الصفحات

الخميس، 2 ديسمبر 2021

صحة وقفية المرحوم علي بك فهمي لعزيز خانكي

مجلة المحاماة

وقفية المرحوم علي بك فهمي
بحث في صحتها

كلنا نعلم أنه في سنة 1921 صدر من المرحوم علي بك فهمي وقف خص وجوه البر بجزء عظيم من ريعه، فالبعثة الفهمية خصها بمبلغ 3000 جنيه في السنة، والمستشفى الرمدي في أبي الوقف خصه بمبلغ 1500 جنيه، وخص وجوه بر أخرى بمبالغ عدة.
وكلنا نعلم أن هذا الوقف صدر منه أمام حضرة صاحب الجلالة الملك وحضرة صاحب المعالي كبير الأمناء وحضرة صاحب السعادة مدير المنيا، وقد صدر منه ودون في (ورقة عرفية) أمضاها الواقف وصاحب الجلالة وصاحب المعالي وصاحب السعادة.
وكلنا نعلم أيضًا أن هذا الوقف لم يضبط في مضبطة المحكمة الشرعية (التي يوقع عليها الواقف وشهوده عادةً) ولم يقيد في دفاترها، فما قيمة هذا الوقف يا ترى؟ هل انعقد الوقف أو لم ينعقد؟
الاعتراض القوي الذي يمكن أن يعترض به من يقول بعدم انعقاد الوقف مستفاد من نص المادة (137) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية التي أوجبت صدور الإشهاد بالوقف (على يد حاكم شرعي) و(قيده بدفتر إحدى المحاكم الشرعية).
وهذان الشرطان غير متوفرين هنا، فلا الوقف صدر به إشهاد شرعي أمام قاضٍ شرعي ولا هو قُيد بدفتر إحدى المحاكم الشرعية، وإليك نص المادة:
(يمنع عند الإنكار سماع دعوى الوقف أو الإقرار به أو استبداله أو الإدخال أو الإخراج وغير ذلك من الشروط التي تشترط فيه إلا إذا وجد بذلك إشهاد ممن يملكه على يد حاكم شرعي بالقطر المصري أو مأذون من قِبله كالمبين في المادة (360) من هذه اللائحة وكان مقيدًا بدفتر إحدى المحاكم الشرعية...).
وما دام لا إشهاد ولا قيد فلا وقف.
وتكون (الورقة العرفية) التي دون فيها إقرار الواقف بالوقف هي والهواء سواء. هذا هو مبنى اعتراض من يقول بعدم انعقاد الوقف.
أما نحن فمن رأينا أن المسألة فيها نظر والاعتراض السابق غير مقطوع بصحة أسبابه، وعلى كل حال فهو غير قاطع في الدلالة على عدم انعقاد الوقف، وإليك البيان:
أولاً: الأصل في الشرع أن ينعقد الوقف بصدور لفظ من ألفاظه الخاصة به، فإذا قال المتصرف أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة على الفقراء وتوفرت فيه سائر شروطه انعقد الوقف بالقول، وهنا الواقف أشهد على نفسه بالوقف قولاً وكتابةً، ونفذه بالفعل بدفع 3000 جنيه لوزارة المعارف قيمة نفقة البعثة الفهمية، فالوقف انعقد شرعًا.
ثانيًا: يقولون ولكن لائحة المحاكم الشرعية جعلت الوقف مثل الهبة والرهن العقاري لا يكون له وجود إلا إذا تحرر به إشهاد رسمي، فهبة العقار ورهن العقار لا يكون لهما وجود قانونًا إلا إذا تحرر بهما عقد رسمي أمام مأمور العقود الرسمية، والوقف لا يكون له وجود إلا إذا حصل الإشهاد به أمام حاكم شرعي أو مأذون من قِبله، وهذا غير صحيح، لأن المادة تنص فقط على منع سماع دعوى الوقف عند عدم وجود إشهاد به (عند الإنكار) فقط، فإذا حصل الوقف بورقة عرفية ولم ينكر الواقف صدور الوقف منه جاز سماع دعوى الوقف أو الإقرار به أو استبداله أو الإدخال أو الإخراج وغير ذلك من الشروط، فالإشهاد بالوقف أمام حاكم شرعي أو مأذون من قِبله ليس إذًا شرطًا لانعقاد الوقف بل هو دليل على وجوده (عند الإنكار).
ألا ترى أن اللائحة لم تنص على البطلان ولا على عدم انعقاد الوقف عند عدم وجود إشهاد واكتفت فقط بمنع سماع دعوى الوقف أو الإقرار به (عند الإنكار)، ومنع سماع الدعوى شيء والبطلان شيء آخر.
وقد حكمت المحكمة العليا الشرعية بصحة انعقاد وقف صدر في ورقة عرفية عقبها بعد حين إشهاد شرعي صدر من الواقف بتغيير في وقفه الأصلي (الذي حصل بورقة عرفية) وفي إشهاد التغيير روى الواقف حكاية الوقف الذي صدر منه في الورقة العرفية، فلو كان الوقف الأصلي لم ينعقد أصلاً لعدم الإشهاد به أمام حاكم شرعي ما كان الإشهاد بالتغيير الذي حصل بعد حين أمام المأذون أوجده من العدم، فالمسألة مسألة إثبات، والإثبات تحدد هنا، وشرط أن يكون بإشهاد شرعي (عند الإنكار) فقط، فحالة الوقف تباين حالة الهبة وحالة الرهن العقاري.
ثالثًا: على أن من رأينا أن شرط (الإشهاد) متوفر هنا. اللائحة شرطت عند الإنكار أن يوجد (إشهاد ممن يملكه على يد حاكم شرعي أو مأذون من قِبله)، وهنا الوقف صدر على يد صاحب الجلالة الملك وهو الحاكم الشرعي الأكبر ومنه يستمد سائر الحكام الشرعيين صفتهم في الحكم، ولا يصح اعتبار الإشهاد الحاصل أمام أصغر قاضٍ شرعي أو مأذون وعدم اعتبار الإشهاد الحاصل أمام الحاكم الشرعي الأكبر الذي منه يستمد القضاة الشرعيون ولا يتهم في القضاء.
ورب معترض يقول: إن كلمة (الحاكم الشرعي) معناها هنا (القاضي الشرعي) وفي الترجمة الفرنساوية للائحة ترتيب المحاكم الشرعية عبر عن (الحاكم الشرعي) بكلمة Cadi وجلالة الملك ليس بقاضٍ يتقبل الإشهادات الشرعية، ولا سيما أنه بحسب النظامات السياسية الحديثة لا يمكن أن يجمع الملك في شخصه وفي قبضة يده السلطات الثلاثة: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
نقول هذا الاعتراض ليس وجيهًا:
1 - لأن القوانين المصرية جعلت للوقف ميزة خاصة به أخرجته عن حكم سائر الأموال فيما يختص بأصله وكيانه، إذ جعلت مرجع أصل الوقف إلى أصل الشرع، ولا يخفى أن جلالة الملك هو الآن صاحب الولاية الشرعية العامة على الأوقاف المصرية بأسرها، منه يستمد جميع القضاة الشرعيين صفتهم في الحكم، وهو الذي أجاز لهم ويجيز لهم الحكم في الدعاوى وفي قبول الإشهادات الشرعية، فهم أشبه شيء بوكلاء عنه، والقاعدة أن ما يملك الوكيل عمله يملك الموكل عمله بالطبع وبالبداهة.
2 - زد على هذا أن الأصل في حكمة إيجاب صدور إشهاد بالوقف أمام حاكم شرعي أو أمام مأذون من قِبله منع التلاعب الذي كان فاشيًا في قضايا الأوقاف ومنع دعاوى الإدخال والإخراج والتغيير والاستبدال والإبدال وغيرها من الدعاوى العديدة التي كانت تُختلق إضرارًا بمصلحة جهات الوقف أو بمصلحة المستحقين وكان يُكتفَى في إثباتها بشهادة الشهود وبالأوراق العرفية التي ما كان يعرف لها أصل، وهنا الإشهاد بالوقف حصل أمام ولي الأمر نفسه وأمام كبير الأمناء وأمام مدير المنيا وأمام شهود عدول كثيرين وفي محفل من الناس لم يرَ الوجه القبلي مثله من البهاء والعظمة والجلال، فمن ذا الذي يجرؤ على إنكار صدور الوقف من الواقف.
رابعًا: بقي شرط (قيد الإشهاد بدفتر إحدى المحاكم الشرعية) وهذا عمل إداري محض، كما يجوز القيد في حياة الواقف يجوز بعد وفاته، وما على صاحب الشأن إلا أن يقدم الإشهاد إلى المحكمة الشرعية لقيده بدفاترها وهي تقيده، وإذا امتنعت يعرض الأمر على وزارة الحقانية وهي تأمر المحكمة بالقيد.
الحادثة فذة ليست لها سابقة من نوعها إذ لم نرَ ولم نقرأ أن إشهادًا بالوقف حصل عن يد خديوي مصر أو سلطان مصر أو ملك مصر، لهذا سألنا الكثيرين من إخواننا من رجال القضاء ومن رجال المحاماة ومن أهل العلم فرأيناهم يميلون إلى القول بانعقاد الوقف بناءً على أنه حصل على يد جلالة الملك الذي هو الحاكم الشرعي الأكبر.
ومن رأيي أنه حتى لو كانت المسألة تحتمل القولين فإني أرجح قول من يرى انعقاد الوقف للوجوه الآتية:
1 - احترامًا لمقام ولي الأمر الذي حصل على يده الإشهاد.
2 - لأن القول بانعقاد الوقف فيه تنفيذ لإرادة الواقف.
3 - لأن الوقف تضمن وجوه بر كثيرة نفعها عام على البلد، فالقول بانعقاد الوقف يوافق المصلحة العامة.
4 - لأن مآل الأطيان الموقوفة إذا قيل بعدم انعقاد الوقف سيكون إلى أخوات الواقف وهن موسرات إيسارًا تامًا بفضل ما ورثنه عن المرحوم والدهن والمرحومة أختهن، فالحصة التي تؤول إلى كل واحدة من أخواته لا تزيدها سعة ولا رخاء ولا تغير من معيشتها شيئًا ما، أما إذا قيل بانعقاد الوقف ونفذ الوقف بالفعل وأُنفق الريع في وجوه البر المشروطة في الوقفية (البعثة الفهمية والمستشفى الرمدي وغيرهما) فإن الأمة تستفيد فوائد تبقى آثارها خالدة تتجدد منافعها في كل سنة ما دام الوقف قائمًا.
أما عم المرحوم الواقف الذي يقولون إنه جدير بالعناية فيمكن الصلح معه على مبلغ من المال أو حصة في الأطيان نظير مصادقته على الوقف، ولعل صاحب الجلالة الملك هو خير وسيط للحصول على إجازة أخوات الواقف ومصادقة العم، فإن تفضل وفعل ورضيت الأخوات وقبل العم كان لهم جميعًا عند الله جزاء الخير خير الجزاء.

عزيز خانكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق