الصفحات

الأربعاء، 24 نوفمبر 2021

الطعن 114 لسنة 21 ق جلسة 2 / 6 / 2001 دستورية عليا مكتب فني 9 دستورية ق 119 ص 986

جلسة 2 يونيه سنة 2001

برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: حمدي محمد علي وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور،

وحضور السيد المستشار/ محمد خيري طه عبد المطلب النجار - رئيس هيئة المفوضين،

وحضور السيد/ ناصر إمام محمد حسن - أمين السر.

---------------

قاعدة رقم (119)
القضية رقم 114 لسنة 21 قضائية "دستورية"

(1) تشريع "جريمة الاتفاق الجنائي: تطور تاريخي".
أدخل المشرع المصري جريمة الاتفاق الجنائي كجريمة قائمة بذاتها في قانون العقوبات الأهلي بمناسبة اغتيال رئيس مجلس النظار سنة 1910 - معارضة مجلس شورى القوانين في ذلك استناداً إلى أن القانون المصري لا يعاقب على الأفعال التي تتقدم مرحلة الشروع في ارتكاب الجريمة - صدور نص المادة 47 مكررة عقوبات أهلي للعقاب على الاتفاق الجنائي رغم معارضة مجلس شورى القوانين.
(2) جريمة الاتفاق الجنائي - تطور أحكام القضاء.
أحكام القضاء اتجهت في البداية في شأن جريمة الاتفاق الجنائي إلى وجوب قيام اتفاق منظم ومستمر - العدول عن هذا الاتجاه والقضاء بكفاية مجرد الاتفاق على ارتكاب جناية أو جنحة بلا حاجة إلى تنظيم ولا إلى استمرار - معاودة المشرع النظر مرتين في المادة 47 مكررة عقوبات أهلي سنتي 1933 و1937 وإبقاؤه على فكرته الأساسية فيها بالعقاب على الاتفاق البسيط على ارتكاب أية جناية أو جنحة ولو لم تقع أية جريمة نتيجة لذلك الاتفاق.
(3) تشريع "المادة 48 من قانون العقوبات: جريمة الاتفاق الجنائي - نظام استثنائي".
نص المادة 48 من قانون العقوبات كان محل انتقاد اللجنة التي شُكلت لوضع آخر مشروع حديث متكامل لقانون العقوبات - جريمة الاتفاق الجنائي بوضعها المقرر في المادة 48 من قانون العقوبات تمثل نظاماً استثنائياً اقتضت إنشاءه ظروف استثنائية وأدى تطبيقه إلى الاضطراب والجدل في تفسير أحكامه.
(4) تجريم "الهدف منه: تطوره".
الهدف من التجريم قديماً كان ينحصر في مجازاة الجاني عن الجريمة التي اقترفها - تطور هذا الهدف في التشريع الحديث ليشمل كذلك ردع الغير عن ارتكاب الجريمة - شرعية النصوص التي تتخذ كوسيلة لتحقيق الأهداف التي يبتغيها المشرع مناطها توافقها وأحكام الدستور، مؤدى ذلك: أنه يتعين على المشرع إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
(5) جريمة "ركنها المادي: أهميته".
دل الدستور - بنص المادة 66 منه - على أن لكل جريمة ركناً مادياً يتمثل في فعل أو امتناع يقع بالمخالفة لنص عقابي، ويكون مناط التأثيم وعلته - لازم ذلك أن مظاهر التعبير الخارجي، عن الإرادة البشرية وحدها، وليس النوايا، هي التي تعتبر واقعة في نطاق التجريم - انتفاء التعبير المادي عن الأفعال؛ مؤداه: انتفاء الجريمة.
(6) قوانين جزائية "يقين - حرية شخصية: قيودها - تحديدها".
يتطلب الدستور في القوانين الجزائية أن تكون درجة اليقين التي تنتظم أحكامها في أعلى مستوياتها وذلك لأن تلك القوانين تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود؛ مؤدى ذلك: وجوب أن تكون هذه القيود محددة بصورة يقينية لأن عدم تحديدها يهدر الحقوق والحريات التي كفلها الدستور، ويخل بالضوابط الجوهرية للمحاكمة المنصفة.
(7) تشريع "الفقرة الأولى من المادة 48 من قانون العقوبات: نطاق التجريم".
عدم اشتراط الفقرة الأولى من المادة 48 من قانون العقوبات عدداً أكثر من اثنين لقيام الجريمة، أو استمرار الاتفاق الجنائي لمدة معينة، أو كونه على قدر من التنظيم، أو أن تكون الجريمة المتفق على ارتكابها على درجة من الجسامة، أو أن تتعين الجناية أو الجنحة محل الاتفاق؛ يعني أن نطاق التجريم جاء واسعاً فضفاضاً لا تقتضيه ضرورة اجتماعية مبررة.
(8) جزاء "تناسبه - معقوليته".
شرعية الجزاء، جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثََّمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها لأن الأصل في العقوبة معقوليتها - عدم تناسب الجزاء الجنائي مع خطورة الأفعال التي أثَّمها المشرع؛ مؤداه: فقد هذا الجزاء مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافاً - تطبيق: العقوبات الواردة بنص المادة 48 من قانون العقوبات مفرطة في قسوتها ولا تتناسب والفعل المؤثم.
(9) عقوبة جنائية "ردع خاص - ردع عام" - اتفاق جنائي.
تستهدف العقوبة الجنائية الزجر الخاص للمجرم جزاءً لما اقترف، والردع العام للغير ليحمل من يُحتمل ارتكابهم الجريمة على الإعراض عن إتيانها - العقوبة المقررة للاتفاق الجنائي يتم توقيعها ولو لم يتم ارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق وهي بذلك لا تحقق ردعاً عاماً ولا خاصاً، بل قد تشجع المتفقين على ارتكاب الجريمة طالما أن مجرد الاتفاق على اقترافها سيؤدي إلى معاقبتهم بذات عقوبة ارتكابها.
(10) سياسة جنائية "أهداف - وسائل: صلة" - مبدأ خضوع الدولة للقانون.
يتعين قيام السياسة الجنائية الرشيدة على عناصر متجانسة - الأصل في النصوص التشريعية هو ارتباطها عقلاً بأهدافها لأن أي تنظيم تشريعي ليس مقصوداً لذاته وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف - تهادم النص الطعين مع مقاصده؛ أثره: مناهضته لمبدأ خضوع الدولة للقانون - تحديد عقوبة الاتفاق الجنائي بالعقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق؛ مؤداه: التنافر مع سياسة العقاب على الشروع ومناقضة الأسس الدستورية للتجريم.
(11) جريمة الاتفاق الجنائي "الإعفاء من العقوبة - العدول".
تقرير الفقرة الأخيرة من المادة 48 من قانون العقوبات الإعفاء من العقوبات المقررة لمن يبادر من الجناة بالإخبار عن وجود الاتفاق الجنائي والمشتركين فيه أو التوصل إلى ضبط الجناة، هدفه: تشجيع المتفقين على الإبلاغ بإعفائهم من العقاب - إذا ما تم الاتفاق ثم عدل المتفقون جميعاً عن المضي فيه: اعتبرت جريمة الاتفاق الجنائي قد وقعت متكاملة الأركان، وبالتالي يغدو ارتكاب الجريمة محل الاتفاق، في تقدير المتفقين، ليس أسوأ من مجرد الاتفاق عليها، وهو ما يعني عدم تحقيق النص الطعين لمقاصده.
(12) رقابة دستورية "الوسائل القانونية السليمة: جزاء جنائي - ضرورة".
الرقابة القضائية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا في شأن دستورية النصوص العقابية تضبطها مقاييس صارمة نظراً لاتصال هذه النصوص اتصالاً مباشراً بالحرية الشخصية - التزام المشرع الجنائي بانتهاج الوسائل القانونية السليمة لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية - الجزاء الجنائي لا يُعد مبرراً إلا إذا كان واجباً لمواجهة ضرورة اجتماعية لها وزنها ومتناسباً مع الفعل المؤثم - مجاوزته ذلك؛ أثره: مجافاته للعدالة وانفصاله عن أهدافه المشروعة.

---------------
1 - باستعراض التطور التاريخي للمادة 48 المشار إليها، يبين أن المشرع المصري أدخل جريمة الاتفاق الجنائي كجريمة قائمة بذاتها - تختلف عن الاتفاق كسبيل من سبل المساهمة الجنائية - بالمادة 47 مكررة من قانون العقوبات الأهلي، وكان ذلك بمناسبة اغتيال رئيس مجلس النظار سنة 1910 فقدمت النيابة العامة إلى قاضي الإحالة تسعة متهمين أولهم بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، والباقين بتهمة الاشتراك في القتل، غير أن القاضي اقتصر على تقديم الأول إلى محكمة الجنايات ورفض إحالة الباقين لعدم توافر أركان الجريمة قبلهم، فتقدمت الحكومة إلى مجلس شورى القوانين بمشروع بإضافة نص المادة 47 مكررة إلى قانون العقوبات الأهلي - وهو يؤثم جريمة الاتفاق الجنائي المجرد على ذات النحو الذي ورد بعد ذلك بالنص الطعين مع خلاف بسيط في الصياغة - غير أن المجلس عارض الموافقة على المشروع مستنداً إلى أن القانون المصري - كالقوانين الأخرى - لا يعاقب على شيء من الأعمال التي تتقدم الشروع في ارتكاب الجريمة، كالتفكير فيها والتصميم عليها واتفاق الفاعلين أو الفاعلين والشركاء على كيفية ارتكابها، ولا على إتيان الأعمال المجهزة أو المحضرة لها. وعّرج المجلس إلى المقارنة بين النص المقترح ونظيره في القانون المقارن موضحاً أن القانون الفرنسي يشترط للتجريم وجود جمعية من البغاة أو اتفاق بين عدة أشخاص وأن يكون غرض الجمعية أو الاتفاق تحضير أو ارتكاب جنايات على الأشخاص والأموال. وأشار المجلس إلى أنه إذا كانت هناك حاجة للاستثناء من ذلك فيجب أن يكون بقدر الضرورة التي يقتضيها حفظ النظام، وأنه لأجل أن تكون المادة 47 مكررة مقيسة بمقياس الضرورة النافعة فيجب ألا تشمل سوى الجمعيات التي يُخشى منها على ما يجب للموظفين العموميين أو السياسيين من الطمأنينة، أو بعبارة أخرى يجب أن لا يُقصد منها إلا حماية نظام الحكومة، فلا يشمل النص الأحوال الأخرى كالاتفاقات الجنائية التي تقع بين شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة تدخل في باب الجرائم العادية كجرائم السرقة أو الضرب أو التزوير أو غير ذلك من الجرائم الواقعة على الأشخاص وعلى الأموال؛ غير أن نظارة الحقانية رفضت اقتراح المجلس إذ رأته يثير صعوبات كبيرة في العمل ويفتقد الضمانات الفعالة ضد جميع الاتفاقات التي تكون غايتها تحقيق المقاصد السياسية بطريق القوة، وأضافت أن القانون الجديد لم يوضع إلا للأحوال التي تجعل الأمن العام في خطر، ولن يُعمل به أصلاً بما يجعله مهدداً للحرية الشخصية، والمأمول أن لا تدعو الأحوال إلى تطبيق هذا القانون إلا في النادر كما في البلاد التي استُقى منها. وصدر نص المادة 47 مكررة عقوبات أهلي معاقباً على الاتفاق الجنائي، بعد أن برر مستشار الحكومة استعمال المشرع لتعبير الاتفاق الجنائي بديلاً عن كلمة association الواردة في القانون الفرنسي - التي جاءت أيضاً في النسخة الفرنسية لقانون العقوبات الأهلي - بأن هذا اللفظ الأخير قد يفيد قدراً من التنظيم والاستمرار.
2 - أحكام القضاء في شأن جريمة الاتفاق الجنائي - كجريمة قائمة بذاتها - اتجهت في البداية إلى وجوب قيام اتفاق منظم ولو في مبدأ تكوينه وأن يكون مستمراً ولو لمدة من الزمن، واستند القضاء في ذلك إلى الاسترشاد بالفكرة التي حملت المشرع إلى تجريم الاتفاق الجنائي، غير أنه عدل بعد ذلك عن هذا الاتجاه، فقُضى بأن مجرد الاتفاق على ارتكاب جناية أو جنحة كاف بذاته لتكوين جريمة الاتفاق الجنائي بلا حاجة إلى تنظيم ولا إلى استمرار، وقد أشير في بداية هذا العدول إلى أن المادة 47 مكررة عقوبات أهلي هي في حقيقة الواقع من مشكلات القانون التي لا حل لها لأنها أتت بمبدأ يُلقي الاضطراب الشديد في بعض أصول القانون الأساسية، وأن عبارات التنظيم والاستمرار هي عبارات اضطرت المحاكم للقول بها هرباً من طغيان هذه المادة، والظاهر - من الأعمال التحضيرية للنص - أن مراد واضعيه أن يكون بيد الحكومة أداة تستعملها عند الضرورة وفي الأحوال الخطرة استعمالاً لا يكون في اتساع ميدانه وشموله محلاً للتأويل من جهة القضاء التي تطبقه، وأن الأجدر معاودة النظر في ذلك النص بما يوائم بين الحفاظ على النظام والأمن العام من جهة ويزيل اللبس والخلط بينه والمبادئ الأخرى، وإلى أن يتم ذلك فلا سبيل لتفادي إشكال هذا النص ومنع إضراره، إلا ما حرصت عليه النيابة العامة من عدم طلب تطبيقه إلا في الأحوال الخطرة على الأمن العام. وإذا كان المشرع قد عاود النظر مرتين في المادة سالفة الذكر سنتي 1933، 1937 إلا أنه ظل على فكرته الأساسية فيها التي تقوم على عقاب الاتفاق البسيط على ارتكاب أية جناية أو جنحة، ولو لم تقع أية جريمة نتيجة لذلك الاتفاق.
3 - نص المادة 48 من قانون العقوبات كل محل انتقاد اللجنة التي شُكَّلتْ لوضع آخر مشروع حديث متكامل لقانون العقوبات - خلال الوحدة بين مصر وسوريا تحت إشراف مستشار رئيس الجمهورية للشئون القانونية آنذاك - برئاسة الأستاذ علي بدوي وزير العدل وعميد كليه الحقوق بجامعة القاهرة الأسبق وعضوية كل من رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة النقض والمستشار عادل يونس والدكتور علي راشد أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق بجامعة عين شمس.. وغيرهم، حيث ورد بالمذكرة الإيضاحية للمشروع أنه "قد أصلح من أحكام جريمة الاتفاق الجنائي التي تم وضع نصها في ظروف استثنائية والتي لم يكن لها نظير.. وأعيدت صياغة أحكامها بحيث تتفق مع اتجاهات الشريعي الحديث؛ واختُتمِت تلك المذكرة بأنه قد رؤي أنه من الأفضل أن يُلحق بالنصوص المقترحة ما يتصل بها من تعليقات وإيضاحات مبررة لها أو مفسرة لأحكامها كترجمة مباشرة لأفكار من اشتركوا في صوغ أحكامه وقت مناقشتها مما لا يتوفر عادة في المذكرات الإيضاحية... فضلاً عن ميزة تسهيل الوقف على مقاصد النصوص التي تم التوصل إليها بإجماع الآراء.... وبذلك يكون المشروع خلاصة لأعمال لجان متعددة ومشاريع استغرق وضعها سنين طويلة الأمد، روجعت على ضوء القانون المقارن والفقه الحديث ونشاط المؤتمرات الدولية ليكون ذلك القانون مرآة لما بلغته الجمهورية من تطور مرموق في الميدان التشريعي. وفي مقام التعليق على نص المشروع في المادة 59 منه (المقابلة للمادة 48 من قانون العقوبات) أوردت اللجنة أنها "رأت بمناسبة وضع التشريع الجديد أن جريمة الاتفاق الجنائي على الوضع المقرر في التشريع المصري الحالي في المادة 48 إنما هو نظام استثنائي اقتضت إنشاءه ظروف استثنائية ويندر وجود نظير له في الشرائع الأخرى الحديثة... هذا فضلاً عما أفضى إليه تطبيقه من الاضطرابات والجدل في تفسير أحكامه، وذلك فضلت اللجنة العدول عنه في المشروع الجديد اكتفاء بجرائم الاتفاقات الخاصة التي نص عليها القانون في حالات معينة بارزة الخطورة. يضاف إلى ذلك أن اللجنة رأت... اعتبار تتعدد المجرمين.. ظرفاً مشدداً إذا وقعت الجريمة بناء على اتفاقهم السابق، فإذا بقى الاتفاق بغير نتيجة كان هناك محل لتوقيع التدابير الاحترازية التي يقررها القانون... بدلاً من توقيع العقوبات العادية... وتحديداً لمعنى الخطورة. اشترط النص أن يقع الاتفاق بين ثلاثة على الأقل حتى يتحقق الظرف المشدد أو يتوافر شرط توقيع التدابير الاحترازية. وليس المراد بالاتفاق في هذه الحالة مجرد التفاهم العرَضي وإنما هو الاتفاق المصمم عليه الذي تُدبَّر فيه الجريمة وكيفية ارتكابها، وهذا النوع من الاتفاق هو الذي يبلغ درجة من الخطورة تقتضي معالجتها تشريعياً بتشديد العقاب إذا وقعت الجريمة المدبرة، أو بتوقيع التدابير الاحترازية التي يقرها القانون. إذا لم تقع الجريمة، والمفهوم من تعبير وقوع الجريمة نتيجة للاتفاق... هو أن تقع الجريمة تامة أو مشروعاً فيها شروعاً معاقباً عليه".
4 - إذا كان الهدف من التجريم قديماً هو مجرد مجازاة الجاني عن الجريمة التي اقترفها، فقد تطور هذا الهدف في التشريع الحديث ليصبح منع الجريمة سواء كان المنع ابتداءً أو ردع الغير عن ارتكاب مثلها، فالاتجاهات المعاصرة للسياسة الجنائية في مختلف الدول تتجه - كما تشير المؤتمرات المتعاقبة للأمم المتحدة بشأن منع الجريمة ومعاملة المجرمين - إلى أهمية اتخاذ التدابير المانعة لوقوع الجريمة وسن النصوص التي تكفل وقاية المجتمع منها وتجريم الاشتراك في الجمعيات الإجرامية وتنمية التعاون الدول لمكافحة الجريمة المنظمة، إلا أن شرعية النصوص التي تتخذ كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف مناطها توافقها وأحكام الدستور واتفاقها ومبادئه ومقتضاه، ومن ثم يتعين على المشروع - في هذا المقام - إجراء موازنة دقيق بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
5 - دل الدستور - بنص المادة 66 منه - على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره يتمثل أساساً في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداءً في زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علامتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، ولا يتصور بالتالي وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي ولا إقامة الدليل على توافر السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاًَ عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
6 - من القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين الجزائية، أن تكون درجة اليقين التي تنتظم أحكامها في أعلى مستوياتها، وأظهر في هذه القوانين منها في أية تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثراً، ويتعين بالتالي - ضماناً لهذه الحرية - أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها في بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينه من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابي مؤداه أن يُحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تُعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه. وهي قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطاراً لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التي يتوخاها الدستور هي أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته في إطار من الضوابط التي قيدتها بها، ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التي تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها لكي يدفعوا عن حقهم في الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكس العقوبة، بحيث لا يتم تجاوز الحدود التي اعتبرها الدستور مجالاً حيوياً لمباشرة الحقوق والحريات التي كفلها، وهو ما يخل في النهاية بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقاً لنص المادة 67 من الدستور.
7 - البين من استقراء نص الفقرة الأولى من المادة 48 من قانون العقوبات أنها عَّرفت الاتفاق الجنائي بأنه اتحاد شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ولم يشترط النص عدداً أكثر من اثنين لقيام الجريمة، كما لم يتطلب أن يستمر الاتفاق لمدة معينة أو أن يكون على قدر من التنظيم، وقد يكون محل الاتفاق عدة جنايات، أو عدة جنح، أو مجموعة جرائم مختلطة من النوعين معاً، كما قد لا يرد الاتفاق إلا على جناية أو جنحة واحدة، ولم يستلزم النص أن تكون الجريمة أو الجرائم المتفق على ارتكابها على درجة من الجسامة، بل قد يكون محل الاتفاق اقتراف أي جنحة مهما كانت قليلة الأهمية في دلالتها الإجرامية، كما أنه ليس بلازم أن تتعين الجناية أو الجنحة محل الاتفاق كما لو تم الاتفاق على استعمال العنف - بأي درجة - لتحقيق غاية الاتفاق، سواء كانت هذه الغاية في ذاتها مشروعة أو غير مشروعة، ومن ثم فإن نطاق التجريم جاء واسعاً فضفاضاً لا تقتضيه ضرورة اجتماعية مبرَّرة.
8 - جرى قضاء هذه المحكمة على أن شرعية الجزاء - جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً - مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثَّمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها. فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضاً أو عاتياً، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التي أثَّمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافاً؛ متى كان ذلك، وكانت الفقرة الثانية من المادة 48 من قانون العقوبات تقرر عقوبة السحن على الاتفاق الجنائي على ارتكاب جناية، وكانت عقوبة السجن هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية وتشغيله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعينها الحكومة المدة المحكوم بها عليه، ولا يجوز أن تنقص عن ثلاث سنوات ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنايات كثيرة حدد المشرع العقوبة فيها بالسجن مدة تقل عن خمس عشرة سنة؛ كما تنص ذات الفقرة على أن عقوبة الاتفاق الجنائي على ارتكاب الجنح هي الحبس أي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه وحدها الأدنى أربع وعشرون ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنح متعددة حدد المشرع العقوبة فيها بالحبس مدة تقل عن ثلاث سنوات؛ وهو ما يكشف عن عدم تناسب العقوبات الواردة في الفقرة الثانية من النص المطعون فيه مع الفعل المؤثم، ولا وجه للمحاجة في هذا المقام بأن الفقرة الرابعة من المادة 48 المشار إليها تقضي بأنه إذا كان محل الاتفاق جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرة السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة، ذلك أن محل الاتفاق - كما سبقت الإشارة - قد يكون ارتكاب جناية أو جنحة غير معينة بذاتها وعندئذ توقع العقوبات الواردة في الفقرة الثانية من المادة وحدها، وهي تصل إلى السجن خمس عشرة سنة أو الحبس ثلاث سنوات - حسب الأحوال - ولا شك أنها عقوبات مفرطة في قسوتها تكشف عن مبالغة المشرع في العقاب بما لا يتناسب والفعل المؤثم.
9 - لما كان الهدف من العقوبة الجنائية هو الزجر الخاص للمجرم جزاء لما اقترف، والردع العام للغير ليحمل من يُحتمل ارتكابهم الجريمة على الإعراض عن إتيانها، وكانت الفقرة الرابعة من المادة 48 تقرر توقيع العقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق على مجرد الاتفاق على اقترافها حتى ولو لم يتم ارتكابها فعلاً، فإنها بذلك لا تحقق ردعاً عاماً ولا خاصاً، بل إن ذل قد يشجع المتفقين على ارتكاب الجريمة محل الاتفاق طالما أن مجرد الاتفاق على اقترافها سيؤدي إلى معاقبتهم بذات عقوبة ارتكابها.
10 - السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل في النصوص التشريعية - في الدولة القانونية - هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثم يتعين دائماً استظهار ما إذا كان النص الطعين يلتزم إطاراً منطقياً للدائرة التي يعمل فيها، كافلاً من خلالها تناغم الأغراض التي يستهدفها، أم متهادماً مع مقاصده أو مجاوزاً لها، ومناهضاً - بالتالي - لمبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه في المادة 65 من الدستور؛ متى كان ذلك وكان المشرع الجنائي قد نظم أحكام الشروع في الباب الخامس من قانون العقوبات (المواد من 45 إلى 47) وهو الذي يسبق مباشرة الباب السادس الخاص بالاتفاق الجنائي، وكان الشروع هو البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها، وكان مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو الأعمال التحضيرية لذلك لا يعتبر شروعاً، بحيث يتعدى الشروع مرحلة مجرد الاتفاق على ارتكاب الجريمة إلى البدء فعلاً في تنفيذها، وكان الشروع غير معاقب عليه في الجنح إلا بنص خاص. أما في الجنايات فإن عقوبة الشروع تقل درجة عن العقوبة المقررة لارتكاب الجناية، أو بما لا يزيد على نصف الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجريمة التامة؛ فإذا أعقب المشرع تلك الأحكام بالنص في المادة 48 على تجريم مجرد اتحاد إرادة شخصين أو أكثر على ارتكاب أي جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، وتحديد العقوبة على النحو السالف بيانه بالعقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإنه يكون منتهجاً نهجاً يتنافر مع سياسة العقاب على الشروع، ومناقضاً - بالتالي - للأسس الدستورية للتجريم.
11 - الفقرة الأخيرة من المادة 48 تقرر الإعفاء من العقوبات المقررة لمن يبادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود الاتفاق الجنائي والمشتركين فيه قبل وقوع الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإن حصل الأخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل إلى ضبط الجناة، وذلك ابتغاء تشجيع المتفقين على الإبلاغ بإعفائهم من العقاب على النحو السالف البيان؛ إلا أن مؤدى النص أنه إذا ما تم الاتفاق ثم عدل المتفقون جميعاً من تلقاء أنفسهم عن المضي في الاتفاق فإنه جريمة الاتفاق الجنائي تكون قد وقعت متكاملة الأركان ويحق العقاب على المتفقين، فيغدو ارتكاب الجريمة محل الاتفاق - في تقدير المتفقين - ليس أسوأ من مجرد الاتفاق عليها ولا يكون لتجنب ارتكابها والعدول عن اقترافها فائدة ما، وهو ما يعني عدم تحقيق النص المطعون عليه للمقاصد التي ابتغاها المشرع.
12 - الرقابة القضائية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا في شأن دستورية النصوص العقابية، تضبطها مقاييس صارمة، ومعايير حادة تلتئم وطبيعة هذه النصوص في اتصالها المباشر بالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها، مما يفرض على المشرع الجنائي أن ينتهج الوسائل القانونية السليمة سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية، وأن تكون العقوبة التي يفرضها في شأن الجريمة تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها، فلا يندرج تحتها مجرد رغبة الجماعة في إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها للبطش بالمتهم، كما لا يسوغ للمشرع أن يجعل من نصوصه العقابية شباكاً أو شراكاً يلقيها ليتصيد باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وكان الجزاء الجنائي لا يعد مُبرَّراً إلا إذا كان واجباً لمواجهة ضرورة اجتماعية لها وزنها، ومتناسباً مع الفعل المؤثم فإن جاوز ذلك كان مفرطاً في القسوة مجافياً للعدالة ومنفصلاً عن أهدافه المشروعة.


الإجراءات

بتاريخ الثاني والعشرين من يونيو سنة 1999 أودع المدعي قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون العقوبات.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة أحالت المدعي إلى محكمة جنايات طنطا، متهمة إياه بأنه - بدائرة مركز زفتى محافظة الغربية - أحرز بغير ترخيص سلاحاً، واتفق مع آخر على ارتكاب جنحة سرقة مرتبطة بجناية ارتكبها الأخير، وأثناء نظر الدعوى دفع المدعي بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون العقوبات فقدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع صرحت محكمة الموضوع للمدعي برفع الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة 48 من قانون العقوبات يجرى نصها كالآتي: -
فقرة أولى "يوجد اتفاق جنائي كلما اتحد شخصان فأكثر على ارتكاب جناية أو جنحة ما أو على الأعمال المجهَّزة أو المسهلة لارتكابها، ويعتبر الاتفاق جنائياً سواء أكان الغرض منه جائزاً أم لا إذا كان ارتكاب الجنايات أو الجنح من الوسائل التي لوحظت في الوصول إليه".
فقرة ثانية "وكل من اشترط في اتفاق جنائي سواء كان الغرض منه ارتكاب الجنايات أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب لمجرد اشتراكه بالسجن. فإذا كان الغرض من الاتفاق ارتكاب الجنح اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب المشترك فيه بالحبس".
فقرة ثالثة "وكل من حرض على اتفاق جنائي من هذا القبيل أو تداخل في إدارة حركته يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة في الحالة الأولى المنصوص عليها في الفقرة السابقة وبالسجن في الحالة الثانية".
فقرة رابعة "ومع ذلك إذا لم يكن الغرض من الاتفاق إلا ارتكاب جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرات السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة".
فقرة خامسة "ويعفى من العقوبات المقررة في هذه المادة كل من بادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود اتفاق جنائي، وبمن اشتركوا فيه قبل وقوع أية جناية أو جنحة، وقبل بحث وتفتيش الحكومة عن أولئك الجناة، فإذا حصل الإخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل الإخبار فعلاً إلى ضبط الجناة الآخرين".
وحيث إن المدعي ينعى على نص هذه المادة عدم بيانه للركن المادي للجريمة، ذلك أن الركن المادي هو سلوك أو نشاط خارجي، فلا جريمة بغير فعل أو ترك، ولا يجوز للمشرع الجنائي أن يعاقب على مجرد الأفكار والنوايا، باعتبار أن أوامر القانون ونواهيه لا تنتهك بالنية وحدها، وإنما بالأفعال التي تصدر عن إرادة آثمة؛ فضلاً عن أن النص جاءت صياغته واسعة يمكن تحميلها بأكثر من معنى وتتعدد تأويلاتها إذ ترك تحديد الأعمال المجهزة والمسهلة للجريمة لاجتهادات مختلفة مما يُفقده خاصية اليقين التي يجب توافرها في النصوص الجزائية.
وحيث إنه باستعراض التطور التاريخي للمادة 48 المشار إليها، يبين أن المشرع المصري أدخل جريمة الاتفاق الجنائي كجريمة قائمة بذاتها - تختلف عن الاتفاق كسبيل من سبل المساهمة الجنائية - بالمادة 47 مكررة من قانون العقوبات الأهلي، وكان ذلك بمناسبة اغتيال رئيس مجلس النظار سنة 1910 فقدمت النيابة العامة إلى قاضي الإحالة تسعة متهمين أولهم بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، والباقين بتهمة الاشتراك في القتل، غير أن القاضي اقتصر على تقديم الأول إلى محكمة الجنايات ورفض إحالة الباقين لعدم توافر أركان الجريمة قبلهم، فتقدمت الحكومة إلى مجلس شورى القوانين بمشروع بإضافة نص المادة 47 مكررة إلى قانون العقوبات الأهلي - وهو يؤثر جريمة الاتفاق الجنائي المجرد على ذات النحو الذي ورد بعد ذلك بالنص الطعين مع خلاف بسيط في الصياغة - غير أن المجلس عارض الموافقة على المشروع مستنداً إلى أن القانون المصري - كالقوانين الأخرى - لا يعاقب على شيء من الأعمال التي تتقدم الشروع في ارتكاب الجريمة، كالتفكير فيها والتصميم عليها واتفاق الفاعلين أو الفاعلين والشركاء على كيفية ارتكابها، ولا على إتيان الأعمال المجهزة أو المحضرة لها. وعرّج المجلس إلى المقارنة بين النص المقترح ونظيره في القانون المقارن موضحاً أن القانون الفرنسي يشترط للتجريم وجود جمعية من البغاة أو اتفاق بين عدة أشخاص وأن يكون غرض الجمعية أو الاتفاق تحضير أو ارتكاب جنايات على الأشخاص والأموال. وأشار المجلس إلى أنه إذا كانت هناك حاجة للاستثناء من ذلك فيجب أن يكون بقدر الضرورة التي يقتضيها حفظ النظام، وأنه لأجل أن تكون المادة 47 مكررة مقيسة بمقياس الضرورة النافعة فيجب ألا تشمل سوى الجمعيات التي يُخشى منها على ما يجب للموظفين العموميين أو السياسيين من الطمأنينة، أو بعبارة أخرى يجب أن لا يُقصد منها إلا حماية نظام الحكومة، فلا يشمل النص الأحوال الأخرى كالاتفاقات الجنائية التي تقع بين شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة تدخل في باب الجرائم العادية كجرائم السرقة أو الضرب أو التزوير أو غير ذلك من الجرائم الواقعة على الأشخاص وعلى الأموال؛ غير أن نظارة الحقانية رفضت اقتراح المجلس إذ رأته يثير صعوبات كبيرة في العمل ويفتقد الضمانات الفعالة ضد جميع الاتفاقات التي تكون غايتها تحقيق المقاصد السياسية بطريق القوة، وأضافت أن القانون الجديد لم يوضع إلا للأحوال التي تجعل الأمن العام في خطر، ولن يُعمل به أصلاً بما يجعله مهدداً للحرية الشخصية، والمأمول أن لا تدعو الأحوال إلى تطبيق هذا القانون إلا في النادر كما في البلاد التي اسُتقى منها. وصدر نص المادة 47 مكررة عقوبات أهلي معاقباً على الاتفاق الجنائي، بعد أن برر مستشار الحكومة استعمال المشرع لتعبير الاتفاق الجنائي بديلاً عن كلمة association الواردة في القانون الفرنسي - والتي جاءت أيضاً في النسخة الفرنسية لقانون العقوبات الأهلي - بأن هذا اللفظ الأخير قد يفيد قدراً من التنظيم والاستمرار.
وحيث إن أحكام القضاء في شأن جريمة الاتفاق الجنائي - كجريمة قائمة بذاتها - اتجهت في البداية إلى وجوب قيام اتفاق منظم ولو في مبدأ تكوينه وأن يكون مستمراً ولو لمدة من الزمن، واستند القضاء في ذلك إلى الاسترشاد بالفكرة التي حملت المشرع إلى تجريم الاتفاق الجنائي، غير أنه عدل بعد ذلك عن هذا الاتجاه، فقُضي بأن مجرد الاتفاق على ارتكاب جناية أو جنحة كاف بذاته لتكوين جريمة الاتفاق الجنائي بلا حاجة إلى تنظيم ولا إلى استمرار، وقد أشير في بداية هذا العدول إلى أن المادة 47 مكررة عقوبات أهلي هي في حقيقة الواقع من مشكلات القانون التي لا حل لها لأنها أتت بمبدأ يُلقي الاضطراب الشديد في بعض أصول القانون الأساسية، وأن عبارات التنظيم والاستمرار هي عبارات اضطرت المحاكم للقول بها هرباً من طغيان هذه المادة، والظاهر - من الأعمال التحضيرية للنص - أن مراد واضعيه أن يكون بيد الحكومة أداة تستعملها عند الضرورة وفي الأحوال الخطرة استعمالاً لا يكون في اتساع ميدانه وشموله محلاً للتأويل من جهة القضاء التي تطبقه، وأن الأجدر معاودة النظر في ذلك النص بما يوائم بين الحفاظ على النظام والأمن العام من جهة ويزيل اللبس والخلط بينه والمبادئ الأخرى، وإلى أن يتم ذلك فلا سبيل لتفادي إشكال هذا النص ومنع إضراره، إلا ما حرصت عليه النيابة العامة من عدم طلب تطبيقه إلا في الأحوال الخطرة على الأمن العام. وإذا كان المشرع قد عاود النظر مرتين في المادة سالفة الذكر سنتي 1933، 1937 إلا أنه ظل على فكرته الأساسية فيها التي تقوم عقاب الاتفاق البسيط على ارتكاب أية جناية أو جنحة، ولو لم تقع أية جريمة نتيجة لذلك الاتفاق.
وحيث إن نص المادة 48 من قانون العقوبات كل محل انتقاد اللجنة التي شُكَّلتْ لوضع آخر مشروع حديث متكامل لقانون العقوبات - خلال الوحدة بين مصر وسوريا تحت إشراف مستشار رئيس الجمهورية للشئون القانونية آنذاك - برئاسة الأستاذ علي بدوي وزير العدل وعميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة الأسبق وعضوية كل من رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة النقض والمستشار عادل يونس والدكتور علي راشد أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق بجامعة عين شمس.. وغيرهم، حيث ورد بالمذكرة الإيضاحية للمشروع أنه "قد أصلح من أحكام جريمة الاتفاق الجنائي التي تم وضع نصها في ظروف استثنائية والتي لم يكن لها نظير.. وأعيدت صياغة أحكامها بحيث تتفق مع اتجاهات التشريع الحديث؛ واختتُمِت تلك المذكرة بأنه قد رؤي من الأفضل أن يُلحق بالنصوص المقترحة ما يتصل بها من تعليقات وإيضاحات مبررة لها أو مفسرة لأحكامها كترجمة مباشرة لأفكار من اشتركوا في صوغ أحكامه وقت مناقشتها مما لا يتوفر عادة في المذكرات الإيضاحية... فضلاً عن ميزة تسهيل الوقوف على مقاصد النصوص التي تم التوصل إليها بإجماع الآراء.... وبذلك يكون المشروع خلاصة لأعمال لجان متعددة ومشاريع استغرق وضعها سنين طويلة الأمد، روجعت على ضوء القانون المقارن والفقه الحديث ونشاط المؤتمرات الدولية ليكون ذلك القانون مرآة لما بلغته الجمهورية من تطور مرموق في الميدان التشريعي. وفي مقام التعليق على نص المشروع في المادة 59 منه (المقابلة للمادة 48 من قانون العقوبات) أوردت اللجنة أنها "رأت بمناسبة وضع التشريع الجديد أن جريمة الاتفاق الجنائي على الوضع المقرر في التشريع المصري الحالي في المادة 48 إنما هو نظام استثنائي اقتضت إنشاءه ظروف استثنائية ويندر وجود نظير له في الشرائع الأخرى الحديثة... هذا فضلاً عما أفضى إليه تطبيقه من الاضطرابات والجدل في تفسير أحكامه، ولذلك فضلت اللجنة العدول عنه في المشروع الجديد اكتفاء بجرائم الاتفاقات الخاصة التي نص عليها القانون في حالات معينة بارزة الخطورة. يضاف إلى ذلك أن اللجنة رأت... اعتبار تعدد المجرمين.. ظرفاً مشدداً إذا وقعت الجريمة بناء على اتفاقهم السابق، فإذا بقى الاتفاق بغير نتيجة كان هناك محل لتوقيع التدابير الاحترازية التي يقررها القانون... بدلاً من توقيع العقوبات العادية... وتحديداً لمعنى الخطورة. اشترط النص أن يقع الاتفاق بين ثلاثة على الأقل حتى يتحقق الظرف المشدد أو يتوافر شرط توقيع التدابير الاحترازية. وليس المراد بالاتفاق في هذه الحالة مجرد التفاهم العرَضي وإنما هو الاتفاق المصمم عليه الذي تُدبَّر فيه الجريمة وكيفية ارتكابها، وهذا النوع من الاتفاق هو الذي يبلغ درجة من الخطورة تقتضي معالجتها تشريعياً بتشديد العقاب إذا وقعت الجريمة المدبرة، أو بتوقيع التدابير الاحترازية التي يقرها القانون. إذا لم تقع الجريمة، والمفهوم من تعبير وقوع الجريمة نتيجة للاتفاق... هو أن تقع الجريمة تامة أو مشروعاً فيها شروعاً معاقباً عليه".
وحيث إنه إذا كان الهدف من التجريم قديماً هو مجرد مجازاة الجاني عن الجريمة التي اقترفها، فقد تطور هذا الهدف في التشريع الحديث ليصبح منع الجريمة سواء كان المنع ابتداء أو ردع الغير عن ارتكاب مثلها، فالاتجاهات المعاصرة للسياسة الجنائية في مختلف الدول تتجه - كما تشير المؤتمرات المتعاقبة للأمم المتحدة بشأن منع الجريمة ومعاملة المجرمين - إلى أهمية اتخاذ التدابير المانعة لوقوع الجريمة وسن النصوص التي تكفل وقاية المجتمع منها وتجريم الاشتراك في الجمعيات الإجرامية وتنمية التعاون الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة، إلا أن شرعية النصوص التي تتخذ كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف مناطها توافقها وأحكام الدستور واتفاقها ومبادئه ومقتضاه، ومن ثم يتعين على المشروع - في هذا المقام - إجراء موازنة دقيق بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
وحيث إن الدستور ينص في المادة 41 على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس..... "كما ينص في المادة 66 على أن "العقوبة شخصية. ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون"، كما حرص في المادة 67 على تقرير افتراض البراءة، فالمتهم برئ إلى أن تثبت إدانته في محاكمة منصفة تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.
وحيث إن الدستور - بنص المادة 66 منه - قد دل على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره يتمثل أساساً في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداءً في زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علامتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، ولا يتصور بالتالي وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي ولا إقامة الدليل على توافر السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاًَ عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
وحيث إنه من القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين الجزائية، أن تكون درجة اليقين التي تنتظم أحكامها في أعلى مستوياتها، وأظهر في هذه القوانين منها في أية تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثراً، ويتعين بالتالي - ضماناً لهذه الحرية - أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها في بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابي مؤداه أن يُحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تُعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه. وهي قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطاراً لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التي يتوخاها الدستور هي أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته في إطار من الضوابط التي قيدتها بها، ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التي تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها لكي يدفعوا عن حقهم في الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكس العقوبة، بحيث لا يتم تجاوز الحدود التي اعتبرها الدستور مجالاً حيوياً لمباشرة الحقوق والحريات التي كفلها، وهو ما يخل في النهاية بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقاً لنص المادة 67 من الدستور.
وحيث إن البين من استقراء نص الفقرة الأولى من المادة 48 من قانون العقوبات أنها عَّرفت الاتفاق الجنائي بأنه اتحاد شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ولم يشترط النص عدداً أكثر من اثنين لقيام الجريمة، كما لم يتطلب أن يستمر الاتفاق لمدة معينة أو أن يكون على قدر من التنظيم، وقد يكون محل الاتفاق عدة جنايات، أو عدة جنح، أو مجموعة جرائم مختلطة من النوعين معاً، كما قد لا يرد الاتفاق إلا على جناية أو جنحة واحدة، ولم يستلزم النص أن تكون الجريمة أو الجرائم المتفق على ارتكابها على درجة من الجسامة، بل قد يكون محل الاتفاق اقتراف أي جنحة مهما كانت قليلة الأهمية في دلالتها الإجرامية، كما أنه ليس بلازم أن تتعين الجناية أو الجنحة محل الاتفاق كما لو تم الاتفاق على استعمال العنف - بأي درجة - لتحقيق غاية الاتفاق، سواء كانت هذه الغاية في ذاتها مشروعة أو غير مشروعة، ومن ثم فإن نطاق التجريم جاء واسعاً فضفاضاً لا تقتضيه ضرورة اجتماعية مبرَّرة.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء - جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً - مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثَّمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها. فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضاً أو عاتياً، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التي أثَّمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافاً؛ متى كان ذلك، وكانت الفقرة الثانية من المادة 48 من قانون العقوبات تقرر عقوبة السجن على الاتفاق الجنائي على ارتكاب جناية، وكانت عقوبة السجن هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية وتشغيله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعينها الحكومة المدة المحكوم بها عليه، ولا يجوز أن تنقص عن ثلاث سنوات ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنايات كثيرة حدد المشرع العقوبة فيها بالسجن مدة تقل عن خمس عشرة سنة؛ كما تنص ذات الفقرة على أن عقوبة الاتفاق الجنائي على ارتكاب الجنح هي الحبس أي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه وحدها الأدنى أربع وعشرون ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنح متعددة حدد المشرع العقوبة فيها بالحبس مدة تقل عن ثلاث سنوات؛ وهو ما يكشف عن عدم تناسب العقوبات الواردة في الفقرة الثانية من النص المطعون فيه مع الفعل المؤثم، ولا وجه للمحاجة في هذا المقام بأن الفقرة الرابعة من المادة 48 المشار إليها تقضي بأنه إذا كان محل الاتفاق جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرة السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة، ذلك أن محل الاتفاق - كما سبقت الإشارة - قد يكون ارتكاب جناية أو جنحة غير معينة بذاتها وعندئذ توقع العقوبات الواردة في الفقرة الثانية من المادة وحدها، وهي تصل إلى السجن خمس عشرة سنة أو الحبس ثلاث سنوات - حسب الأحوال - ولا شك أنها عقوبات مفرطة في قسوتها تكشف عن مبالغة المشرع في العقاب بما لا يتناسب والفعل المؤثم.
وحيث إنه لما كان الهدف من العقوبة الجنائية هو الزجر الخاص للمجرم جزاء لما اقترف، والردع العام للغير ليحمل من يُحتمل ارتكابهم الجريمة على الإعراض عن إتيانها، وكانت الفقرة الرابعة من المادة 48 تقرر توقيع العقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق على مجرد الاتفاق على اقترافها حتى ولو لم يتم ارتكابها فعلاً، فإنها بذلك لا تحقق ردعاً عاماً ولا خاصاً، بل إن ذلك قد يشجع المتفقين على ارتكاب الجريمة محل الاتفاق طالما أن مجرد الاتفاق على اقترافها سيؤدي إلى معاقبتهم بذات عقوبة ارتكابها.
وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل في النصوص التشريعية - في الدولة القانونية - هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثم يتعين دائماً استظهار ما إذا كان النص الطعين يلتزم إطاراً منطقياً للدائرة التي يعمل فيها، كافلاً من خلالها تناغم الأغراض التي يستهدفها، أم متهادماً مع مقاصده أو مجاوزاً لها، ومناهضاً - بالتالي - لمبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه في المادة 65 من الدستور؛ متى كان ذلك وكان المشرع الجنائي قد نظم أحكام الشروع في الباب الخامس من قانون العقوبات (المواد من45 إلى 47) وهو الذي يسبق مباشرة الباب السادس الخاص بالاتفاق الجنائي، وكان الشروع هو البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها، وكان مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو الأعمال التحضيرية لذلك لا يعتبر شروعاً، بحيث يتعدى الشروع مرحلة مجرد الاتفاق على ارتكاب الجريمة إلى البدء فعلاً في تنفيذها، وكان الشروع غير معاقب عليه في الجنح إلا بنص خاص. أما في الجنايات فإن عقوبة الشروع تقل درجة عن العقوبة المقررة لارتكاب الجناية، أو بما لا يزيد على نصف الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجريمة التامة؛ فإذا أعقب المشرع تلك الأحكام بالنص في المادة 48 على تجريم مجرد اتحاد إرادة شخصين أو أكثر على ارتكاب أي جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، وتحديد العقوبة على النحو السالف بيانه بالعقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإنه يكون منتهجاً نهجاً يتنافر مع سياسة العقاب على الشروع، ومناقضاً - بالتالي - للأسس الدستورية للتجريم.
وحيث إن الفقرة الأخيرة من المادة 48 تقرر الإعفاء من العقوبات المقررة لمن يبادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود الاتفاق الجنائي والمشتركين فيه قبل وقوع الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإن حصل الأخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل إلى ضبط الجناة، وذلك ابتغاء تشجيع المتفقين على الإبلاغ بإعفائهم من العقاب على النحو السالف البيان؛ إلا أن مؤدى النص أنه إذا ما تم الاتفاق ثم عدل المتفقون جميعاً من تلقاء أنفسهم عن المضي في الاتفاق فإن جريمة الاتفاق الجنائي تكون قد وقعت متكاملة الأركان ويحق العقاب على المتفقين، فيغدو ارتكاب الجريمة محل الاتفاق - في تقدير المتفقين - ليس أسوأ من مجرد الاتفاق عليها ولا يكون لتجنب ارتكابها والعدول عن اقترافها فائدة ما، وهو ما يعني عدم تحقيق النص المطعون عليه للمقاصد التي ابتغاها المشرع.
وحيث إن الرقابة القضائية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا في شأن دستورية النصوص العقابية، تضبطها مقاييس صارمة، ومعايير حادة تلتئم وطبيعة هذه النصوص في اتصالها المباشر بالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها، مما يفرض على المشرع الجنائي أن ينتهج الوسائل القانونية السليمة سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية، وأن تكون العقوبة التي يفرضها في شأن الجريمة تبلور مفهومها للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها، فلا يندرج تحتها مجرد رغبة الجماعة في إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها للبطش بالمتهم، كما لا يسوغ للمشرع أن يجعل من نصوصه العقابية شباكاً أو شراكاً يلقيها ليتصيد باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وكان الجزاء الجنائي لا يعد مبرَّراً إلا إذا كان واجباً لمواجهة ضرورة اجتماعية لها وزنها، ومتناسباً مع الفعل المؤثم فإن جاوز ذلك كان مفرطاً في القسوة مجافياً للعدالة، ومنفصلاً عن أهدافه المشروعة؛ متى كان ما تقدم جميعه فإن المادة 48 المشار إليها تكون قد وقعت في حمأة المخالفة الدستورية لخروجها على مقتضى المواد 41 و65 و66 و67 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون العقوبات وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق