الصفحات

الاثنين، 5 يوليو 2021

الطعن 16 لسنة 15 ق جلسة 31 / 1 / 1946 مج عمر المدنية ج 5 ق 33 ص 80

جلسة 31 من يناير سنة 1946

برياسة حضرة محمد كامل مرسى بك وكيل المحكمة وحضور حضرات: أحمد نشأت بك ومحمد المفتى الجزايرلى بك وسليمان حافظ بك ومصطفى مرعى بك المستشارين.

---------------

(33)
القضية رقم 16 سنة 15 القضائية

شفعة:
ا - عرض.

إيجاب القانون على الشفيع عرض الثمن وملحقاته. ليس المراد به العرض الحقيقي الذى لا يتطلبه القانون إلا في سبيل براءة ذمة العارض. (المادة 14 شفعة)
ب - عرض.

عرض مبلغ أقل من الثمن الوارد في العقد. لا يقدح في صحة العرض المقترن بالاستعداد لدفع الثمن الحقيقي.
حـ - إعلان. محل.

إنذار إظهار الرغبة في الشفعة. إعلانه للمشفوع منه في محل عمله. يقع صحيحاً. (المادة 6 مرافعات)
د - الشريعة الإسلامية.

مدى اعتبارها من القانون الواجب على المحاكم النظامية تطبيقه. التقيد بآراء فقهاء الشريعة في مسألة انتقال حق الشفعة بالإرث. لا يصح.
هـ - إرث.

تطبيق قانون الأحوال الشخصية على مقومات حق الإرث. الأشياء التي تكون موضوع هذا الحق. الفصل في ذلك يكون تبعاً لأحكام القانون. الاستشفاع. مال يورث لا حق متصل بشخص الشفيع.
و - إثبات.

المنكر المعفى من الإثبات. الإعسار. إمكان إثباته. الادعاء بإعسار الشفيع. على المشفوع منه إثباته. عجزه. اعتباره عاجزاً. لا مخالفة فيه لقواعد الإثبات.

--------------
1 - إن الشارع المصري قد جرى في قانون المرافعات وفى القانون المدني على وصف العرض بأنه حقيقي كلما كان مراده العرض المبرئ للذمة المقرون بالشيء المعروض. وهذا يفيد بطريق مفهوم المخالفة أن الشارع نفسه إذ تحدث عن العرض بغير وصف كان مراده عرضاً غير العرض المبرئ للذمة المقرون بالشيء المعروض. فإذا لوحظ أن قانون الشفعة إذا تحدث عن العرض في المادة الرابعة عشرة منه قد تحدث عنه غير موصوف، بل هو لم يتحدث عنه إلا كبيان من البيانات التي يجب أن يشملها إعلان إظهار الرغبة، وأنه لا تلازم بين إيراد هذا البيان ويبن أن يكون الإعلان المتضمن له مصحوباً بالمبلغ موضوع العرض، ولوحظ أن الشفيع لا يصير مديناً بالثمن وملحقاته إلا بعد أن يثبت حقه في الشفعة بالرضاء أو القضاء - إذا لوحظ كل ذلك علم أن إيجاب القانون على الشفيع أن يضمن الإعلان المظهر لرغبته في الأخذ بالشفعة عرض الثمن وملحقاته لا يمكن أن يكون مراداً به حمله على أن يعرض العرض الحقيقي الذى لا يتطلبه القانون إلا في سبيل براءة ذمة العارض (1) و (2).
2 - إذا كان المبلغ الذى عرضه الشفيع أقل من الثمن الوارد في العقد فهذا لا يقدح في صحة العرض ما دام الشفيع قد قرن عرضه هذا باستعداده لدفع الثمن الذى يثبت أمام القضاء أنه دفع فعلا.
3 - إن المحل المقصود في المادة السادسة من قانون المرافعات هو المركز المنسوب إلى الشخص الذى يفترض أنه عالم بما يجرى فيه مما هو متعلق بنفسه وأنه موجود فيه دائماً ولو غاب عنه بعض الأحيان. والمحل بهذا المعنى كما يجوز أن يكون محل سكن الشخص الذى يعيش فيه يجوز أن يكون محل عمله الذى يقوم فيه باستيفاء ما له وإيفاء ما عليه. وعلى ذلك فإنذار إظهار الرغبة في الشفعة الذى يعلن به المشفوع منه في مكتب مقاولاته يكون صحيحاً (3) و (4)
4 - إن الشريعة الإسلامية لا تعتبر من القانون الواجب على المحاكم النظامية تطبيقه إلا في خاصة العلاقات المدنية التي نشأت قبل إنشاء المحاكم الأهلية وفيما أحاله القانون عليها كالميراث والحكر وفى مسائل الأحوال الشخصية التي تعرض لها ولا تجد فيها ما يستدعى التقرير بوقف الدعوى حتى تفصل في هذه المسائل المحاكم الشرعية المختصة بصفة أصلية. أما ما أخذه الشارع من أحكام الشريعة وطبعه بطابعه وأدمجه في القوانين، كأحكام المريض مرض الموت وأحكام الشفعة وحقوق الزوجات في القانون التجاري، فإنه يكون قانوناً بذاته تطبقه المحاكم النظامية وتفسره غير متقيدة فيه بآراء أئمة الفقه الإسلامي. وعلى ذلك فكون الشريعة الإسلامية هي مصدر تشريع الشفعة لا يوجب التقيد بآراء أئمتها عند البحث في هل ينتقل حق الشفعة بالإرث أم لا ينتقل.
5 - إن كون الشيء مالاً فينتقل من الشخص إلى ورثته أو ليس مالاً فلا ينتقل هو بحث في مسألة عينية في صميم المعاملات. وإذا كانت المادة 54 من القانون المدني (5) قد أحالت في تعرف أحكام المواريث على قانون الأحوال الشخصية للمتوفى فإن المراد بهذه الإحالة هو أن تطبق أحكام القانون المحال عليه في مسائل الإرث، ككون الإنسان وارثاً أو غير وارث، وكونه يستقل بالإرث أو يشاركه فيه غيره، إلى غير ذلك مما يقوم عليه حق الإرث ذاته. أما الأشياء التي هي موضوع هذا الحق فالحكم في ثبوت ماليتها أو نفيها لا يكون إلا تبعاً لأحكام القانون الوضعي الذى هو وحده المرجع في كل ما يدخل في دائرة المعاملات والأموال.
والمال في عرف القانون هو كل شيء متقوم نافع للإنسان يصح أن يستأثر به وحده دون غيره، وكما يكون المال شيئاً مادياً كالأعيان التي تقع تحت الحواس يكون شيئاً معنوياً كالحقوق التي لا تدرك إلا بالتصور. والاستشفاع حق من هذه الحقوق توافرت فيه عناصر المالية: وهي النفع والتقوم وقابلية الاستئثار، فوجب اعتباره مالاً يورث، لا حقاً متصلاً بشخص الشفيع (6).
6 - إن المنكر المعفى من الإثبات هو من ينكر الدعوى إنكاراً مجرداً فلا يجب عليها بغير الإنكار. أما من أجاب على الدعوى يدفعها فإنه بذلك يصير مدعياً مطالباً بأن يقيم الدليل على ما يدعيه (7). وعلى ذلك يكون الدفع بإعسار الشفيع ادعاء من المشترى وهو المطالب بأن يقدم الدليل عليه.
والإعسار هو حالة قانونية تستفاد من أن أموال الشخص ليست كافية للوفاء بديونه المستحقة عليه (8). وهو بهذا المعنى لا يقوم على نفى مطلق يتعذر إثباته بل يقوم على أمر واقع له علاماته التي تشهد عليه. على أن المقرر في الإثبات أنه إذا كانت الواقعة المدعاة سلبية وكانت منضبطة النفي كان على مدعيها إثبات خلافها متى أمكنه تحويلها إلى قضية موجبة. فإذا لم يكن ذلك ممكناً أو كانت الواقعة غير منضبطة النفي فإن مدعيها يعتبر عاجزاً عن إثبات دعواه. وعلى ذلك فلا مخالفة لقواعد الإثبات إذا اعتبر الحكم المشفوع منه عاجزاً عن إثبات إعسار الشفيع لأنه لم يقدم دليلا على هذا الإعسار.


الوقائع

تتحصل وقائع هذا الطعن في أن المرحوم حسن موسى مورث المطعون ضدهم من الأول إلى الرابع أقام الدعوى رقم 937 سنة 1939 أمام محكمة مصر الابتدائية على الطاعن وحسن أحمد التاودى بك مورث المطعون ضدهم طالباً القضاء له باستحقاقه لأخذ المنزل المبين بصحيفة الدعوى بالشفعة مقابل ثمنه الحقيقي وقدره 4000 ج ورسوم التسجيل والمصروفات الحقيقية التي يثبت قيام الطاعن بدفعها، ويقضى القانون بإلزام الشفيع بها أو بالثمن الذى يثبت قضاءً أنه دفع ثمناً للمبيع مع إلزام الطاعن بالمصروفات الخ الخ. وقد دفع الطاعن بسقوط حق طالب الشفعة لعدم صحة العرض ولعدم إظهار الرغبة في الأخذ بالشفعة في الميعاد القانوني. وفى 25 من ديسمبر سنة 1939 قضت المحكمة: (أولا) برفض الدفع الأول (وثانياً) وقبل الفصل في الدفع الآخر وفى مقدار ملحقات الثمن بإحالة الدعوى إلى التحقيق لإثبات ونفى ما تدون بأسباب ذلك الحكم. وبعد مباشرة التحقيق وإحالة الدعوى إلى المرافعة دفع الطاعن ببطلان إعلان إظهار الرغبة في الأخذ بالشفعة فقضت المحكمة في 27 من أبريل سنة 1940 برفض هذا الدفع. ثم في 22 من ديسمبر سنة 1941 قضت باستحقاق المرحوم حسن موسى لأخذ المنزل المبين بصحيفة الدعوى بطريق الشفعة مقابل مبلغ 5046 ج و180 م منه 4500 ج قيمة الثمن و546 ج و180 م قيمة رسوم التسجيل وأتعاب تحرير العقد والسمسرة والتحسينات، وألزمت الطاعن الخ الخ. فاستأنف الطاعن هذا الحكم أمام محكمة استئناف مصر طالباً القضاء بإلغائه بجميع أجزائه ورفض دعوى طالب الشفعة مع إلزامه بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة عن الدرجتين. وقد وقفت الدعوى لوفاة طالب الشفعة (المرحوم حسن موسى) ثم عجلت بعد إدخال ورثته. وأضاف المستأنف إلى دفوعه الدفع بسقوط حق الشفعة لأنه حق شخصي لا ينتقل إلى الورثة بطريق الإرث. وفى 22 من أكتوبر سنة 1944 قضت محكمة الاستئناف بتأييد الحكم المستأنف وإلزام الطاعن الخ الخ.
وقد أعلن هذا الحكم إلى الطاعن في 25 من ديسمبر سنة 1944 فطعن فيه وكيله بطريق النقض في 22 من يناير سنة 1945 طالباً إلغاء الحكم المطعون فيه وما أيد من أحكام ابتدائية والحكم أصلياً بسقوط حق الشفعة ورفض الدعوى، واحتياطياً إحالة الدعوى إلى محكمة الاستئناف لتفصل فيها من جديد مع إلزام المطعون ضدهم من الأول إلى الرابع بالمصروفات الخ. وقد أودع الطاعن والمطعون ضدهم من الأول إلى الرابع مذكراتهم ومستنداتهم في الميعاد. وأودعت النيابة العامة مذكرة برأيها في 26 من ديسمبر سنة 1945.


المحكمة

وحيث إن الطعن مبناه أن الحكم المطعون فيه أخطأ في تطبيق القانون وفى تأويله: أولا - فيما قضى به من رفض الدفع بعدم صحة العرض. وكان الطاعن قد بنى هذا الدفع على أن عرض الثمن لم يكن عرضاً حقيقياً لأنه لم يكن مصحوباً بالمبلغ كما أنه لم يتناول كامل الثمن وملحقاته. ثانياً - فيما قضى به من رفض الدفع ببطلان إعلان إظهار الرغبة، وكان الطاعن قد بنى هذا الدفع على أنه لم يوجه إليه الإعلان المذكور في مسكنه، كما تقضى بذلك المواد 6 و7 و22 من قانون المرافعات، وإنما أعلن في مكتبه. وثالثاً - فيما قضى به من رفض الدفع بسقوط حق الشفعة، وكان الطاعن قد بنى هذا الدفع على أن الشفيع مات أثناء نظر الاستئناف وأن الشفعة حق شخصي لا يورث. رابعاً - فيما قضى به على خلاف قواعد الإثبات إذ لم يأخذ بدفاع الطاعن بأن الشفيع مضارب لا مال له بمقولة إنه لم يقدم ما يفيد إعسار الشفيع في حين أن دليل الإعسار سلبى، والقاعدة أن لا يكلف منكر بإثبات.
عن الوجه الأول
وحيث إن ما سيق من حجج تأييداً للرأي القائل بوجوب العرض الحقيقي في الشفعة حاصله، أن كلمة عرض ليس لها في القانون غير مدلول واحد هو العرض الحقيقي المقترن بالمبلغ المعروض، وأن الاستعداد لدفع الثمن مستفاد من طبيعة الشفعة فليس وجوده أو انقطاعه معلقاً على ما يبدى الشفيع. ومتى كان الاستعداد مستفاداً من مجرد طلب الشفعة بغير حاجة إلى التصريح به أو النص عليه في طلبها فإن اقتضاء العرض مع الطلب يكون المراد به حتماً أن العرض يجب أن يكون حقيقياً. هذا إلى أن الأخذ بالشفعة شبيه بنزع الملكية للمنافع العامة لما في كل منهما من أخذ العقار رغماً من إرادة صاحبه، ومتى كان الأمر كذلك فإن الشفيع واجب عليه ما هو واجب على نازع الملكية من إيداع الثمن إذا لم يقبله المشترى بعد عرضه، أما أن يعفى المشترى من العرض ومن الإيداع إذا رفض العرض فذلك فيه ما يعين على المضاربة والإتجار بحق الشفعة.
وحيث إن الشارع المصري قد عنى بالعرض كطريق من طرق الوفاء فعقد له فصلا في الباب العاشر من قانون المرافعات عنوانه: "في عرض الدين على الدائن وإيداعه إن لم يقبله إيداعاً رسمياً"، ونصت المادة 685 وهى أولى مواد هذا الفصل على أنه "إذا أراد المدين أداء الدين المقر به نقداً أو غيره يعرضه عرضاً حقيقياً على الدائن على يد محضر، وهو يحرر بذلك محضراً". ونصت المادة 697 على أنه يجوز عرض الدين عرضاً حقيقياً وقت المرافعة أمام المحكمة بدون إجراءات أخرى، ويسلم المعروض إلى كاتب المحكمة، وهو يودعه في الصندوق إذا لم يستلمه الدائن. ونصت باقي مواد هذا الفصل على تفصيل إجراءات هذا العرض الحقيقي المبرئ للذمة ونتائجه. وفى القانون المدني تناول الشارع العرض كسبيل من سبل الوفاء أيضاً فنص في المادة 175 على أنه "إذا كان الدين عبارة عن نقود أو منقولات فإن ذمة المدين تبرأ بعرضه الدين على الدائن عرضاً حقيقياً بالتطبيق للقواعد المبينة في قانون المرافعات". وإذا كان النص الفرنسي لهذه المادة قد خلا عن وصف العرض بأنه عرض حقيقي، فإن النصين العربي والفرنسي مع ذلك متفقان في أن العرض الذى قصد إليه فيهما هو العرض الذى يقع تطبيقاً للقواعد المبينة في قانون المرافعات، وهذه القواعد لم تتناول إلا العرض الحقيقي، وبذلك يكون النصان المذكوران متفقين في المعنى وإن اختلفا في اللفظ. والذى يؤخذ من مجموع هذه النصوص - ما ورد منها في قانون المرافعات وما ورد في القانون المدني - هو أن الشارع المصري قد جرى على وصف العرض بأنه حقيقي كلما كان مراده العرض المبرئ للذمة المقرون بالشيء المعروض، وهذا يفيد بطريق مفهوم المخالفة أن الشارع نفسه إذا تحدث عن العرض بغير وصف كان مراده عرضاً غير العرض المبرئ للذمة المقرون بالشيء المعروض.
وحيث إن قانون الشفعة إذ تحدث عن العرض في المادة الرابعة عشرة منه قد تحدث عنه غير موصوف وهو لم يتحدث عنه إلا كبيان من البيانات التي يجب أن يشملها إعلان إظهار الرغبة، ولا تلازم بين إيراد هذا البيان وبين أن يكون الإعلان المتضمن له مصحوباً بالمبلغ موضوع العرض. يضاف إلى ذلك أن الشفيع لا يصير مديناً بالثمن وملحقاته إلا بعد أن يثبت حقه في الشفعة بالرضاء أو القضاء، فإذا أوجب القانون عليه أن يضمن الإعلان المظهر لرغبته في الأخذ بالشفعة عرض الثمن وملحقاته فلا يمكن أن يكون مراد القانون حمله على أن يعرض العرض الحقيقي الذى لا يتطلبه القانون إلا في سبيل براءة ذمة العارض.
وحيث إن القول بأن الاستعداد لدفع الثمن مقدر من طبيعة طلب الشفعة فاقتضاء العرض مع الطلب يفيد حتماً أن العرض يجب أن يكون حقيقياً - هذا القول مردود بأن الأخذ بالشفعة وما يؤدى إليه من حلول الشفيع محل المشترى في الصفقة التي عقدها يقتضى أن يعرض الشفيع مقابل تلك الصفقة أى ثمنها وهو ركن من أركان البيع الذى يريد الشفيع أن يحل محل المشترى فيه.
وحيث إنه إذا صح تشبيه الشفعة بنزع الملكية لما في كل منهما من أخذ العقار على الرغم من مالكه فإن قياس حالة الشفيع على حالة نازع الملكية يبدو مع ذلك قياساً مع الفارق، لأن نشر مرسوم نزع الملكية يترتب عليه في صالح طالب نزع الملكية نفس النتائج التي تترتب على تسجيل عقد انتقال الملك فلا جرم أن يلزم نازع الملكية بالدفع أو الإيداع بعد صدور المرسوم ونشره، أما الشفيع فلا يتملك العين المشفوعة إلا إذا أقر المشترى بحقه أو حكم له القضاء به. هذا وإن كان في إعفاء الشفيع من أن يعرض عرضاً حقيقياً الثمن وملحقاته عند إظهار الرغبة ما قد يضير المشترى في بعض الصور أو قد يعين المعسرين على الإتجار أو المضاربة بحق الشفعة، فذلك كله خليق بأن يتدبره المشرع، أما القاضي فلا يسعه إلا أن يطبق القانون كما هو، وما دام القانون قد أعفى الشفيع من العرض الحقيقي فلا وجه لإلزامه به.
وحيث إنه على أساس ما تقدم يكون العرض الذى تضمنه إنذار الرغبة المعلن بناءً على طلب مورث المطعون ضدهم قد وقع صحيحاً لا عيب فيه من حيث الشكل. أما أن هذا العرض قد انصب على أربعة آلاف جنيه في حين أن الثمن كان أربعة آلاف وخمسمائة جنيه، فذلك لا يقدح في صحة العرض من حيث موضوعه ما دام الشفيع قد عرض ما اعتقد أنه الثمن الحقيقي، وما دام هو قد شفع عرضه هذا باستعداده لدفع الثمن الذى يثبت أمام القضاء أنه دفع فعلا. وعلى ذلك يكون الحكم المطعون فيه قد أصاب إذ رفض دفع الطاعن بعده صحة العرض، ويكون هذا الوجه من أوجه الطعن واجب الرفض.
عن الوجه الثاني
وحيث إن المحل المقصود في المادة السادسة من قانون المرافعات هو المركز المنسوب للشخص الذى يفترض أنه عالم بما يجرى فيه مما يتعلق بنفسه وأنه موجود فيه دائماً ولو غاب عنه بعض الأحيان. والمحل بهذا المعنى كما يجوز أن يكون محل سكن الشخص الذى يعيش فيه يجوز أن يكون محل عمله الذى يقوم فيه باستيفاء ماله وإيفاء ما عليه، وإذا كانت المادة السابعة من قانون المرافعات قد تحدثت عن خادم المعلن إليه أو أقاربه الساكنين معه فإن هذا معناه أن أحكام المادة المذكورة واجبة التطبيق حيث يكون الإعلان قد وجه إلى مسكن المراد إعلانه، وهو لا يعنى بحال أن الشارع لم يرد بالمحل إلا المسكن. إذ لو كان ذلك مراد الشارع لكان سهلا أن ينص على وجوب الإعلان في المسكن بدلا من أن ينص على وجوبه في المحل، مع الفارق الواضح في مدلول اللفظين؛ وعلى ذلك يكون إنذار إظهار الرغبة الذى أعلن بناءً على طلب مورث المطعون ضدهم في مكتب مقاولات الطاعن قد وقع صحيحاً ويكون هذا الوجه مرفوضاً أيضاً.
عن الوجه الثالث
وحيث إن الطاعن يقول في بيان هذا الوجه إن قانون الشفعة إذ خلا عن النص على ما إذا كان خيار الشفعة ينتقل إلى ورثة الشفيع أو لا ينتقل فقد وجب الرجوع إلى الشريعة الإسلامية على اعتبار أنها مصدر تشريع الشفعة، وعلى اعتبار أن المادة 54 من القانون المدني توجب تطبيق قانون الأحوال الشخصية للمتوفى في مسائل المواريث، ومتى وجب الرجوع إلى الشريعة الإسلامية على هذين الأساسين فلا يرجع إليها على إطلاقها بل يرجع إليها لتعرف الرأي الراجح في مذهب الإمام أبى حنيفة والأخذ به وحده عملا بنص المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية. والراجح في هذا المذهب أن خيار الشفعة لا ينتقل بالإرث لأنه ليس مالاً ولا حقاً متعلقاً بمال بل هو مجرد إرادة ومشيئة للشفيع. والوارث لا يرث مورثه في إرادته ومشيئاته.
وحيث إن الشريعة الإسلامية لا تعتبر من القانون الواجب على المحاكم النظامية تطبيقه إلا في خاصة العلاقات المدنية التي نشأت قبل إنشاء المحاكم الأهلية وفيما أحاله القانون إليها كالميراث والحكر وفى مسائل الأحوال الشخصية التي تعرض لها ولا تجد فيها ما يستدعى التقرير بوقف الدعوى حتى تفصل في هذه المسائل المحاكم الشرعية المختصة بنظرها بصفة أصلية. أما ما أخذه الشارع من أحكام الشريعة وطبعه بطابعه وأدمجه في القوانين كأحكام المريض مرض الموت وأحكام الشفعة وحقوق الزوجات في القانون التجاري فإنه يكون قانوناً بذاته تطبقه المحاكم النظامية وتفسره غير متقيدة فيه بآراء أئمة الفقه الإسلامي. وعلى ذلك فكون الشريعة الإسلامية هي مصدر تشريع الشفعة لا يوجب التقيد بآراء أئمتها عند البحث في هل ينتقل حق الشفعة بالإرث أو لا ينتقل.
وحيث إن كون الشيء مالاً فينتقل من الشخص إلى ورثته أو ليس مالاً فلا ينتقل هو بحث في مسألة عينية من صميم المعاملات. وإذا كانت المادة 54 من القانون المدني قد أحالت في تعرف أحكام المواريث إلى قانون الأحوال الشخصية للمتوفى فإن المراد بهذه الإحالة أن تطبق أحكام القانون المحال إليه على مسائل الإرث ككون الإنسان وارثاً أو غير وارث وكونه يستقل بالإرث أو يشاركه فيه غيره إلى غير ذلك مما يقوم عليه حق الإرث في ذاته. أما الأشياء التي يصح أن تكون موضوع هذا الحق فالحكم في ثبوت ماليتها أو نفيها لا يكون إلا تبعاً لأحكام القانون الوضعي الذى هو وحده المرجع في كل ما يدخل في دائرة المعاملات والأموال.
وحيث إن المال في اصطلاح القانون هو كل شيء متقوم نافع للإنسان يصح أن يستأثر به وحده دون غيره. وكما يكون المال شيئاً مادياً كالأعيان التي تقع تحت الحواس كذلك يكون شيئاً معنوياً كالحقوق التي لا تدرك إلا بالتصور. والاستشفاع حق من هذه الحقوق توافرت فيه عناصر المالية: النفع والتقوم وقابلية الاستئثار فوجب اعتباره مالاً. أما الزعم بأن هذا الحق ليس بمال قولاً بأنه مجرد خيار مردود إلى مشيئة الشفيع ورغبته وأنه متصل بشخصه ولا تعلق له بالعين المشفوعة فهو زعم لا يستقيم في ظل أحكام القانون الوضعي الذى جعل إعلان الشفيع رغبته في الأخذ بالشفعة وتسجيل هذا الإعلان حجة على الغير، وجعل أن كل رهن من المشترى وكل حق اختصاص حصل عليه دائنوه وكل حق عيني قبله المشترى أو اكتسبه الغير ضده بعد تاريخ التسجيل المذكور لا يسرى على الشفيع، مما لا يمكن معه القول بأن حق الشفعة حق متصل بشخص الشفيع ولا تعلق له بالمال.
عن الوجه الرابع
وحيث إن حاصل الوجه الرابع من أوجه الطعن أن الحكم المطعون فيه خالق القانون إذ قضى برفض ما دفع به الطاعن الدعوى من أن الشفيع معسر غير أهل للشفعة مؤسساً هذا الرفض على أن الطاعن لم يثبت الإعسار الذى ادعاه في حين أن ادعاء الإعسار ليس إلا إنكاراً للثراء، والقاعدة أن المنكر لا يكلف بإثبات.
وحيث إن المنكر المعفى من الإثبات هو من ينكر الدعوى إنكاراً مجرداً فلا يجيب عليها بغير الإنكار. أما من أجاب على الدعوى بدفعها فإنه بذلك يصير مدعياً مطالباً بأن يقيم الدليل على ما يدعيه. وعلى ذلك يكون الدفع بإعسار الشفيع ادعاء من المشترى وهو المطالب بأن يقدم الدليل عليه.
وحيث إن الإعسار هو حالة قانونية تستفاد من أن أموال الشخص ليست كافية للوفاء بديونه المستحقة عليه. وهو بهذا المعنى لا يقوم على نفى مطلق يتعذر إثباته بل يقوم على أمر واقع له علاماته التي تشهد عليه. على أن المقرر في الإثبات أنه إذا كانت الواقعة المدعاة سلبية وكانت منضبطة النفي كان على مدعيها إثبات عكسها متى أمكن تحويلها إلى قضية موجبة، فإن لم يكن ذلك ممكناً أو كانت الواقعة المدعاة غير منضبطة النفي فإن مدعيها يعتبر عاجزاً عن إثبات دعواه. وعلى ذلك لا مخالفة لقواعد الإثبات فيما أخذه الحكم المطعون فيه على الطاعن إذ اعتبره عاجزاً عن إثبات إعسار الشفيع ما دام الطاعن لم يقدم دليلاً على هذا الإعسار، ولهذا يكون هذا الوجه من أوجه الطعن مرفوضاً أيضاً.


 (1)في كتاب الشفعة لمحمد كامل مرسى باشا (طبعة ثالثة) رقم 281 و283 و284 أن هذا الرأي كان يقول به القضاء في كثير من أحكامه حتى أخذت به الدوائر المجتمعة بمحكمة استئناف مصر في 29 مارس سنة 1923 ثم استقرت عليه الأحكام.
 (2)خالف القانون المدني الجديد هذه القاعدة فلم يوجب عرض الثمن في إعلان الرغبة بالأخذ بالشفعة، ولكنه أوجب إيداع كل الثمن الحقيقي خزانة المحكمة في خلال ثلاثين يوما من تاريخ إعلان الرغبة، على أن يكون هذا الإيداع قبل رفع الدعوى بالشفعة، وإلا سقط حق الأخذ منها (قارن بين المادتين 940 و942).
 (3)لا يصح طبعاً إطلاق القول بأن كل مكتب للمقاولات يكون محلا لصاحبه دون مسكنه، بل يجب أن يثبت للمحكمة أن مكتب المعلن إليه قد استوفى الأوصاف المشترط توافرها في المحل المعتبر قانوناً للإنسان، وهذا ما لا بد أن كان ثابتاً في هذه القضية وإن لم يصرح به الحكم.
 (4)القانون المدني الجديد استعمل كلمة "الموطن" للتعبير بها عن المحل، وعرفه بأنه "هو المكان الذى يقيم فيه الشخص عادة" (المادة 40). ثم نص في المادة 41 على أن "يعتبر المكان الذى يباشر فيه الشخص تجارة أو حرفة موطناً بالنسبة إلى إدارة الأعمال المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة".
وقد اقتضى التنسيق بين القانون المدني ومشروع قانون المرافعات أن حذف من هذا المشروع تعريف المحل، اكتفاءً بنصوص القانون المدني، كما اقتضى تسمية المحل موطناً.
 (5)تقابلها في القانون الجديد المادة 875 وهى تنص على أن "تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم تسرى في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأنها".
(6) سبق أن قررت محكمة النقض هذه القاعدة والقاعدة السابقة عليها (رقم 4) في حكمها الصادر في 8 يونيه سنة 1939 المنشور في الجزء الثاني من هذه المجموعة تحت رقم 189 بصفحة 575 وما يليها.
 (7)ظاهر أن المدعى عليه مقدم الدفع لا يعتبر مدعياً إلا في خصوص أنه يحمل عبء إثبات ما يزعمه بدفعه. أما في غير هذا الصدد فالدفع ودعوى المدعى عليه أمران متميزان واختلافهما مشهور.
 (8)هكذا قالت المادة 249 من القانون الجديد في معنى الإعسار، إذ نصت على أنه "يجوز أن يشهر إعسار المدين إذا كانت أمواله لا تكفى لوفاء ديونه مستحقة الأداء".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق