الصفحات

السبت، 22 أكتوبر 2022

العقوبات الحدية وادعاءات انتهاك حقوق الإنسان في النظم المعاصرة

العقوبات الحدية وادعاءات انتهاك حقوق الإنسان في النظم المعاصرة

- دراسة مقارنة -


د. طارق حسن بن عوف ([*])

 

مستخلص البحث:

يتناول هذا البحث العقوبات الحدية في التشريع الجنائي الإسلامي وعلاقتها بحقوق الإنسان في النظم المعاصرة، من خلال البحث يبين الباحث معنى الحدود عند علماء الشريعة الإسلامية وأنواعها وما أخذ به القانون السوداني، ثم يتناول كل عقوبة حدية بالشرح اللازم وعلاقتها بحقوق الإنسان، ليخلص الباحث إلى أن هذه العقوبات تتضمن أكبر قدر من الحقوق الإنسانية، إذ أن في تطبيقها محافظة على نفس الإنسان وعلى عقله وعلى عرضه وعلى دينه وعلى ماله. إن هذه العقوبات لم توضع للانتقام والتشفي، وإنما لحكمة ودراية بالنفس البشرية التي لا يصرفها عن دوافعها ونزواتها إلا ما هو بقوة هذا الدافع، مما يجعل كافة الادعاءات بانتهاكها للإنسانية إدعاءات مجافية للواقع، ينبغي دحضها وتعريفة من يتبنونها.

 

Abstract:

This study tackles the doctrinal penalties in the Islamic penal legislation in relation to human rights in the contemporary legal systems.

The research explained the meaning of “doctrinal penalties” in the traditions of the Muslim jurists and the standpoint of the Sudanese Penal Code on the issue, then it tackled and explained each of the “doctrinal penalties” in relation to human rights with the conclusion that these penalties involve an immense consideration of human rights. The implementation of these “doctrinal penalties sustains the human soul, mind, honor, religion and property. “Doctrinal penalties” are not made for vengeance or retaliation; they are prescribed out of infinite wisdom and knowledge of the human soul which could not be deterred from its evil desires and lusts save by the force of these “doctrinal penalties”. Hence, all claims that “doctrinal penalties” violate human rights are nothing but entirely biased, unrealistic and untrue allegations which should be refuted and exposed as well as those who adopt them.

مقدمة:

لقد كثر في الفترة الأخيرة الحديث عن حقوق الإنسان وما تتعرض له من انتهاكات، بل إن الأمر قد تطور إلى مدى بعيد لم يكن في الحسبان حيث صار الحديث جهرة من أعداء الدين الإسلامي بوصفهم للعقوبات الحدية بالوحشية والضراوة وانتهاكها لحقوق الإنسان، فكان لابد من تناول الأمر بالبحث اللازم وكانت النتيجة على عكس ما روج له حيث اتضح أن في عقوبات الحدود صوناً لحقوق الإنسان وليس انتهاكا لها حيث أن هذه العقوبات قد وضعت لحكمة ودراية بالنفس البشرية التي لا يوقفها عن دوافعها الآثمة وشهواتها الرذيلة إلا ما هو بقوة هذا الدافع، لذا فقد نظرت الشريعة الإسلامية إلى الأسباب الدافعة لارتكاب هذه الجرائم فأتت لها في المقابل بدوافع نفسية صارفة عن ارتكابها، وحتى هذه العقوبات التي فرضتها الشريعة الإسلامية قد قصد منها الزجر والتخويف أكثر مما قصد بها التطبيق، فقد اشترطت الشريعة الإسلامية لتطبيق هذه العقوبات شروطا من النادر والصعب أن تتحقق كأن تشترط لشهادة الزنا أربعة وأن يكونوا جميعهم رجالا ممن تقبل شهادتهم وأن لا تختلف أقوالهم، فإن لم يكن واحد منهم قد رأى الاتصال كاملا أقيم الحد على الثلاثة الباقين ويدل على ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إدرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة)(1) ويتضمن هذا البحث مقدمة وتمهيداً وستة مباحث وخاتمة وفقاً لما سيأتي بإذن الله تعالى.

تمهيد:

يعرف الحد في اللغة العربية بأنه المنع ومنه الحداد للبواب لأنه يمنع الناس من الدخول، ويطلق على السجان لأنه يمنع من الخروج، وكذلك يطلق الحد للفاصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدها بالآخر(2).

اما تعريف الحدود في الفقه الإسلامي فقد اتفق أئمة المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن الحدود هي عقوبات محددة شرعاً لا يجوز للحاكم زيادتها أو إنقاصها، قال الحنفية الحد عقوبة تجب حقاً لله تعالى(3). وقال المالكية أنه ما وضع لمنع الجاني من عودة لمثل فعله وزجر غيره(4). وكذلك عرفه الشافعية بأنه عقوبة مقدرة شرعاً وجبت حقا لله تعالى(5). كما عرفه الحنابلة بأنه عقوبة مقدرة تمنع من الوقوع في مثله(6). أما القانون السوداني الجنائي لسنة 1991م المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية فلم يعرف الحد تعريفا معينا ولكنه أوضح أنواع الحدود وعرف كل جريمة حدية بتعريف مفصل سنتطرق إليه لاحقا إن شاء الله.

وأنواع جرائم الحدود في الشريعة الإسلامية وعند المذاهب الأربعة على وجه التحديد فيمكن التعرف إليها بالنظر إلى تعريفات الفقهاء السابقة للحد، فالحنفية والمالكية يرون أن الحد ما وجب حقا لله تعالى فيخرج بذلك القصاص والديات والتعازير من كونها حدودا لأنها عقوبات مقدرة لحق العباد، ووفقا لذلك فقد حصر الحنفية الحدود في خمسة أنواع هي حد الزنا وحد القذف وحد السرقة وحد الشرب وحد السكر(7). ويلاحظ عدم إيراد الأحناف لحد الردة عند حصرهم للحدود مع أن حد الردة ينطبق مع تعريفهم، وقد علل الأحناف ذلك بأنهم يعطون للمرتد حكم الكافر الأصلي ويجعلون دمه هدراً ولا يسمى قتل الكافر الأصلي حداً(8).

وقد حصرها المالكية في سبعة أنواع هي حد الزنا وحد القذف وحد السرقة وحد الحرابة وحد الشرب وحد الردة وحد البغي(9).

أما الشافعية والحنابلة فيلاحظ في تعريفهم للحد بأنه العقوبة المقدرة شرعاً فالمعيار عندهم لتسمية العقوبة حداً أن تكون مقدرة من الله تعالى سواء أكان الحق فيها خالصاً لله تعالى أم كان الحق فيها للعباد، وبناء على هذا فقد حصر الشافعية الحدود في ستة أنواع هي القصاص والزنا والقذف والسرقة والشرب والردة(10).

أما الحنابلة فلم يوجد لهم حصر للحدود كما فعل بقية الفقهاء ولكن بتتبع ما استعرضوه من حدود في كتاباتهم يتضح أن الحدود عندهم هي الزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق والردة والبغي والقصاص(11).

أما أنواع جرائم الحدود في القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م فقد نصت عليها المادة الثالثة منه حيث ورد فيها أن جرائم الحدود تعني جرائم شرب الخمر والردة والزنا والقذف والحرابة والسرقة الحدية(12).

*وسنتناول فيما يلي هذه الجرائم الحدية وبيان عقوبتها وعلاقتها بحقوق الإنسان.

المبحث الأول: عقوبات الزنا الحدية وعلاقتها بحقوق الإنسان

المطلب الأول: تعريف الزنا وعقوبته في التشريع الإسلامي:

الزنا في اللغة هو إتيان المرأة على غير عقد شرعي ويقال زنى المرأة فهو زان وجمعها زناة وهي زانية وجمعها زوان(13).

أما تعريف الزنا في الفقه الإسلامي فقد اتفق الفقهاء على أنه تعمد الوطء المحرم إلا أنهم اختلفوا في هل يكون الزنا بالإيلاج في القبل فقط أم يكون بالإيلاج في القبل والدبر، فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الزنا هو الوطء الحرام سواء أكان في القبل أم الدبر(14). أما فقهاء الحنفية فقد خالفوا الجمهور وذهبوا إلى أن الزنا لا يكون إلا في قبل المرأة(15). وهو ما ذهب إليه القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م المستمد من الشريعة الإسلامية فقد نص في المادة 145 على أنه:

1.     يعد مرتكبا جريمة الزنا

1.     كل رجل وطء امرأة دون رباط شرعي.

2.     كل امرأة مكنت رجلا من وطئها دون رباط شرعي.

2.     يتم الوطء بدخول الحشفة كلها أو ما يعادلها في القبل.

أما عقوبة الزنا في الفقه الإسلامي فتختلف باختلاف مرتكبيها بكرا أم محصنا والبكر هو من لم يسبق له زواج صحيح سواء أكان رجلا أم امرأة، والمحصن هو المتزوج في نكاح صحيح حصل فيه الدخول. وسنبين فيما يلي العقوبة المحددة شرعا لكل منهما فقد أجمع جمهور الفقهاء على أن عقوبة الزاني البكر هو الجلد مائة جلدة لقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) سورة النور الآية (2).

أما من السنة فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة)(16).

أما عقوبة التغريب المقررة إضافة للجلد فمختلف فيها بين الفقهاء فيرى الحنفية عدم الأخذ بها حيث ذهبوا إلى عدم الجمع بين الجلد والتغريب، وعللوا ذلك بأن نص الآية في كتاب الله إنما هو جلد الزانية والزاني ولم تذكر التغريب فمن أوجبه فقد زاد على كتاب الله(17).

أما الشافعية والحنابلة فقد ذهبوا إلى أن البكر حده مائة جلدة ويغرب عاماً إلى مسافة القصر(18).

أما المالكية فذهبوا إلى تغريب الرجل دون المرأة وذلك نظرا للمصلحة وهو أن في نفيها تعريضها للفاحشة(19).

أما الزاني المحصن: فقد أجمع جمهور الفقهاء وعامة أهل العلم من الصحابة والتابعين على أن عقوبته هي الرجم بالحجارة(20).

ويستدلون لذلك بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبك جنون؟ قال: لا. قال أحصنت؟ قال: نعم فقال صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه(21).

وقد أخذ القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م بما ذهب إليه جمهور الفقهاء حيث نصت المادة 146 على أنه:

1.     من يرتكب جريمة الزنا يعاقب بـ

1.     الإعدام رجما إذا كان محصنا.

2.     الجلد مائة جلدة إذا كان غير محصن.

2.     يجوز أن يعاقب غير المحصن الذكر بالإضافة إلى الجلد بالتغريب لمدة سنة.

3.     يقصد بالإحصان قيام الزوجية الصحيحة وقت ارتكاب الزنا على أن يكون قد تم فيها الدخول.

المطلب الثاني عقوبة الزنا الحدية وحقوق الإنسان:

وجه الانتقاد اللاذع لهذه العقوبات من قبل من يدعون أنهم حماة لحقوق الإنسان الأساسية، فقد ذهبوا إلى أن هذه العقوبات المقررة في الشريعة الإسلامية فيها انتهاك شنيع للإنسانية، فيعتبرون أن جلد الزاني فيه إذلال وإنقاص للاحترام الواجب نحو شخص الإنسان، كما أنهم يدعون قسوة الرجم على الزاني المحصن ويرون فيه عدم الشفقة والرحمة، وكان عليهم أن يتدبروا الأمر ملياً فعقوبة الجلد لم تضعها الشريعة الإسلامية اعتباطاً ولا إذلالاً، وإنما وضعتها على أساس من طبيعة الإنسان وفهم لنفسيته وعقليته، فالشريعة حينما قررت عقوبة الجلد للزنا دفعت العوامل النفسية التي تدعو للزنا بعوامل نفسية مضادة تصرف عن الزنا، فالدافع الذي يدعو للزنا هو اشتهاء اللذة والاستمتاع بالنشوة التي تصحبها والدافع الوحيد الذي يصرف الإنسان عن اللذة هو الألم، ولا يمكن أن يستمتع الإنسان بنشوة اللذة إذا تذوق من العذاب، وأي شيء يحقق الألم ويذيق من العذاب أكثر من الجلد مائة جلدة؟(22)

لذا فهم يرون أن أنسب العقوبات الواجبة لمرتكب هذه الجريمة هو الحبس حيث تنص على ذلك معظم القوانين الوضعية.(23)

أما ادعاؤهم بأن الرجم فيه قسوة على الجاني وغلظة غير مقبولة. فنقول لهم إن الشريعة الإسلامية قد سارت في هذه المسألة، كما سارت في كل أحكامها على أدق المقاييس وأعدلها، فالزاني المحصن هو قبل كل شيء مثل سيء لغيره من الرجال والنساء، وليس للمثل السيء في الشريعة حق البقاء، لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا فإن فكر فيه بعد ذلك فإنما يدل تفكيره فيه على قوة اشتهائه للذة المحرمة وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصحبها من نشوة، فوجب أن توضع له عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها بحيث إذا فكر في هذه اللذة المحرمة وذكر معها العقوبة المقررة تغلب التفكير في الألم الذي يتهيبه من العقوبة على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة(24).

المبحث الثاني:

عقوبة القذف الحدية وعلاقتها بحقوق الإنسان

المطلب الأول: تعريف القذف وعقوبته في التشريع الإسلامي:

القذف في اللغة هو الرمي والتقاذف والترامي والقذف والقذيفة السب والقذافة للمقلاع(25).

أما القذف في الفقه الإسلامي فقد عرفه الفقهاء بعدة تعريفات كلها تتفق في أنه الرمي بالزنا أو نفي النسب، فقد عرفه الحنفية بأنه الرمي بالزنا صريحا لإلحاق العار بالمقذوف(23). ويقول المالكية هو نسبة آدمي مكلف غيره حرا عفيفا مسلما بالغا أو صغيرة تطيق الوطء بالزنا أو قطع نسبه ونفيه عنه(26). كما يعرفه الشافعية بأنه الرمي بالزنا في معرض التعبير لا الشهادة(27). كذلك يرى الحنابلة أن القذف هو الرمي بالزنا وكذا رميه بلواط أو شهادة عليه به ولم تكتمل البينة(28).

وقد وافق القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م ما ذهب إليه الفقه الإسلامي في تعريف القذف فقد نصت المادة 157 على أنه يعد مرتكبا جريمة القذف من يرمي شخصا عفيفا ولو كان ميتا بالقول صراحة أو دلالة أو بالكتابة أو بالإشارة الواضحة الدلالة بالزنا أو اللواط أو نفي النسب(29).

ويلاحظ أن المشرع قد ذهب إلى أنه يكون قذفا ما يرمي به الشخص المتوفي بالزنا حيث إن القذف رغم توجيهه للأموات يراد به إيذاء مشاعر الأحياء والرمي يمكن أن يكون بالإشارة أو الكتابة أو بطرق التعبير المرئية كالتلفاز والنشر والصحف(30).

أما عقوبة القذف فقد حددتها الشريعة الإسلامية بجلد القاذف ثمانين جلدة فقد أجمع على ذلك علماء المسلمين لقوله تعالى:

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)) سورة النور الآية وقد وافق القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م ما ذهب إليه الفقه الإسلامي حيث نصت الفقرة (3) من المادة (157) بأنه معاقب من يرتكب جريمة القذف بالجلد ثمانين جلدة.

المطلب الثاني: عقوبة القذف الحدية وحقوق الإنسان:

وكما هو دأب النظم الوضعية المعاصرة فقد ذهبت إلى استنكار معاقبة القاذف بالجلد واعتبرتها عقوبة مهينة ومذلة، وترى هذه النظم أن عقوبة الحبس هي العقوبة المثلى، ولو كان هؤلاء رجعوا إلى عقولهم قليلا لبدا لهم خلاف ذلك لأن الشريعة الإسلامية عندما قررت عقوبة الجلد، فإنما عملت على محاربة الدوافع النفسية الداعية للجريمة بالعوامل النفسية المضادة، التي تستطيع وحدها التغلب على الدوافع الداعية للجريمة وصرف الإنسان عن الجريمة، فإذا فكر شخص في أن يقذف آخر ليؤلم نفسه ويحقر شخصه، ذكر العقوبة التي تؤلم النفس والبدن وذكر التحقير الذي تفرضه عليه الجماعة فيصرفه ذلك عن الجريمة وذلك خلافاً لعقوبات الحبس والغرامة في التشريع الوضعي فهي عقوبات غير رادعة، ولذلك ازدادت جرائم القذف والسب زيادة عظيمة في البلاد التي تعمل بتلك الأنظمة ولو أن أحكام الشريعة طبقت على هؤلاء بدلاً من القانون لما جرؤ أحدهم على أن يكذب على أخيه كذبة واحدة لأنها تؤدي به إلى الجلد(31).

المبحث الثالث عقوبة جريمة شرب الخمر وعلاقتها بحقوق الإنسان:

المطلب الأول: تعريف جريمة شرب الخمر وعقوبتها في التشريع الإسلامي:

الخمر في اللغة ما خامر العقل وستره وسميت خمرا لأنها تخمر العقل وتستره أو لأنها اختمرت(32).

أما تعريف الخمر في الفقه الإسلامي فيعرفها الحنفية بأنها اسم للنيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد(33). وعرفها المالكية بأنها كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام من خمر أو نبيذ أو زبيب أو تين أو غير ذلك، واسم الخمر ما خامر العقل أو غطاه(34). أما عند الشافعية فهي عصير الرطب إذا اشتد فقذف بالزبد(35) ويعرفها الحنابلة بأنها كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ويسمى خمراً(36) ويلاحظ مما تقدم اختلاف الفقهاء في بيان حقيقة الخمر فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أنها كل شراب مسكر سواء أكان من العنب أم البلح أم غيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم إن من العنب خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا(37). ويخالف الحنفية الجمهور ويرون أن الخمر هي ما اتخذ من العنب فقط وأما ما اتخذ من غير العنب فلا يعد خمرا ولا يعاقب الشخص بشربه إلا إذا أسكر ويستدلون لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم (حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها والمسكرات من كل شراب)(38). إلا أن علماء المسلمين يرجحون ما ذهب إليه الجمهور لقوة منطقهم ولعل ما رواه ابن عمر رضي الله عنه يعد فاصلاً في الأمر فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام(39).

أما عقوبة شرب الخمر فقد أجمع جمهور الفقهاء من الحنفية(40) والمالكية(41) والشافعية(42) والحنابلة(43) على أنها الجلد إلا أنهم اختلفوا في مقداره فذهب المالكية والحنفية والحنابلة إلى أن الحد ثمانون جلدة، وقال الشافعي الحد أربعون ويستدل الجمهور على مذهبهم بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر(44) أما الشافعية فقد استدلوا على قولهم بأن حد الخمر أربعون جلدة بما رواه أبو الساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما رآه أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان إنه لم يتقيأ حتى شربها فقال يا علي قم فأجلده فقال علي قم يا حسن فأجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه، فقال يا عبد الله بن جعفر قم فأجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي(45)

وقد جاء القانون الجنائي لسنة 1991م موافقا لما ذهب إليه الشافعية حيث نص على أنه (من يشرب خمراً أو يحوزها أو يصنعها يعاقب بالجلد أربعين جلدة إذا كان مسلماً)(46).

المطلب الثاني عقوبة شرب الخمر الحدية وحقوق الإنسان:

كذلك بالنظر إلى النظم الوضعية المعاصرة يتضح عدم توافقها مع أحكام التشريع الإسلامي في إقرار عقوبة الجلد لشارب الخمر وتناهضها مناهضة تامة لنفس الأسباب التي تذكر دائما، بل يلاحظ أن هذه النظم قد أباحت شرب الخمر ولا تعاقب شارب الخمر إلا إذا سكر وتواجد في مكان عام(47).

وترى هذه النظم أن عقوبة الغرامة تعد مناسبة تماماً لهذه الجريمة لأن الضرر الوحيد من ارتكابها هو الإزعاج دون غيره(48).

ولعله يتضح مما سبق جلياً، أن عقوبة جلد شارب الخمر في الشريعة الإسلامية هي الأنسب، وهي التي تتوافق مع حقوق الإنسان، لكونها قد وضعت على أساس متين من علم النفس إذ أن التشريع الإسلامي ينظر أولاً للدافع الذي يدفع شارب الخمر لشربها، وهو رغبته في أن ينسى آلامه النفسية ويهرب من عذاب الحقائق إلى سعادة الأوهام التي تولدها نشوة الخمر، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس شارب الخمر بعقوبة الجلد فقد يريد أن يهرب من آلام النفس ولكن عقوبة الجلد ترده إلى ما هرب منه وتضاعف له الألم إذ تجمع له بين ألم النفس وألم البدن(49). وعاقبة السكر قد تفضي إلى أن من سكر قد يقتل غيره وأقل ما يترتب على تصرفات المخمور أن يصير خاملاً عاطلا عالة على غيره فيكون الضرر عاما على المجتمع وليس قاصرا على من تعاطي المسكرات.

المبحث الرابع: عقوبة السرقة الحدية وعلاقتها بحقوق الإنسان:

المطلب الأول: تعريف السرقة وعقوبتها في التشريع الإسلامي:

تعرف السرقة في اللغة بأنها أخذ المال على وجه الخفاء يقال سرق منه الشيء يسرقه سراقاً واستراقة جاء مستترا إلى حرز فآخذ مالاً لغيره والاسم السرقة(50).

أما تعريف السرقة في الفقه الإسلامي فيتفق الفقهاء على أنها هي أخذ مال منقول متقوم مملوك للغير خفية من حرزه ويبلغ نصابا وفيما يلي تعريفات الفقهاء:

يعرفها الأحناف بأنها أخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة محرزة بمكان أو حافظ(51) ويقول المالكية هي أخذ مكلف نصابا فأكثر من مال محترم لغيره بلا شبهة خفية بإخراجه من حرز غير مأذون فيه(52) كما يعرفها الشافعية بأنها الأخذ على وجه الاستخفاء نصابا من المال بقصد سرقته من حرز لا شبهة له فيه(53) وإلى ذلك يذهب الحنابلة فقد جاء في المغني (السرقة أخذ المال على وجه الخفية والاستتار(54) أما تعريف السرقة في القانون الجنائي لسنة 1991م فقد جاء متفقا مع التعريف الفقهي حيث ورد (يعد مرتكبا جريمة السرقة من يأخذ خفية بقصد التملك مالا منقولا متقوما مملوكا للغير من حرزه ولا تقل قيمته عن النصاب(55).

أما عقوبة السرقة في التشريع الإسلامي فقد أجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على أن عقوبة السارق هي قطع اليد اليمنى من مفصل الكف(56).

ويستدلون لذلك بقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة المائدة الآية (38).

ولما روته السيدة/ عائشة رضي الله عنها قالت (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ثم أمر بقطع يد المخزومية التي سرقت(57).

أما عقوبة السرقة في التشريع الإسلامي السوداني لسنة 1991م فقد ورد (من يرتكب جريمة السرقة الحدية يعاقب بقطع اليد اليمنى من مفصل الكف(58).

وهذا النص يأتي مطابقا لما ذهب إليه جمهور الفقهاء وذلك امتثالاً للآية الكريمة (السارق والسارقة...).

المطلب الثاني: عقوبة السرقة الحدية وحقوق الإنسان:

كذلك كان النقد من مدعي حقوق الإنسان لعقوبة القطع في جريمة السرقة الحدية، وحيث يرون أن هذه العقوبة لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر، كما أنها تعد عقوبة موسومة بالقسوة وتذهب معظم هذه النظم المعاصرة إلى معاقبة السارق بالسجن أو الغرامة أو السجن مع الأشغال الشاقة(59) ومن المعلوم أن عقوبة الحبس قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم والسرقة على الخصوص، والعلة في ذلك أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية، التي تصرفه عن جريمة السرقة، لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب، إلا مدة الحبس فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل ويكسب عن طريق الحرام والحلال على السواء، واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف، فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه، فإن واصل في الختام إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد وأن لم يصل فإنه لم يخسر شيئا أما العقوبة في التشريع الإسلامي فإنها تعمل على خلق العوامل النفسية في نفس السارق الذي تصرفه عن جريمة السرقة وذلك أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع لأن قطع اليد يؤدي إلى نقص الكسب إذ اليد تعد أهم وسيلة للكسب ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل، فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة، فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة أخرى(60).

كما أنها قد تكون رادعاً لغيره فتقل السرقات أو تختفي وذلك بأن الحدود زواجر فلا يجرؤ أحد على الحصول على أموال الناس من غير وجه مشروع.

المبحث الخامس عقوبة الحرابة الحديثة وعلاقتها بحقوق الإنسان:

المطلب الأول تعريف الحرابة وعقوبتها في التشريع الإسلامي:

الحرابة في اللغة من حرب أي أخذ جميع ماله وحاربه محاربة وحراباً قاتله والحرب القتال بين الفئتين والويل والهلاك(61).

أما في الفقه الإسلامي فيعرفها الحنفية بأنها الخروج على المارة عند المرور ويقطع الطريق سواء أكان القطع من جماعة أم من واحد وسواء أكان القطع بسلاح أم غيره واشترطوا أن يقع خارج المصر(62). وعند المالكية هي إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر وداخله على السواء(63). كما يعرفها الشافعية بأنها البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرهاب مكابرة اعتمادا على الشوك مع البعد عن الغوث(64). ويذكر الحنابلة في المغني المحاربون هم من يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة(65).

أما تعريف الحرابة في القانون الجنائي لسنة 1991م فقد نصت عليها م 167 حيث ورد ما يأتي:

يعد مرتكبا جريمة الحرابة من يرهب العامة أو يقطع الطريق بقصد ارتكاب جريمة على الجسم أو العرض أو المال شريطة أن يقع الفعل

1.     خارج العمران في البر أو البحر أو الجو أو داخل العمران مع تعذر الغوث.

2.     باستخدام السلاح أو أي أداة صالحة للإيذاء أو التهديد بذلك.

ووفقا للقانون فالحرابة قد تكون من الجماعة وقد تكون من شخص واحد وقد تكون خارج العمران كما قد تكون داخل العمران بشرط تعذر النجدة والغوث وهو رأي الشافعية.

ولم يأخذ المشرع برأي المالكية الذين لا يشترطون الطريق لوقوع الجريمة فيه ويرون أن الحرابة يمكن أن تقع عن طريق الحيلة.

أما عقوبة الحرابة فهي محددة بنص الكتاب في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)) سورة المائدة الآية.

ويتفق فقهاء الشريعة الإسلامية على وجوب تطبيق العقوبات الواردة في الآية الكريمة على المحارب، إلا أنهم اختلفوا في نوع العقوبة التي تطبق عليه، فيذهب البعض إلى القول بأن العقوبة تطبق بحسب جسامة الفعل الذي ارتكبه، ويرى الآخرون أن الأمام يخير في تطبيق العقوبة التي يراها مناسبة ومنشأ الخلاف بينهم اختلافهم في تفسير حرف (أو) الوارد في الآية الكريمة هل هو للتنويع أم للتخيير، فيذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى القول بأن الحرف (أو) جاء للتنويع والتفصيل وبناء على هذا التفسير جعلوا العقوبات مرتبة على حسب جناية المحارب وعلى حسب الجرم المرتكب(66).

وخالف في ذلك المالكية وذهبوا إلى أن (أو) أتت للتخيير وأن الإمام يخير في توقيع العقوبة التي يراها مناسبة للمحارب(67).

أما عقوبة الحرابة في القانون الجنائي لسنة 1991م فقد نصت عليها المادة 168/1 حيث ورد من يرتكب جريمة الحرابة يعاقب:

1.     بالإعدام أو الإعدام ثم الصلب إذا ترتب على فعله القتل أو الاغتصاب.

2.     يقطع يده اليمنى والرجل اليسرى إذا ترتب على فعله الأذى الجسيم أو سلب مال يبلغ نصاب السرقة الحدية.

3.     بالسجن مدة لا تجاوز سبع سنوات نفيا في غير الحالات الواردة في الفقرتين (أ) و(ب).

ويلاحظ من هذه النصوص أن القانون الجنائي لسنة 1991م قد أخذ بمذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة القائل بتنويع العقوبة على المحارب بقدر جنايته.

المطلب الثاني: عقوبة الحرابة الحدية وحقوق الإنسان:

تذهب النظم المعاصرة إلى القول بأن عقوبة الحرابة الحدية فيها غلظة كبيرة لذا ذهبت لمعاقبة قاطعي الطرق بالحبس والأشغال الشاقة(68).

كما يلاحظ من التجارب أن عقوبة الحبس قد أثبتت فشلها الذريع فيلاحظ أن معظم المحكوم عليهم يعودون لارتكاب جرائهم بمجرد خروجهم من الحبس، بل إنهم يخرجون وهم أشد ميلا للإجرام وأكثر حذقا له، وأنهم يصبحون بعد خروجهم من السجن خطراً يهدد الأمن والنظام، ومن السهل أن يصدق كل إنسان هذا القول ولكن هل يستطيع أحد مهما بعد به الخيال أن يصدق أن رجلاً مقطوع اليد والرجل يصلح لارتكاب الجرائم أو يستطيع أن يصبح خطرا على النظام والأمن؟ فالتشريع الإسلامي بتقريره للعقوبات المذكورة يعمل على محاربة الدوافع النفسية وعلى حماية المجتمع، فعقوبة القتل وضعت على أساس من العلم بطبيعة النفس البشرية فالقاتل تدفعه إلى القتل غريزة تنازع البقاء بقتل غيره ليبقي هو، فإذا علم أنه حين يقتل غيره إنما يقتل نفسه أيضا امتنع في الغالب عن القتل (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة (179)، وعقوبة القتل مع الصلب قد وضعت على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة القتل، لكن لما كان الحصول على المال هنا يشجع بطبيعة الحال على ارتكاب الجريمة وجب تغليظ العقوبة بحيث إذا فكر الجاني في الجريمة وذكر العقوبة المغلظة وجد فيها ما يصرفه عن الجريمة المزدوجة، أما عقوبة القطع من خلاف فقد وضعت على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة السرقة، إلا أنه لما كانت الجريمة ترتكب عادة في الطرق وبعيدا عن العمران كان قاطع الطريق في أغلب الأمر على ثقة من النجاح وفي أمن من المطاردة، وهذا ما يقوي العوامل النفسية الداعية للجريمة ويرجحها على العوامل الصارفة التي تبعثها في النفس عقوبة السرقة العادية فوجب من أجل ذلك تغليظ العقوبة حتى تتعادل العوامل النفسية، التي تصرف عن الجريمة مع العوامل النفسية التي تدعو إليها. أما عقوبة النفي فتعلل بأن قاطع الطريق الذي يخيف الناس ولا يأخذ منهم مالا ولا يقتل منهم أحدا إنما يقصد الشهرة وبعد الصيت فعوقب بالنفي وهو يؤدي إلى الخمول وانقطاع الذكر، فهو إذا فكر في الجريمة لتجلب له الشهرة ذكر أن العقوبة ستجر عليه الخمول فانصرف عن جريمته، وبعد كل ذلك نقول لمن يظن أن هذه العقوبات لا تصلح للعصر الحديث لعلك تستبين أن عقوبات الشريعة ونظرياتها هي ألزم الأشياء لهذا العصر(69).

 

المبحث السادس عقوبة الردة وعلاقتها بحقوق الإنسان:

المطلب الأول تعريف الردة وعقوبتها في التشريع الإسلامي:

الردة لغة من الارتداد وهو التحول والرجوع(70).

أما الردة في الفقه الإسلامي فقد عرفها الفقهاء بعدة تعريفات تتفق جميعها في بيان أن الردة هي الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر وقد عرفها بعض الأحناف بأنها تعني إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان وهو الرجوع عن الإيمان(71). وقال المالكية: (الردة هي كفر المسلم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد)(72). وعرفها الشافعية بأنها الرجوع وقد تطلق على الإقناع على أداء الحق، وشرعا قطع الإسلام ممن يصح ويقطع الإسلام بالنية أو قول كفر أو فعل سواء قاله استفزازا أم عنادا أم اعتقادا أم عزم على الكفر عمدا(73) وقال الحنابلة إن الردة هي كفر بعد الإسلام نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا والمرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر(74).

أما القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م فقد بين معنى الردة في المادة 126/1 حيث نص على أنه "يعد مرتكبا جريمة الردة كل مسلم يروج للخروج عن ملة الإسلام أو يجاهر بالخروج عنها بقول صريح أو بفعل قاطع الدلالة(75).

أما بيان عقوبة الردة في الفقه الإسلامي فنقول إن هنالك العديد من الآيات الكريمة التي تناولت تحريم الردة والخسران المبين لمن يرتد عن دينه في الدنيا والآخرة إلا أن هذه الآيات لم تشر إلى عقوبة محددة للردة في الدنيا وإنما وضحت فقط العقوبة الأخروية ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) سورة البقرة الآية. أما العقوبة الدنيوية للردة فقد تواترت بها الأحاديث الشريفة ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه).(76) واستنادا على ذلك فقد أجمع الفقهاء على أن عقوبة المرتد في الدنيا هي القتل ولكن يجب أن لا توقع عليه إلا بعد استتابته(77).

وقد جاء القانون الجنائي لسنة 1991م موافقا لما ذهب إليه الفقه الإسلامي فقد ورد في الفقرة (2) من المادة 126 (يستتاب من يرتكب جريمة الردة ويمهل مدة تقررها المحكمة فإذا أصر على ردته ولم يكن حديث عهد بالإسلام يعاقب بالإعدام)(78).

المطلب الثاني: عقوبة الردة الحدية وحقوق الإنسان:

كذلك تذهب نظم حقوق الإنسان الحديثة إلى النظر إلى عقوبته إعدام المرتد بعدم اتساقها مع حق الإنسان في حرية الاعتقادات، متناسية أن الشريعة الإسلامية قد سبقتها إلى ذلك منذ عهد بعيد حيث قال تعالى (لا إكراه في الدين) ولكن لما كان الدين الإسلامي دين نظام فإنه لا يكرهك ابتداء في اعتناق الدين الإسلامي ولكن متى ما دخلت فيه وانتظمت في سلك الجماعة الإسلامية فإنه لا يحق لك الخروج لأن مثل هذا الفعل يعد سلوكاً يقع ضد النظام الاجتماعي للجماعة والتساهل فيه يؤدي إلى زعزعة هذا النظام، ومن ثم عوقب عليها بأشد العقوبات استئصالا للمجرم من المجتمع وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية، ولا شك أن عقوبة القتل هي أقدر العقوبات على حفظ النظام الإسلامي ولا غرابة في أن تأتي أقوال من يدعون حقوق الإنسان بتلك الطريقة وذلك لأن تلك النظم الوضعية التي ينتمون إليها لا تثبت أي أفكار دينية أو معتقدات روحية تقوم عليها دعائم أنظمتهم كما هو الحال في النظام الإسلامي.

المبحث السابع: جريمة البغي وعلاقتها بحقوق الإنسان:

المطلب الأول: تعريف البغي وعقوبته في التشريع الإسلامي:

البغي في اللغة من بغى فلان بغيا تجاوز واعتدى وتأتي بمعنى تسلط وظلم والفاعل باغ وجمعها بغاة(79).

أما البغي في الفقه الإسلامي فيعرفه الأحناف بأنه الخروج على طاعة إمام الحق بغير حق، والبغاة هم الخوارج وهم قوم خرجوا عن طاعة إمام الحق وهم قوم يرون أن كل ذنب كبير أو صغير كفر ويستحلون القتال والدماء والأموال بهذا التأويل ولهم منعة وقوة(80).

ويذهب المالكية بأنه الامتناع عن طاعة من تثبت إمامته من غير معصية بمغالبة أو تأويل(81) وعند الشافعية هو الخروج لجماعة ذات شوكة لهم رئيس مطاع فيهم عند طاعة الإمام بتأويل فاسد لا يقطع فساده إن كان لهم شوكة(82)، كما يعرفه الحنابلة بأنه الخروج على إمام ولو غير عادل بتأويل سائغ ولهم شوكة ولو لم يكن فيهم رئيس مطاع(83).

أما القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م فلم ينص على البغي كجريمة حدية وإنما عدها ضمن الجرائم التعزيرية وأوردها باسم الجرائم الموجهة ضد الدولة في المادتين 50، 51 من القانون الجنائي.

أما عقوبة البغي في التشريع الإسلامي فقد أجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على وجوب قتال البغاة حتى يعودوا لطاعة الإمام ويستدلون لذلك بقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)) سورة الحجرات الآية.

كما يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنقه.)(84).

المطلب الثاني عقوبة البغي الحدية وحقوق الإنسان:

في هذه الجريمة يلاحظ اتفاق أصحاب النظم الوضعية مع الفقه الإسلامي في أن العقوبة الناجعة في هذا المقام هو مقاتلة البغاة ولو أدى ذلك إلى قتلهم وإعدامهم، ويمكن القول بأن هذه القوانين وإن اتفقت مع الشريعة الإسلامية في الحكم إلا أنها لم تتفق معها في الهدف المقصود من إعدام الباغي وإنما قررت هذه النظم الحكم بالإعدام حفاظا على مصالحها الخاصة وهي سلامة الحكم متناسية إن ما كانت تنادي به دائما مع أن مثل هذه العقوبات فيها وحشية وغلظة تخالف حقوق الإنسانية والمدنية وذلك خلافا لما ذهبت إليه الشريعة الإسلامية فهي إنما قررت عقوبة القتل على الباغي حفاظا على أمن المجتمع المسلم واستقراره فاقتضت المصلحة العامة استئصال الفساد وعوامله والقضاء على الفوضى والاضطرابات.

لذلك فإن حكم الشريعة الإسلامية أعمق وأحكم وأبعد غوراً في استقصاء المنافع والمصالح الخاصة والعامة في حين أن حكم النظم الوضعية لم يستوف هذه المصالح والأهداف السامية(85).

خلاصة البحث:

يستنتج من بحثنا في العقوبات الحدية وادعاءات حقوق الإنسان الآتي:

1.     مراعاة العقوبات الحدية لحقوق الإنسان والمحافظة عليها وصيانتها وأن كافة الادعاءات بأن في توقيعها انتهاك للإنسانية مجاف للواقع المعاش والحقيقة الماثلة.

2.     إن العقوبات الحدثة لم توضع ضد الإنسانية والمدنية ولغرض التشفي والانتقام وإنما وضعت لحكمة ودراية بالنفس البشرية والتي لا يصرفها عن دوافعها وشهواتها إلا ما هو بقوة هذا الدافع وعلى هذا الأساس أتت أحكامها قوية فعالة وناجعة.

 

الهوامش والمصادر والمراجع:

1.     نصب الراية لجمال الدين أبي محمد الحنفي الزيلعي، ج3، ص 309 المكتبة الإسلامية ط2.

2.     لسان العرب لجمال الدين محمد بن منظور، ج3، ص 140، دار صادر بيروت، ط3.

3.     تبيين الحقائق لفخر الدين عثمان الزيلعي، ج3، ص 63، بيروت، ط1.

4.     حاشية الدسوقي لشمس الدين محمد بن عرفة الدسوقي ج4، ص 298، دار إحياء الكتب العربية، مصر.

5.     مغني المحتاج، للشيخ محمد الشربيني الخطيب، ج4، ص 125، مصر

6.     المبدع في شرح المقنع، لأبي اسحق برهان الدين إبراهيم بن الحنبلي، ج9، ص 43، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.

7.     بدائع الصنائع، لعلاء الدين الكاساني، ج7، ص 23، مطبعة الإمام، القاهرة.

8.     بدائع الصنائع مصدر سابق، ج7، ص 23.

9.     حاشية الدسوقي مصدر سابق ج4، ص 298.

10. تحفة المحتاج لشمس الدين محمد بن أبي العباس، ج9، ص 101، مطبعة الحلبي.

11. كشف القناع للشيخ منصور بن يونس البهوتي ج6، ص 77، عالم الكتب بيروت.

12. القانون الجنائي لسنة 91 م3.

13. المعجم الوسيط إبراهيم مصطفى داؤود وآخرين، ج، 2، ص 403، المطبعة المصرية

14. الخرشي علي خليل، ص 75 دار صادر بيروت.

15. بدائع الصنائع، مصدر سابق ج9، ص 150.

16. شرح صحيح مسلم للإمام يحى بن شرف النووي ج2، ص 202، دار القلم بيروت.

17. بدائع الصنائع مصدر سابق ج9، ص 163.

18. المغني لمحمد بن عبد الله بن قدامة المقدسي ج9، ص 12، مطبعة دار المنار القاهرة.

19. بداية المجتهد ونهاية المقتصد لأبي الوليد محمد بن رشد ج 2، ص 686، دار الجيل بيروت.

20. بداية المجتهد، مصدر سابق ج2، ص 686.

21. فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ج12، ص 136 دار المعرفة، بيروت.

22. التشريع الجنائي الإسلامي للمستشار عبد القادر عودة ج1، ص 636، بيروت.

23. قانون العقوبات السوداني لسنة 1974.

24. لسان العرب، مصدر سابق ج9، ص 277.

25. بدائع الصنائع مصدر سابق ج9، ص 165.

26. بداية المجتهد، مصدر سابق ج2، ص 696.

27. نهاية المحتاج مصدر سابق ج7، ص 415.

28. المبدع مصدر سابق ج9، ص 83.

29. القانون الجنائي لسنة 91 م 157

30. القانون الجنائي الإسلامي السوداني 91 د. عوض الحسن النور، دار هايل للطباعة والنشر.

31. التشريع الجنائي الإسلامي، مصدر سابق ج1، ص 646.

32. القاموس المحيط لمجد الدين الشيرازي، ج2 ص 23. مطبعة السعادة، مصر

33. شرح فتح القدير للإمام كمال الدين بن الهمام، ج4، ص 178 المطبعة الكبرى مصر

34. الذخيرة لشهاب الدين القرافي، ج4، ص 113، دار الغرب الإسلامي.

35. روضة الطالبين لأبي زكريا النووي، ج7، ص 374، دار الكتب العلمية، بيروت.

36. الإقناع لأبي النجا شرف الدين المقدسي، ج4، ص 266، بيروت لبنان.

37. نيل الأوطار، لمحمد بن علي الشوكاني، ج7، ص 148، دار الحديث، القاهرة.

38. نصب الراية، مصدر سابق، ج4، ص 306.

39. صحيح مسلم لأبي الحسن مسلم بن الحجاج، ج7، ص 189، الرياض.

40. المبسوط لشمس الدين السرخسي، ج22، ص 20، بيروت-لبنان.

41. الذخيرة، مصدر سابق، ج12، ص 204.

42. الاقناع مصدر سابق، ج4، ص 366.

43. زاد المحتاج للشيخ عبد الله الحسن الكوهجي، ج4، ص 260، قطر.

44. صحيح مسلم مصدر سابق، ج11، ص 227.

45. صحيح مسلم مصدر سابق، ج11، ص 230.

46. القانون الجنائي لسنة 1992م 18

47. قانون العقوبات معلقا عليه د. محمد محي الدين عوض، ص 904 مطبعة جامعة القاهرة.

48. الجرائم المخلة بالآداب للسيد حسن البقال ص، 435 دار الفكر العربي.

49. التشريع الجنائي الإسلامي مصدر سابق، ج2، ص 649.

50. لسان العرب مصدر سابق، ج10، ص 155.

51. تبيين الحقائق، مصدر سابق، ج3، ص 211.

52. بداية المجتهد، مصدر سابق، ج2، ص 703.

53. المهذب، لأبي اسحق إبراهيم بن علي الشيرازي، ج2، ص 277، الحلبي وأولاده، مصر.

54. المغني مصدر سابق، ج9، ص 79.

55. القانون الجنائي لسنة 1991م 170/1

56. المغني مصدر سابق، ج9، ص 97.

57. سبل السلام لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ج4، ص 201 دار الفكر-بيروت

58. القانون الجنائي لسنة 1991م 171.

59. قانون العقوبات السوداني معلقا عليه مصدر سابق، ص 629.

60. التشريع الجنائي الإسلامي مصدر سابق، ج1، ص 652.

61. المعجم الوسيط مصدر سابق، ج1، ص 163.

62. بدائع الصنائع مصدر سابق، ج9، ص 4283.

63. بداية المجتهد مصدر سابق، ج2، ص 718.

64. زاد المحتاج مصدر سابق، ج4، ص 248.

65. المغني مصدر سابق، ج9، ص 128.

66. المغني مصدر سابق، ج9، ص 124.

67. بداية المجتهد مصدر سابق، ج24، ص 719.

68. جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال د. رؤوف عبيد ص 388، دار الفكر العربي

69. التشريع الجنائي الإسلامي مصدر سابق، ج1، ص 656 وما بعدها.

70. لسان العرب مصدر سابق، ج3، ص 173.

71. بدائع الصنائع مصدر سابق، ج94، ص 4150.

72. حاشية الدسوقي، مصدر سابق، ج4، ص 3016.

73. نهاية المحتاج مصدر سابق، ج7، ص 393.

74. الكافي، لأبي محمد عبد الله بن المقدسي، ج4، ص 155، بيروت لبنان

75. القانون الجنائي لسنة 1991م 126/1.

76. صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ج2، ص 267، دار المعرفة-بيروت.

77. بداية المجتهد مصدر سابق، ج2، ص 724.

78. القانون الجنائي لسنة 91م 126/2.

79. المعجم الوسيط مصدر سابق، ج1، ص 64.

80. شرح فتح القدير مصدر سابق، ج4، ص 408.

81. بلغة السالك للشيخ أحمد بن محمد الصاوي، ج2، ص 385.

82. اسنى المطالب ج4 ص 111.

83. المغني مصدر سابق، ج8، ص 225.

84. صحيح مسلم، مصدر سابق، ج2، ص 18.

85. التشريع الجنائي الإسلامي د. عبد الله بن سالم، ص 126.


[*]أستاذ مساعد- كلية الشريعة والقانون، جامعة أم درمان الإسلامية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق