الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 11 أبريل 2024

(الْمَادَّةُ 37) اسْتِعْمَالُ النَّاسِ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا





(الْمَادَّةُ 37) : اسْتِعْمَالُ النَّاسِ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا.
يَعْنِي أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ ظَاهِرًا، وَاسْتِعْمَالُ النَّاسِ إنْ كَانَ عَامًّا يُعَدُّ حُجَّةً فِي حَقِّ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِبَلْدَةٍ مَثَلًا لَا يَكُونُ حُجَّةً خِلَافًا لِمَشَايِخِ بَلْخٍ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ حُجَّةً فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ الْعُرْفِ الْخَاصِّ الَّذِي بَيِّنَاهُ فَيَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ خَاصٌّ، وَاعْتِبَارُ الْإِجْمَاعِ الْعُمُومِيِّ الشَّرْعِيِّ حُجَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا إنَّمَا هُوَ لِاسْتِحَالَةِ تَوَاطُؤِ ذَلِكَ الْجَمْعِ عَلَى الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ غَيْرَ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ وَلِنَصِّ الْفُقَهَاءِ يُعَدُّ حُجَّةً كَالْبَيْعِ بِالْوَفَاءِ وَبَيْعِ السَّلَمِ مَثَلًا، فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِهِ لَمَّا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ جَائِزٍ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا اسْتَعَانَ شَخْصٌ عَلَى شِرَاءِ مَالٍ وَبَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ طَلَبَ الْمُسْتَعَانُ بِهِ مِنْ الْمُسْتَعِينِ أُجْرَةً فَيُنْظَرُ إلَى تَعَامُلِ أَهْلِ السُّوقِ فَإِذَا كَانَ مُعْتَادًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَخْذُ أُجْرَةٍ فَلِلْمُسْتَعَانِ بِهِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ الْمِثْلِيَّةِ مِنْ الْمُسْتَعِينِ وَإِلَّا، فَلَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أُهْدِيَ شَخْصٌ شَيْئًا كَالتُّفَّاحِ مَثَلًا فِي صَحْنٍ يَجِبُ رَدُّ الصَّحْنِ؛ لِأَنَّهُ يُرَدُّ عَادَةً، وَلَوْ أُهْدِيَ بَلَحًا أَوْ عِنَبًا فِي سَلٍّ لَا يَرُدُّ السَّلَّ لِصَاحِبِهِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِعَدَمِ رَدِّ السَّلِّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ عَامِلًا لِيَعْمَلَ لَهُ فِي بُسْتَانِهِ يَوْمِيًّا، فَتَعْيِينُ وَقْتِ الْعَمَلِ مِنْ الْيَوْمِ عَائِدٌ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تُعُورِفَ فِي بَلْدَةٍ وَقْفُ الْمَنْقُولِ كَوَقْفِ الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْمَصَاحِفِ الشَّرِيفَةِ حُكِمَ بِجَوَازِهِ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ صَحِيحًا مَعَ أَنَّ وَقْفَ الْمَنْقُولِ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ صَحِيحٍ.

إنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ يَكُونُ حُجَّةً إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِنَصٍّ أَوْ شَرْطٍ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ آخَرَ لَأَنْ يَعْمَلَ لَهُ مِنْ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَقَطْ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُلْزِمَ الْأَجِيرَ الْعَمَلَ مِنْ الصَّبَاحِ إلَى الْمَسَاءِ بِدَاعِي أَنَّ عُرْفَ الْبَلْدَةِ كَذَلِكَ، بَلْ يَتْبَعُ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ بَيْنَهُمَا.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّصِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنَّهُمَا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْمِلْحُ وَالشَّعِيرُ وَالْبُرُّ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، يُتْرَكُ وَيُصَارُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ إذَا تَبَدَّلَتْ بِتَبَدُّلِ الْأَزْمَانِ، فَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي زَمَانِنَا يَقْرُبَانِ أَنْ يَكُونَا عَدَدِيَّيْنِ، وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ أَصْبَحَا وَزْنِيَّيْنِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ كَادَا أَنْ يَصِيرَا وَزْنِيَّيْنِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّصُّ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَيُعْتَبَرُ النَّصُّ وَلَا يُصَارُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ النَّصَّ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا يَتْرُكَانِهِ بِدَاعِي تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ، وَالْمُخْتَارُ لِلْمِجَلَّةِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.

(الْمَادَّةُ 36) الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ






(الْمَادَّةُ 36) : الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ.
يَعْنِي أَنَّ الْعَادَةَ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً تُجْعَلُ حَكَمًا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. هَذِهِ الْمَادَّةُ هِيَ نَفْسُ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَكِتَابِ الْمَجَامِعِ، وَمَعْنَى مُحَكَّمَةٌ أَيْ هِيَ الْمَرْجِعُ عِنْدَ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْقَائِلِ «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» تَعْرِيفُ الْعَادَةِ: هِيَ الْأَمْرُ الَّذِي يَتَقَرَّرُ بِالنُّفُوسِ وَيَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ بِتَكْرَارِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْعَادَةِ يُفْهَمُ مِنْهَا تَكَرُّرُ الشَّيْءِ وَمُعَاوَدَتُهُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْجَارِي صُدْقَةً مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يَعْتَدْهُ النَّاسُ، فَلَا يُعَدُّ عَادَةً وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَالْعُرْفُ بِمَعْنَى الْعَادَةِ أَيْضًا.
وَقَدْ أَوْضَحَتْ الْمَجَلَّةُ هَذِهِ الْمَادَّةَ بِقَوْلِهَا: إنَّ الْعَادَةَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً تُجْعَلُ حَكَمًا لِإِثْبَاتِ (حُكْمٍ شَرْعِيٍّ) وَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ إنَّمَا تُجْعَلُ حَكَمًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إذَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُرَادِ إثْبَاتُهُ، فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ عُمِلَ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ النَّصِّ وَالْعَمَلُ بِالْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعِبَادِ حَقُّ تَغْيِيرِ النُّصُوصِ، وَالنَّصُّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَنِدًا عَلَى بَاطِلٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (37) .
أَمَّا نَصُّ الشَّارِعِ، فَلَا يَجُوزُ مُطْلَقًا أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى بَاطِلٍ، فَلِذَلِكَ لَا يُتْرَكُ الْقَوِيُّ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِالضَّعِيفِ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: إذَا تَعَارَضَ النَّصُّ وَالْعُرْفُ يُنْظَرُ فِيمَا إذَا كَانَ النَّصُّ مَبْنِيًّا عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَ النَّصُّ مَبْنِيًّا عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ تُرَجَّحُ الْعَادَةُ وَيُتْرَكُ النَّصُّ. وَاذَا كَانَ النَّصُّ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلَى عُرْفٍ وَعَادَةٍ يُعْمَلُ بِالنَّصِّ وَلَا عِبْرَةَ بِالْعَادَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُفْهَمَ أَنَّ حَضْرَةَ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ يَذْهَبُ فِي رَأْيِهِ إلَى تَرْكِ النَّصِّ وَالْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَالنَّصُّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ حَتَّى النَّصُّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ النَّاسِ، وَإِنَّمَا رَأْيُهُ بِمَثَابَةِ تَأْوِيلٍ لِلنَّصِّ.
مِثَالُ ذَلِكَ إنَّ وَضْعَ الطَّعَامِ أَمَامَ الضَّيْفِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، إذْنٌ لَهُ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ إذَا مَنَعَ الضَّيْفَ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ فَقَدْ صَدَرَ مِنْهُ نَصٌّ بِخِلَافِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَعَلَى الضَّيْفِ أَنْ يَعْمَلَ بِحُكْمِ النَّصِّ وَيَمْتَنِعَ عَنْ الطَّعَامِ، وَلَا يَعْمَلُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَإِذَا أَكَلَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ فَيَضْمَنُ وَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ يَكُونَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ يُقَسَّمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
1 - الْعُرْفُ الْعَامُّ. تَعْرِيفُ الْعُرْفِ الْعَامِّ: هُوَ عُرْفُ هَيْئَةٍ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِطَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِهَا، وَوَاضِعُهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَالْعُرْفُ الْعَامُّ عِنْدَنَا هُوَ الْعُرْفُ الْجَارِي مُنْذُ عَهْدِ الصَّحَابَةِ حَتَّى زَمَانِنَا وَاَلَّذِي قَبِلَهُ الْمُجْتَهِدُونَ وَعَمِلُوا بِهِ، وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا حَلَفَ شَخْصٌ قَائِلًا " وَاَللَّهِ لَا أَضَعُ قَدَمِي فِي دَارِ فُلَانٍ " يَحْنَثُ سَوَاءٌ دَخَلَ تِلْكَ الدَّارَ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، أَمَّا لَوْ وَضَعَ قَدَمَهُ فِي الدَّارِ دُونَ أَنْ يَدْخُلَهَا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ بِمَعْنَى الدُّخُولِ.
2 - الْعُرْفُ الْخَاصُّ تَعْرِيفُهُ: هُوَ اصْطِلَاحُ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى شَيْءٍ كَاسْتِعْمَالِ عُلَمَاءِ النَّحْوِ " لَفْظَةَ الرَّفْعِ " وَعُلَمَاءِ الْأَدَبِ كَلِمَةَ " النَّقْدِ ".
3 - الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الشَّرْعِيَّةِ " كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، فَبِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ أُهْمِلَ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيُّ. هَذَا، وَفِي الْحُكْمِ بِالْعُرْفِ الْعَامِّ وَالْعُرْفِ الْخَاصِّ فَرْقٌ وَإِلَيْكَ التَّفْصِيلُ: يَثْبُتُ بِالْعُرْفِ الْعَامِّ حُكْمٌ عَامٌّ.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ حَلَفَ شَخْصٌ فَقَالَ " لَا أَضَعُ قَدَمِي فِي دَارِ فُلَانٍ، فَبِمَا أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ (لَا أَضَعُ رِجْلِي) وَفِي الْعُرْفِ الْعَامِّ (لَا أَدْخُلُ) يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُمُومِ. أَمَّا الْعُرْفُ الْخَاصُّ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ خَاصٌّ فَقَطْ
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ تُعُورِفَ فِي بَلْدَةٍ وَقْفُ الْمَنْقُولِ غَيْرِ الْمُتَعَارَفِ وَقْفُهُ فِي غَيْرِهَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ وَقْفِ ذَلِكَ الْمَنْقُولِ فِيهَا فَقَطْ. وَكَذَا إذَا كَانَ إعْطَاءُ أَجْزَاءِ النُّقُودِ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ النُّقُودِ جَائِزًا عُرْفًا فِي بَلْدَةٍ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ إعْطَاءِ الْأَجْزَاءِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي يُقْسَمُ أَيْضًا إلَى قِسْمَيْنِ:
(1) الْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ.
(2) وَالْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ.
الْعُرْفُ الْعَمَلِيِّ:
كَتَعَوُّدِ أَهْلِ، بَلْدَةٍ مَثَلًا أَكْلَ لَحْمِ الضَّأْنِ أَوْ خُبْزَ الْقَمْحِ، فَلَوْ وَكَّلَ شَخْصٌ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ آخَرَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ خُبْزًا أَوْ لَحْمًا فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْمُوَكِّلِ لَحْمَ جَمَلٍ أَوْ خُبْزَ ذُرَةٍ أَوْ شَعِيرٍ اسْتِنَادًا عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا الْعُرْفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسَمَّى عُرْفًا عَامًّا مُخَصَّصًا أَيْ عُرْفٌ مُقَيَّدٌ.
الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ: وَهُوَ اصْطِلَاحُ جَمَاعَةٍ عَلَى لَفْظٍ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي مَعْنًى مَخْصُوصٍ حَتَّى يَتَبَادَرَ مَعْنَاهُ إلَى ذِهْنِ أَحَدِهِمْ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهِ، وَهَذَا الْعُرْفُ أَيْضًا يُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عُرْفًا مُخَصَّصًا.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ فِي الْحَالِ الْحَاضِرِ لِآخَرَ اشْتَرِ لِي فَرَسَ فُلَانٍ بِعَشَرَةِ جُنَيْهَاتٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ النَّوْعَ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَرَسَ بِعَشَرَةِ جُنَيْهَاتٍ مِصْرِيَّةٍ، وَهِيَ الْعُمْلَةُ الْمُتَعَامَلُ بِهَا فِي فِلَسْطِينَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ النَّفِيرِ الْعَامِّ، فَيُحْمَلُ عَلَى اللِّيرَاتِ الْإفْرِنْسِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً حِينَئِذٍ، وَلَا يَحِقُّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْفَرَسَ بِجُنَيْهَاتٍ إنْكِلِيزِيَّةٍ مَثَلًا. إنَّ الْمَادَّةَ (230) تَذْكُرُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ عَادَةً تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ذِكْرٍ لَهَا.
مِثَالُ ذَلِكَ: يَدْخُلُ ضِمْنَ بَيْعِ الْفَرَسِ رَسَنُهُ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِلْمُشْتَرِي أَخْذَهُ، وَكَذَا يَجُوزُ إعْطَاءُ أَجْزَاءِ الْمَسْكُوكَاتِ بَدَلَ أَصْلِهَا فِي بَلْدَةٍ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَارَفًا فِيهَا رَاجِعْ مَادَّةَ (244) .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعُرْفُ فِي بَلْدَةٍ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ يُدْفَعُ مُقَسَّطًا، يُعْتَبَرُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مُقَسَّطًا حَسَبَ الْعُرْفِ اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (576) ، وَكَذَا إذَا وَضَعَ رَجُلٌ وَلَدَهُ عِنْدَ صَاحِبِ صَنْعَةٍ بِقَصْدِ تَعَلُّمِهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أُجْرَةً وَبَعْدَ أَنْ تَعَلَّمَ الْوَلَدُ الصَّنْعَةَ طَالَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِالْأُجْرَةِ يُعْمَلُ بِعُرْفِ الْبَلْدَةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَادَةً عَلَى الْمُعَلِّمِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا لِلْمُعَلِّمِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَادَةُ لَا تَقْضِي عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا يُحْكَمُ بِمُقْتَضَاهَا اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (569) ، كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمُكَارِي وَضْعُ الْحِمْلِ دَاخِلَ الدَّارِ أَوْ الْمَخْزَنِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَعَارَفًا اُنْظُرْ مَادَّةَ (575) ، كَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الْمُرْضِعِ جَائِزٌ عَمَلًا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهْلِ الْمَنْفَعَةِ



(الْمَادَّةُ 35) مَا حَرُمَ فِعْلُهُ حَرُمَ طَلَبُهُ





(الْمَادَّةُ 35) : مَا حَرُمَ فِعْلُهُ حَرُمَ طَلَبُهُ. كَالسَّرِقَةِ لَا تَطْلُبْ مِنْ أَحَدٍ يَسْرِقَ.
يَعْنِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ إجْرَاؤُهُ حَرَامًا فَطَلَبُ إيقَاعِهِ حَرَامٌ أَيْضًا، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَقْرُبُ مِنْ الْمَادَّةِ 34 الَّتِي سَبَقَ شَرْحُهَا.
مِثَالُ ذَلِكَ: إنَّ أَخْذَ الرِّشْوَةِ وَالشَّهَادَةَ الْكَاذِبَةَ وَظُلْمَ النَّاسِ أَوْ سَرِقَةَ مَالِ النَّاسِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَمْنُوعَةِ، فَطَلَبُ إجْرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ كَأَنْ يُقَالَ لَهُ: ادْفَعْ رِشْوَةً، أَوْ اشْهَدْ بِكَذَا زُورًا، أَوْ أَنْ يُغْرِيَ بِالظُّلْمِ، أَوْ ارْتِكَابِ السَّرِقَةِ حَرَامٌ وَمَمْنُوعٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّ تَحْلِيفَ الْيَمِينِ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّ حَلِفَ الْيَمِينِ كَذِبًا حَرَامٌ، لَكِنَّ تَحْلِيفَ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُسْتَعِدِّ لِحَلِفِ الْيَمِينِ الْكَاذِبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجَوَّزْ تَحْلِيفُ الْيَمِينِ لِلشَّخْصِ الْمُنْكِرِ تَضِيعُ الْفَائِدَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ، وَهِيَ رَجَاءُ النُّكُولِ الَّذِي بِسَبَبِهِ يَتَبَيَّنُ حَقُّ الْمُدَّعِي.

(الْمَادَّةُ 34) مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إعْطَاؤُهُ





(الْمَادَّةُ 34) : مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إعْطَاؤُهُ.
يَعْنِي أَنَّ إعْطَاءَ الْحَرَامِ وَأَخْذَهُ سَوَاءٌ فِي الْحُرْمَةِ، كَمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ أَخْذُهُ وَإِعْطَاؤُهُ مَكْرُوهٌ فَالرِّشْوَةُ مَثَلًا، كَمَا حَرُمَ أَخْذُهَا حَرُمَ إعْطَاؤُهَا مِنْ الرَّاشِي حَتَّى لَوْ دَفَعَ الْوَصِيُّ فِي دَعْوَةِ الْقَاصِرِ رِشْوَةً لِلْحَاكِمِ مِنْ مَالِ الْقَاصِرِ يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الدَّجَّالِ الَّذِي يَفْتَحُ الْبَخْتَ وَالْأَشْخَاصِ الْمُشَعْوِذِينَ دَرَاهِمَ مِنْ النَّاسِ مَمْنُوعٌ وَحَرَامٌ، كَمَا أَنَّ إعْطَاءَ النَّاسِ لَهُمْ مَمْنُوعٌ وَحَرَامٌ أَيْضًا، وَكَذَا النَّائِحَةُ أَخْذُهَا وَإِعْطَاؤُهَا الْأُجْرَةَ حَرَامٌ وَمَمْنُوعٌ. " مُسْتَثْنَيَاتٌ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " إنَّ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مُسْتَثْنَيَاتٍ، وَهِيَ: لَوْ اغْتَصَبَ غَاصِبٌ مَالَ قَاصِرٍ فَيَحِقُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ الْغَاصِبَ قِسْمًا مِنْ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ كَيْ يَسْتَرِدَّهُ فَهُنَا أَخْذُ الْغَاصِبِ ذَلِكَ الْمَالَ حَرَامٌ وَمَمْنُوعٌ، إلَّا أَنَّ إعْطَاءَهُ مِنْ الْوَصِيِّ لِاسْتِرْدَادِ الْمَالِ جَائِزٌ

(الْمَادَّةُ 33) الِاضْطِرَارُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ




(الْمَادَّةُ 33) : الِاضْطِرَارُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ.
مَعْنَى الِاضْطِرَارِ هُنَا الْإِجْبَارُ عَلَى فِعْلِ الْمَمْنُوعِ، وَالِاضْطِرَارُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَنْشَأُ عَنْ سَبَبٍ دَاخِلِيٍّ، يُقَالُ: لَهُ (سَمَاوِيٌّ) كَالْجُوعِ مَثَلًا.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الِاضْطِرَارُ النَّاشِئُ عَنْ سَبَبٍ خَارِجِيٍّ وَيُقَالُ لَهُ (اضْطِرَارِيٌّ غَيْرُ سَمَاوِيٍّ) وَهُوَ نَوْعَانِ الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ. وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ إنْسَانٌ مَالَ الْغَيْرِ بِنَاءً عَلَى الِاضْطِرَارِ الَّذِي يُجَوِّزُ لَهُ التَّصَرُّفَ بِمَالِ الْغَيْرِ، فَلَا تَكُونُ الْإِصَابَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ الِاضْطِرَارِ سَبَبًا لَأَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ غَيْرَ ضَامِنٍ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ أَوْ الْمُتْلِفِ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ الْمَالِ الْمُتْلَفِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا جَاعَ جُوعًا شَدِيدًا وَأَصْبَحَ عُرْضَةً لِلتَّلَفِ أَيْ لِلْمَوْتِ فَلَهُ الْحَقُّ وَفْقًا لِلْمَادَّةِ 21، بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ مَا يَدْفَعُ بِهِ جُوعَهُ بِدُونِ إذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ الْمَالِ الْمُتْلَفِ، إذَا كَانَ مِنْ الْقِيَمِيَّاتِ، وَمِثْلَهُ إذَا كَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ، وَلَا يَكُونُ الِاضْطِرَارُ عَلَى اسْتِهْلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ سَبَبًا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ دَفْعِ قِيمَتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاضْطِرَارَ وَإِنْ أَبَاحَ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوَلَ وَإِتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ دُونَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ عِقَابٌ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْ الضَّمَانِ.
وَكَذَا لَوْ هَجَمَ جَمَلٌ صَائِلٌ عَلَى شَخْصٍ وَأَصْبَحَتْ حَيَاتُهُ مُهَدَّدَةٌ فَلَهُ إتْلَافُ الْجَمَلِ تَخْلِيصًا لِحَيَاتِهِ مِنْ يَدِ الْهَلَاكِ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الْجَمَلِ لِصَاحِبِهِ، وَهُنَا إذَا اُعْتُرِضَ بِقَاعِدَةِ أَنَّ الضَّرُورَاتِ مَا دَامَتْ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ فَيَجِبُ عَدَمُ الضَّمَانِ. فَرَدًّا عَلَى ذَلِكَ نَقُولُ الْقَصْدُ مِنْ الْإِبَاحَةِ هَذِهِ إنَّمَا هُوَ تَجْوِيزُ إتْلَافِ الْمَالِ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَأَنْ لَا يُعَدَّ الْفَاعِلُ غَاصِبًا إلَّا أَنَّهُ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِضَيَاعِ الْحُقُوقِ عَلَى ذَوِيهَا. وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ قَارِبًا سَاعَةً مِنْ الزَّمَنِ وَبَعْدَ أَنْ وَصَلَ إلَى عَرْضِ الْبَحْرِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ أَنْ يُبَارِحَ الْقَارِبَ فِي الْحَالِ إلَّا إذَا رَضِيَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ ثَانِيَةً، وَلَكِنْ بِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ هُنَا اضْطِرَارٌ فَصَاحِبُ السَّفِينَةِ مُجْبَرٌ عَلَى أَنْ يَبْقَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْقَارِبِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ إلَى الْبَرِّ، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِجْبَارَ لَا يَمْنَعُ الْمُؤَجِّرَ مِنْ أَنْ يُطَالِبَ الْمُسْتَأْجِرَ بِدَفْعِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ عَنْ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ وَفْقًا لِلْمَادَّةِ (1007) النَّاصَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ عَلَى الْمُجْبِرِ وَفِي غَيْرِ الْمُلْجِئِ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَوُجُودُ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لَا يُضَيِّعُ حَقَّ صَاحِبِ الْمَالِ فِي تَضْمِينِ قِيمَةِ مَالِهِ الْمُتْلَفِ.






(الْمَادَّةُ 32) الْحَاجَةُ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً




(الْمَادَّةُ 32) : الْحَاجَةُ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً،
 وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَجْوِيزُ الْبَيْعِ بِالْوَفَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ الدُّيُونُ عَلَى أَهْلِ بُخَارَى مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ وَصَارَ مَرْعِيًّا. هَذِهِ الْمَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ. وَيُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ كَانَ مَمْنُوعًا، وَقَدْ جُوِّزَ بِنَاءً عَلَى الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِفَادَةَ الْمُقْرِضِ زِيَادَةً عَنْ بَدَلِ الْقَرْضِ رِبًا وَمَمْنُوعٌ شَرْعًا، وَبَيْعُ الْوَفَاءِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ غَيْرُ جَائِزٍ أَصْلًا، وَلَكِنْ حَسْبَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَدْ اجْتَهَدَتْ الْفُقَهَاءُ بِنَاءً عَلَى احْتِيَاجِ أَهَالِي بُخَارَى فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ تَجْوِيزَهُ. إنَّ تَجْوِيزَ بَيْعِ السَّلَمِ وَبَيْعِ الِاسْتِصْنَاعِ مُسْتَنِدٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ هُوَ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَقِيَاسًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا بَاطِلًا، وَلَكِنْ قَدْ جُوِّزَ بَيْعُ السَّلَمِ وَبَيْعُ الِاسْتِصْنَاعِ لِلِاحْتِيَاجِ وَالضَّرُورَةِ الْعُمُومِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ الْفَلَّاحِينَ فِي غَالِبِ السِّنِينَ يُصْبِحُونَ بِاحْتِيَاجٍ شَدِيدٍ لِلنُّقُودِ قَبْلَ إدْرَاكِ مَحْصُولِهِمْ، فَدَفْعًا لِاحْتِيَاجِهِمْ هَذَا قَدْ جُوِّزَ بَيْعُ السَّلَمِ وَكَذَلِكَ جُوِّزَتْ أَيْضًا إجَارَةُ الِاغْتِسَالِ فِي الْحَمَّامِ مَعَ أَنَّهَا قِيَاسًا غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهَا مَجْهُولَةٌ وَغَيْرُ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَقْضِيهَا الْمُغْتَسِلُ فِي الْحَمَّامِ وَمِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَصْرِفُهُ إلَّا أَنَّهُ لِلضَّرُورَةِ الْعُمُومِيَّةِ قَدْ جُوِّزَتْ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالْمَبِيعِ يَجْعَلُ الْمَبِيعَ مَجْهُولًا، وَلَكِنْ قَدْ جُوِّزَ هَذَا الْمَبِيعُ بِنَاءً عَلَى الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِدُونِ سُؤَالِ وَاسْتِشَارَةِ الْعَارِفِينَ

(الْمَادَّةُ 31) الضَّرَرُ يُدْفَعُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ




(الْمَادَّةُ 31) : الضَّرَرُ يُدْفَعُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
يَعْنِي لَوْ دَخَلَ عَلَيْكَ سَارِقٌ مَثَلًا فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِقَدْرِ إمْكَانِكَ، فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَنْدَفِعُ بِالْعَصَا، فَلَا تَدْفَعْهُ بِالسَّيْفِ، كَذَا إذَا اغْتَصَبَ شَخْصٌ مَالَ آخَرَ وَاسْتَهْلَكَهُ فَلِأَنَّ إرْجَاعَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَهْلَكِ بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَالِ إذَا كَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتَهُ إنْ كَانَتْ مِنْ الْقِيَمِيَّاتِ. كَذَلِكَ إذَا حَصَلَ عَيْبٌ حَادِثٌ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ لَهُ قَدِيمٌ فَلِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ مَانِعٌ لِلْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ فَيُزَالُ الضَّرَرُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ.

(الْمَادَّةُ 30) دَرْءُ الْمفَاسد أُولَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ



(الْمَادَّةُ 30) : دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ.
أَيْ: إذَا تَعَارَضَتْ مَفْسَدَةٌ وَمَصْلَحَةٌ يُقَدَّمُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا أَرَادَ شَخْصٌ مُبَاشَرَةَ عَمَلٍ يُنْتِجُ مَنْفَعَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى يَسْتَلْزِمُ ضَرَرًا مُسَاوِيًا لِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهَا يَلْحَقُ بِالْآخَرِينَ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْلِعَ عَنْ إجْرَاءِ ذَلِكَ الْعَمَلِ دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ الْمُقَدَّمِ دَفْعُهَا عَلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ اعْتَنَى بِالْمَنْهِيَّاتِ أَكْثَرَ مِنْ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورِ بِهَا. مِثَالٌ: يُمْنَعُ الْمَالِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ فِيمَا إذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ يُورِثُ الْجَارَ ضَرَرًا فَاحِشًا أَوْ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْمَوَادِّ 192، 207، 1208 إلَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ فَائِدَتُهَا أَزْيَدَ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ مِنْ الْأَضْرَارِ فَتُقَدَّمُ الْمَنْفَعَةُ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْقَلِيلَةِ مِثَالٌ: إنَّ التَّكَلُّمَ بِالْكَذِبِ مَفْسَدَةٌ، وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ بِهِ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ يَجُوزُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. كَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ مُتَغَلِّبٌ ظَالِمٌ أَخْذَ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْمُسْتَوْدَعِ غَصْبًا عَنْهُ فَلِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَكْذِبَ وَيُنْكِرَ وُجُودَ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ مُحَافَظَةً عَلَيْهَا

(الْمَادَّةُ 29) يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ




(الْمَادَّةُ 29) : يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ.
هَذِهِ الْمَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَاعِدَةِ (إنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَأْخُذُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ فَإِنْ اخْتَلَفَتَا يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْحَرَامِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي ارْتِكَابِ الزِّيَادَةِ) وَحَيْثُ إنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ عَيْنُ الْمَادَّةِ 28، فَلَا حَاجَةَ لِشَرْحِهَا.

(الْمَادَّةُ 28) إذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا




(الْمَادَّةُ 28) : إذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِي أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا.
لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، كَمَا وَضَّحْنَا فِي الْمَادَّةِ 21، فَإِذَا وُجِدَ مَحْظُورَاتٌ وَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ أَوْ مِنْ الضَّرُورِيِّ ارْتِكَابُ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ فَيَلْزَمُ ارْتِكَابُ أَخَفِّهِمَا وَأَهْوَنِهِمَا، أَمَّا إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَيُرْتَكَبُ أَحَدُهُمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ، كَمَا لَوْ رَكِبَ رَجُلٌ فِي سَفِينَةٍ فَاحْتَرَقَتْ تِلْكَ السَّفِينَةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَبْقَى فِي السَّفِينَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ إلَى الْبَحْرِ لِتَسَاوِي الْمَحْظُورَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ مُنْتَحِرًا وَلَا يَكُونُ آثِمًا.

(الْمَادَّةُ 27) الضَّرَرُ الْأَشَدُّ يُزَالُ بِالضَّرَرِ الْأَخَفِّ





(الْمَادَّةُ 27) : الضَّرَرُ الْأَشَدُّ يُزَالُ بِالضَّرَرِ الْأَخَفِّ.
يَعْنِي أَنَّ الضَّرَرَ تَجُوزُ إزَالَتُهُ بِضَرَرٍ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَشَدَّ مِنْهُ حَسْبَ مَا وَضَّحْنَا بِالْمَوَادِّ السَّابِقَةِ. مِثَالٌ: إذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي فِي الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ أَبْنِيَةً، فَلَوْ أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى قَلْعِهَا وَتَسْلِيمِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ لِلشَّفِيعِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي، كَمَا أَنَّهُ إذَا أُجْبِرَ الشَّفِيعُ عَلَى أَخْذِ الْمَشْفُوعِ مَعَ دَفْعِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِإِجْبَارِهِ عَلَى دَفْعِ نُقُودٍ ثَمَنًا لِلْبِنَاءِ الْمُحْدَثِ زِيَادَةً عَنْ قِيمَةِ الْمَشْفُوعِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الضَّرَرَ أَخَفُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي فِيمَا لَوْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى قَلْعِ الْبِنَاءِ، إذْ يَضِيعُ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْبِنَاءِ بِلَا مُقَابِلٍ بِخِلَافِ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مُقَابِلَ الثَّمَنِ الَّذِي يَدْفَعُهُ الْبِنَاءَ أَوْ الشَّجَرَ. إذًا فَضَرَرُ الشَّفِيعِ أَخَفُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَيُخْتَارُ وَيُكَلَّفُ ذَلِكَ الشَّفِيعُ بِأَخْذِ الْأَبْنِيَةِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ لِلْمُشْتَرِي. كَذَلِكَ إذَا دَخَّلَ فَرَسٌ " تُسَاوِي قِيمَتُهٌ ثَلَاثِينَ جُنَيْهًا " رَأْسَهُ فِي إنَاءِ شَخْصٍ تُسَاوِي قِيمَتُهُ ثَلَاثَ جُنَيْهَاتٍ مَثَلًا وَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ رَأْسِ الْفَرَسِ مِنْ الْإِنَاءِ إلَّا بِكَسْرِهِ فَخَوْفًا مِنْ مَوْتِ الْفَرَسِ يَدْفَعُ صَاحِبُهُ قِيمَةَ الْإِنَاءِ لِصَاحِبِهِ وَيَكْسِرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ ضَرَرًا مِنْ مَوْتِ الْفَرَسِ كَمَا لَا يَخْفَى، كَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ (رِيشَةُ) قَلَمٍ تُسَاوِي جُنَيْهَيْنِ وَسَقَطَتْ فِي دَوَاةٍ لِشَخْصٍ آخَرَ تُسَاوِي عَشَرَةَ قُرُوشٍ وَكَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ إخْرَاجُ الرِّيشَةِ بِدُونِ كَسْرِ الدَّوَاةِ، فَدَفْعًا لِلضَّرَرِ الْأَشَدِّ يُكَلَّفُ صَاحِبُ الرِّيشَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَشَرَةَ الْقُرُوشَ لِيَكْسِرَ الدَّوَاةَ وَيَسْتَخْرِجَ رِيشَتَهُ. كَذَلِكَ لَوْ أَنَّ دَجَاجَةً اخْتَطَفَتْ لُؤْلُؤَةً لِأَحَدِ النَّاسِ تُسَاوِي مَبْلَغًا فَدَفْعًا لِلضَّرَرِ الْأَشَدِّ يَدْفَعُ صَاحِبُ اللُّؤْلُؤَةِ قِيمَةَ الدَّجَاجَةِ لِيَذْبَحَهَا وَيَسْتَخْلِصَ لُؤْلُؤَتَهُ.



(الْمَادَّةُ 26) يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ





(الْمَادَّةُ 26) : يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ.
بِمَا أَنَّ الضَّرَرَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ مِثْلَ الضَّرَرِ الْعَامِّ، بَلْ دُونَهُ فَيُدْفَعُ الضَّرَرُ الْعَامُّ بِهِ، فَمَنْعُ الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ مِنْ مُزَاوَلَةِ صِنَاعَتِهِمْ ضَرَرٌ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِمْ، وَلَكِنْ لَوْ تُرِكُوا وَشَأْنَهُمْ يَحْصُلُ مِنْ مُزَاوَلَتِهِمْ صِنَاعَتَهُمْ ضَرَرٌ عَامٌّ كَإِهْلَاكِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِجَهْلِ الطَّبِيبِ، وَتَضْلِيلِ الْعِبَادِ مَعَ تَشْوِيشٍ كَثِيرٍ فِي الدِّينِ بِمُجُونِ الْمُفْتِي، وَغِشِّ النَّاسِ مِنْ الْمُكَارِي، وَكَذَلِكَ جَوَازُ هَدْمِ الْبَيْتِ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الْحَرِيقِ مَنْعًا لِسِرَايَةِ النَّارِ. كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أَبْنِيَةٌ آيِلَةٌ لِلسُّقُوطِ وَالِانْهِدَامِ يُجْبَرُ صَاحِبُهَا عَلَى هَدْمِهَا خَوْفًا مِنْ وُقُوعِهَا عَلَى الْمَارَّةِ. كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَحْدِيدُ أَسْعَارِ الْمَأْكُولَاتِ عِنْدَ طَمَعِ التُّجَّارِ فِي زِيَادَةِ الْأَرْبَاحِ زِيَادَةً تَضُرُّ بِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ إخْرَاجُ بَعْضِ الذَّخَائِرِ وَالْغِلَالِ مِنْ بَلْدَةٍ لِأُخْرَى، إذَا كَانَ فِي إخْرَاجِهَا ارْتِفَاعُ الْأَسْعَارِ فِي الْبَلْدَةِ. وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ الطَّبَّاخُ مِنْ فَتْحِ دُكَّانِهِ فِي سُوقِ التُّجَّارِ خَوْفًا مِنْ لُحُوقِ التَّلَفِ بِبَضَائِعِ التُّجَّارِ مِنْ دُخَانِ طَعَامِهِ

(الْمَادَّةُ 25) الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ



(الْمَادَّةُ 25) : الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ.
وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ بِالْأَوْلَى إذًا يُشْتَرَطُ بِأَنْ يُزَالُ الضَّرَرُ بِلَا إضْرَارٍ بِالْغَيْرِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَبِأَخَفَّ مِنْهُ. مِثَالٌ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا فَتَحَ حَانُوتًا فِي سُوقٍ وَجَلَبَ أَكْثَرَ الْمُشْتَرِينَ لِجَانِبِهِ بِصُورَةٍ أَوْجَبَتْ الْكَسَادَ عَلَى بَاقِي التُّجَّارِ، فَلَا يَحِقُّ لِلتُّجَّارِ أَنْ يُطَالِبُوا بِمَنْعِ ذَلِكَ التَّاجِرِ عَنْ الْمُتَاجَرَةِ بِدَاعِي أَنَّهُ يَضُرُّ بِمَكَاسِبِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْعَ ذَلِكَ التَّاجِرِ عَنْ التِّجَارَةِ هُوَ ضَرَرٌ بِقَدْرِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ لِلتُّجَّارِ الْآخَرِينَ. كَذَلِكَ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ هِيَ ضَرَرٌ وَلِذَلِكَ قَدْ جُوِّزَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ إزَالَةً لِلضَّرَرِ، وَالْحَاكِمُ عِنْدَ الْإِيجَابِ يَحْكُمُ بِالْمُقَاسَمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ جَبْرًا. أَمَّا إذَا كَانَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ طَاحُونًا وَطَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ تَقْسِيمَهُ، فَلِأَنَّ تَقْسِيمَ الطَّاحُونِ يُوجِبُ ضَرَرَ الشُّرَكَاءِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ يَرْفُضُونَ الْمُقَاسَمَةَ، فَالْحَاكِمُ لَا يُجِيزُ الشُّرَكَاءَ عَلَى الْمُقَاسَمَةِ حَيْثُ يَكُونُ قَدْ أَزَالَ الضَّرَرَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. كَذَلِكَ يَجُوزُ لِمَنْ تَحَقَّقَ الْهَلَاكَ جُوعًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ غَصْبًا. لَكِنْ لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَاحْتِيَاجِهِ لَهُ وَبِأَخْذِهِ مِنْهُ يُصْبِحُ مَعْرَضًا لِلْهَلَاكِ أَيْضًا لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، إذْ إنَّهُ بِدَفْعِ ضَرَرِهِ يَجْلِبُ ضَرَرًا لِغَيْرِهِ مُسَاوِيًا لِضَرَرِهِ. كَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يَحِقُّ لَهُ رَدُّ الْمَبِيعِ لِوُجُودِ عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَيْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قِيمَةِ الْمَبِيعِ مَعِيبًا، وَقِيمَتِهِ سَالِمًا.

(الْمَادَّةُ 24) إذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ الْمَمْنُوعُ




(الْمَادَّةُ 24) : إذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ الْمَمْنُوعُ.
يَعْنِي: إذَا كَانَ شَيْءٌ جَائِزًا وَمَشْرُوعًا، ثُمَّ امْتَنَعَ حُكْمُ مَشْرُوعِيَّتِهِ بِمَانِعٍ عَارِضٍ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْمَانِعُ يَعُودُ حُكْمُ مَشْرُوعِيَّتِهِ. مِثَالٌ: إذَا اشْتَرَى شَخْصٌ شَيْئًا وَبَعْدَ حُصُولِ عَيْبٍ حَادِثٍ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ، بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَيْ فَرْقِ الثَّمَنِ فَقَطْ. فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْعَيْبُ الْحَادِثُ الْمَانِعُ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ فَلِلْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ يُعِيدَ لِلْبَائِعِ نُقْصَانَ الثَّمَنِ رَدُّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ، كَذَلِكَ إذَا شَهِدَ صَبِيٌّ أَوْ أَعْمَى بِقَضِيَّةٍ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَالْعَمَى، فَبَعْدَ بُلُوغِ الشَّاهِدِ أَوْ زَوَالِ الْعَمَى تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَانَ الْعَمَى وَصِغَرُ السِّنِّ. كَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى شَخْصٌ فَرَسًا مِنْ آخَرَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَبَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَلَدَتْ عِنْدَهُ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. أَمَّا إذَا مَاتَ الْمُهْرُ الْمَوْلُودُ فَيَكُونُ قَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَعُودُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْخِيَارِ. كَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إذَا غَرَسَ أَشْجَارًا فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ أَوْ أَنْشَأَ فِيهَا بِنَاءً، فَلَا يَحِقُّ لِلْبَائِعِ طَلَبُ فَسْخِ الْبَيْعِ بِدَعْوَى وُجُودِ فَسَادٍ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي. إذْ إنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَقْلَعَ أَشْجَارَهُ أَوْ يَهْدِمَ بِنَاءَهُ.
أَمَّا إذَا خُلِعَتْ الْأَشْجَارُ أَوْ هُدِمَ الْبِنَاءُ بِآفَةٍ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي نَفْسِهِ يَحِقُّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَدَّعِيَ بِفَسَادِ الْبَيْعِ، وَيَطْلُبَ فَسْخَ الْعَقْدِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ. كَذَلِكَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ لَا يَكُونُ نَافِذًا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَالِ الْمُكْرَهِ، إذْ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ حَوْزَةِ صَاحِبِهِ إلَّا بِرِضَاءٍ مِنْهُ، أَمَّا إذَا أَجَازَهُ الْمُكْرَهُ بِرِضَائِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ يُصْبِحُ الْبَيْعُ نَافِذًا. كَذَلِكَ التَّنَاقُضُ مَانِعٌ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، فَإِذَا تَنَاقَضَ شَخْصٌ فِي دَعْوَاهُ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ إلَّا أَنَّهُ بِتَصْدِيقِ الْخَصْمِ أَوْ تَكْذِيبِ الْحَاكِمِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ وَتُصْبِحُ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ مَسْمُوعَةً لِزَوَالِ الْمَانِعِ.

(الْمَادَّةُ 23) مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَلَ بِزَوَالِهِ



(الْمَادَّةُ 23) : مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَلَ بِزَوَالِهِ.
يَعْنِي: أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَجُوزُ بِنَاءً عَلَى الْأَعْذَارِ وَالضَّرُورَاتِ إذَا زَالَتْ تِلْكَ الْأَعْذَارُ وَالضَّرُورَاتُ بَطَلَ الْجَوَازُ فِيهَا.
مِثَالُ ذَلِكَ: الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إنَّمَا جُوِّزَتْ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَمَكُّنِ الشَّاهِدِ الْأَصِيلِ مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِمَرَضٍ مُقْعِدٍ أَوْ غَيْبَةٍ بَعِيدَةٍ. مَثَلًا: فَإِذَا أَبَلَّ الشَّاهِدُ الْأَصِيلُ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ مِنْ غَيْبَتِهِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، كَذَلِكَ يَحِقُّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِيجَارِ إذَا حَصَلَ عَيْبٌ حَادِثٌ فِي الْمَأْجُورِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ فَسْخِ الْإِيجَارِ أَزَالَ ذَلِكَ الْعَيْبَ، فَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِفَسْخِ الْإِيجَارِ، كَذَلِكَ لَوْ أَنَّ شَخْصًا اسْتَأْجَرَ دَارًا مِنْ آخَرَ، وَالْمُؤَجِّرُ أَبْقَى أَمْتِعَتَهُ فِي إحْدَى الْغُرَفِ وَلَمْ يُسَلِّمْ تِلْكَ الْغُرْفَةَ، فَالْمُسْتَأْجِرُ هُنَا مُخَيَّرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ أَوْ الدَّوَامِ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخْلَى الْمُؤَجِّرُ تِلْكَ الْغُرْفَةَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ، فَلَا يَحِقُّ لَهُ حِينَئِذٍ فَسْخُهَا؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي كَانَ يَحِقُّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ اسْتِنَادًا عَلَيْهِ قَدْ زَالَ.

(الْمَادَّةُ 22) مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا





(الْمَادَّةُ 22) : مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.
أَيْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى الضَّرُورَةِ يَجُوزُ إجْرَاؤُهُ بِالْقَدْرِ الْكَافِي لِإِزَالَةِ تِلْكَ الضَّرُورَةِ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا تَزُولُ بِهِ الضَّرُورَةُ. مَثَلًا: لَوْ أَنَّ شَخْصًا كَانَ فِي حَالَةِ الْهَلَاكِ مِنْ الْجُوعِ يَحِقُّ لَهُ اغْتِصَابُ مَا يَدْفَعُ جُوعَهُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ لَا أَنْ يَغْتَصِبَ كُلَّ شَيْءٍ وَجَدَهُ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، كَذَلِكَ جُوِّزَ الْبَيْعُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ فِي شَيْئَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لَا أَزْيَدَ كَأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ أَوْ خَمْسَةٍ، إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو لِلزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ إنَّمَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، كَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ شَخْصٌ نَافِذَةً تُشْرِفُ عَلَى مَقَرِّ نِسَاءِ الْجِيرَانِ فَيُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْجَارِ بِصُورَةٍ تَمْنَعُ الضَّرَرَ فَقَطْ، وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ النَّافِذَةِ عَلَى سَدِّهَا بِالْكُلِّيَّةِ. الضَّرُورَةُ: هِيَ الْحَالَةُ الْمُلْجِئَةُ لِتَنَاوُلِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا. الْحَاجَةُ: أَمَّا الْحَاجَةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَتَأَتَّى مَعَهَا الْهَلَاكُ فَلِذَا لَا يُسْتَبَاحُ بِهَا الْمَمْنُوعُ شَرْعًا.
مِثَالُ ذَلِكَ: الصَّائِمُ الْمُسَافِرُ بَقَاؤُهُ صَائِمًا يُحَمِّلُهُ جَهْدًا وَمَشَقَّةً فَيُرَخَّصُ لَهُ الْإِفْطَارُ لِحَاجَتِهِ لِلْقُوَّةِ عَلَى السَّفَرِ.

(الْمَادَّةُ 21) الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ




(الْمَادَّةُ 21) : الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.
الضَّرُورَةُ هِيَ الْعُذْرُ الَّذِي يَجُوزُ بِسَبَبِهِ إجْرَاءُ الشَّيْءِ الْمَمْنُوعِ. الْمُبَاحُ: وَالْمُبَاحُ شَرْعًا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَجُوزُ تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُبَاحِ هُنَا مَا لَيْسَ بِهِ مُؤَاخَذَةٌ، وَأَنَّ إبَاحَةَ الضَّرُورَةِ لِلْمَحْظُورَاتِ تُسَمَّى فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ رُخْصَةً، وَقَدْ اتَّضَحَ ذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ (17) وَالرُّخْصَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُشْرَعُ ثَابِتًا بِنَاءً عَلَى الْإِعْذَارِ، وَهِيَ الشَّيْءُ

الْمُبَاحُ مَعَ بَقَاءِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ فَاعِلُ الشَّيْءِ الْمُبَاحِ لَا يُؤَاخَذُ فَاعِلُ الشَّيْءِ الْمُرَخَّصِ أَيْضًا. مِثَالٌ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا أَكْرَهَ آخَرَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَبِوُقُوعِ الْإِكْرَاهِ أَيْ الضَّرُورَةِ لَا تَزُولُ الْحُرْمَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، إلَّا أَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يُؤَاخَذُ لِلْإِتْلَافِ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ عَائِدٌ لِأُصُولِ عِلْمِ الْفِقْهِ وَوَرَدَ هُنَا بَعْضُ الْأَمْثِلَةِ تَوْضِيحًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ. مِثَالٌ: إنَّ التَّعَرُّضَ لِمَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلَافَهُ مَمْنُوعٌ، كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْمَادَّتَيْنِ (96 وَ 97) إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَصْبَحَ شَخْصٌ فِي حَالٍ الْهَلَاكِ مِنْ الْجُوعِ فَلَهُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ، وَلَوْ بِالْجَبْرِ عَلَى شَرْطِ أَدَاءِ ثَمَنِهِ فِيمَا بَعْدُ أَوْ اسْتِحْصَالُ رِضَاءِ صَاحِبِ الْمَالِ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَقْتُلَ الْجَمَلَ الَّذِي يَصُولُ عَلَيْهِ تَخْلِيصًا لِحَيَاتِهِ، فَفِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ أَصْبَحَ مِنْ الْجَائِزِ إتْلَافُ وَأَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِصُورَةِ الْجَبْرِ. مِثَالٌ آخَرُ: إذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ آخَرَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ بِقَوْلِهِ: أَقْتُلُكَ أَوْ اقْطَعْ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِك، فَيُصْبِحُ إتْلَافُ الْمَالِ مُبَاحًا لِذَلِكَ الشَّخْصِ، وَالضَّمَانُ يَلْزَمُ الْمُجْبِرَ. إنَّ الضَّرُورَاتِ لَا تُبِيحُ كُلَّ الْمَحْظُورَاتِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَحْظُورَاتُ دُونَ الضَّرُورَاتِ.
أَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَمْنُوعَاتُ أَوْ الْمَحْظُورَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الضَّرُورَاتِ، فَلَا يَجُوزُ إجْرَاؤُهَا وَلَا تُصْبِحُ مُبَاحَةً. مِثَالٌ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا هَدَّدَ آخَرَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِقَطْعِ الْعُضْوِ وَأَجْبَرَهُ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ، فَلَا يَحِقُّ لِلْمُكْرَهِ أَنْ يُوقِعَ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَا مُسَاوِيَةٌ لِلْمَحْظُورِ، بَلْ إنَّ قَتْلَ الْمُكْرَهِ أَخَفُّ ضَرَرًا مِنْ أَنْ يَقْتُلَ شَخْصًا آخَرَ، فَوَالْحَالَةُ هَذِهِ إذَا أَوْقَعَ ذَلِكَ الْمُكْرَهُ الْقَتْلَ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْقَاتِلِ بِلَا إكْرَاهٍ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْقِصَاصِ فَيَنْفُذُ فِي حَقِّ كُلٍّ مَنْ الْمُجْبِرِ وَالْمُكْرَهِ.



(الْمَادَّةُ 20) الضَّرَرُ يُزَالُ




(الْمَادَّةُ 20) : الضَّرَرُ يُزَالُ.
لِأَنَّ الضَّرَرَ هُوَ ظُلْمٌ وَغَدْرٌ وَالْوَاجِبُ عَدَمُ إيقَاعِهِ. وَإِقْرَارُ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ حَرَامٌ وَمَمْنُوعٌ أَيْضًا فَيَجِبُ إزَالَتُهُ، فَتَجْوِيزُ خِيَارِ التَّعْيِينِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارِ النَّقْدِ، وَخِيَارِ الْغَبْنِ، وَالتَّغْرِيرِ، وَرَدِّ الْمَبِيعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَالْحَجْرِ، وَالشُّفْعَةِ، وَتَضْمِينِ الْمَالِ الْمُتْلَفِ لِلْمُتْلِفِ، وَالْإِجْبَارِ عَلَى قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ، إنَّمَا هُوَ بِقَصْدِ إزَالَةِ الضَّرَرِ، فَخِيَارُ الْعَيْبِ شُرِعَ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَأْخُذُ مَالًا مَعِيبًا مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ مَالٌ سَالِمٌ مِنْ الْعَيْبِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ جُوِّزَ لِمَنْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ سُوءِ الْجِوَارِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِنَ، كَمَا لَا يَخْفَى تَغْلُو وَتَرْخُصُ بِجِيرَانِهَا، كَذَلِكَ لَوْ أَنَّ شَجَرَةً فِي بُسْتَانِ شَخْصٍ كَبُرَتْ وَتَدَلَّتْ أَغْصَانُهَا عَلَى دَارِ جَارِهِ، وَكَانَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ ضَرَرٌ لِلْجَارِ، فَيَجِبُ إزَالَةُ الضَّرَرِ بِقَطْعِ الْأَغْصَانِ أَوْ بِرَبْطِهَا وَسَحْبِهَا لِلدَّاخِلِ. كَذَا لَوْ أَحْدَثَ شَخْصٌ بِنَاءً فِي مِلْكِهِ وَتَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ حُصُولُ الظَّلَّامِ فِي غَرْفَةِ جَارِهِ بِصُورَةٍ لَا تُسْتَطَاعُ مَعَهَا الْقِرَاءَةُ وَالْكِتَابَةُ، وَبِمَا أَنَّ ذَلِكَ ضَرَرٌ فَاحِشٌ يُزَالُ تَوْفِيقًا لِلْمَادَّةِ (1201) مِنْ الْمَجَلَّةِ، كَذَلِكَ يُمْنَعُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ يُزَيِّفُونَ النُّقُودَ عَنْ إجْرَاءِ صِنَاعَتِهِمْ أَيْضًا، وَإِذَا وُجِدَ لِشَخْصٍ نَحْلٌ عَسَلٍ وَالنَّحْلُ يَأْكُلُ أَثْمَارَ جَارِهِ الْمَوْجُودَةَ فِي بُسْتَانِهِ يُحْكَمُ بِإِبْعَادِ النَّحْلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.



(الْمَادَّةُ 19) لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ




(الْمَادَّةُ 19) : لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
يَجِبُ أَنْ لَا يُفْهَمَ مِنْ كَلِمَةِ (لَا ضَرَرَ) أَنَّهُ لَا يُوجَدُ ضَرَرٌ، بَلْ الضَّرَرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَوْجُودٌ وَالنَّاسُ لَا يَزَالُونَ يَفْعَلُونَهُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الضَّرَرُ أَيْ الْإِضْرَارُ ابْتِدَاءً، كَمَا لَا يَجُوزُ الضِّرَارُ أَيْ إيقَاعُ الضَّرَرِ مُقَابَلَةً لِضَرَرٍ.
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَهِيَ مِنْ نَوْعِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ لَا تَصْدُقُ إلَّا عَلَى قِسْمٍ مَخْصُوصٍ مِمَّا تَشْمَلُهُ؛ لِأَنَّ التَّعَازِيرَ الشَّرْعِيَّةَ ضَرَرٌ، وَلَكِنَّ إجْرَاءَهَا جَائِزٌ، كَذَلِكَ الدُّخَانُ الَّذِي يَنْتَشِرُ مِنْ مَطْبَخِ دَارِ شَخْصٍ إلَى دَارِ جَارِهِ يُعَدُّ ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَضُرُّ بِالْجِيرَانِ مُبَاشَرَةً أَوْ يُسَبِّبُ اشْتِهَاءَ الْأَطْعِمَةِ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ لَهُمْ، كَذَا لَوْ وُجِدَ فِي دَارِ شَخْصٍ شَجَرَةٌ كَانَتْ سَبَبًا لَأَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا الْجَارُ كَالِاسْتِظْلَالِ بِهَا فَقَطْعُهَا مُوجِبٌ لِضَرَرِ الْجَارِ أَيْضًا.
، فَهَذِهِ الْأَضْرَارُ وَمَا مَاثَلَهَا يَجُوزُ إجْرَاؤُهَا وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّهَا كَمَا ذَكَرْنَا هِيَ مِنْ قِسْمِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَتَشْتَمِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عَلَى حُكْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِضْرَارُ ابْتِدَاءً أَيْ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَضُرَّ شَخْصًا آخَرَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ هُوَ ظُلْمٌ وَالظُّلْمُ مَمْنُوعٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَجَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ قَدْ مَنَعَتْ الظُّلْمَ.
مِثَالٌ: لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ حَقُّ الْمُرُورِ مِنْ طَرِيقِ شَخْصٍ آخَرَ، فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَنْ الْمُرُورِ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ.
، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ أَنْ يَبِيعَ مَالًا مَعِيبًا لِشَخْصٍ آخَرَ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ الْعَيْبَ الْمَوْجُودَ فِي الْمَالِ وَأَنَّ إخْفَاءَ عَيْبِ الْمَبِيعِ عَنْ الْمُشْتَرِي إضْرَارٌ بِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَمَمْنُوعٌ شَرْعًا.
كَذَا لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ أَنْ يَمْنَعُوا شَخْصًا مِنْ أَنْ يَسْكُنَ فِي قَرْيَتِهِمْ بِدَاعِي أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُسَاكِنُوهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا ضَرَرٌ وَإِجْرَاءُ الضَّرَرِ مَمْنُوعٌ، كَمَا قُلْنَا.
هَذَا وَأَنَّ جَوَازَ إجْرَاءِ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ تَرَتُّبِ ضَرَرٍ لِأَحَدٍ بِإِجْرَائِهَا.
مَثَلًا: أَنَّ الصَّيْدَ هُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ وَجَائِزٌ، إلَّا أَنَّ كَيْفِيَّةَ الصَّيْدِ إذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِنُفُورِ الْحَيَوَانَاتِ أَوْ مُسَبِّبَةً لِخَوْفِ وَاضْطِرَابِ الْأَهْلِينَ

يُمْنَعُ الصَّيَّادُ مِنْ الصَّيْدِ. كَذَلِكَ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِهِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ حُصُولِ ضَرَرٍ بَلِيغٍ لِجِيرَانِهِ. مِثَالٌ: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُنْشِئَ دَارًا وَيَفْتَحَ نَوَافِذَ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ النَّوَافِذُ الْمُرَادُ فَتْحُهَا تَكْشِفُ مَقَرَّ نِسَاءِ الْجِيرَانِ، يُمْنَعُ صَاحِبُ الْمِلْكِ مِنْ فَتْحِ تِلْكَ النَّوَافِذِ. أَمَّا حُكْمُ الْفِقْرَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُقَابَلَةُ الضَّرَرِ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ الضِّرَارُ، كَمَا لَوْ أَضَرَّ شَخْصٌ آخَرَ فِي ذَاتِهِ أَوْ مَالِهِ لَا يَجُوزُ لِلشَّخْصِ الْمُتَضَرِّرِ أَنْ يُقَابِلَ ذَلِكَ الشَّخْصَ بِضَرَرٍ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَاجِعَ الْحَاكِمَ وَيَطْلُبَ إزَالَةَ ضَرَرِهِ بِالصُّورَةِ الْمَشْرُوعَةِ. كَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ شَخْصٌ " كَرْمًا " لِآخَرَ مَثَلًا فَلَيْسَ لِلْمُتَضَرِّرِ أَنْ يُقَابِلَ الشَّخْصَ الَّذِي أَضَرَّهُ بِإِتْلَافِ كَرْمِهِ، بَلْ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَا مُرَاجَعَةُ الْمَحْكَمَةِ، وَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا وَأَتْلَفَ كَرْمَ الْمُتْلِفِ لِكَرْمِهِ فَكَمَا يُحْكَمُ عَلَى الْمُتْلِفِ الْأَوَّلِ يُحْكَمُ عَلَى الْمُتْلِفِ الثَّانِي، وَيَكُونَانِ ضَامِنَيْنِ بِمَا أَتْلَفَا. كَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ شَخْصٌ نُقُودًا مُزَيَّفَةً مِنْ شَخْصٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ.

(الْمَادَّةُ 18) الْأَمْرُ إذَا ضَاقَ اتَّسَعَ



(الْمَادَّةُ 18) : الْأَمْرُ إذَا ضَاقَ اتَّسَعَ.
هَذِهِ الْمَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي كِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ هُوَ وَاضِعُهَا.
الِاتِّسَاعُ: مَأْخُوذٌ مِنْ الْوُسْعِ، وَالتَّوْسِيعُ ضِدُّ التَّضْيِيقِ.
وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إذَا شُوهِدَ ضِيقٌ وَمَشَقَّةٌ فِي فِعْلٍ أَوْ أَمْرٍ يَجِبُ إيجَادُ رُخْصَةٍ وَتَوْسِعَةٍ لِذَلِكَ الضَّيْقِ فَلَا زَالَتْ الْمَشَقَّةُ تُجَوِّزُ الْأَشْيَاءَ غَيْرَ الْجَائِزَةِ قِيَاسًا وَالْمُغَايَرَةَ لِلْقَوَاعِدِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِمَعْنَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي سَبَقَ شَرْحُهَا، وَهِيَ (الْمَادَّةُ 17)

(الْمَادَّةُ 17) الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ




(الْمَادَّةُ 17) : الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ. 
يَعْنِي: أَنَّ الصُّعُوبَةَ الَّتِي تُصَادِفُ فِي شَيْءٍ تَكُونُ سَبَبًا بَاعِثًا عَلَى تَسْهِيلِ وَتَهْوِينِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى يَجِبُ التَّوْسِيعُ وَقْتَ الضِّيقِ، وَإِنَّ التَّسْهِيلَاتِ الشَّرْعِيَّةَ بِتَجْوِيزِ عُقُودِ الْقَرْضِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْحَجْزِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالسَّلَمِ، وَإِقَالَةِ الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالْإِبْرَاءِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالصُّلْحِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَشَرِكَةِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَنِدَةٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَقَدْ صَارَ تَجْوِيزُهَا دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ وَجَلْبًا لِلتَّيْسِيرِ وَتُسَمَّى (رُخَصًا) .

(الرُّخْصَةُ) تَعْرِيفُهَا: الرُّخْصَةُ لُغَةً التَّوَسُّعُ، وَالْيُسْرُ، وَالسُّهُولَةُ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الْأَحْكَامُ الَّتِي ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهَا بِنَاءً عَلَى الْأَعْذَارِ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُحَرِّمِ تَوَسُّعًا فِي الضِّيقِ.
مِثَالٌ: إنَّ بَيْعَ السَّلَمِ بَيْعُ مَعْدُومٍ، وَبِمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (205) فَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ عَدَمُ تَجْوِيزِ هَذَا الْبَيْعِ.
إلَّا أَنَّ احْتِيَاجَ النَّاسِ قَبْلَ الْحُصُولِ عَلَى مَحْصُولَاتِهِمْ لِلنُّقُودِ قَدْ جَوَّزَ هَذَا الْعَقْدَ تَيْسِيرًا وَتَسْهِيلًا لَهُمْ كَذَلِكَ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ قَدْ مُنِحَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْغَبْنِ وَالتَّغْرِيرِ وَجُوِّزَ سَمَاعُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا.
وَجُعِلَ الْعَقْدُ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَالِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ وَتَأْجِيلِ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ النَّاشِئِ عَنْ إجْبَارٍ وَإِكْرَاهٍ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ.
وَكَذَلِكَ اُكْتُفِيَ بِأَنْ يُشَاهِدَ الْمُشْتَرِي كَوْمَةَ الْقَمْحِ أَوْ الشَّعِيرِ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُشَاهِدَ كُلَّ قَمْحَةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ يَشْتَرِيهَا حَتَّى يَزُولَ حَقُّ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي كُلَّ حَبَّةٍ مِنْ الْكَوْمَةِ لَاسْتَوْجَبَ ذَلِكَ صُعُوبَةً فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
كَذَلِكَ اُكْتُفِيَ فِي الثِّيَابِ بِرُؤْيَةِ الثَّوْبِ مِنْ طَرَفِهِ دُونَ أَنْ يَرَاهُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَهُ، وَكَذَلِكَ جُوِّزَ بَيْعُ الْوَفَاءِ دَفْعًا لِمُمَاطَلَةِ الْمَدِينِ وَتَسْهِيلًا لِلدَّائِنِ لَأَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ.
وَجُوِّزَ أَيْضًا خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ دَفْعًا لِلْغُرْمِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بَعْدَ حُصُولِ الْبَيْعِ، وَجُوِّزَ زَوَاجُ الْمَرْأَةِ بِدُونِ النَّظَرِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ الْكَثِيرُونَ عَنْ تَزْوِيجِ بَنَاتِهِمْ غَيْرَةً عَلَيْهِنَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْخَاطِبِينَ، وَجُوِّزَ وَشُرِعَ الطَّلَاقُ لِلتَّسْهِيلِ وَالتَّوْسِيعِ عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الزَّوْجِيَّةِ حَالَ وُجُودِ النُّفُورِ وَالْكَرَاهِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَشَقَّةٌ عُظْمَى وَبَلِيَّةٌ كُبْرَى عَلَيْهِمَا مَعًا.
وَجُوِّزَتْ الْوَصِيَّةُ لِيَتَمَكَّنَ الَّذِي لَمْ يُوَفَّقْ لِعَمَلِ الْخَيْرِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ إجْرَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَأَخِيرًا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ إذَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ النَّصُّ، فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ خِلَافَ ذَلِكَ النَّصِّ بِدَاعِي جَلْبِ التَّيْسِيرِ وَإِزَالَةِ الْمَشَقَّةِ.

(الْمَادَّةُ 16) الِاجْتِهَادُ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ



(الْمَادَّةُ 16) : الِاجْتِهَادُ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ 
يَعْنِي لَوْ اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَةٍ مَا مِنْ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَعَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ أَيْ حَكَمَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ رَأْيٌ آخَرُ فَعَدَلَ عَنْ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَنْقُضُ اجْتِهَادُهُ الثَّانِي حُكْمَهُ النَّاشِئَ عَنْ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ.
كَذَا لَوْ حَكَمَ مُجْتَهِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ، ثُمَّ حَكَمَ مُجْتَهِدٌ ثَانٍ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَيْنِهَا وَكَانَ رَأْيُ الثَّانِي مُخَالِفًا لِرَأْيِ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ الْمُسْتَنِدُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَوَّلِ.
إنَّ لِلْمُجْتَهِدِ شُرُوطًا وَصِفَاتٍ مُعَيَّنَةً فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَلَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ مُجْتَهِدٌ مَا لَمْ يَكُنْ حَائِزًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى سَدِّ بَابِ الِاجْتِهَادِ خَوْفًا مِنْ تَشَتُّتِ الْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ الْمَذَاهِبَ الْمَوْجُودَةَ، وَهِيَ (الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ) قَدْ وَرَدَ فِيهَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ إلَّا أَنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الشِّيعِيُّونَ لَمْ يَزَلْ بَابُ الِاجْتِهَادِ مَفْتُوحًا عِنْدَهُمْ لِلْآنِ، وَفِيهِمْ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ وَبِلَادِ عَامِلٍ وَالْعِرَاقِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمًا مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ السَّابِقِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ ثَانٍ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمًا مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ لِمُجْتَهِدٍ سَابِقٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَا يُرَجِّحُ اجْتِهَادًا عَلَى آخَرَ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَوْ الْحُكْمُ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الثَّانِي هُوَ أَصْوَبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ غَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى إصَابَةِ الْمَرْمَى مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فَكُلٌّ اجْتِهَادٌ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ خَطَأً.
فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) كَانَ يُصْدِرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادِهِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) يَحْضُرُ جِلْسَاتِ الْحُكْمِ وَمَعَ أَنَّ رَأْيَهُ غَيْرُ رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ فِي بَعْضِهَا، فَلَمْ يَنْقُضْ شَيْئًا مِنْهَا بَعْدَمَا عَهِدَ إلَيْهِ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ.
فَعَلَيْهِ اسْتِنَادًا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا حَاكِمٌ مِنْ حَاكِمٍ آخَرَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ الْوَاحِدِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي أَصْدَرَهُ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ اجْتِهَادًا مُخَالِفًا لِاجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَأَنْ يُعْطِيَ أَحْكَامًا وَآرَاءً مُخَالِفَةً لِرَأْيٍ أَوْ حُكْمٍ لَهُ سَابِقٍ. (مُسْتَثْنًى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ) إذَا وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ تَقْتَضِي نَقْضَ اجْتِهَادِ مَا يَجُوزُ نَقْضُهُ بِاجْتِهَادٍ لَاحِقٍ

(الْمَادَّةُ 15) مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ


(الْمَادَّةُ 15) : مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ 
يُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ (النَّصُّ الْوَارِدُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ أَيْ الْوَارِدِ بِهِ نَصٌّ) أَصْلٌ، أَوْ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، أَوْ مُشَبَّهٌ بِهِ، وَلِغَيْرِهِ (فَرْعٌ، وَمَقِيسٌ، وَمُشَبَّهٌ) .
الْقِيَاسُ تَعْرِيفُهُ: إثْبَاتُ حُكْمٍ لِلْفَرْعِ كَحُكْمِ الْأَصْلِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ مُمَاثَلَةٍ فِي الْعِلَّةِ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ.
كَيْفِيَّةُ الْقِيَاسِ: الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يَقُولُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَلَوْ انْتَشَلَ أَحَدٌ مَالًا مِنْ آخَرَ.
وَآخَرُ نَبَشَ قَبْرًا وَسَرَقَ الْكَفَنَ مِنْهُ.
فَالنَّشَّالُ قَدْ أَخَذَ مَالًا مُحْرَزًا خِفْيَةً، فَعِلَّةُ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَدِ مَوْجُودَةٌ فِي عَمَلِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ السَّارِقِ قِيَاسًا، وَأَمَّا (النَّبَّاشُ) فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ فَأَجَازَ الْبَيْعَ دَلَالَةً، وَإِذَا صَرَّحَ صَاحِبُ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَدَمِ إجَازَةِ الْبَيْعِ لَا يُعْتَبَرُ تَصْرِيحُهُ وَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَكَمَا أَنَّ الصَّرَاحَةَ تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الدَّلَالَةِ كَمَا اتَّضَحَ تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إنَّ اللِّيرَةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي فِلَسْطِينَ الْآنَ هِيَ الْجُنَيْهُ الْمِصْرِيُّ، فَلَوْ جَرَى أَمْرِ الزَّوَاجِ لَهُ قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ تَرْكِ التَّصَرُّفِ لَهُ فِي مَالِهِ لِمُمَاثَلَةِ الْعِلَّتَيْنِ فِي التَّصَرُّفِ وَالزَّوَاجِ، وَهُوَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ الصَّالِحَ لِنَفْسِهِ مِنْ الضَّارِّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ أَمْرِ الزَّوَاجِ لِلصَّغِيرِ نَفْسِهِ أَبْلَغُ ضَرَرًا مِنْ تَرْكِ التَّصَرُّفِ لَهُ فِي الْمَالِ.
وَفِي الْمَثَلِ الْعَامِّيِّ يُقَالُ (الْبِنْتُ الصَّغِيرَةُ لَوْ تُرِكَتْ وَشَأْنَهَا فِي أَمْرِ زَوَاجِهَا تَتَزَوَّجُ بِالطَّبَّالِ، أَوْ الزَّمَّارِ) أَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ بِصُورَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إنَّ بَيْعَ الِاسْتِصْنَاعِ جُوِّزَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ وَقِيَاسًا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ الِاسْتِصْنَاعِ غَيْرَ جَائِزٍ، وَلَكِنْ جُوِّزَ اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ عَقْدٍ آخَرَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ أَيْضًا جُوِّزَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَنَّ بَيْعَ ثَمَرِ الشَّجَرِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ ثَمَرُهُ جَائِزًا اسْتِنَادًا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الِاسْتِصْنَاعِ أَوْ بَيْعِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ بِجَوَازِ الِاسْتِصْنَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ بَاعَ شَخْصٌ مَالَ قَرِيبِهِ لِآخَرَ بِحُضُورِهِ وَسَكَتَ، أَوْ بَاعَتْ زَوْجَةٌ مَا بِحُضُورِ زَوْجِهَا مَالًا عَلَى أَنَّهُ لَهَا، وَسَكَتَ الزَّوْجُ فَالْبَيْعُ يَكُون نَافِذًا، فَلَوْ ادَّعَى الْقَرِيبُ صَاحِبُ الْمَالِ أَوْ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَالَ الْمَبِيعَ هُوَ مَالُهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، فَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى مِنْهُ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) فَهَذَا الْحُكْمُ لَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى غَيْرَ الْبَيْعِ وَكَانَ إجَارَةً أَوْ إعَارَةً، فَلَوْ أَقَامَ الدَّعْوَى ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي حَضَرَ الْإِجَارَةَ أَوْ الْإِعَارَةَ، وَادَّعَى بِأَنَّ الْمَالَ مَالُهُ فَالدَّعْوَى تُسْمَعُ مِنْهُ، كَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعَجَزَ الطَّرَفَانِ كِلَاهُمَا عَنْ إثْبَاتِ مُدَّعَاهُمَا، فَبِمَا أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ كِلَاهُمَا مُنْكِرٌ دَعْوَى الْآخَرِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ.
أَمَّا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ وَقَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَتَكُونُ دَعْوَى الْمُدَّعِي هِيَ طَلَبُهُ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ، وَالْوَاجِبُ كَانَ الِاكْتِفَاءَ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي الْمُنْكِرِ زِيَادَةَ الثَّمَنِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَجْرِي خِلَافًا لِلْقَاعِدَةِ.
وَيَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ اسْتِنَادًا عَلَى الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْقَائِلِ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بَيْنَهُمَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَعَلَى ذَلِكَ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ بَعْدَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِلْقِيَاسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى مَثَلًا: لَوْ اخْتَلَفَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُؤَجِّرُ عَلَى بَدَلِ الْإِجَارَةِ لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا تَوْفِيقًا لِلْحُكْمِ بِالْبَيْعِ، بَلْ الْقَوْلُ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

(الْمَادَّةُ 14) لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ


(الْمَادَّةُ 14) : لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ 
يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ الشَّارِعِ لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيهَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ أَوْ الْقِيَاسِ فِي الْفُرُوعِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ وُجُودِ نَصٍّ مِنْ الشَّارِعِ.
الِاجْتِهَادُ: لُغَةً هُوَ التَّكَلُّفُ بِبَذْلِ الْوُسْعِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ صَرْفُ وَبَذْلُ الطَّاقَةِ وَالْقُدْرَةِ أَيْ إجْهَادِ النَّفْسِ لِأَجْلِ الِاسْتِحْصَالِ عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْفَرْعِيِّ مِنْ دَلِيلِهِ الشَّرْعِيِّ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ بَذْلُ وُسْعٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ إذَا صَحَّ حَدِيثٌ وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ. وَإِنَّ الْمُقَلِّدَ لِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ إذَا اتَّبَعَ حُكْمَ الْحَدِيثِ، فَلَا يَكُونُ خَالَفَ وَخَرَجَ عَنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ.وَالْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ هُنَا (الْكِتَابُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ أَيْ الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ) .
مِثَالُ ذَلِكَ: قَدْ نَصَّ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ أَنَّ «الْبَيِّنَةَ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَبَعْدَ وُجُودِ هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَجْتَهِدَ بِخِلَافِهِ وَيَقُولَ بِحُكْمٍ يُنَاقِضُهُ، كَأَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُنْكِرِ) أَوْ (أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي) كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي (هَلْ الْبَيْعُ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ) بَعْدَ وُرُودِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] الْآيَةَ.

(الْمَادَّةُ 13) لَا عِبْرَة لِلدَّلَالَة فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ



(الْمَادَّةُ 13) : (لَا عِبْرَةَ لِلدَّلَالَةِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ) لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ ضَعِيفَةٌ، فَلَا تُعْتَبَرُ مُقَابِلَةً لِلتَّصْرِيحِ الْقَوِيِّ.
إنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ التَّصْرِيحُ يُسَمَّى لَفْظًا صَرِيحًا.
تَعْرِيفُ الصَّرِيحِ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ ظَاهِرًا ظُهُورًا بَيِّنًا وَتَامًّا وَمُعْتَادًا، فَعَلَيْهِ لَوْ أَنَّ شَخْصًا كَانَ مَأْذُونًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ بِعَمَلِ شَيْءٍ فَمُنِعَ صَرَاحَةً عَنْ عَمَلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَا يَبْقَى اعْتِبَارٌ وَحُكِمَ لِذَلِكَ الْإِذْنِ النَّاشِئِ عَنْ الدَّلَالَةِ.
مِثَالُهُ: لَوْ دَخَلَ إنْسَانٌ دَارَ شَخْصٍ فَوَجَدَ عَلَى الْمَائِدَةِ كَأْسًا فَشَرِبَ مِنْهَا وَوَقَعَتْ الْكَأْسُ أَثْنَاءَ شُرْبِهِ وَانْكَسَرَتْ، فَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ مَأْذُونٌ بِالشُّرْبِ مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَهَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ عَنْ الشُّرْبِ مِنْهَا وَانْكَسَرَتْ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ أَبْطَلَ حُكْمَ الْإِذْنِ الْمُسْتَنِدِ عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ.
مِثَالٌ ثَانٍ: لَوْ وَهَبَ شَخْصٌ مَالًا لِآخَرَ وَقَبِلَهُ، فَحُصُولُ عَقْدِ الْهِبَةِ إذْنٌ بِقَبْضِ الْمَالِ دَلَالَةٌ، فَإِنْحَصَلَ الْقَبْضُ تَمَّتْ الْهِبَةُ وَإِنْ نَهَاهُ الْوَاهِبُ صَرَاحَةً قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَ حُكْمُ الدَّلَالَةِ وَبَطَلَتْ الْهِبَةُ، فَلَوْ قَبَضَهُ كَانَ غَاصِبًا وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْغَاصِبِ.
(رُجْحَانُ الصَّرَاحَةِ) وَرُجْحَانُ الصَّرَاحَةِ عَلَى الدَّلَالَةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ حُصُولِ مُعَارَضَةٍ بَيْنَ الصَّرَاحَةِ وَالدَّلَالَةِ قَبْلَ تَرَتُّبِ حُكْمٍ مُسْتَنِدٍ عَلَى الدَّلَالَةِ، أَمَّا بَعْدَ الْعَمَلِ بِالدَّلَالَةِ أَيْ بَعْدَ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ وَجَرَيَانِهِ اسْتِنَادًا عَلَيْهَا، فَلَا اعْتِبَارَ لِلصَّرَاحَةِ.
مِثَالٌ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ بِعْتُك هَذَا الْفَرَسَ فَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَقْبَلَ فِي الْحَالِ، وَيَقُولُ: قَدْ اشْتَرَيْتُ بِدُونِ وُقُوعِ إعْرَاضٍ مِنْهُ حَتَّى يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ حُصُولِ الْإِيجَابِ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ أَوْ اشْتَرَيْتُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِشُغْلٍ آخَرَ، فَإِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَاشْتَغَلَ بِأَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ فَيُصْبِحُ الْإِيجَابُ بَاطِلًا، فَلَوْ قَبِلَ الثَّانِي بَعْدَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ وَقَعَ صَرَاحَةً، فَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ، لَكِنَّ الْإِعْرَاضَ الدَّالَّ عَلَى عَدَمِ الرَّغْبَةِ حُكْمٌ أَبْطَلَ الْإِيجَابَ السَّابِقَ، فَالْقَبُولُ اللَّاحِقُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا لَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ إيجَابًا صَحِيحًا، وَلِهَذَا فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا وَرُجْحَانُ الصَّرِيحِ عَلَى الدَّلَالَةِ يَكُونُ فِيمَا لَوْ تَعَارَضَا فَقَطْ.
كَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَخْصٌ مَالًا مِنْ آخَرَ فُضُولًا فَإِذَا طَالَبَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ يَكُونُ قَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ دَلَالَةً، وَإِذَا صَرَّحَ صَاحِبُ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَدَمِ إجَازَةِ الْبَيْعِ لَا يُعْتَبَرُ تَصْرِيحُهُ وَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَكَمَا أَنَّ الصَّرَاحَةَ تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الدَّلَالَةِ كَمَا اتَّضَحَ تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إنَّ اللِّيرَةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي فِلَسْطِينَ الْآنَ هِيَ الْجُنَيْهُ الْمِصْرِيُّ، فَلَوْ جَرَى عَقْدُ الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى لِيرَاتٍ فَرَنْسَاوِيَّةٍ مَثَلًا فَالْبَيْعُ يَنْعَقِدُ عَلَى لِيرَاتٍ فَرَنْسَاوِيَّةٍ، وَلَا تُحْمَلُ اللِّيرَةُ الَّتِي جَرَى الِاتِّفَاقُ عَلَيْهَا عَلَى اللِّيرَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَمَّا إذَا عُقِدَ الْبَيْعُ عَلَى لِيرَاتٍ بِلَا تَعْيِينِ نَوْعِهَا، فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ اللِّيرَةُ الْمِصْرِيَّةُ

(الْمَادَّةُ 12) الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ



(الْمَادَّةُ 12) : الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ فَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ يَكُونُ خِلَافَ الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا بِالْأَصْلِ الرَّاجِحُ.
الْمَعْنَى: هُوَ الشَّيْءُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكَلَامِ، وَطُرُقُ أَدَاءِ الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (الْحَقِيقَةُ) (2) الْمَجَازُ (3) الْكِنَايَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَطُرُقُ أَدَاءِ الْمَقْصُودِ قِسْمَانِ: (حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ) وَالْكِنَايَةُ عِنْدَهُمْ تَارَةً تَكُونُ حَقِيقَةً وَأُخْرَى تَكُونُ مَجَازًا، فَمُخَاطَبَةُ الشَّخْصِ بِالْقَوْلِ لَهُ (أَبُو إبْرَاهِيمَ) (كِنَايَةٌ) وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَفْظٌ حَقِيقِيٌّ، وَالْقَوْلُ لِلضَّرِيرِ (أَبُو الْعَيْنَاءِ) كِنَايَةٌ جَاءَتْ عَنْ مَجَازٍ.
الْحَقِيقَةُ: هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي وَضَعَهُ الْوَاضِعُ أَيْ وَاضِعُ اللُّغَةِ كَقَوْلِكَ (أَسَدٌ) لِلْوَحْشِ الْمَعْرُوفِ وَفَرَسٌ (لِلدَّابَّةِ الْمَعْلُومَةِ) .
الْمَجَازُ: هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَلَاقَةٌ وَمُنَاسَبَةٌ، فَكَمَا أَنَّ الْعَلَاقَةَ الَّتِي هِيَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ ذَلِكَ اللَّفْظُ مَجَازًا هِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمَجَازِ فَالْقَرِينَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْمَجَازِ أَيْضًا.
مَثَلًا: لَوْ قَالَ شَخْصٌ رَأَيْت أَسَدًا فِي الْحَمَّامِ يَغْتَسِلُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا شُجَاعًا فِي الْحَمَّامِ يَغْتَسِلُ لَا أَنَّهُ رَأَى الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ، وَهُوَ الْوَحْشُ الْمَعْرُوفُ؛ لِأَنَّ الْحَمَّامَ قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُودِ الْأَسَدِ الْحَقِيقِيِّ فِيهِ يَغْتَسِلُ، وَبَيْنَ الْأَسَدِ وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ عَلَاقَةٌ وَمُنَاسَبَةٌ، وَهِيَ الْجُرْأَةُ وَالشَّجَاعَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ هُوَ الرَّاجِحُ فَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ أَصْلٌ وَالْمَجَازِيَّ بَدَلٌ وَالْبَدَلُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا وَقَفَ شَخْصٌ مَالَهُ قَائِلًا إنِّي وَقَفْتُ مَالِي عَلَى أَوْلَادِي وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَوْلَادُ أَوْلَادٍ فَيُصْرَفُ قَوْلُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ، وَلَا تَسْتَفِيدُ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ، فَلَوْ انْقَرَضَ أَوْلَادُهُ لِصُلْبِهِ، فَلَا تُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ عَلَى أَحْفَادِهِ، بَلْ تُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ إلَّا إذَا كَانَ يُوجَدُ لِلْوَاقِفِ أَوْلَادٌ حِينَ الْوَقْفِ، بَلْ كَانَ لَهُ أَحْفَادٌ فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ يُعَدُّ الْمَالُ مَوْقُوفًا عَلَى أَحْفَادِهِ، أَمَّا إذَا وُلِدَ لِلْوَاقِفِ مَوْلُودٌ بَعْدَ إنْشَاءِ الْوَقْفِ فَيَرْجِعُ الْوَقْفُ إلَى وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِلَادَةِ وَلَفْظُ الْوَلَدِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلِأَنَّ لَفْظَةَ الْوَلَدِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ فَعِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ أَوْلَادٍ لِلْوَاقِفِ لِصُلْبِهِ مَثَلًا يُصْرَفُ الْوَقْفُ إلَى الْأَحْفَادِ الَّذِينَ تُسْتَعْمَلُ فِيهِمْ كَلِمَةُ (الْأَوْلَادِ) مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ مَعْنَى الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا.
مَثَلًا: لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ: لَا تَقْتُلْ الْأَسَدَ، فَلَا يُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنَى لَا تَقْتُلْ الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ وَالشَّخْصَ الشُّجَاعَ مَعًا.
أَمَّا إذَا وَرَدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى شُمُولِ اللَّفْظِ لِمَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ (عُمُومِ الْمَجَازِ) وَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. (عُمُومُ الْمَجَازِ) تَعْرِيفُهُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ شَامِلٍ لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ الْوَاقِفُ قَدْ وَقَفْتُ مَالِي هَذَا عَلَى أَوْلَادِي نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ فَقَرِينَةُ (نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ) تَدُلُّ عَلَى شُمُولِ لَفْظِ الْأَوْلَادِ لِكُلِّ وَلَدٍ سَوَاءٌ أَكَانَ وَلَدًا لَهُ حَقِيقَةً أَمْ وَلَدًا لَهُ مَجَازًا مِنْ أَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ وَأَبْنَائِهِمْ.
مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ أَوْصَى شَخْصٌ لِآخَرَ بِثَمَرِ بُسْتَانِهِ فَتُحْمَلُ وَصِيَّتُهُ عَلَى الثَّمَرِ الْمَوْجُودِ أَثْنَاءَ وَفَاةِ الْمُوصِي، وَلَا تُحْمَلُ عَلَى الثَّمَرِ الَّذِي سَيَحْصُلُ فِي السِّنِينَ الْمُقْبِلَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ يُحْمَلُ حَقِيقَةً عَلَى الثَّمَرِ الْمَوْجُودِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى ثَمَرِ الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَبِمَا أَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ الْمَجَازُ وَبِمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ مُتَنَاوِلًا لِلثَّمَرِ الْمَوْجُودِ وَاَلَّذِي سَيُوجَدُ كَذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
أَمَّا ذِكْرُ الْمُوصِي كَلِمَةَ أَبَدًا وَدَائِمًا حِينَمَا ذَكَرَ الثَّمَرَ فَيَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ فَتُحْمَلُ وَصِيَّتُهُ عَلَى الثَّمَرِ الْحَاصِلِ أَثْنَاءَ وَفَاةِ الْمُوصِي، وَالثَّمَرُ الَّذِي سَيَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ إنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِزَيْدٍ فَمَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ الْحَقِيقِيِّ أَنَّهَا مِلْكُ زَيْدٍ وَيَكُونُ بِقَوْلِهِ هَذَا قَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ تِلْكَ الدَّارَ هِيَ مِلْكُ زَيْدٍ الْمَذْكُورِ، فَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّنِي لَا أَقْصِدُ بِكَلَامِي أَنَّ الدَّارَ مِلْكٌ لِزَيْدٍ، بَلْ كُنْت أَقْصِدُ أَنَّهَا مَسْكَنٌ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ وَأَنَّ الدَّارَ هِيَ مِلْكِي، فَلَا يُلْتَفَتُ لِكَلَامِهِ هَذَا إذْ أَنَّ (اللَّامَ) فِي كَلِمَةِ (لِزَيْدٍ) بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، وَالِاخْتِصَاصُ وَإِنْ يَكُنْ عَامًّا لِلتَّمَلُّكِ وَالسَّكَنِ فَالْمَعْنَى الْكَامِلُ فِي هَذَا الْكَلَامِ هُوَ اخْتِصَاصُ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِمِلْكِيَّةِ زَيْدٍ لِتِلْكَ الدَّارِ بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ.

(الْمَادَّةُ 11) الْأَصْلُ إضَافَةُ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهِ


(الْمَادَّةُ 11) : الْأَصْلُ إضَافَةُ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهِ 
الْحَادِثُ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، ثُمَّ وُجِدَ فَإِذَا اُخْتُلِفَ فِي زَمَانِ وُقُوعِهِ وَسَبَبِهِ فَمَا لَمْ تَثْبُتْ نِسْبَتُهُ إلَى الزَّمَانِ الْقَدِيمِ يُنْسَبُ إلَى الزَّمَنِ الْأَقْرَبِ مِنْهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا ادَّعَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا طَلَاقَ الْفَارِّ أَثْنَاءَ مَرَضِ الْمَوْتِ وَطَلَبَتْ الْإِرْثَ، وَالْوَرَثَةُ ادَّعَوْا طَلَاقَهَا فِي حَالٍ صِحَّتِهِ وَأَنْ لَا حَقَّ لَهَا بِالْإِرْثِ، فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْحَادِثَ الْمُخْتَلَفَ عَلَى زَمَنِ وُقُوعِهِ هُنَا هُوَ الطَّلَاقُ فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْوَقْتِ الْأَقْرَبِ، وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ الَّذِي تَدَّعِيهِ الزَّوْجَةُ مَا لَمْ يُقِمْ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ.
كَذَا لَوْ ادَّعَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ مُرُورِ مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنَّهُ فَسَخَ الْعَقْدَ فِي ظَرْفِ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَادَّعَى الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الْفَسْخَ حَصَلَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَأَنَّ الْفَسْخَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَالْأَمْرُ الْحَادِثُ، وَهُوَ الْفَسْخُ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ حُصُولُ الْفَسْخِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَالْقَوْلُ لِمَنْ يُنْكِرُ حُصُولَ الْفَسْخِ بِمُدَّةِ الْخِيَارِ، أَمَّا إذَا أَثْبَتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ بِالْبَيِّنَةِ حُصُولَ الْفَسْخِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَيُحْكَمُ بِمُوجَبِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ خِلَافَ الْأَصْلِ.
مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ بَاعَ الْأَبُ مَالَ وَلَدِهِ وَادَّعَى الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ أَنَّهُ بَاعَ مَالَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِهَذَا السَّبَبِ، وَالْأَبُ أَنْكَرَ وُقُوعَ الْبَيْعِ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَادَّعَى حُصُولَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَبِمَا أَنَّ الْبُلُوغَ زَمَنًا مِنْ قَبْلِ الْبُلُوغِ، فَالْقَوْلُ لِلِابْنِ وَعَلَى الْأَبِ إثْبَاتُ خِلَافَ الْأَصْلِ.
مِثَالٌ آخَرُ: إذَا ادَّعَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَوْ وَصِيُّهُ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ الَّذِي أَجْرَاهُ الْمَحْجُورُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ بِحَجْرِهِ وَطَلَبَ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي حُصُولَ الْبَيْعِ قَبْلَ تَارِيخِ الْحَجْرِ، فَالْقَوْلُ لِلْمَحْجُورِ أَوْ وَصِيُّهُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْبَيْعِ بَعْدَ الْحَجْرِ أَصْلٌ، وَهُوَ أَقْرَبُ زَمَنًا مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي وَعَلَى الْمُشْتَرِي إثْبَاتُ خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ حُصُولُ الْبَيْعِ لَهُ قَبْلَ صُدُورِ الْحُكْمِ بِالْحَجْرِ.
مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ شَهِدَتْ الشُّهُودُ بِالطَّلَاقِ فَسُئِلُوا عَنْ تَارِيخِ وُقُوعِهِ هَلْ كَانَ زَمَنُ الصِّحَّةِ أَوْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ حِينَئِذٍ وُقُوعُهُ عَلَى زَمَنِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
مِثَالٌ آخَرُ: إذَا ادَّعَتْ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ الْمَسِيحِيَّةُ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِ زَوْجِهَا وَطَلَبَتْ حِصَّتَهَا الْإِرْثِيَّةَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَادَّعَى الْوَرَثَةُ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْقَوْلُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ إسْلَامِهَا بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا أَقْرَبُ تَارِيخًا، وَهُوَ الْأَصْلُ مَا لَمْ تَثْبُتْ.
(مُسْتَثْنَيَاتُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ) (1) لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى حَاكِمٍ مَعْزُولٍ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ بَعْدَ عَزْلِهِ مَبْلَغًا قَدْرُهُ كَذَا جَبْرًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ أَثْنَاءَ مَا كَانَ حَاكِمًا بَعْدَ أَنْ أَجْرَى مُحَاكَمَتَهُ وَأَنَّهُ أَعْطَى الْمَبْلَغَ لِلْمَحْكُومِ لَهُ فُلَانٍ، فَإِذَا كَانَ الْمَبْلَغُ الْمَدْفُوعُ تَلِفَ فِي يَدِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَالْقَوْلُ لِلْحَاكِمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُضِيفُ فِعْلَهُ لِزَمَنٍ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ وَيَدَّعِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ بِحَسَبِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَمَّا كَانَ وُقُوعُ الْأَخْذِ بَعْدَ الْعَزْلِ هُوَ أَقْرَبُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ أَصْلًا، وَعَلَى الْحَاكِمِ الْمُدَّعِي أَنْ يُثْبِتَ خِلَافَ الْأَصْلِ أَيْ حُصُولَ الْأَخْذِ قَبْلَ الْعَزْلِ.
(2) إذَا ادَّعَتْ زَوْجَةُ مَسِيحِيٍّ أَنَّ إسْلَامَهَا وَقَعَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَأَنَّ لَهَا الْحَقَّ فِي أَنْ تَرِثَهُ لِكَوْنِهَا حِينَ وَفَاتِهِ كَانَتْ عَلَى دِينِهِ، وَادَّعَى الْوَرَثَةُ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، فَالْقَوْلُ لِلْوَرَثَةِ مَعَ أَنَّهُ حَسَبَ الْقَاعِدَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِنَاقَهَا الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ أَمْرٌ حَادِثٌ، وَالزَّوْجَةُ تَدَّعِي حُدُوثَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَقْرَبِ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يُثْبِتُوا خِلَافَ الْأَصْلِ، وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ جَرَيَانِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى هُوَ الْعَمَلُ بِقَاعِدَةِ الِاسْتِصْحَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ أَيْ سَبَبَ الْحِرْمَانِ مِنْ الْإِرْثِ هُوَ مَوْجُودٌ بِالْحَالِ، وَبِالِاسْتِصْحَابِ الْمَقْلُوبِ تُعْتَبَرُ فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ مُسْلِمَةٌ أَيْضًا.
مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ آخَرَ لَأَنْ يَحْفَظَ مَالَهُ مُدَّةً سَنَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَتَلِفَ الْمَالُ، وَادَّعَى الْأَجِيرُ اسْتِحْقَاقَهُ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ لِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ، وَادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ تَلِفَ لِمُرُورِ شَهْرٍ مِنْ تَسَلُّمِ الْأَجِيرِ لَهُ وَأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْرِ سِوَى أُجْرَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ، فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ خِلَافًا لِلْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ الْكُتُبُ الْفِقْهِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِقَوْلِهَا (فَإِنْ قِيلَ الْأَصْلُ أَنْ يُضَافَ الْحَادِثُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ الْأَجِيرُ، يُقَالُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرٌ يَصِحُّ لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَغَرَضُ الْأَجِيرِ أَخْذُ الْأَجْرِ، فَلَا يَصِحُّ بِهِ) .
مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّ إقْرَارَهُ وَقَعَ حَالٍ طُفُولِيَّتِهِ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حَصَلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ مَعَ الْيَمِينِ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ - تَوْفِيقًا لِقَاعِدَةِ إضَافَةِ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهِ - أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الزَّمَنَ الْأَقْرَبَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ طَلَبَ الْأَجْرِ وَطَلَبَ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ أَصْبَحَا خَارِجَيْنِ عَنْ قَاعِدَةِ (الْأَصْلُ إضَافَةُ الْحَوَادِثِ إلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهَا) لِمُعَارَضَةِ قَاعِدَةِ (الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ) لَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ.