الصفحات

الأحد، 4 أغسطس 2019

دستورية الادعاء المباشر كرقابة على سلطة النيابة العامة في تحريك الدعوى تفاديًا لإساءتها استعمال سلطتها بالامتناع عن مباشرتها دون مقتض

الدعوى رقم 166 لسنة 31 ق "دستورية" جلسة 6 / 7 / 2019
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت السادس من يوليه سنة 2019م، الموافق الثالث من ذي القعدة سنة 1440 هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: سعيد مرعى عمرو ورجب عبد الحكيـم سليم والدكتور حمدان حسن فهمى وحاتم حمد بجاتو والدكتور عبدالعزيز محمد سالمان وطارق عبدالعليم أبو العطا. نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى    رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع    أمين السر

أصدرت الحكم الآتى
      في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 166 لسنة 31 قضائية "دستورية"، بعد أن أحالت محكمة جنح النزهة بحكمها الصادر بجلسة 7/5/2009، ملف الدعوى رقم 15817 لسنة 2008 جنح النزهة.
المقامة من
...........
ضــــد
...........
الإجـراءات
بتاريخ الثانى من أغسطس سنة 2009، ورد إلى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 15817 لسنة 2008 جنح النزهة، تنفيذًا للحكم الصادر من محكمة جنح النزهة بجلسة 7/5/2009، بوقف الدعوى تعليقيًّا وإحالتها للمحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية المادة (232) من قانون الإجراءات الجنائية فيما نصت عليه من أنه "ومع ذلك فلا يجوز للمدعى بالحقوق المدنية أن يرفع الدعوى إلى المحكمة بتكليف خصمه مباشرة بالحضور أمامها في الحالتين الآتيتين: أولاً: إذا صـدر أمر من قاضى التحقيق أو النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعـوى ولم يستأنف المدعى بالحقـوق المدنية هذا الأمر في الميعاد أو استأنفه فأيدته محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة".
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
      حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – في أن ....، كان قد أقام الدعوى رقم 15817 لسنة 2008 جنح النزهة، بطريق الادعاء المباشر، ضد مطلقته .....، طالبًا معاقبتها بالعقوبة المنصوص عليها بالمادة (301) من قانون العقوبات، لأنها في يوم 8/5/2008، بعد أن وُجهت إليها اليمين الحاسمة في الدعوى رقم 808 لسنة 2007 أسرة النزهــــة، حلفت يمينًا كذبًا بأن مقدم المهر الذى أداه لها هــــو جنيه واحد وليس مبلغ سبعة وعشرين ألف جنيه، مع إلزامها بأن تؤدى إليه مبلغ مائة ألف وواحد جنيه على سبيل التعويض المؤقت. وبجلسة 7/5/2009، قضت المحكمة بوقف الدعوى تعليقيًّا وإحالتها للمحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص المادة (232) من قانون الإجراءات الجنائية فيما تضمنته من النص على أنه "ومع ذلك فلا يجوز للمدعى بالحقوق المدنية أن يرفع الدعوى إلى المحكمة بتكليف خصمه مباشرة بالحضور أمامها في الحالتين الآتيتين: أولاً: إذا صدر أمر من قاضى التحقيق أو النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى ولم يستأنف المدعى بالحقــوق المدنية هـذا الأمر في الميعاد أو استأنفه فأيدته محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة"
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة (232) من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أنه" تحال الدعوى إلى محكمة الجنح والمخالفات بناء على أمر يصدر من قاضى التحقيق أو محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة أو بناء على تكليف المتهم مباشرة بالحضور من قبل أحد أعضاء النيابة العامة أو من المدعى بالحقوق المدنية".

وتنص الفقرة الثالثة من هذه المادة على أنه "ومع ذلك فلا يجوز للمدعى بالحقوق المدنية أن يرفع الدعوى إلى المحكمة بتكليف خصمه مباشرة بالحضور أمامها في الحالتين الآتيتين: (أولا) إذا صدر أمر من قاضى التحقيق أو النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى ولم يستأنف المدعـى بالحقوق المدنية هذا الأمر في الميعاد أو استأنفه فأيدته محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة. (ثانيا) إذا كانت الدعوى موجهة ضد موظف أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها ما لم تكن من الجرائم المشار إليها في المادة (123) من قانون العقوبات".

وحيث إن المصلحة في الدعـــوى الدستوريـة، وهي شرط لقبولهـــا، مناطها - على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع، ويستوى في شأن توافر المصلحة أن تكون الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة، والمحكمة الدستورية العليا هي وحدها التى تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعوى الدستورية للتثبت من شروط قبولها، ومؤدى ذلك أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا لا تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل لازمه أن هذه الدعوى لا تكون مقبولة إلا بقدر انعكاس النص التشريعي المحال على النزاع الموضوعي، فيكون الحكم في المطاعن الدستورية لازمًا للفصل في ذلك النزاع، وأنه لا تلازم بين الإحالة من محكمة الموضوع وتوافر هذه المصلحة، فإذا لم يكن للفصل في دستورية النص الذى ثارت بشأنه شبهة عدم الدستورية لدى محكمة الموضوع انعكاس على النزاع الموضوعي، فإن الدعوى الدستورية تكون غير مقبولة.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان النزاع في الدعوى الموضوعية يدور حول طلب المدعى بالحق المدنى ملاحقـــــة المتهمة, من خلال الادعاء المباشر, عن جريمة ارتكبتها بحلف يمين كذبًا، مما يستوجب معاقبتها وفقا لنص المادة (301) من قانون العقوبات، حال صدور قرار من النيابة العامة بحفظ الأوراق إداريًّا في البلاغ المقدم منه ضدها في هذا الشأن, ومن ثم فإن المصلحة في ضوء الطلبات المطروحة على محكمة الموضـوع، تكون متحققة بالنسبة لصدر الفقرة الثالثة من نص المادة (232) من قانون الإجراءات الجنائية والبند "أولا" منها, فيما تضمنه من قصر حظر إقامة الدعـوى الجنائية بطريـق الادعاء المباشر من المدعى بالحقوق المدنية على حالة صدور أمر من قاضى التحقيق أو النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى، دون حالة صدور قرار من النيابة العامة بحفظ الأوراق إداريًّا, إذ يكون للفصل في هذه المسألة الدستورية, وحدها, أثره وانعكاسه على صحة اتصال الدعوى الموضوعية بمحكمة الموضوع، وشروط قبولها.

وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيــــــره، إذ إن هذه الرقابة تستهدف أصلاً - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - صون الدستور القائم، وحمايته من الخروج على أحكامه، ذلك أن نصوص هذا الدستور تمثل القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصـدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التى وُجهت للنص المحال تندرج تحت المطاعن الموضوعية التى تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعى لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعى، ومن ثم فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها القضائية على دستورية النص المطعــون عليه - الذى مازال قائمًا ومعمولاً بأحكامه - من خلال أحكام الدستور الحالى الصادر سنة 2014 باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.

      وحيث إن حكم الإحالة ينعى على النص المحال مخالفته لنصوص المواد (1، 64، 65، 67، 68، 70، 86، 165، 166) من الدستور الصادر سنة 1971، المقابلة لنصوص المواد (1، 94، 97، 98، 101، 184، 186، 189) من الدستور الصادر في 18/1/2014، بقالة إنه يُشكل عدوانًا على استقلال القضاء، وتعديًّا صارخًا على سلطة النيابة العامة عند تصرفها في الأوراق، وسلبًا لسلطتها في ملاءمة تحريك الدعوى الجنائية، كما أنه يخالف المبادئ الديمقراطية التى يقوم عليها نظام الحكم ومنها الحق في المحاكمة المنصفة، ويخالف مبدأ خضوع الدولة للقانون ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وشرعية الإجراءات، ويفتح بابًا عريضًا للقضايا الكيدية التى تكدست بالمحاكم، في حين أن الأصل في قانون الإجراءات الجنائية هو وضع حد لتدخل الدولة في حياة الأفراد، وأن هذا النص يخالف قواعد المحاكمة المنصفة وحق الدفاع، كما فرق المشرع بين أمــــر الحفظ والأمــــر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية، وأن السماح للمضرور من الجريمة برفع الدعوى المباشرة يعد نوعًا من منحه سلطة تزيد على سلطة النيابة العامة، رغم أنها الجهة المختصة أصلاً برفع الدعوى الجنائية، وأنه إذا كانت حماية الموظف العام واجبة فإن حماية أى متهم أيضًا تكون واجبة لتماثل المبررات، ومن ثم أصدرت محكمة الموضوع حكم الإحالة المبين سلفًا.

وحيث إن ما نص عليه الدستور في المادة الأولى من قيام نظام الحكم على أساس المواطنة وسيادة القانون، قد دلّ على أنه في مجال حقوق المواطنين وحرياتهم فإن مضمون القاعدة القانونية التى تسمو في الدولة القانونية عليها وتتقيد هى بها إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التى التزمتها الدول الديمقراطية باطراد في مجتمعاتها، واستقر العمل فيما بينها على انتهاجها في مختلف مظاهر سلوكها، باعتبار أن التقيد بها مفترض أولى لتوكيد خضوعها للقانون، وبما لا إخلال فيه بتلك الحقوق التى يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية - ووفقاً لمعايير تطبيقها لديها - معبراً عن إقرارها لضماناتها، ونزولها بالقيود عليها إلى الحدود التي تقتضيها الضرورة، وبما لا يعطل جوهرها إنفاذًا لفاعليتها، واستيفاء لدورها في مجال إشباع المصالح المرتبطة بها.

وحيث إن الدستور نص في المادة (94) على خضوع الدولة للقانون وأن استقلال القضاء، وحصانته، وحيدته، ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات، كما أكد على هذه المبادئ في المادتين (184) و(186)، فقد دلَّ على أن الدولة القانونية هى التى تتقيد في كافة مظاهر نشاطها- وأيًّا كانت طبيعة سلطاتها - بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطًا لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة، ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازًا شخصيًّا لأحد، ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها، ولأن الدولة القانونية هى التى يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته، ولتنظيم السلطة وممارستها في إطار من المشروعية، وهى ضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورًا لكل تنظيم، وحدًّا لكل سلطة، ورادعًا ضد كل عدوان .



      لما كان ذلك, وكانت السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها، تقديرًا بأن الأصل في النصوص التشريعية في الدولة القانونية هو ارتباطها عقلاً بأهدافها باعتبار أن أى تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف، ومن ثم يتعين دائمًا استظهار ما إذا كان النص المطعون فيه يلتزم إطارًا منطقيًا للدائرة التى يعمل فيها، كافلاً من خلالها تناغم الأغراض التي يستهدفها، أم متهادمًا مع مقاصده أو مجاوزًا لها ومناهضًا - بالتالى - لمبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه في المادة (94) من الدستور.



وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق - ومن بينها حق التقاضي - أنها سلطة تقديرية جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزنًا وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة تعتبر تخومًا لها ينبغى التزامها, وأن التنظيم التشريعي لحق التقاضي - كلما كان منصفًا - لا يناقض وجود هذا الحق، ولا يقتحم الدائرة التى يتنفس فيها، وأن هذا التنظيم لا يتقيد بأشكال جامدة لا يريم المشرع عنها، تُفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز أن يغاير المشرع    فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء الأوضاع التي يباشر هذا الحق عملاً في نطاقها، وبما لا يصل إلى حد إهداره، ليظل هذا التنظيم مرنًا، فلا يكون إفراطًا يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافًا بها عن أهدافها، ولا تفريطًا مجافيًا لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قوامًا، التزامًا بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالاً، وأن الدستور إذ قضى بنص المادة (189) على أن تتولى النيابة العامة تحريك ومباشرة الدعوى الجنائية عدا ما يستثنيه القانون، يعنى أن الادعاء المباشر ليس استصحابًا للأصل في الدعوى الجنائية، بل هو استثناء من قواعد تحريكها، تقديرًا بأن النيابة العامة - على ما تنص عليه المادة الأولى من قانون الإجراءات الجنائية - هى التى تختص دون غيرها برفع الدعوى الجنائية ومباشرتها، ولا ترفع من غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون، كذلك فإن تفويض الدستور السلطة التشريعية في تحديد الأحوال التى لا تقام الدعوى الجنائية فيها من النيابة العامة، باعتباره استثناءً من الأصل العام المتقدم، مؤداه جواز تنظيمها على نحو لا تتقيد فيه بغير الشروط الموضوعية التى لا يناقض تطبيقها حكمًا في الدستور.

وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكان تخويل المدعى بالحقوق المدنية حق الادعاء المباشر - وإن توخى مراقبة النيابة العامة, تفاديًا لإساءتها استعمال سلطتها هذه بالامتناع عن مباشرتها دون مقتض - إلا أن المشرع وازن بالنص المطعون فيه بين أمرين، أولهما: الضرورة التي يقتضيها استعمال هذا الحق في إطار الأغراض التى شرع لها، وثانيهما: الأضرار التي ينبغي توقيها إذا نقض هذا الاستعمال تلك الأغراض وتنكبها، فرجح ثانيهما على أولهما، تقديرًا بأن الأضرار التي ترتبـــط بإساءة استعمال الحـــق في الادعـــاء المباشر، يكـــون دفعها لازمًا، ولا يجوز أن تتقدمها مزاياه فضلاً عن أن الدعوى الجنائية لا يحركها الادعاء المباشر إلا طلبًا لحقوق مدنية بطبيعتها، فلا ترفعها - عند إنكاره في جرائم بذواتها- إلا الجهة التى تختص أصلاً بإقامتها. لما كان ذلك وكان الأمر الصادر من النيابة العامة بحفظ الأوراق لا يعدو أن يكون إجراءً إداريًّا صدر عنها بوصفها السلطة الإدارية التي تهيمن على جمع الاستدلالات، عملاً بنص المادة (61) من قانون الإجراءات الجنائية وما بعدها، وهو على هذه الصورة لا يقيدها، ويجوز العدول عنه في أي وقت بالنظر إلى طبيعته الإداريــة ، ولا يقبـل تظلمًا أو استئنافًا من جانب المجنى عليه أو المدعى بالحـق المدني، وليس لهما سوى الالتجاء إلى طريق الادعاء المباشر في مواد الجنح والمخالفات دون غيره، إذا توافرت شروطه، وفرق بين هذا الأمر الإداري، وبين الأمر القضائي بأن لا وجه لإقامة الدعوى، الصادر من قاضى التحقيق أو النيابة العامة بوصفها إحدى سلطات التحقيق، بعد أن تجرى تحقيق الواقعة بنفسها أو يقوم به أحد رجال الضبط القضائي، بناء على انتداب منها، على ما تقضى به المادة (209) من قانون الإجراءات الجنائية, والذى يمنع من رفع الدعوى، ولهذا أُجيز للمدعى بالحق المدني الطعن فيه. وإذ كان ذلك، وكان النص المحال، في النطاق المتقدم، قد ورد استثناء من الأصل العام في شأن إقامة الدعوى الجنائية، وكان الاستثناء لا يجوز التوسع فيه أو القياس عليه، وكان أمر النيابة العامة بحفظ الأوراق يختلف في عناصره عن قرارها أو الأمر الصادر من قاضى التحقيق بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية، ومن ثم فإنه لا يحول دون تحريك الدعوى الجنائية بالطريق المباشر، وتبعًا لذلك فإن هذا النص لا يكون قد خرج على المبادئ الدستورية المتقدم بيانها.



وحيث إن ضمان الدسـتور لحق التقاضى - بنص المادة (97) - مؤداه ألا يحرم الناس جميعهم أو فريق منهم أو أحدهم من النفاذ إلى جهة قضائية تكفل بتشكيلها، وقواعد تنظيمها، ومضمون القواعد الموضوعية والإجرائية المعمول بها أمامها حدًّا أدنى من الحقوق التى لا يجوز إنكارها عمن يَلِجُون أبوابها، ضمانًا لمحاكمتهم إنصافًا. وكان لحق التقاضى غاية نهائية يتوخاها تمثلها الترضية القضائية التى يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التى أصابتهم من جراء العدوان على حقوق يطلبونها، فإن أرهقها المشرع بقيود تُعسر الحصول عليها أو تحول دونها، كان ذلك إخلالاً بالحماية التى كفلها الدستور لهذا الحق.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن توافر الضمانات القضائية، وأهمها الحيدة والاستقلال، يعد أمرًا لازمًا في كل خصومة قضائية أو تحكيمية، وهما ضمانتان متلازمتان ومتعادلتان في مجال مباشرة العدالة، وتحقيق فاعليتها، ولكل منهما القيمة الدستورية ذاتها، فلا تعلو إحداهما على الأخرى أو تجبها، بل تتضاممان تكاملاً، وتتكافآن قدرًا، وهاتان الضمانتان تتوافران بلا ريب في أعضاء النيابة العامة باعتبارها جهة قضائية، أحاطها المشرع بسياج من الضمانات والحصانات على النحو الوارد بقانون السلطة القضائية الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972، على نحو يقطع بتوافر ضمانتي الاستقلال والحيدة لهم، ومن أجل ذلك حرص الدستور الحالي على النص في المادة (189) على أن النيابة العامة جزء لا يتجزأ من القضاء، ليتمتع أعضاؤها بذات ضمانات القضاة، وأخصها الاستقلال، وعدم القابلية للعزل، ولا سلطان عليهم في عملهم لغير القانون، التى أكد عليها الدستور في المادة (186).

وحيث إن من المقرر كذلك – في قضاء هذه المحكمة – أن لكل مواطن حق اللجوء إلى قاض يكون بالنظر إلى طبيعة الخصومة القضائية، وعلى ضوء مختلف العناصر التى لابستها، مهيأ للفصل فيها، وهذا الحق مخول للناس جميعًا، فلا يتمايزون فيما بينهم في ذلك، وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في مجال سعيهم لرد العدوان على حقوقهم، فلا يكون الانتفاع بهذا الحق مقصورًا على بعضهـم، ولا منصرفًا إلى أحوال بذاتها ينحصر فيها، ولا محملاً بعوائق تخص نفرًا من المتقاضين دون غيرهم، بل يتعين أن يكون النفاذ إلى ذلك الحق، منضبطًا وفق أسس موضوعية لا تمييز فيها، وفى إطار من القيود التى يقتضيها تنظيمه، ولا تصل في مداها إلى حد مصادرته.


وحيث إن حق الدفاع أصالةً أو بالوكالة قد كفله الدستور، باعتبار أن ضمانة الدفاع لا يمكن فصلها أو عزلها عن حق التقاضى، ذلك أنهما يتكاملان ويعملان معًا في دائرة الترضية القضائية التى يُعتبر اجتناؤها غاية نهائية للخصومة القضائية، فلا قيمة لحق التقاضى ما لم يكن متساندًا لضمانة الدفاع، مؤكدًا لأبعادها، عاملاً من أجل إنفاذ مقتضاها. كذلك لا قيمة لضمانة الدفاع بعيدًا عن حق النفاذ إلى القضاء، وإلا كان القول بها وإعمالها واقعًا وراء جدران صامتة؛ يؤيد ذلك أن الحقوق التى يكفلها الدستور أو القانون تتجرد من قيمتها العملية إذا كان من يطلبها عاجزًا عن بلوغها من خلال حق التقاضي، أو كان الخصوم الذين تتعارض مصالحهم بشأنها لا يتماثلون فيما بينهم في أسلحتهم التى يشرعونها لاقتضائها.



وحيث إنه لما كان ذلك، وكان النص المحال، في نطاقه المتقدم بيانه، قد جاء مساويًا بين المراكز القانونية المتماثلة فيما يتعلق بحق التقاضي، وجاء كافلاً له، فيما يتعلق بالمدعي بالحقوق المدنية, ولم ينل من استقلال السلطة القضائية وحيدة أعضائها، كما أن هذا النص لا يُهدر الحق في الدفاع, أصالة أو بالوكالة، ولم يتعرض له بالانتقاص في أى مرحلة من مراحـــــل التحقيق أو المحاكمة، فيظل مكفولاً وفق أحكام القانون، ومن ثم فإن النعى عليه بمخالفة الدستور يكون على غير أساس صحيح.



وحيث إن الدستور جعل بمقتضى نص المادة (189) سلطة التحقيق وتحريك ومباشرة الدعوى الجنائية، حقًّا أصيلاً للنيابة العامة، عدا الحالات التى يستثنيها القانون، وفى هذا الإطار أجازت المادة (232) من قانون الإجراءات الجنائية أن تحال الدعوى إلى محكمة الجنح والمخالفات بناء على تكليف المتهم بالحضور من المدعى بالحقوق المدنية، رغبة منه في إيجاد توازن بين حق النيابة العامة في تحريك الدعوى الجنائية باعتبارها نائبًا قانونيًّا عن المجتمع، جبرًا للضرر العام الذى ينشأ عن الجريمة، وبين حق المدعى بالحقوق المدنية في تحريك الدعوى الجنائية الناشئة عن الفعل المخالف للقانون، بما يمثل نوعًا من الرقابة على سلطة النيابة العامة في تحريك الدعوى الجنائية، تفاديًا لإساءتها استعمال سلطتها هذه بالامتناع عن مباشرتها دون مقتض، وتحقيقًا للمصلحة العامة، بوصف أن إقامة الدعوى الجنائية بالطريق المباشر في هذه الحالة، يُعد حقًّا للمضرور، كفله له الدستور بمقتضى نص المادة (99) ، في حالة الاعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة وغيرها من الحقوق والحريات العامة التى يكفلها الدستور والقانون، وكذا في حالة امتناع الموظفين العموميين عن تنفيذ الأحكام القضائية أو تعطيل تنفيذها طبقًا لنص المادة (100) من الدستور، وكذلك ما خولته الفقرة الأولى من المادة (189) من الدستور، للمشرع من تحديد الحالات التى يجوز فيها لغير النيابة العامة تحريك الدعوى الجنائية، وكل ذلك عدا ما استثناه الدستور بنص المادة (67) منه، بشأن تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها، التى قصرها في هذه الحالة على النيابة العامة وحدها.

وحيث إن النص المحال - في حدود نطاقه المتقدم - قد تضمن قواعد عامة مجردة لا تقيم تمييزًا من أى نوع بين المخاطبين بأحكامه، كما أنه باعتباره الوسيلة التى سنها المشرع لتحقيق الأهداف التى رصدها لهذا التنظيم، يرتبط بتلك الغايات ارتباطًا منطقيًّا، نظرًا لاختـلاف الأمر الصادر من قاضى التحقيق أو النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى، عن القرار الصادر من النيابة العامة بحفظ الأوراق إداريًّا، ومن ثم يكون فيما قرره من أحكام مستندًا إلى أسس موضوعية تبرره. ولا ينال من ذلك القول بأن الادعاء المباشر قد يساء استعماله على نحو يهدد الأبرياء بملاحقتهـم أمام القضاء الجنائي دون رقابة من سلطات التحقيق أو الإحالة، وقد يؤدى ذلك إلى رفع الدعاوى الكيدية والتشهير بالآخرين، مما يلقى مزيدًا من العبء على القاضى الذى قد يلتزم بتحقيق الدعوى وصولاً للحكم فيها، فذلك في مجمله مردود بأن الشارع حين منح المدعى بالحقوق المدنية هذا الحق، حرص على تقييد نطاق الادعاء المباشر وقصره على الجنح والمخالفات، فضلاً عن ذلك فقد أحاط المشرع في قانون الإجراءات الجنائية هذا الحق بعدد من الضوابط، التى تحفظ على العدالة حسن سيرها، والحد من التعسف في استعمال هذا الحق، فوفقًا لنص المادة (251 مكررًا) من ذلك القانون المضافة بالقانون رقم 174 لسنة 1998، فإن تحريك الدعوى الجنائية بالطريق المباشر، قاصر على من يلحقه ضرر شخصي مباشر ناشئ عن الجريمة والمحقق الوقوع حالاً أو مستقبلاً. وأجازت الفقرة الرابعة من المادة (63) من القانون المشار إليه للمتهم عند رفع الدعوى عليه بالطريق المباشر أن ينيب عنه وكيلاً في أية مرحلة كانت عليها الدعوى لتقديم دفاعه، وأجازت المادة (267) من ذلك القانون للمتهم أن يطالب المدعى بالحقوق المدنية أمام المحكمة الجنائية بتعويض الضرر الذى لحقه بسبب رفع الدعوى إن كان لذلك وجه، وله كذلك أن يقيم عليه لذات السبب الدعوى المباشرة أمام المحكمة ذاتها بتهمة البلاغ الكاذب إن كان لذلك وجه، وذلك بتكليفه مباشرة بالحضور أمامها. كما أجازت المادة (260/1) من ذلك القانون للمدعى بالحقوق المدنية أن يترك دعواه في أية حالة كانت عليها الدعوى، مع عدم الإخلال بحق المتهم في التعويضات إن كان لها وجه، وأوجبت الفقرة الثانية من تلك المادة في حالة ترك الدعوى المدنية أو اعتبار المدعى بالحقوق المدنية تاركًا لها، الحكم بانقضاء الدعوى الجنائية. وتوسعت المادة (261) منه في الحالات التي يعتبر فيها المدعى بالحقوق المدنية تاركًا لدعواه، وتشمل عدم حضوره أمام المحكمة بغير عذر مقبول أو عدم إرساله وكيلاً عنه، وكذلك عدم إبدائه طلبات بالجلسة.

وحيث إنه فضلاً عما تقدم، فإن المشرع الجنائي، وإن خول المدعى بالحقوق المدنية في بعض الجرائم التى يجوز فيها الادعاء المباشر سلطة تحريك الدعوى العمومية الناشئة عن الفعل المخالف للقانون، فإن هذه السلطة تقف عند مجرد تحريك الدعوى الجنائية، طلبًا لحقوق مدنية بطبيعتها، أما مباشرة هذه الدعوى فمنوط بالنيابة العامة وحدها باعتبارها السلطة الأصيلة التى أولاها الدستور هذا الاختصاص طبقًا لنص المادة (189) منه، ويقتصر دور المدعى بالحقوق المدنية على دعواه المدنية، التي يدخل فيها بصفته مضـرورًا من الجريمة التى وقعت، طالبًا بتعويضه مدنيًّا عن الضرر الذى لحق به، فدعواه مدنية بحتة ولا علاقة لها بالدعوى الجنائية إلا تبعيتها لها، ومن ثم يكون النص المحال - في حدود النطاق المتقدم - غير مخالف لنصوص المواد (1، 94، 97، 98، 101، 184، 186، 189) من الدستور.


وحيث إن النص المحال, في النطاق المشار إليه، لا يخالف أيًّا من أحكام الدستور الأخرى، ومن ثم يتعين القضاء برفض الدعوى.


فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق