الصفحات

الاثنين، 29 أبريل 2024

القضية 47 لسنة 17 ق جلسة 4 / 1 / 1997 دستورية عليا مكتب فني 8 ج 1 دستورية ق 16 ص 223

جلسة 4 يناير 1997

برئاسة السيد المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: محمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين. 

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي - رئيس هيئة المفوضين، 

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

----------------

قاعدة رقم (16)
القضية رقم 47 لسنة 17 قضائية "دستورية"

1- دعوى دستورية "بيانات" - تشريع "المادة 30 من قانون المحكمة الدستورية العليا".
ما اقتضته هذه المادة من وجوب أن تتضمن صحيفة الدعوى أو قرار الإحالة بيان النصوص القانونية المدعي مخالفتها للدستور ومواقع بطلانها، إنما تغيا ألا يكون هذا القرار أو تلك الصحيفة منطويين على التجهيل بالمسائل الدستورية التي تدعي هذه المحكمة للفصل فيها.
2- دعوى دستورية "شكلية"
كل شكلية لا يجوز فصلها عن دواعيها.
3- دعوى دستورية "تجهيل"
إذا كان أعمال النظر في المسألة الدستورية يفصح عن حقيقتها وما قصد إليه الطاعن من إثارتها: فلا تجهيل.
4- دفع بعدم الدستورية "تقدير الجدية: قرار ضمني"
يعتبر قراراً ضمنياً من محكمة الموضوع بتقدير جدية هذا الدفع إرجاؤها الفصل في النزاع الموضوعي إلى أن تقدم المدعية ما يدل على رفع دعواها الدستورية.
5- دعوى دستورية "شرط المصلحة الشخصية المباشرة: ضرر"
شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية - وليس من معطياتها النظرية - عدم قبول الخصومة الدستورية من غير هؤلاء الذي أضيروا من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم سواء أكان هذا الضرر وشيكاً يتهددهم أو كان قد وقع فعلاً، انفصال هذا الضرر عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور.
6- دعوى دستورية "انتفاء المصلحة"
إذا لم يكن النص المطعون فيه قد طبق أصلاً على من أدعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها غير عائد إليه، فلا مصلحة له في الدعوى.
7- تنظيم الحقوق "سلطة تقديرية - حق التقاضي"
الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق - ومن بينها حق التقاضي - أنها سلطة تقديرية - ليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط لها.
8- حق التقاضي "تنظيم تشريعي"
التنظيم التشريعي لحق التقاضي - وكلما كان منصفاً - لا يناقض وجود هذا الحق، ولا يصل إلى حد إهداره.
9- دستور "المادة 70" - دعوى جنائية "الادعاء المباشر"
الدعوى الجنائية - إعمالاً للمادة 70 من الدستور - لا تقام إلا بأمر من جهة قضائية فيما عدا الأحوال التي يحددها القانون - الادعاء المباشر هو استثناء من قواعد تحريك الدعوى الجنائية - جواز تضييق السلطة التشريعية نطاق الحق في الادعاء المباشر.
10- دعوى جنائية "الادعاء المباشر: إساءة استعمال الحق" - تشريع "المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية"
موازنة النص المذكور بين أمرين:
- الضرورة التي يقتضيها استعمال حق الادعاء المباشر.
- توقي الأضرار الناشئة عن تهديد مسئولية أداء العمل العام.
ترجيحه ثانيهما على أولهما، تقديراً بأن هذه الأضرار لا يجوز أن تتقدمها مزايا هذا الحق.
11- دعوى جنائية "الادعاء المباشر" - موظف عام "حماية" - تشريع "المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية"
الموظفون العامون معرضون في مباشرة أعمالهم المتصلة بمصالح المواطنين للتطاول عليهم حطاً من قدرهم - من غير الجائز انفراط اطمئنانهم إذا لاحقهم كل مدع بالحقوق المدنية جنائياً عن جرائم يدعى ارتكابهم لها ولو كان الدليل عليها واهياً - كان على المشرع أن يرد عنهم بالنص المشار إليه غائلة عدوان أكثر احتمالاً - إسقاط الحق في الادعاء المباشر قبلهم صون للوظيفة العامة من معوقاتها.
12- دعوى جنائي "موظف عام"
عدم إفلات الموظف العام من المسئولية الجنائية عن أفعاله التي أثمها المشرع - محاسبتهم عن هذه الأفعال حق للنيابة العامة.
13- مبدأ المساواة "مفهومه"
مبدأ المساواة ليس مبدأ جامداً منافياً للضرورة العملية - لا تمييز بين المواطنين إملاءً أو عسفاً - من الجائز أن تغاير السلطة التشريعية وفقاً لمقاييس منطقية بين مراكز لا تتحد معطياتها على أن تكون الفوارق بينها حقيقة لا اصطناع فيها - ما يصون مبدأ المساواة هو ذلك التنظيم الذي ترتبط فيه النصوص القانونية بالأغراض المشروعة التي يتوخاها - انفصال هذه النصوص عن أهدافها مؤداه أن يكون التمييز انفلاتاً.
14- تشريع "المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية: مساواة"
كفالة نص هذه المادة للأسس الموضوعية التي ينظم المشرع الحقوق في نطاقها - لا إخلال فيه بمبدأ المساواة.
15- مواثيق دولية "الحق في الادعاء المباشر"
عدم انطواء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكذلك العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على تنظيم للحق في الادعاء المباشر - عدم تطلبهما غير الحق في المحاكمة المنصفة.

-----------------
1- ما نصت عليه المادة 30 من قانون المحكمة الدستورية العليا، من أن القرار الصادر عن محكمة الموضوع بإحالة مسألة دستورية بذاتها إلى هذه المحكمة للفصل في مطابقة النصوص القانونية التي تثيرها للدستور أو خروجها عليه، وكذلك صحيفة الدعوى الدستورية التي يرفعها إلى خصم للفصل في بطلان النصوص القانونية المطعون عليها أو صحتها، يتعين أن يتضمنا بيان النصوص القانونية المدعي مخالفتها للدستور ومواقع بطلانها، إنما تغيا ألا يكون هذا القرار أو تلك الصحيفة منطويين على التجهيل بالمسائل الدستورية التي تدعي هذه المحكمة للفصل فيها، ضماناً لتحديدها تحديداً كافياً يبلور مضمونها ونطاقها، فلا تثير - بماهيتها أو مداها - خفاء يحول دون إعداد ذوي الشأن جميعاً - ومن بينهم الحكومة - لدفاعهم بأوجهه المختلفة خلال المواعيد التي حددتها المادة 37 من قانون المحكمة الدستورية العليا؛ بل يكون بيانها لازماً لمباشرة هيئة المفوضين - بعد انقضاء هذه المواعيد - لمهامها في شأن تحضير جوانبها، ثم إبدائها رأياً محايداً فيها يكشف عن حكم الدستور والقانون بشأنها.
2- كل شكلية - ولو كانت جوهرية فرضها المشروع لمصلحة عامة حتى ينتظم التداعي وفقاً لحكمها - لا يجوز فصلها عن دواعيها، وإلا كان القول بها إغراقاً في التقيد بضوابطها، وانحرافاً عن مقاصدها.
3- التجهيل بالمسائل الدستورية يفترض أن يكون بيانها قد غمض فعلاً بما يحول عقلاً دون تجليتها، فإذا كان إعمال النظر في شأنها - ومن خلال الرباط المنطقي للوقائع المؤدية إليها - يفصح عن حقيقتها، وما قصد إليه الطاعن حقاً من إثارتها، فإن القول بمخالفة نص المادة 30 المشار إليها، يكون لغواً.
متى كان ذلك، وكانت المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية - المطعون عليها - هي التي تحول بذاتها دون مباشرة المدعي بالحقوق المدنية للحق في الادعاء المباشر، فإذا عيبتها المدعية في الدعوى الماثلة ناعية عليها مخالفتها للدستور، مع سكوتها عن تبيان مداخل بطلانها؛ وكان استظهارها ممكناً من خلال حمل النص المطعون فيه على صور العوار التي يرتبط منطقياً بها؛ وكان ثابتاً كذلك أن المضار التي ألحقها هذا النص بها تتمثل في حرمانها من حق الإدعاء المباشر المكفول لغيرها؛ فإن مواقع البطلان في ذلك النص تتحدد على أساس إهداره مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، وإنكاره لحقها في اللجوء لقاضيها الطبيعي، بالمخالفة للمادتين 40 و68 من الدستور.
4- تقدير محكمة الموضوع جدية الدفع بعدم دستورية نص قانوني لازم للفصل في النزاع المعروض عليها، لا يتعمق المسائل الدستورية التي يثيرها هذا النزاع، ولا يعتبر فصلاً فيها بقضاء قطعي، بل يعود الأمر في شأنها إلى المحكمة الدستورية العليا لتزن وفقاً لمقاييسها جوهر المطاعن الدستورية وأبعادها، تحديداً لصحتها أو فسادها. وإذ تفصل محكمة الموضوع في دفع مثار أمامها بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، فإن قرارها في هذا الصدد إما أن يكون صريحاً أو مستفاداً ضمناً من عيون الأوراق. ويعتبر قراراً ضمنياً بقبول الدفع، إرجاء الفصل في النزاع الموضوعي إلى أن تقدم المدعية ما يدل على رفع دعواها الدستورية.
5- 6- من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة، يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة. وهو كذلك يقيد تدخلها في تلك الخصومة القضائية، ويرسم تخوم ولايتها، فلا تمتد لغير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي، وبالقدر اللازم للفصل فيه. ومؤداه ألا تقبل الخصومة الدستورية من غير هؤلاء الذين أضيروا من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم، سواء أكان هذا الضرر وشيكاً يتهددهم أم كان قد وقع فعلاً.
ويتعين دوماً أن يكون هذا الضرر منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلاً بالعناصر التي يقوم عليها، ممكناً تحديده ومواجهته بالترضية القضائية لتسويته، عائداً في مصدره إلى النص المطعون فيه، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء مصلحته الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعي أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها.
7- الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق - ومن بينها حق التقاضي - أنها سلطة تقديرية جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزناً. وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة تعتبر تخوماً لها ينبغي التزامها.
8- قضاء هذه المحكمة قد جرى كذلك، على أن التنظيم التشريعي لحق التقاضي - وكلما كان منصفاً - لا يناقض وجود هذا الحق، ولا يقتحم الدائرة التي يتنفس فيها، وأن هذا التنظيم لا يتقيد بأشكال جامدة لا يريم المشرع عنها، تُفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز أن يغاير المشرع فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء الأوضاع التي يباشر هذا الحق عملاً في نطاقها، وبما لا يصل إلى حد إهداره، ليظل هذا التنظيم مرناً، فلا يكون إفراطاً يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافاً بها عن أهدافها، ولا تفريطاً مجافياً لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قواماً، التزاماً بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالاً.
9- ما تنص عليه المادة 70 من الدستور من أن الدعوى الجنائية لا تقام إلا بأمر من جهة قضائية فيما عدا الأحوال التي يحددها القانون، يعني أن الادعاء المباشر ليس استصحاباً للأصل في الدعوى الجنائية، بل هو استثناء من قواعد تحريكها، تقديراً بأن النيابة العامة - وعلى ما تنص عليه المادة الأولى من قانون الإجراءات الجنائية - هي التي تختص دون غيرها برفع الدعوى الجنائية ومباشرتها، ولا ترفع عن غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون. كذلك فإن تفويض الدستور السلطة التشريعية في تحديد الأحوال التي لا تقام الدعوى الجنائية فيها بأمر من جهة قضائية، مؤداه جواز تضييقها لنطاق الحق في الادعاء المباشر، لا تتقيد في ذلك بغير الشروط الموضوعية التي لا يناقض تطبيقها حكماً في الدستور.
10، 11- إن المشرع وازن بالنص المطعون فيه بين أمرين، أولهما: الضرورة التي يقتضيها استعمال هذا الحق في إطار الأغراض التي شرع لها؛ وثانيهما الأضرار التي ينبغي توقيها إذا نقض هذا الاستعمال تلك الأغراض وتنكبها، مهدداً بذلك مسئولية أداء العمل العام، فرجح ثانيهما على أولهما، تقديراً بأن الأضرار التي ترتبط بإساءة استعمال الحق في الادعاء المباشر، يكون دفعها لازماً، ولا يجوز أن تتقدمها مزاياه.
ذلك أن الموظفين العامين - الذين حال النص المطعون فيه دون تكليفهم من قبل المدعي بالحقوق المدنية للحضور مباشرة أمام المحكمة الجنائية - لا يباشرون أعمال وظائفهم بعيداً عن مصالح المواطنين الذين يلجون أبوابهم لقضاء حوائجهم، بل يتردد موقفهم منها بين تلبيتها أو معارضتها، مما يثير غرائز النفس البشرية ونزواتها التي كثيراً ما تجنح مع سوء ظنها إلى التجريح نأياً عن موازين الحق والعدل، فلا يكون اندفاعها إلا شططاً، وضيقها بالقائمين على العمل العام إلا تسرعاً وافتراءً، يقترن - في الأعم - بالتطاول عليهم حطاً من قدرهم، ونيلاً من اعتبارهم، لتهن عزائمهم فلا يثابرون على أعمالهم، بل يتراخون فيها نكولاً أو يقعدون عنها وجلاً، مما يصرفهم عن أدائها على وجهها الصحيح سيما وأن المشروع قد اختصهم بجرائم قصرها عليهم وغلظ عقوباتها حملاً لهم على القيام بواجباتهم. ولا يجوز بالتالي أن ينفرط اطمئنانهم إذا كان لكل مدع بالحقوق المدنية أن يلاحقهم جنائياً عن جرائم يُدعى ارتكابهم لها، ولو كان الدليل عليها واهياً متخاذلاً، متدثراً برداء الحق، ليقوض بذلك سكينتهم ما بقى الاتهام الجنائي مسلطاً عليهم، مبدداً جهدهم، مثبطاً هممهم، مثيراً للشبهات من حولهم. وكان على المشرع بالتالي أن يرد عنهم - بالنص المطعون فيه - غائلة عدوان أكثر احتمالاً وأدنى وقوعاً ضماناً لأن يظل الحق في الادعاء المباشر مقيداً بالأغراض التي شرع من أجلها، فلا ينقلب عليها.
وذلك مؤداه أن إسقاط الحق في الإدعاء المباشر في الحدود التي بينها النص المطعون فيها، لا يتوخى حماية القائم بالعمل العام، بل صون الوظيفة العامة من معوقاتها، بما يمكن القائمين عليها من أداء خدماتهم المقصودة منها، فلا يعرقل تدفقها قيد يحول دون جريانها أو انتظامها، أو يكون منافياً جوهر مقاصدها.
12- الدعوى الجنائية لا يحركها الادعاء المباشر إلا طلباً لحقوق مدنية بطبيعتها، فلا ترفعها - عند إنكاره في جرائم بذواتها - إلا الجهة التي تختص أصلاً بإقامتها، شأن الجرائم التي يرتكبها الموظفون العامون أثناء تأدية وظائفهم أو بسببها - في ذلك - شأن غيرها من الجرائم، وهو ما يعني أن الموظفين العامين لن يفلتوا من المسئولية الجنائية عن أفعالهم التي أثمها المشرع، بل تظل محاسبتهم عنها - إذا قام الدليل عليها - حقاً للنيابة العامة في إطار اختصاصاتها الأصلية.
13- مبدأ المساواة أمام القانون، ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء iron rule تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للدولة أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد أو توقياً لشر تقدر ضرورة رده؛ وكان دفعها للضرر الأكبر بالضرر الأقل لازماً؛ إلا أن تطبيقها مبدأ المساواة لا يجوز أن يكون كاشفاً عن نزواتها، ولا منبئاً عن اعتناقها لأوضاع جائزة تثير ضغائن أو أحقاد تنفلت بها ضوابط سلوكها، ولا عدواناً معبراً عن بأس سلطانها، بل يتعين أن يكون موقفها اعتدالاً في مجال تعاملها مع المواطنين، فلا تمايز بينهم إملاءً أو عسفاً. ومن الجائز بالتالي أن تغاير السلطة التشريعية - ووفقاً لمقاييس منطقية - بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، على أن تكون الفوارق بينها حقيقية لا اصطناع فيها ولا تخيل Real and not feigned differences ذلك أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل علي انفصال هذه النصوص عن أهدافها، كان التمييز انفلاتاً لا تبصر فيه. كذلك الأمر إذا كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، إذ يعتبر عندئذ مستنداً إلى وقائع يتعذر أن يُحْمَل عليها، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
14- النص المطعون فيه لم يقصد إلى إفراد المتهمين بالجرائم المشار إليها فيه، بمعاملة استثنائية يختصون بها علواً على غيرهم، ولا أن يمنحهم ميزة يؤثرهم بها على سواهم من المتهمين، بل تغيا أن يظل العمل العام منتظماً وأن يكون الطريق إليه قويماً، فلا ينفذ إليه متخرصون يعطلون سيره بنيلهم من القائمين عليه إفكاً وبغيا. وهو بذلك يكون كافلاً للأسس الموضوعية التي ينظم المشرع الحقوق في نطاقها، بما لا إخلال فيه بمبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المادة 40 من الدستور.
15- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وإن صح القول باحتوائهما على عديد من الحقوق التي كفلها الدستور القائم، وأن هاتين الوثيقتين تضمان في جوهر أحكامهما تلك القيم التي التزمتها الدول الديموقراطية باطراد في مجتمعاتها، والتي تظاهرها هذه المحكمة وترسيها باعتبارها تراثاً إنسانياً احتواه دستور جمهورية مصر العربية في نطاق الحقوق والحريات الأساسية التي كفلها؛ وكان هذا الإعلان وذلك العهد لا ينطويان على تنظيم للحق في الادعاء المباشر، ولا يتطلبان غير المحاكمة المنصفة طريقاً للفصل في كل اتهام جنائي، فإن إقحامها في نطاق الدعوى الماثلة يكون عبثاً.


الإجراءات

بتاريخ 24 يوليه سنة 1995، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبة الحكم بعدم دستورية المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم 150 لسنة 1950، وذلك فيما نصت عليه من حظر رفع الدعوى الجنائية بالطريق المباشر ضد الموظف أو المستخدم العام أو رجل الضبط عن جريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم أصلياً بعدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها. ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعية كانت قد أقامت بطريق الادعاء المباشر، الدعوى رقم 1465 لسنة 1995 جنح الأربعين ضد السيد/ السيد إبراهيم طه الموظف بمديرية الشئون الصحية بمحافظة السويس - المدعى عليه الأول في الدعوى الماثلة - طالبة الحكم عليه بأقصى العقوبة المقررة بالمادة 302 من قانون العقوبات عن جريمة القذف العلني، مع إلزامه بأن يؤدي لها تعويضاً مؤقتاً قدره خمسمائة جنيه وواحداً والمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.
وبجلسة 2/ 7/ 1995 دفع الحاضر عن المدعية أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية، وذلك فيما نصت عليه من عدم جواز تحريك الدعوى الجنائية ضد موظف أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها.
وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وقررت تأجيل نظر الدعوى إلى جلسة 6/ 8/ 1995 لتقديم ما يفيد الطعن بعدم الدستورية، فقد أقامت المدعية الدعوى الماثلة.
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت هذه الدعوى بعدم قبولها، تأسيساً على أن المدعية لم تبين أمام محكمة الموضوع النصوص الدستورية المدعى مخالفتها، ومناحي الخروج عليها. فضلاً عن أن إرجاء محكمة الموضوع الفصل في الجنحة المرفوعة
إليها بطريق الادعاء المباشر، إلى أن تقدم المدعية ما يفيد الطعن بعدم الدستورية، لا يدل على تصريحها لها برفع دعواها الدستورية.
وحيث إن هذا الدفع مردود أولاً: بأن ما نصت عليه المادة 30 من قانون المحكمة الدستورية العليا، من أن القرار الصادر عن محكمة الموضوع بإحالة مسألة دستورية بذاتها إلى هذه المحكمة للفصل في مطابقة النصوص القانونية التي تثيرها للدستور أو خروجها عليه، وكذلك صحيفة الدعوى الدستورية التي يرفعها إليها خصم للفصل في بطلان النصوص القانونية المطعون عليها أو صحتها، يتعين أن يتضمنا بيان النصوص القانونية المدعى مخالفتها للدستور ومواقع بطلانها، إنما تغيا ألا يكون هذا القرار أو تلك الصحيفة منطويين على التجهيل بالمسائل الدستورية التي تدعى هذه المحكمة للفصل فيها، ضماناً لتحديدها تحديداً كافياً يبلور مضمونها ونطاقها، فلا تثير - بماهيتها أو مداها - خفاءً يحول دون إعداد ذوي الشأن جميعاً - ومن بينهم الحكومة - لدفاعهم بأوجهه المختلفة خلال المواعيد التي حددتها المادة 37 من قانون المحكمة الدستورية العليا؛ بل يكون بيانها لازماً لمباشرة هيئة المفوضين - بعد انقضاء هذه المواعيد - لمهامها في شأن تحضير جوانبها، ثم إبدائها رأياً محايداً فيها يكشف عن حكم الدستور والقانون بشأنها.
ومردود ثانياً: بأن كل شكلية - ولو كانت جوهرية فرضها المشرع لمصلحة عامة تحتي ينتظم التداعي وفقاً لحكمها - لا يجوز فصلها عن دواعيها، وإلا كان القول بها إغراقاً في التقيد بضوابطها، وانحرافاً عن مقاصدها.
ومردود ثالثاً: بأن التجهيل بالمسائل الدستورية يفترض أن يكون بيانها قد غمض فعلاً بما يحول عقلاً دون تجليتها، فإذا كان إعمال النظر في شأنها - ومن خلال الرباط المنطقي للوقائع المؤدية إليها - يفصح عن حقيقتها، وما قصد إليه الطاعن حقاً من إثارتها، فإن القول بمخالفة نص المادة 30 المشار إليها، يكون لغواً.
ومردود رابعاً: بأن المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية - المطعون عليها - هي التي تحول بذاتها دون مباشرة المدعي بالحقوق المدنية للحق في الادعاء المباشر، فإذا عيبتها المدعية في الدعوى الماثلة ناعية عليها مخالفتها للدستور، مع سكوتها عن تبيان مداخل بطلانها؛ وكان استظهارها ممكناً من خلال حمل النص المطعون فيه على صور العوار التي يرتبط منطقياً بها؛ وكان ثابتاً كذلك أن المضار التي ألحقها هذا النص بها تتمثل في حرمانها من حق الإدعاء المباشر المكفول لغيرها، فإن مواقع البطلان في ذلك النص تتحدد على أساس إهداره مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، وإنكاره لحقها في اللجوء لقاضيها الطبيعي، بالمخالفة للمادتين 40 و68 من الدستور.
وحيث إن تقدير محكمة الموضوع جدية الدفع بعدم دستورية نص قانوني لازم للفصل في النزاع المعروض عليها، لا يتعمق المسائل الدستورية التي يثيرها هذا النزاع، ولا يعتبر فصلاً فيها بقضاء قطعي، بل يعود الأمر في شأنها إلى المحكمة الدستورية العليا لتزن وفقاً لمقاييسها جوهر المطاعن الدستورية وأبعادها، تحديداً لصحتها أو فسادها. وإذ تفصل محكمة الموضوع في دفع مثار أمامها بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، فإن قرارها في هذا الصدد إما أن يكون صريحاً أو مستفاداً ضمناً من عيون الأوراق. ويعتبر قراراً ضمنياً بقبول الدفع، إرجاء الفصل في النزاع الموضوعي إلى أن تقدم المدعية ما يدل على رفع دعواها الدستورية.
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية تقضي بما يأتي "تحال الدعوى إلى محكمة الجنح والمخالفات بناءً على أمر يصدر من قاضي التحقيق أو محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة أو بناءً على تكليف المتهم مباشرة بالحضور من قبل أحد أعضاء النيابة العامة أو من المدعي بالحقوق المدنية".
وتنص فقرتها الثالثة على أنه "ومع ذلك فلا يجوز للمدعي بالحقوق المدنية أن يرفع الدعوى إلى المحكمة بتكليف خصمه مباشرة بالحضور أمامها في الحالتين الآتيتين:
(أولاً) إذا صدر أمر من قاضي التحقيق أو النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى ولم يستأنف المدعي بالحقوق المدنية هذا الأمر في الميعاد أو استأنفه فأيدته محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة.
(ثانياً) إذا كانت الدعوى موجهة ضد موظف أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها ما لم تكن من الجرائم المشار إليها في المادة 123 من قانون العقوبات".
وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة، يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة. وهو كذلك يقيد تدخلها في تلك الخصومة القضائية، ويرسم تخوم ولايتها، فلا تمتد لغير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي، وبالقدر اللازم للفصل فيه. ومؤداه ألا تقبل الخصومة الدستورية من غير هؤلاء الذين أضيروا من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم، سواء أكان هذا الضرر وشيكاً يتهددهم أم كان قد وقع فعلاً.
ويتعين دوماً أن يكون هذا الضرر منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلاً بالعناصر التي يقوم عليها، ممكناً تحديده ومواجهته بالترضية القضائية لتسويته، عائداً في مصدره إلى النص المطعون فيه، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء مصلحته الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعي أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت المدعية تتوخى بدعواها الموضوعية أن تلاحق موظفاً عاماً - من خلال الادعاء المباشر - عن جريمة ارتكبها أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، لتعويضها عن الأضرار التي أصابتها من جراء إتيانها، وكان البند ثانياً من الفقرة الثالثة من نص المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية، حائلاً بينها وبين اقتضاء الحقوق التي تطلبها في النزاع الموضوعي، فإن مصلحتها الشخصية في الدعوى الدستورية، تنحصر في الطعن على هذا البند دون غيره.
وحيث إن المدعية تنعي في صحيفة دعواها الدستورية، مخالفة النص المطعون عليه للمواد 40 و64 و65 و68 من الدستور، فضلاً عن القواعد التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية كليهما، ومن بينها على الأخص الحماية القانونية المتكافئة التي كفلاها لكل إنسان دون تمييز, والحق في أن تنظر دعواه أمام محكمة مستقلة محايدة ينشئها المشرع، نظراً علنياً ومنصفاً للفصل في الحقوق المدنية التي يدعيها، وكذلك فيما قد يكون موجهاً إليه من اتهام جنائي، وألا يتعرض - فوق هذا - لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو لتلويث شرفه وسمعته. وفي بيان ذلك تقول المدعية أن النص المطعون فيه صادر - بطريقة تحكميه وغير مبررة - حق الناس في ملاحقة الجناة أمام القضاء بما أضفاه من حصانة على الموظفين والمستخدمين ورجال الضبط، وهم فئة بعينها قصد أن يعطل مساءلتهم قضائيا عن الجرائم التي حددها، ودون أن يستند في ذلك لغير صفاتهم، متذرعاً بوقوع جرائمهم هذه أثناء تأديتهم لوظائفهم أو بسببها.
وحيث إن النعي بإخلال النص المطعون فيه بحق التقاضي مردود أولاً: بأن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق - ومن بينها حق التقاضي - أنها سلطة تقديرية جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزناً. وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة تعتبر تخوماً لها ينبغي التزامها.
ومردود ثانياً: بأن قضاء هذه المحكمة قد جرى كذلك، على أن التنظيم التشريعي لحق التقاضي - وكلما كان منصفاً - لا يناقض وجود هذا الحق، ولا يقتحم الدائرة التي يتنفس فيها، وأن هذا التنظيم لا يتقيد بأشكال جامدة لا يريم المشرع عنها، تُفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز أن يغاير المشرع فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء الأوضاع التي يباشر هذا الحق عملاً في نطاقها، وبما لا يصل إلى حد إهداره، ليظل هذا التنظيم مرناً، فلا يكون إفراطاً يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافاً بها عن أهدافها، ولا تفريطاً مجافياً لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قواماً، التزاماً بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالاً.
ومردود ثالثاً: بأن ما تنص عليه المادة 70 من الدستور من أن الدعوى الجنائية لا تقام إلا بأمر من جهة قضائية فيما عدا الأحوال التي يحددها القانون، يعني أن الادعاء المباشر ليس استصحاباً للأصل في الدعوى الجنائية، بل هو استثناء من قواعد تحريكها، تقديراً بأن النيابة العامة - وعلى ما تنص عليه المادة الأولى من قانون الإجراءات الجنائية - هي التي تختص دون غيرها برفع الدعوى الجنائية ومباشرتها، ولا ترفع عن غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون. كذلك فإن تفويض الدستور السلطة التشريعية في تحديد الأحوال التي لا تقام الدعوى الجنائية فيها بأمر من جهة قضائية، مؤداه جواز تضييقها لنطاق الحق في الادعاء المباشر وقف شروط موضوعية لا يناقض تطبيقها حكماً في الدستور.
ومردود رابعاً: بأن تخويل المدعي بالحقوق المدنية حق الادعاء المباشر - وإن توخي مراقبتها تفادياً لإساءتها استعمال سلطتها هذه بالامتناع عن مباشرتها دون مقتض - إلا أن المشرع وازن بالنص المطعون فيه بين أمرين، أولهما: الضرورة التي يقتضيها استعمال هذا الحق في إطار الأغراض التي شرع لها؛ وثانيهما الأضرار التي ينبغي توقيها إذا نقض هذا الاستعمال تلك الأغراض وتنكبها، مهدداً بذلك مسئولية أداء العمل العام، فرجح ثانيهما على أولهما، تقديراً بأن الأضرار التي ترتبط بإساءة استعمال الحق في الادعاء المباشر، يكون دفعها لازماً، ولا يجوز أن تتقدمها مزاياه.
ذلك أن الموظفين العامين - الذين حال النص المطعون فيه دون تكليفهم من قبل المدعي بالحقوق المدنية للحضور مباشرة أمام المحكمة الجنائية - لا يباشرون أعمال وظائفهم بعيداً عن مصالح المواطنين الذين يلجون أبوابهم لقضاء حوائجهم، بل يتردد موقفهم منها بين تلبيتها أو معارضته، مما يثير غرائز النفس البشرية ونزواتها التي كثيراً ما تجنح مع سوء ظنها إلى التجريح نأياً عن موازين الحق والعدل، فلا يكون اندفاعها إلا شططاً، وضيقها بالقائمين على العمل العام إلا تسرعاً وافتراءً يقترن - في الأعم - بالتطاول عليهم حطاً من قدرهم، ونيلاً من اعتبارهم، لتهن عزائمهم فلا يثابرون على أعمالهم، بل يتراخون فيها نكولاً أو يقعدون عنها وجلاً، مما يصرفهم عن أدائها على وجهها الصحيح سيما وأن المشرع قد اختصهم بجرائم قصرها عليهم وغلظ عقوباتها حملاً لهم على القيام بواجباتهم. ولا يجوز بالتالي أن ينفرط اطمئنانهم إذا كان لكل مدع بالحقوق المدنية أن يلاحقهم جنائياً عن جرائم يُدعى ارتكابهم لها، ولو كان الدليل عليها واهياً متخاذلاً، متدثراً برداء الحق، ليقوض بذلك سكينتهم ما بقى الاتهام الجنائي مسلطاً عليهم، مبدداً جهدهم، مثبطاً هممهم، مثيراً للشبهات من حولهم. وكان على المشرع بالتالي أن يرد عنهم - بالنص المطعون فيه - غائلة عدوان أكثر احتمالاً وأدنى وقوعاً ضماناً لأن يظل الحق في الادعاء المباشر، مقيداً بالأغراض التي شرع من أجلها، فلا ينقلب عليها.
ومردود خامساً: بأن إسقاط الحق في الإدعاء المباشر في الحدود التي بينها النص المطعون فيها، لا يتوخى حماية القائم بالعمل العام، بل صون الوظيفة العامة من معوقاتها، بما يمكن القائمين عليها من أداء خدماتهم المقصودة منها، فلا يعرقل تدفقها قيد يحول دون جريانها وانتظامها، أو يكون منافياً جوهر مقاصدها.
ومردود سادساً: بأن الدعوى الجنائية لا يحركها الادعاء المباشر إلا طلباً لحقوق مدنية بطبيعتها، فلا ترفعها - عند إنكاره في جرائم بذواتها - إلا الجهة التي تختص أصلاً بإقامتها، شأن الجرائم التي يرتكبها الموظفون العامون أثناء تأدية وظائفهم أو بسببها - في ذلك - شأن غيرها من الجرائم، وهو ما يعني أن الموظفين العامين لن يفلتوا من المسئولية الجنائية عن أفعالهم التي أثمها المشرع، بل تظل محاسبتهم عنها - إذا قام الدليل عليها - حقاً للنيابة العامة في إطار اختصاصاتها الأصلية.
وحيث إن مبدأ المساواة أمام القانون، ليس مبدأً تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء iron rule تنبذ صورة التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للدولة أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد أو توقياً لشر تقدر ضرورة رده؛ وكان دفعها للضرر الأكبر بالضرر الأقل لازماً؛ إلا أن تطبيقها مبدأ المساواة لا يجوز أن يكون كاشفاً عن نزواتها، ولا منبئاً عن اعتناقها لأوضاع جائزة تثير ضغائن أو أحقاد تنفلت بها ضوابط سلوكها، ولا عدواناً معبراً عن بأس سلطانها، بل يتعين أن يكون موقفها اعتدالاً في مجال تعاملها مع المواطنين، فلا تمايز بينهم إملاءً أو عسفاً. ومن الجائز بالتالي أن تغاير السلطة التشريعية - ووفقاً لمقاييس منطقية - بين مراكز لا تتحدن معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، على أن تكون الفوارق بينها حقيقية لا اصطناع فيها ولا تخيل Real and not feigned differences ذلك أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل علي انفصال هذه النصوص عن أهدافها، كان التمييز انفلاتاً لا تبصر فيه. كذلك الأمر إذا كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، إذ يعتبر التمييز عندئذ مستنداً إلى وقائع يتعذر أن يُحْمَل عليها، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
وحيث إن النص المطعون فيه - وعلى ما تقدم - لم يقصد إلى إفراد المتهمين بالجرائم المشار إليها فيه، بمعاملة استثنائية يختصون بها علواً على غيرهم، ولا أن يمنحهم ميزة يؤثرهم بها على سواهم من المتهمين، بل تغيا أن يظل العمل العام منتظماً وأن يكون الطريق إليه قواماً، فلا ينفذ إليه متخرصون يعطلون سيره بنيلهم من القائمين عليه إفكاً وبغياً. فإن النص المطعون فيه يكون بذلك كافلاً للأسس الموضوعية التي ينظم المشرع الحقوق في نطاقها، بما لا إخلال فيه بمبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المادة 40 من الدستور.
وحيث إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك العهد للحقوق المدنية والسياسية، وإن صح القول باحتوائهما على عديد من الحقوق التي كفلها الدستور القائم، وأن هاتين الوثيقتين تضمان في جوهر أحكامهما تلك القيم التي التزمتها الدول الديموقراطية باطراد في مجتمعاتها، والتي تظاهرها هذه المحكمة وترسيها باعتبارها تراثاً إنسانياً احتواه دستور جمهورية مصر العربية في نطاق الحقوق والحريات الأساسية التي كفلها؛ وكان هذا الإعلان وذلك العهد لا ينطويان على تنظيم للحق في الادعاء المباشر، ولا يتطلبان غير المحاكمة المنصفة طريقاً للفصل في كل اتهام جنائي، فإن إقحامها في نطاق الدعوى الماثلة يكون عبثاً.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يتعارض مع أي حكم في الدستور من أوجه أخرى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة وألزمت المدعية المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.


استناداً إلى الحجية المطلقة لهذا الحكم قضت المحكمة - خلال الفقرة التي صدر عنها هذا الجزء من أحكامها - بعدم قبول الدعوى المماثلة رقم 61 لسنة 17 ق دستورية جلسة 1/ 2/ 1997.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق