتقديمهم على العصبات غير مقبول)، فالحكم الشرعي يعتبر من النظام العام بحسب دليله الذي دل عليه لا بحسب موضوعه، فإن دل على الحكم دليل قطعي الثبوت والدلالة فهو من النظام العام، وأساس هذا أن النصوص القطعية الدلالة لا تدل إلى على أحكام أساسية عامة وليس للأفراد تعطيلها أو تعديلها أو الاتفاق على ما يخالفها.

التأويل

التأويل معناه في اللغة العربية تبيين مآل الشيء ومرجعه، ومنه قوله تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي ذلك الرد للمتنازع فيه إلى الله والرسول خير وأحسن تبيينًا لمآل الشيء المتنازع فيه وحكمه، ومنه قوله سبحانه (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)، وقوله في المتشابه من آي القرآن (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ)، ومنه مآل كل أمر مرجعه ومصيره.
والتأويل معناه في اصطلاح الأصوليين صرف اللفظ عن معناه الظاهر منه وإرادة معنى آخر يحتمل اللفظ الدلالة عليه.
ولإيضاح هذا التعريف نقول: الأصل في كل نص قانوني في التشريع الإلهي أو الوضعي أن يكون له معنى ظاهر يتبادر فهمه منه، فإن كان هذا المعنى الظاهر من النص متعينًا فهمه منه ولا احتمال لصرف اللفظ عنه وإرادة معنى آخر منه فهذا هو النص المفسر أو الصريح أو قطعي الدلالة على المراد منه، وإن كان هذا المعنى الظاهر من النص ليس متعينًا فهمه منه بل يترجح فهمه منه فقط لظهوره وتبادره ولكن يحتمل أن يصرف اللفظ عنه ويراد منه معنى غيره فهذا هو النص غير الصريح أو ظني الدلالة على المراد منه، ويطلق على النوع الأول من النصوص ما لا يحتمل التأويل، ويطلق على النوع الثاني ما يحتمل التأويل فقوله سبحانه (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) صريح في أن نصيب الابن من تركة أبيه ضعف نصيب البنت ولا يحتمل تأويلاً أي صرفًا له عن هذا المعنى الظاهر منه وإرادة معنى غيره منه.
وقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) ظاهر في إحلال كل بيع لأن لفظ البيع مفرد معرف بأل التي للجنس فهو يفيد العموم، ولكن هذا المعنى الظاهر من النص وهو العموم أي إحلال كل بيع ليس النص صريحًا فيه ولا قطعي الدلالة عليه لأن كل عام يحتمل أن يخصص، فالنص يحتمل أن يؤول أي أن يصرف عن الدلالة على العموم إلى أن يراد منه الخصوص، وقد صرف هذا النص فعلاً عن العموم بالنصوص التي دلت على تحريم بعض أنواع البيع مثل بيع المعدوم، وبيع الغرر وبيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع الثمر قبل أن يبدوه صلاحه.
وقد اتفق كلمة العلماء على أن النص إذا كان مفسرًا أي متعينًا فهم معناه الظاهر منه لا يجوز أن يراد منه غير معناه الظاهر سواء كان تعيين فهم معناه منه من نفس صيغته أو من بيان صادر من الشارع قاطع للاحتمال في فهمه، وقد فصلنا هذا في التفسير.
وأما إذا كان النص ظاهرًا في الدلالة على معناه ولكنه ليس صريحًا فيه ولا قطعي الدلالة عليه بل يحتمل أن يراد منه معنى غير معناه الظاهر منه فهل يجب الوقوف عند هذا المعنى الظاهر والأخذ به حتمًا ولا يجوز العدول عنه وصرف اللفظ إلى غيره، أو يجوز أن يصرف اللفظ عن معناه الظاهر ويراد منه معنى آخر يحتمل فهمه من اللفظ إذا اقتضى هذا الصرف والعدول دليل ؟
انقسم علماء المسلمين في هذا إلى قسمين: أهل الظاهر، وأهل التأويل.
فأما أهل الظاهر ويسمون الظاهرية وهم أتباع داود بن علي الظاهري الذي ولد بالكوفة في سنة 202 للهجرة ونشأ ببغداد، فقد ذهبوا إلى وجوب العمل بظواهر النصوص وسدوا باب التأويل بتاتًا، فكل النصوص عندهم في حكم الصريحة المفسرة يجب العمل بما ظهر فيها، وكما سدوا باب التأويل أنكروا الاجتهاد بالقياس فهم لا يصرفون نصًا عن ظاهره، ولا يلحقون واقعة غير منصوص على حكمها بواقعة منصوص على حكمها، بل يقفون عند الأحكام التي دلت عليها ظواهر النصوص فقط، وقد أيد هذا المذهب وانتصر له في القرن الخامس بالأندلس على ابن حزم ولكنه مع علمه وعلو مرتبته في حفظ الحديث تعرض لكثير من أئمة المسلمين بالجرح وقد قال عنه ابن خلدون في مقدمته (أن الناس نقموا ذلك منه وأوسعوا مذهبه استهجامًا وإنكارًا وتلقوا كتبه بالإغفال والترك حتى أنها ليحظر بيعها بالأسواق وربما تمزق في بعض الأحيان).
وأما أهل التأويل وهم جمهور علماء المسلمين فقد ذهبوا إلى أن النص إذا لم يكن صريحًا ولا متعينًا فهم المراد منه يجب العمل بما ظهر منه، ولكن يجوز أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى الظاهر إلى غيره إذا اقتضى هذا التأويل دليلاً، لأن النص إذا كان يحتمل الدلالة على غير معناه الظاهر كانت دلالة على معناه الظاهر منه راجحة لا قطعية، ودلالته على معناه غير الظاهر مرجوحة لا خاطئة، والأصل حمل اللفظ على ما رجحت دلالته عليه ولكن يجوز حمله على المرجوح إذا دل على هذا العدول دليل.
فالتأويل في اصطلاح الأصوليين هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر منه الراجحة دلالته عليه إلى معنى غير ظاهر منه مرجوحة دلالته عليه لوجود دليل يقتضي العدول عن الراجح إلى المرجوح.
وقد وضع الأصوليون أساسًا عامًا يبنى عليه التأويل، وشروطًا لا يصح إلا بتوافرها لأن فتح باب التأويل على مصراعيه من غير أساس ثابت يبنى عليه ومن غير شروط يجب توافرها فيه قد يؤدي إلى العبث بالنصوص وتحميلها ما لا تحتمله وقد يتخذ وسيلة إلى تحقيق الأهواء والأغراض وإهمال النص ونسخها، أما الأساس الواجب أن يبنى عليه كل تأويل فهو أن الأصل عدم التأويل وأن التأويل خلاف الأصل ولا يعدل عن الأصل إلى خلافه إلا بدليل، فالأصل في العام الدلالة على العموم فلا يخصص إلا بدليل، والأصل في المطلق الدلالة على الإطلاق فلا يقيد إلا بدليل، والأصل في اللفظ الدلالة على معناه الحقيقي فلا يراد منه معنى مجازي إلا بدليل، وبناءً على هذا الأساس يكون كل نص قانوني حجة على ما ظهر منه إلا إذا وجد دليل يقتضي خلاف هذا، فلا يصرف نص عن ظاهره بمجرد الهوى وإنما يصرف بالدليل الذي يقتضيه، والمحتج بظاهر النص محتج بالأصل والمحتج بخلافه عليه إقامة الدليل الذي اقتضى العدول عن الأصل.
وأما الشروط الواجب توافرها لصحة التأويل فهي ثلاثة:
الأول: أن يقوم الدليل الصحيح الذي يقتضي التأويل، وهذا الدليل قد يكون نصًا، وقد يكون حكمة التشريع، أو مبادئ الشارع العامة، وقد يكون رفع التعارض بين نصوص ظاهرها التعارض، وقد يكون استحالة المعنى الظاهر كالنصوص التي توهم بظاهرها تشبيه الله بخلقه، فمن تأويل النص بالنص قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) لفظ المطلقات عام فالمعنى الظاهر المتبادر من النص، وكل مطلقة تتربص بنفسها ثلاثة قروء، ولكن النص صرف عن هذا العموم قوله تعالى في شأن المطلقات قبل الدخول بهن (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، وقوله تعالى في الحاملات عمومًا (وَأُوْلاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، ومثله كل عام صرف عن عمومه بدليل اقتضى تخصيصه، وكذلك قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ) صرف الدم عن إطلاقه بدليل هو قوله تعالى (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا) ومثله كل مطلق صرف عن إطلاقه بدليل اقتضى تقييده، وكذلك قوله تعالى: (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) المعنى الظاهر من النص وادفعوا لليتامى أموالهم، ولكن اليتيم لا يدفع إليه ماله وهو يتيم بصريح قوله تعالى (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)، فهي صريحة في أنه لا يدفع لليتيم ماله إلا بعد أن يبلغ سن الزواج ويؤنس رشده فهذا يقتضي تأويله قوله تعالى (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) إما بأن يراد باليتيم البالغ وسمي باليتيم باعتبار ما كان، وأما بأن يراد بإيتاء اليتيم ماله صرفه في مصالحه، فصرف لفظ اليتامى عن معناه الحقيقي إلى معنى مجازي أو صرف لفظ وآتوا عن معناه الحقيقي إلى معنى مجازي هو تأويل اقتضاه دليل هو نص الآية الأخرى.
ومن تأويل النص بدليل هو حكمة التشريع تأويل لفظ الشاة في الحديث (في كل أربعين شاة)، ولفظ الصاع في حديث (صدقة الفطر صاع من تمر أو شعير)، فظاهر النص أن الزكاة للأربعين شاة لا تكون إلا شاة ولا تجزئ عنها قيمتها، وإن صدقة الفطر لا تكون إلا صاعًا من القوت الغالب في بلد المتصدق ولا تجزئ قيمتها، ولكن فقهاء العراق صرفوا هذا النص عن ظاهره وأرادوا بالشاة ماليتها لا خصوصها، وبالصاع ماليته لا خصوصه، فكأن الشارع ذكر الشاة والصاع لتقدير مالية الواجب، وعلى هذا قالوا تجزئ في الزكاة الشاة أو قيمتها، ويجزئ في صدقة الفطر الصاع أو قيمته، والدليل الذي اقتضى هذا التأويل حكمة تشريع الزكاة أو صدقة الفطر فإن حكمة الشارع من تشريعهما نفع الفقير، ونفع الفقير كما يتحقق بالشاة أو الصاع يتحقق بقيمة كل منهما، بل قد يكون التصدق بالقيمة أنفع للفقير.
ومثال هذا من القانون الوضعي تأويل لفظ الليل في مادة السرقة ليلاً وإتلاف المزروعات ليلاً فإن ظاهر النص يقتضي أن تثبت العقوبة المشددة لكل من سرق في الوقت من غروب الشمس إلى قبيل شروقها لأن هذا الوقت هو الذي يسمى الليل، ولكن صرف هذا اللفظ عن معناه الظاهر منه وأريد منه في ظلمة الليل والدليل على هذا التأويل حكمة التشريع فإن الشارع إنما قصد تشديد العقوبة على من يغتنمون ظلمة الليل وسكونه فرصة لترويع الآمنين وسرقتهم وهذه الحكمة غير متحققة فيمن سرق بعد غروب الشمس مباشرة والشفق الأحمر في الأفق.
الشرط الثاني: أن يؤول النص إلى معنى يحتمل لفظه الدلالة عليه بطريق من طرق الدلالة، وأما تأويل اللفظ إلى معنى لا يحتمل الدلالة عليه فهذا مسخ لا تأويل، فالعام إذا صرف عن العموم وأريد به بعض أفراده، والمطلق إذا صرف عن الشيوع وأريد به المقيد، واللفظ إذا صرف عن معناه الحقيقي وأريد به معنى مجازي في كل هذا تأويل النص إلى معنى يحتمله، والشاة إذا صرفت عن شخصيتها وأريد بها ماليتها لتنظم شخصيتها وقيمتها فيه صرف إلى معنى يحتمله اللفظ، والبيع إذا صرف عن معناه الحقيقي إلى الهبة لقيام الدليل على أنه تمليك بالمجان صور بصورة البيع فيه صرف اللفظ إلي معنى يحتمله، ولكن إذا أريد بالشاة الجمل أو أريد بالبيع الوقف فهذا صرف اللفظ إلى ما لا يحتمل الدلالة عليه، ولهذا أنكر جمهور الفقهاء على فقهاء العراق بعض تأويلات عدوها تأويلات بعيدة لأن فيها تحميل اللفظ ما لا يحتمله وهذه بعض أمثلتها:
1 - أسلم غيلان الثقفي وفي عصمته عشر زوجات أسلمن معه، فقال له الرسول (أمسك أربعًا وفارق سائرهن) الظاهر المتبادر فهمه من هذا النص أن للزوج أن يستبقى في عصمته أي أربع من العشر سواء أكان قد تزوجهن بعقد واحد أم بعقود متعددة، وسواء أكانت من يستبقيها ذات العقد المتقدم أم ذات العقد المتأخر، وهذا مذهب الشافعية.
ولكن الحنفية ذهبوا إلى أن الزوج إن كان قد تزوج العشر بعقد واحد فعليه أن يبتدئ زواج أربع منهن، وإن كان قد تزوجهن بعقود متفرقة فعليه أن يستبقي الأربع المتقدمات منهن، وقالوا إن المراد من قول الرسول أمسك أربعًا وفارق سائرهن ابتدئ زواج أربع منهن إن كنت تزوجت العشر بعقد واحد، واستبق الأربع السابقات منهن إن كنت تزوجت العشر بعقود متعددة ومن الواضح أن هذا صرف اللفظ إلى معنى بعيد عنه وتحميله ما لا يحتمله.
2 - قال تعالى في كفارة الحنث واليمين (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) الظاهر المتبادر من هذا النص أن الكفارة إطعام هذا العدد من المساكين، وهذا مذهب الشافعية ولكن الحنفية ذهبوا إلى أن الكفارة إطعام عشرة مساكين أو إطعام مسكين واحد عشر مرات، ومن الواضح أن هذا تحميل اللفظ ما لا يحتمله لأن عشرة مساكين صريحة في عدد معين، ولعل الشارع أراد أن تكون الكفارة وسيلة لإطعام جمع من المساكين.
أما قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، فالظاهر منها أن الصدقات تصرف لهؤلاء الأصناف جميعهم لا لبعضهم لأن الواو للجمع ولكن لو أريد بالنص أن الصدقات محصورة في هذه الأصناف بحيث لا تصرف لغيرهم سواء أصرفت لهم جميعًا أم لبعضهم فهذا تأويل محتمل وهو صحيح، وكذا تأويل اليد بالقدرة في قوله تعالى (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بمعنى قدرة الله فوق قدرتهم وتأويل العين بالرعاية والإحاطة في قوله تعالى (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) بمعنى رعايتنا وأحاطتنا فهو تأويل إلى ما يحتمل اللفظ أن يدل عليه بطريق المجاز لأن اليد أداة القدرة والأعين أداة الرعاية والإحاطة.
الشرط الثالث: لصحة التأويل أن لا يؤدي التأويل إلى معارضة نص صريح لأن النص الصريح قطعي الدلالة على معناه فإذا أريد بالنص المؤول معنى يخالفه تعارض القطعي والظني فيعمل بالقطعي ويترك الظني، ولهذا لا يصح أن يراد بالشاة الواجبة في الزكاة قيمتها أو بالصاع قيمته لأن هذا يؤدي إلى أن لا تجزئ الشاة نفسها أو الصاع نفسه فيعطل النص.
ومن هذا تأويل آيات القصص في القرآن إلى أنها تمثيلية ليس لها واقع تطابقه فإن هذا فضلاً عن أنه صرف اللفظ عن معناه الظاهر منه بدون دليل يقتضيه فهو يعارض قوله تعالى في شأن القصص (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وقوله سبحانه (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ)، فمن قالوا إن بعض آيات القصص من المتشابهات وإن المتشابه يؤول لا يريدون بتأويله أن يؤول إلى أنه تخييل وتمثيل ولا واقع له وإنما يريدون بتأويله أن يراد من بعض ألفاظه معنى مجازي يدل عليه اللفظ ويستقيم معه النص، وأما تأويله إلى أن النص لا أصل له ولا واقع يطابقه فهذا تعطيل للنص ويعارض صريح الآيات الناطقة بأن حديث القصص غير مفترٍ وأنه له واقع يطابقه.
هذا هو أساس التأويل الصحيح والشروط الواجب توافرها لقبوله، ومع مراعاة هذا الأساس وهذه الشروط يبعد المؤول عن الزلل، ويحقق غرض الشارع ومقصده، ويوفق توفيقًا مقبولاً بين ما ظاهره التعارض من النصوص.
والحق الذي لا ريب فيه أن الأخذ بظواهر النصوص كلها في أي حال كما هو مذهب الظاهرية يؤدي في كثير من الأحيان إلى تناقض نصوص الشريعة الواحدة، وإلى التفريق بين المتساويات، والتسوية بين المختلفات، ولهذا أخذت على الظاهرية أحكام كثيرة نابية عن عدالة التشريع وحكمته والذي حملهم على التمسك بها الوقوف عند ظواهر النصوص مثل قولهم يحرم الشرب في آنية الذهب والفضة ولا يحرم الأكل فيها لأن الحديث نهى عن الشرب لا عن الأكل، ومما زاد مذهبهم جمودًا وبعدًا إنكارهم الاجتهاد بالقياس: كما أن فتح باب التأويل على مصراعيه بدون مراعاة أساسه وشروطه يؤدي إلى التعسف في التأويل والشطط في فهم النصوص وتطبيقها على وفق الأهواء والأغراض لا على وفق المصلحة والعدالة.
والتأويل الصحيح المقبول هو ما بنى على أساسه الذي بيناه وشروطه التي فصلناها.
قال الإمام الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول.
التأويل الصحيح صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله بدليل يصيره راجحًا، لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مساوٍ تأويل فاسد، وقال: وشروط التأويل الصحيح أن يكون موافقًا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال أو عادةً صاحب الشرع وكل تأويل خرج عن هذا فليس بصحيح، وأن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه، وأن يكون القياس جليًا إذا كان دليل التأويل القياس، وقيل لا يجوز التأويل بالقياس أصلاً.
ومما قدمنا يتبين أن تأويل النص القانوني في التشريع الإلهي أو الوضعي مما يجب فيه الاحتياط وقاية للنصوص من العبث بها وقد قال بعض علماء الأصول أن أكثر زلل الزالين من المتشرعين منشؤه التأويل وما خلق الظاهرية إلا تعسف بعض المؤولين ولا ينجى المؤول من الزلل إلا الاحتياط وبناؤه على أساسه ومراعاة شروطه.
-------------
(1) المحاضرة التي ألقاها حضرة الأستاذ عبد الوهاب خلاف بدار نقابة المحامين في مساء الخميس 11 من ديسمبر سنة 1947.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق