الصفحات

الاثنين، 28 سبتمبر 2020

الطعن 26437 لسنة 53 ق جلسة 16 / 5 / 2009 إدارية عليا مكتب فني 54 ق 65 ص 518

جلسة 16 من مايو سنة 2009

السيد الأستاذ المستشار/ السيد محمد السيد الطحان نائب رئيس مجلس الدولة رئيسًا

السيد الأستاذ المستشار/ محمود إسماعيل رسلان نائب رئيس مجلس الدولة
السيد الأستاذ المستشار/ يحيى خضري نوبي محمد نائب رئيس مجلس الدولة
السيد الأستاذ المستشار/ بلال أحمد محمد نصار نائب رئيس مجلس الدولة
السيد الأستاذ المستشار/ أحمد محمد حامد محمد نائب رئيس مجلس الدولة
السيد الأستاذ المستشار/ محمد هشام أحمد الكشكي نائب رئيس مجلس الدولة
السيد الأستاذ المستشار/ سراج الدين عبد الحافظ عثمان نائب رئيس مجلس الدولة

-------------

(65)
(الدائرة الخامسة)

الطعن رقم 26437 لسنة 53 القضائية عليا

جامعات - جامعة الأزهر - أعضاء هيئة التدريس - تأديب - مخالفة تأديبية – مناط تجريم إبداء الرأي في مسألة خلافية.
- المادتان رقما 1 و15 من القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر.
- المادة رقم 77 من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978.
- المواد أرقام 17 و174 و175 و177 و180 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 103 لسنة 1961 المشار إليه، الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975.
حرصا من المشرع على أن تكون عملية تنقية التراث الإسلامي واستنباط الآراء والقضايا والفتاوى منه نتاجًا للفهم الصحيح قصر هذه العملية على علماء ومفكرين متخصصين في هذا التراث، وذلك عن طريقين: الأول: يمثله مجمع البحوث الإسلامية، والآخر يمثله أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر - قضاء هذه المحكمة جرى على أن إبداء الرأي أو الأخذ به في مسألة خلافية تمثل أكثر من وجهة نظر لا يعد مخالفة تأديبية تستوجب توقيع الجزاء عنها، ما دام هذا الرأي صادرًا على قدر اجتهاد من أبداه وما حصله من علم وخبرة، وإنما يسأل إذا كان سيء النية، أو كان صادرًا بدافع الهوى والغرض، أو إذا صدر عن جهل بيَّن بالمبادئ المستقرة أو الأصول العلمية المسلم بها - اتصال العالم بوسائل الإعلام وإعلان فتواه في مسألة خلافية دون الحصول على ترخيص كتابي من السلطة المختصة يشكل في حقه ذنبًا إداريًا يستوجب مساءلته تأديبيًا، يؤخذ في تقديم جسامته أنه أستاذ جامعي متخصص يدرك أن اجتهاده في هذه المسألة يكون مقصورًا على نشاطه العلمي في مؤلفاته وأبحاثه العلمية والتي تكون محلاً لمناظرات علمية بينه وبين أمثاله من العلماء المتخصصين، ويعلم بحكم تخصصه أنها مسألة خلافية تعددت فيها آراء العلماء، فلا يجوز أن ينفرد بالإفتاء فيها فقيه واحد، فيكون الاجتهاد الجماعي هو السبيل الوحيد للإفتاء فيها للعامة لترجيح واختيار الفتوى الأصوب والأرجح، ويدرك أيضًا أن ليس كل ما يعلم بين العلماء المتخصصين يقال للعامة، وإلا أحدثوا فتنة وإثارة للبلبلة وعدم استقرار المجتمع الديني - تطبيق.


الإجراءات

في يوم الأحد 3/ 9/ 2007 أودع الأستاذ الدكتور/ .... المحامي بصفته وكيلاً عن الطاعن قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقريرًا بالطعن قيد بجدولها العمومي تحت رقم 26437 لسنة 53 ق. عليا طعنًا على القرار الصادر عن مجلس تأديب أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر في الدعوى التأديبية رقم 14 لسنة 2007 بجلسة 8/ 9/ 2007 القاضي منطوقه بمعاقبة الدكتور/ .... بعقوبة العزل من الوظيفة مع الاحتفاظ بالمعاش أو المكافأة.
وطلب الطاعن - للأسباب الواردة بتقرير الطعن - الحكم بقبول الطعن شكلاً وبوقف تنفيذ وإلغاء قرار مجلس التأديب المطعون فيه وكافة ما ترتب عليه من آثار وأخصها إعادة الطاعن وظيفيًا وإداريًا إلى حالته ووضعه الوظيفي السابق على صدور هذا القرار، مع تنفيذ الحكم بمسودته ودون إعلان تطبيقًا لنص المادة 286 من قانون المرافعات المدنية والتجارية وتحميل جهة الإدارة بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.
وجرى إعلان تقرير الطعن إلى المطعون ضده على النحو الثابت بالأوراق.
وقدمت هيئة مفوضي الدولة تقريرًا مسببًا بالرأي القانوني في الطعن ارتأت فيه الحكم بقبول الطعن شكلاً ورفضه موضوعًا.
وحدد لنظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون بهذه المحكمة جلسة 22/ 12/ 2008 وتدوول بالجلسات على النحو الثابت بمحاضرها، وبجلسة 26/ 1/ 2009 قررت تلك الدائرة إحالة الطعن إلى المحكمة الإدارية العليا - الدائرة الخامسة - موضوع - وحددت لنظره أمامها جلسة 21/ 3/ 2009، مع التصريح بتقديم مذكرات لمن يشاء خلال أسبوعين ومضي الأجل المصرح به دون إيداع أية مذكرات.
وبجلسة اليوم صدر هذا الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه لدى النطق به.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة قانونًا.
من حيث إن الطعن استوفى أوضاعه الشكلية المقررة قانونًا.
ومن حيث إن عناصر النزاع - توجز حسبما يبين من القرار المطعون فيه وسائر الأوراق الأخرى - في أنه بتاريخ 31/ 5/ 2007م أصدر رئيس جامعة الأزهر قرارًا بإحالة المذكور إلى مجلس تأديب أعضاء هيئة التدريس وذلك لارتكابه المخالفات الآتية:
1 - أن الفتوى التي صرح بها تتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف.
2 - إثارة البلبلة ومصادمة الفطرة.
3 - زعزعة استقرار المجتمع الديني.
4 - تسلل الفوضى إلى أجزاء المؤسسة الدينية بالأزهر.
5 - مخالفة مبادئ التربية الأخلاقية.
6 - الإساءة إلى الأزهر كمؤسسة عالمية تحظى بالثقة من المجتمع والعالم بأسره.
7 - الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام المرئية والمقروءة بالمخالفة للقانون رقم 47 لسنة 1978 بشأن نظام العاملين المدنيين بالدولة والقوانين واللوائح.
وبجلسة 8/ 9/ 2007 أصدر مجلس التأديب قراره المطعون فيه بمجازاة الطاعن بعقوبة العزل مع الاحتفاظ بالمعاش أو المكافأة.
وشيد المجلس قضاءه على أنه قام بمواجهة المحال بالمخالفات المنسوبة إليه في هذا الشأن فقد أفاد بما لا يخرج عما تضمنته أقواله في التحقيق حول مسألة (جواز إرضاع الكبير) بما ذكر أن رأيه في هذا الموضوع، يستند إلى أدلة وحجج شرعية وأنه دون الدخول في مناقشة السند الشرعي لهذا الرأي، فإن القدر المتيقن والذي ثبت بعقيدة مجلس التأديب أن ما أبداه الدكتور المحال حول المسألة المذكورة بوسائل الإعلام أدى إلى إثارة البلبلة وسط المجتمع الإسلامي سواء داخل مصر أو خراجها، وأصبح مادة خصبة للنكت الجنسية الصريحة بما يمس مشاعر الناس وحرماتهم، فكان يتعين على الدكتور المحال وهو يشغل وظيفة أستاذ بجامعة الأزهر أن يكون لديه من الكياسة والفطنة والالتزام بالواجب الديني عند حديثه بوسائل الإعلام، فيخاطب الناس على قدر علمهم ومعرفتهم بأمور الدين، وأنه ليس كل ما يعلم يقال، وأن العالم إذا حدث الناس بما لا تستوعبه عقولهم أحدث فتنة لهم، أمَا وأن الدكتور المحال بحديثه حول المسألة المشار إليها بوسائل الإعلام لم يراعِ أنه أستاذ ينتمي إلى جامعة الأزهر العريقة ذات الجذور الثابتة في نشر الإسلام والحفاظ على مبادئ وقيم الإسلام، فكان يتعين عليه أن يراعي ذلك في حديثه بوسائل الإعلام، ولا سيما أنه ليس هناك مصلحة تعود بالنفع على المجتمع من إدلائه بهذه الحديث، وبالتالي فإن ما نسب إليه من مخالفة بإثارة البلبلة داخل المجتمع المصري والإسلامي يعد خروجًا على تقاليد وأعراف الجامعة التي ينتمي إليها ويمثل عملاً لا يلائم صفته كعالم مسلم. ويسئ للإسلام والمسلمين مما يتوافر في حقه مناط تطبيق الفقرة الأخيرة من المادة 72 من القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها.
وإذ لم يلق هذا القرار قبولاً لدى الطاعن فقد أقام الطعن الماثل ناعيًا على القرار المطعون فيه مخالفته لمبدأ المشروعية التأديبية والنتائج المترتبة عليه، فضلاً عن مبدأ كفالة ضمانات حقوق الدفاع وذلك للأسباب المبينة تفصيلاً بتقرير الطعن.
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة جرى على أن الطعن أمامها يفتح الباب لتزن الحكم المطعون فيه بميزان القانون غير مقيدة بطلبات الطاعن أو الأسباب التي يبديها.
ومن حيث إنه عن موضوع النزاع فإن المادة الأٍولى من القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها تنص على أن: " الأزهر هو الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتحليته ونشره .... "
كما تنص المادة 8 من ذات القانون على أن: " الأزهر الهيئات الآتية: 1 - المجلس الأعلى للأزهر. 2 - مجمع البحوث الإسلامية.
3 - إدارة الثقافة والبحوث الإسلامية. 4 - جامعة الأزهر. 5 - المعاهد الأزهرية ".
وتنص المادة 15 من القانون المذكور وتعديلاته على أن: "مجمع البحوث الإسلامية هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية، وتعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي وتجليتها في جوهرها الأصيل الخالص وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفي كل بيئة، وبيان الرأي فيما يجدُّ من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة، وحمل تبعة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ...... وتحدد اللائحة التنفيذية لهذا القانون واجبات مجمع البحوث الإسلامية بالتفصيل الذي يساعد على تحقيق الغرض من إنشائه ".
وتنص المادة 17 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 103 لسنة 1961 سالفة الذكر الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 تنص على أن: " يباشر مجمع البحوث الإسلامية نشاطه لتحقيق الأهداف المنصوص عليها في القانون وعلى الأخص ما يأتي: 1 - ..... 2 - ...... العمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وتحليتها في جوهرها الأصيل الخالص. 3 - ....... 4 - تحقيق التراث الإسلامي ونشره. 5 - ....... 6 - ........ 7 - ........ تتبع ما ينشر عن الإسلام والتراث الإسلامي من بحوث ودراسات في الداخل أو الخارج للانتفاع بما فيها من رأي صحيح أو مواجهتها بالتصحيح والرد ".
كما أفرد المشرع الفصل الثاني من الباب الخامس من اللائحة المذكورة (جامعة الأزهر) في شئون أعضاء هيئة التدريس والقائمين به في الجامعة، حيث أورد في البند (رابعًا) منه (واجبات هيئة التدريس) في المواد من 174 حتى 181، حيث نصت المادة 174 على أنه: " على أعضاء هيئة التدريس أن يتفرغوا للقيام بالدروس والمحاضرات والتمرينات العملية، وأن يسهموا في حفظ التراث الإسلامي والعربي ودراسته وتجليته ونشره، وبصفة عامة العمل على تقدم العلوم والآداب والفنون بإجراء البحوث والدراسات المبتكرة ... ".
وتنص المادة 175 من اللائحة المذكورة على أن: " الأساتذة أو من يقوم بأعمالهم مسئولون عن سير الدروس والمحاضرات ... وعليهم أن يعملوا على النهوض بمستوى البرامج الدراسية والبحوث العلمية في مجال تخصصهم .... ".
وتنص المادة 177 منها على أنه: " على كل عضو من أعضاء هيئة التدريس أن يقدم تقريرًا سنويًا عن نشاطه العلمي والثقافي والبحوث التي أجراها ونشرها والبحوث الجارية إلى رئيس مجلس القسم المختص ........ ".
وتنص المادة 180 منها على أنه: " لا يجوز لأعضاء هيئة التدريس القيام بعمل من أعمال الخبرة أو إعطاء استشارة في موضوع معين إلا بترخيص من رئيس الجامعة بناء على طلب عميد الكلية المختص ".
ومن حيث إنه من المقرر أن أحكام قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 تسري على أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر المخاطبين بأحكام القانون رقم 103 لسنة 1961 المشار إليه فيما لم ينظمه هذا القانون بحسبانها تمثل الشريعة العامة للتوظف، ما دامت هذه الأحكام لا تتأبى مع أحكام القانون الخاص المذكور ولا تتصادم مع نصوصه ولا تتعارض مع طبيعة الوظائف التي ينظمها، ومن بين تلك الأحكام ما نصت عليه المادة 77 من القانون رقم 47 لسنة 1978 - سالف الذكر - على أنه: " يحظر على العامل: 1 - ............. 7 - أن يفضي بأي تصريح أو بيان عن أعمال وظيفته عن طريق الصحف أو غير ذلك من طرق النشر إلا إذا كان مصرحًا له بذلك كتابة من الرئيس المختص ".
ومن حيث إنه - في ضوء النصوص المتقدمة - أن المشرع لاعتبارات قدرها من ضرورة العمل على حفظ التراث الإسلامية وتوسيع نطاق العلم به عن طريق دراسته وتجليته ونشره بعد تجريده من الشوائب والأخطاء التي شابته، وذلك حتى لا تكون مخطوطات حبيسة الأدراج، كما أنه يشكل أعظم تراث إنساني بحسبانه الموروث الديني الذي بنيت عليه الحضارة الإسلامية، فضلاً عن الإفادة منه في استنباط الأحكام الشرعية باعتباره المصدر التاريخي لها في مسيرة تنقيته تنقية حقيقية، بعد أن ترك علماء التراث الإسلامي ذلك الموروث الثمين الذي يشكل نتاجهم الفكري في مجالات العلوم المختلفة والآداب والفكر والفقه والفتاوى والرؤى للمسائل المختلفة وكذلك وصفهم لواقعهم التاريخي.
وحيث إنه حرصًا من المشرع على أن تكون عملية تنقية هذا التراث واستنباط الآراء والقضايا والفتاوى منه نتاجًا للفهم الصحيح، فلم يطلق العنان لكل باحث في التراث في فهم ما يوافق هواه، كما سد الباب في وجه غير المتخصصين الذين لا يحسنون قراءاته، وإنما قصر هذه العملية على علماء ومفكرين متخصصين في هذا التراث أسند إليهم مهمة تحقيق ذلك التراث باتباع المنهج العلمي في التنقيب والبحث والاختيار لما يتم نشره وفي صورة علمية محققة للإفادة منه استمرارًا لتواصل مسيرة العلم وعطاء العلماء، ودون أن يوقف الأمر على المحاكاة، وذلك عن طريقين: الأول - يمثله مجمع البحوث الإسلامية من خلال لجانه التخصصية، حيث أناط به مهمة تحقيق التراث الإسلامي ونشره بالكشف عن كنوزه من تراث السلف، فضلاً عن تتبع كل ما ينشر عن هذا التراث من بحوث ودراسات، سواء في الداخل أو الخارج، والتنويه إلى الصحيح فيها للانتفاع به للاستفادة من تجارب السابقين وخبراتهم، أو التصدي للدراسات الزائفة والرد على الافتراءات والشبهات والأباطيل وتوضيح الحقائق، والطريق الآخر - يمثله أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر حيث أوجب المشرع أن يشتمل نشاطهم العلمي والثقافي والبحثي على تحقيق التراث الإسلامي والعربي ودراسته وتجليته ونشره.
ومن حيث إنه من جهة أخرى فإنه من المسلمات أن الإسلام كفل حرية التعبير وحرية العقيدة، كما حمى الحقوق والحريات العامة الأساسية لكل إنسان دون تحيز، ووضع ضوابط تشكل الإطار القانوني لحدود ممارسة هذه الحريات، حيث تقف عند وجوب احترام حقوق وحريات الغير دون انتهاك أو تعدٍ نزولا ًعلى مقتضى القاعدة الشرعية القاضية بأنه لا ضرر ولا ضرار.
ومن حيث إن طبيعة الشريعة الإسلامية تقتضي أن يظل باب الاجتهاد فيها مفتوحًا لا يوصد بحسبان أنها الشريعة الخاتمة لجميع البشر وبمراعاة أنها صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وفي أي مجتمع؛ لكونها المنظمة لعلاقات الناس ومعاملاتهم في شتى مناحي الحياة وعلاقتهم جميعًا بالخالق سبحانه وتعالى، لذلك فكان لزامًا أن تحمل خاصية بيان الأحكام الشرعية لكافة مستجدات الحياة في جميع جوانبها، وهكذا تظل حاجة أتباعها إلى الاجتهاد قائمة باستمرار.
ومن حيث إن المشرع لم يضع تعريفًا للمجتهد، كما أن هناك فراغًا تشريعيًا بشأن إيجاد تنظيم متكامل لعملية الإفتاء في المجتمع، فظل الإفتاء ليس حكرًا على أحد، فكل مسلم بلغ في علوم الشريعة الإسلامية مبلغ التخصص وتوافرت في حقه أهلية الاجتهاد من حقه الفتوى، إلا أن علماء الأمة قديمًا وحديثًا تواترت آراؤهم على وجوب توافر مواصفات محددة في المجتهد الذي يجوز له أن يفتي للناس في أمور دينهم ودنياهم، ونهي غير المتخصصين الذين لا تتوافر في شأنهم أهلية الاجتهاد أو ممن ينقصهم إتقان التخصص عن التجرؤ على الاجتهاد والإفتاء بدون علم، لما يترتب على ذلك من مآسٍ دينية ودنيوية أو الإساءة إلى الإسلام وتشويه صورة المسلمين بين مختلف الشعوب، وتأسيًا بمسلك كبار الفقهاء الأوائل الذين أسسوا مدارس فقهية لها مناهجها العلمية فكانوا يتحرجون من الفتوى على عكس الأمر الآن من تجرؤ غير المتخصصين على الإفتاء الذين يجب عليهم الابتعاد عن دائرة الاجتهاد حتى لا يصعب الأمر على المتلقي في اختيار من يتلقى منه الفتاوى، كما نادوا بأن يقتصر الإفتاء على العلماء الثقات الذين يجيدون الغوص في بحر الاجتهاد المتلاطم الأمواج القادرين على استنباط الحكم الشعري المؤسس على فقه سليم، وبُحت أصواتهم عن مدى حاجة المسلمين في كل مكان إلى الإفتاء السليم الذي يربط بين العقيدة الصحيحة ومستجدات العصر في ظل الثورة العلمية والتكنولوجية وما أفرزته من قضايا مستجدة، وأنه إزاء تقدم العلوم وتنوع التخصصات فإن المسألة التي تتعدد فيها وجهات النظر وتختلف الرؤى تكون بحاجة إلى نظر جماعي، أي الاجتهاد الجماعي لا الاجتهاد الفردي تأسيسًا على أن المسألة الواحدة التي تنازعتها فتويان فإن الأمر يقتضي ترجيح واختيار الفتوى الأصوب والأرجح، وكل هذه الأقوال صارت من باب العلم العام.
ومن حيث إنه من الجدير بالذكر أن الاختلاف بين الناس سنة من سنن الله في الكون التي لا تتبدل، الأمر الذي نتج عنه اختلاف المجتهدين في الفروع التي تعتبر محلاً للاجتهاد ويقتصر نطاقه عليها، وهذا الاختلاف شرعًا يعتبر سنة محمودة ما دام كان لكل مجتهد دليله وحقائقه المستمدة من أصل شرعي يستند إليه، بغية الوصول إلى الحق وطاعة الله، وسانده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الخاص بأجر الاجتهاد القاضي بأنه إذا أصاب المجتهد فله أجران: أجر اجتهاده وأجر إصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده.
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة جرى على إن إبداء الرأي أو الأخذ به في مسألة خلافية تمثل أكثر من وجهة نظر لا يعد مخالفة تأديبية تستوجب توقيع الجزاء عنها، ما دام كان هذا الرأي صادرًا على قدر اجتهاده وما حصله من علم وخبرة، ولكن يسأل إذا كان سيء النية أو كان صادرًا بدافع الهوى والغرض أو إذا صدر عن جهل بيّن بالمبادئ المستقرة أو الأصول العلمية المسلم بها.
ومن حيث إن المشرع حرصًا منه على فرض حالة من الأمان على الأسرار والمعلومات الخاصة بجامعة الأزهر حظر على أعضاء هيئة التدريس القيام بأي عمل من أعمال الخبرة أو إعطاء استشارة في موضوع معين، أو أن يفضي بأي تصريحات خاصة بأعمال وظيفته عن طريق جميع وسائل النشر المسموعة والمقروءة والمرئية، وذلك كله دون الحصول على إذن كتابي من الرئيس المختص، وإذا خالف هذا الحظر فقد اقترف ذنبًا إداريًا يستوجب مساءلته تأديبيًا.
ومن حيث إنه - على هدي ما تقدم - فإنه لما كان الثابت من مطالعة الأوراق أن الطاعن اجتهد في مسألة منقولة عن التراث الإسلامي، وهي مسألة إرضاع الكبير، حيث رأي على قدر فهمه لهذه المسألة برخصة الخلوة بين رجل وامرأة ليس بينهما قرابة نسب أو رضاع في الصغر إذا تم الرضاع في الكبر بينهما على وفق أحكام الرضاع في الصغر من حيث الثبوت ودعت الضرورة إلى هذه الخلوة - دينية أو دنيوية -، واستند في رأيه إلى أدلة من السنة:
1 - حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة من امرأة أبي حذيفة وهو رجل كبير له لحية بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه ", وإقراره هذا الرضاع، وهو في صحيح البخاري وغيره.
2 - حديث عروة أن عائشة رضي الله عنها أخذت بذلك فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال، ويؤوي عن علي وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وأبي محمد بن حزم وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وإذ ثبت أن الطاعن صرح بفتواه في مسألة إرضاع الكبير كرخصة لحل الخلوة وذلك بوسائل الإعلام، فقوبلت بنقد من العلماء المتخصصين وبهجوم شديد من إعلاميين وكتاب غير متخصصين لا وجه لسرده، وإزاء ذلك رجع الطاعن عن اجتهاده سالف الذكر لمنع اللغط ومواجهة الصدمة التي أثارها الرأي الأول فرأي أن إرضاع الكبير كان رخصة لسالم مولي أبي حذيفة دون سواه, والآن لا يوجد في الشرع رضاع للكبير، واستند في هذا الرأي إلى أدلة منها أن الرضاع يكون في الحولين لرضاع الصغير دون سواه، وأن أمهات المؤمنين لم يُدخلن أحدًا بهذا الرضاع، وكل ذلك على النحو الثابت تفصيلاً بأوراق الطعن.
وإذ ثبت أن لجنة السنة النبوية بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والمكونة بعضوية كل من: أ. د/ أحمد عمر هاشم وأ. د/ مصطفى محمد أبو عمارة والشيخ/ فكري حسن إسماعيل والشيخ/ محمد عبد السميع شبانة قررت بمحضر اجتماع الجلسة الثامنة - دورة 2006/ 2007، في يوم الاثنين الموافق 4/ 5/ 2007 بعد مناقشتها موضوع إرضاع الكبير المتداول في الإعلام والصحافة أنه تبين لها أن القضية ذات شقين: الشق الأول - متعلق بثبوت النص، والثاني - متعلق بفهم النص، ولما كان النص ثابتًا ثبوتًا صحيحًا حيث أخرجه الإمام مسلم، وذكر الإمام البخاري جزءًا منه، وقد أجمع أهل العلم على شتى تخصصاتهم على ثبوت النص، لم يثبت عن واحد من أولي العلم الطعن فيه سندًا أو متنًا، ومادام الأمر كذلك (ثبوت النص) فإنه لا بد من فهمه فهمًا صحيحًا، ولقد كان للعلماء في فهم هذا النص مذاهب شتى: منهم من يري النسخ، ومنهم من يرى جواز هذا الأمر عند الضرورة والحاجة، ومنهم من يرى قصره على (سالم) و(سهلة) باعتبار أنه خصوصية لهما ولا يتعدى الحكم لغيرهما، مع أن الأئمة الأربعة قالوا بخصوصية هذا.
وبناء على ذلك فلا يكون من قال بجوازه عند الحاجة مخطئًا بل هو مسبوق بآراء قالها قبله أئمة أجلاء منهم: ابن القيم في كتابه زاد المعاد، وابن تيمية في الفتاوى الكبرى، والشوكاني في نيل الأوطار، والشيخ سيد سابق في فقه السنة، وهؤلاء مجتهدون، والمجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد كما جاء في الحديث الشريف.
ومن حيث إنه من جهة أخرى من المقرر شرعًا أن الاجتهاد أمر ثابت في الشريعة الإسلامية بل يعد أحد مصادرها، كما تعتبر المذاهب الفقهية نتاج هذا المصدر، واختلاف فتاوى الفقهاء في المسألة الواحدة يعد أبرز شكل من أشكال الاجتهاد، وبمراعاة أن نطاق هذا الاختلاف يقتصر على الفروع فقط دون ثوابت الشرع الإسلامي المقرة بأدلة قطعية والتي تشمل الأصول والمبادئ أو الاعتقاد، وبعد الاختلاف بين المذاهب الفقهية - كما قيل بحق - رحمة ويسرًا بأتباع الدين الإسلامي، وفي ذات الوقت تعتبر ثروة تشريعية كبرى محل اعتزاز وفخار الحضارة الإسلامية، ومنبع الاختلاف في استنباط الأحكام يرجع إلى تفاوت قدرات العقول البشرية والأفكار في فهم وإدراك أسرار التشريع وعلل الأحكام الشرعية، وانعكس ذلك في فتاواهم التي حوتها كتبهم وأقوالهم وكشفت عن الرؤى المختلفة بينهم بسبب تعدد مداركهم وتنوع مشاركتهم، لذا قيل: "من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه "، ومن ثم فإن فتاوى الفقهاء لا تعدو أن تكون مجرد آراء اجتهادية متفاوتة في درجات الترجيح بين راجح ومرجوح، ولا تلزم إلا صاحبها، وغير ملزمة للغير بحسب الأصل ويجوز لقائلها الرجوع عنها إلى رأي فقهي آخر.
ومن حيث إنه يخلص من كل ما تقدم أن كل مسلم بلغ في دراسة علوم الشريعة الإسلامية مبلغ التخصص وتوافرت فيه أهلية الاجتهاد، فمن حقه الفتوى ولا يسأل شرعًا عن فتواه حتى ولو كانت خاطئة أو غريبة، أما من يتصدى للفتوى من غير المتخصصين أو ممن ينقصهم إتقان التخصص فإنه ليس بأهل للفتوى، ولا يجوز له ذلك.
ومن حيث إنه متى ثبت ما تقدم وكان الثابت أن الطاعن يشغل وظيفة أستاذ ورئيس قسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وله مكانته في مجال تخصصه وهو ما لم تنكره الجهة المطعون ضدها فإن الفتوى التي أصدرها - مثار النزاع الماثل - مهما كانت درجة الصواب فيها فإنها لا تعدو أن تكون مجرد رأي المجتهد، فليس صوابًا مؤكدًا دائمًا وليس خطأ مؤكدًا دائمًا، وإنما يعد صوابًا يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب، مهما كان هذا الرأي، ومن ثم فإن الخطأ في التقدير يغتفر بسبب إبداء الرأي في مسألة خلافية تمثل أكثر من وجهة نظر، وبالتالي لا يكون محلاً للمساءلة القانونية.
ومن حيث إنه متى ثبت أنه لا خلاف بين أطراف الخصومة أن الطاعن اتصل بوسائل الإعلام المرئية والمقروءة، وأعلن فتواه في مسألة إرضاع الكبير سالفة الذكر، وأدلى بتصريحات في هذا الشأن بخصوص ما أبداه من رأي، دون الحصول على ترخيص كتابي من السلطة المختصة بالجامعة التي يعمل بها بالمخالفة لأحكام القانون على نحو أثار البلبلة مما يشكل في حقه ذنبًا إداريًا يستوجب مساءلته تأديبيًا.
ومن حيث إن هذه المحكمة في تقدير مدى جسامة المخالفة الثابتة في حق الطاعن تضع في اعتبارها أن المخالف أستاذ جامعي متخصص، ويدرك أن المسألة موضوع فتواه يكون اجتهاده فيها قاصرًا على نشاطه العلمي في مؤلفاته وأبحاثه العلمية والتي تكون محلاً لمناظرات علمية بينه وبين أمثاله من العلماء المتخصصين، ويعلم - بحكم تخصصه - أنها مسألة خلافية تعددت فيها آراء العلماء، وأنه لا يجوز أن ينفرد بالإفتاء فيها فقيه واحد، فيكون الاجتهاد الجماعي هو السبيل الوحيد للإفتاء فيها للعامة لترجيح واختيار الفتوى الأصوب والأرجح، ويدرك أيضًا أنه ليس كل ما يعلم بين العلماء المتخصصين يقال للعامة لنقصان التأهيل العلمي في حقهم، ومن ثم لا يجوز للعلماء أن يتحدثوا للناس في أمور الشرع بما لا تستوعبه وتطيقه عقولهم، وإلا أحدثوا فتنة وإثارة البلبلة وعدم استقرار المجتمع الديني، ومما لا شك فيه أن مسلك الطاعن بحديثه عن فتواه المذكورة بوسائل الإعلام ترتبت عليه آثار ضارة تناولتها ردود الفعل في مختلف وسائل الإعلام سواء على المستوى المحلي أو المستوى الشعوب الإسلامية، فضلاً عن أنه ليس هناك حاجة ملحقة في الأمة للإفتاء في هذه المسألة، مما أنكأ جراحًا في مشاعر المسلمين وأفكارهم من جراء البلبلة التي تسببت فيها فوضى الفتاوى والتكالب على الإفتاء، مما تسبب في أزمة مركبة بين قضية التجديد في الإسلام، وكيفية الوقوف على الإفتاء الصحيح الذي يتفق مع ما هو ثابت في الدين الإسلامي، وبين موقف الإسلام من القضايا المستجدة في عصرنا، وخاصة في مجال الثورة العلمية التكنولوجية في ظل أزمة الصراع الثقافي في عصر العولمة، فضلاً عن ذلك فإن أعداء الإسلام استغلوا مثل هذه الفتاوى الصادرة بدون دراسة فقهية جماعية من أهل الاختصاص فيما يضر، في ظل ما درجت عليه بعض وسائل الإعلام من نقل أنباء غير صحيحة عن عالمنا الإسلامي، الأمر الذي تقدر معه المحكمة في ضوء الظروف والملابسات المصاحبة لمسلك الطاعن الخاطئ بالتصدي بإصدار الفتوى المذكورة في مسألة خلافية بوسائل الإعلام وبدون إذن كتابي من رئاسته وما ترتب عليه من آثار ضارة بمجازاته بعقوبة اللوم.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء القرار المطعون فيه، والقضاء مجددًا بمجازاة الطاعن بعقوبة اللوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق