الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسلام. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسلام. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 20 أكتوبر 2022

التقنين والإلزام في الفقه الإسلامي

التقنين والإلزام في الفقه الإسلامي

 

 

عبد الله بن إبراهيم الموسى

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود

الأحساء، المملكة العربية السعودية

 

 

الملخص:

يتناول البحث النقاط التالية:

عرض مراحل التقنين والإلزام، منذ طرح ابن المقفع هذه الفكرة على الخليفة المنصور، إلى وجوده حقيقة في مجلة الأحكام العدلية، إلى مشروع تقنين الأزهر أخيراً. عرض موقف الفقهاء من مسألة تقييد القاضي بمذهب معين، وهي المتكأ في تكييف الإلزام بالتقنين، وفيها قولان، ثم ترجيح القول القاضي بجواز التقييد.

عرض أقوال المانعين والمجيزين للتقنين والإلزام، ومناقشة أدلتهم، وقد تم ترجيح القول القاضي بجواز الإلزام.

عرض بعض نماذج من التقنين الفقهي، في مختلف المذاهب، لبيان حقيقة التقنين، على أنه لا يختلف عن نصوص الفقهاء مضموناً، إنما بالشكل والترتيب؛ ليسهل الرجوع إليه.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الكلمات المفتاحية:

الإلزام: التقنين، الفقه الإسلامي.

المقدمة:

إن أحكام الشريعة الإسلامية، التي أرسى قواعدها فقهاء المذاهب الأربعة، استمداداً من الكتاب والسنة، كانت سهلة المتناول لدى علماء وقضاة هذه الأمة في السابق، فالأحكام وأقوال الفقهاء كانت ماثلة أمام أعينهم؛ وذلك لما تمتعوا به من سعة علم وفهم ثابت، وما تحققوا به من إخلاص نية، وصدق مع الله تعالى، وهكذا كان شأن القضاء على مر القرون، فإن المصادر الفقهية القديمة كانت زادهم، واستنباط الأحكام منها سهل ميسر، إلى أن جاء العصر الحديث، فتغيرت الأحوال: من ضعف في االمستوى العلمي، والوازع الديني، إلى كثرة القضايا والخصومات في المحاكم، إلى مزاحمة قوانين الغرب بلادنا وشغف البعض بها، إلى غير ذلك، فهذا كله دعا إلى وجود فكرة التقنين الفقهي والإلزام به، وهو مما اختلفت فيه الآراء في هذا الزمن، وكتبت فيه البحوث، وكان هذا الموضوع الشائك ولا يزال بين أخذٍ ورد.

وما هذا البحث الذي أقدمه تحت عنوان: (التقنين والإلزام في الفقه الإسلامي) إلا لبنة متممة في هذا البناء.

ولقد كثرت التساؤلات في هذا الموضوع:

·         هل يجب على المسلمين عامة والقضاة خاصة اتباع مذهب معين، لا يتجاوزونه؟

·         هل يجوز تدوين الفقه، وعلى أي صورة يكون ذلك؟

·         هل يجوز لولي الأمر إلزام القضاء بالحكم وفق مذهب معين، ولو كان ذلك مخالفاً لرأي القاضي؟

·         أيهما الأصلح للمجتمع:

·         ترك القاضي يقضي حسب ما يراه من نصوص الفقهاء.

·         أم إلزامه بالتقنين الفقهي؟

فحول هذه التساؤلات يدور محور البحث.

كما أن ثمة تساؤل هام عام مفاده: إذا كانت الشريعة الإسلامية ظلت مطبقة قروناً عديدة في عامة البلاد العربية والإسلامية، فَلِمَ استبدل القانون الغربي بها في بعض الدول؟ فهل كان العيب فيها، أم بأبنائها العاجزين عن تحكيمها في مجتمعهم الحديث؟([1]). فيبدو أنه الثاني، فحاشا الشريعة التي ارتضاها المولى عز وجل لخير الأمم وللبشرية جمعاء إلى قيام الساعة، وجاء بها خير الرسل وخاتمهم صلى الله عليه وسلم، أن لا تكون صالحة للتطبيق([2]).

كما أنه ينبغي ملاحظة النقاط التالية:

1.     أن الشريعة الإسلامية هي السابقة لأرقي النظم والقوانين، وهي أعم المبادئ وأشملها، ومنها استمد القانون الوضعي جل أنظمته، ثم تطورت شيئاً فشيئاً([3]).

2.     أن للشريعة الإسلامية خصوماً من شراح القانون الوضعي، كما أن لها أنصاراً يقولون الحق، ويعترفون بفضلها، وصلاحها للبشرية.

3.     أن كثيراً من علماء المسلمين يرفضون فكرة التقنين الفقهي سلفاً، دون إمعان النظر؛ وذلك خشية تسلل القانون الوضعي للبلاد، واستبداله بالشريعة الإسلامية.

الدراسات السابقة في هذا الموضوع:

ثمة دراسات سبقت هذا البحث، في هذا الموضوع، وقفت على أبرزها، نوردها حسب القدم على النحو التالي:

1.     الإسلام وتقنين الأحكام، وهي رسالة أعدت لنيل درجة الدكتوراه من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، سنة 1385هـ- 1966م، للدكتور عبد العزيز القاسم، وهي رسالة رائدة في موضوع التقنين في العصر الحديث، عوَّل عليها معظم من جاء بعده.

2.     التقنين والإلزام، للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، ضمن سلسلة (فقه النوازل) نشر: 1402هـ- 1982م.

3.     تقنين الفقه الإسلامي، للدكتور محمد زكي عبد البر، نشر: 1407هـ- 1986م.

4.     تدوين الراجح من أقوال الفقهاء (القسم الأول)، مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، العدد (31) 1411هـ.

·         تدوين الراجح من أقوال الفقهاء (القسم الثاني)، العدد (32) 1412هـ.

·         تدوين الراجح من أقوال الفقهاء (القسم الثالث)، العدد (33) 1412هـ.

5.     جهود تقنين الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي، نشر: 1408هـ- 1987م.

6.     أضواء على تقنين الشريعة الإسلامية، للمستشار السيد عبد العزيز هندي.

7.     تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، للدكتور ناصر عبد الله الميمان، مجلة الأحمدية (19)، 1426هـ- 2005م.

8.     تقنين الأحكام الشريعة ضرورة عصرية، للدكتور محمد عبد اللطيف عبد العاطي ، ندوة القضاء الشرعي، جامعة الشارقة، 1427هـ- 2006م.

9.     تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين، للدكتور عبد الرحمن أحد الجرعي، ندوة القضاء الشرعي، جامعة الشارقة، 1427هـ- 2006م.

10.         تقنين الشريعة الإسلامية وصلته بتطبيقها في القضاء الشرعي، للدكتور عبد الله الجبوري، ندوة القضاء الشرعي، جامعة الشارقة، 1427هـ- 2006م.

وثمة دراسات أخرى في هذا الموضوع لم أقف عليها، مثل:

·         تقنين الشريعة، عبد الرحمن حبيب.

·         مفاهيم حول التقنين: عبد الله محمد عمر طه.

·         تقنين الأحكام الأسرية بين مؤيد ومعارض: ضحى الزياني.

·         المتون الفقهية وصلتها بتقنين الفقه: الدكتور محمد ظافر حمدي.

موقع البحث من الدراسات السابقة:

لقد أفدت من الدراسات السابقة، وحاولت في بحثي هذا استقصاء الأقوال المانعة والمجيزة للتقنين وأدلتها ومناقشتها، وجمع أطراف الموضوع ما أمكن، والخروج بنتيجة بعد الترجيح بين الأقوال، وذلك بأسلوب سهل، كما ضمنت هذا البحث نماذج من التقنين الفقهي؛ إتماماً للفائدة، وليقف القارئ على جمال التقنين الفقهي، ومضاهاته للقوانين الغربية، في الصياغة والأسلوب، فضلاً عن تفوقه في المضمون والمعنى؛ لأنه من لدن عليم خبير، مؤكداً على أن الشريعة الإسلامية – بفضل الله تعالى- قادرة على أن تقف على قدميها في كل زمان، متفوقة على كل الشرائع بكل معنى واعتبار.

منهجية البحث:

اتبعت في كتابة البحث الخطوات التالية:

1.     كان جل اعتمادي في كتابة البحث على المراجع المعاصرة، على أن التقنين الفقهي موضوع حديث، وليس له رصيد في المصادر القديمة، ما عدا مسألة إلزام القاضي بمذهب معين، والتي هي الأساس التي ينبني عليها موضوعنا، فقد اعتمدت فيها على أمهات المذاهب؛ لأبين مدى جواز الإلزام بالتقنين.

2.     خرّجت الأحاديث من مصادرها الأصيلة، ذاكراً رقم الحديث والكتاب والباب الذي يندرج تحتهما الحديث.

3.     ترجمت للأعلام الواردة في البحث، ولا سيما من كان لهم صلة بالموضوع، ما عدا المعاصرين.

4.     اعتمدت المحاكمة العقلية في عرض غالب الأدلة ومناقشتها.

5.     حرصت على جمع أقوال أهل العلم في هذا الموضوع، مع الحرص على التحقيق في نسبة الأقوال إلى أصحابها، واضعاً ذلك بين قوسين أحياناً.

خطة البحث:

وقد جاءت مكونة من تمهيد وثلاثة مطالب وخاتمة، على النحو التالي:

التمهيد: في تعريف التقنين والإلزام، والمراحل التي مر بها. وفيه مسألتان:

الأولى: في تعريف التقنين، والألفاظ ذات الصلة.

الثانية: في المراحل التي مر بها التقنين والإلزام.

المطلب الأول: التكييف الفقهي للتقنين والإلزام. وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: القائلون بعدم جواز تقييد القاضي بمذهب.

المسألة الثانية: القائلون بجواز تقييد القاضي بمذهب.

المطلب الثاني: التقنين الفقهي والإلزام بين المانعين والمجيزين. وفيه ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: في المانعين للتقنين والإلزام وأدلتهم ومقترحاتهم.

أولاً: العلماء المانعون.

ثانياً: أدلتهم ومناقشتها.

ثالثاً: عيوب التقنين والمقترحات البديلة.

المسألة الثانية: في المجيزين للتقنين والإلزام وأدلتهم.

أولاً: العلماء المجيزون.

ثانياً: أدلتهم ومناقشتها.

المسألة الثالثة: في الترجيح بين الأقوال، وعرض بعض المقترحات.

أولاً: الترجيح.

ثانياً: بعض المقترحات في منهجية التقنين.

المطلب الثالث: في نماذج من التقنين الفقهي. وفيه أربعة نماذج:

·             النموذج الأول: مجلة الأحكام العدلية (الحنفية).

·             النموذج الثاني: ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية.

·             النموذج الثالث: مجلة الأحكام الشرعية (الحنبلية).

·             النموذج الرابع: تقنين مجمع البحوث في الأزهر.

الخاتمة: وتشمل أبرز النتائج والتوصيات.

وإنني إذ أضع هذا البحث بين أيدي زملائي الباحثين، وإخوتي القارئين أقول: إنه جهد بشر، لا يخلو من النقص والزلل، أسأله سبحانه أن يسدد خطانا، ويحفظ ألسنتنا وأقلامنا، ويلهمنا رشدنا، ويجعل أعمالنا مخلصة لوجهه الكريم، وخدمة لشريعته السمحاء ، وأن يتقبل منا أعمالنا جميعاً، ويجزينا عنها خير الجزاء، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

التمهيد:

تعريف التقنين الفقهي وبيان المراحل التي مر بها.

المسألة الأولى:

تعريف التقنين الفقهي والألفاظ ذات الصلة به:

1- تعريف التقنين الفقهي:

لغة: من قنن يقنن، وهو وضع القوانين، والقانون: مقياس كل شيء وطريقه، وهو أمر كلي ينطبق على جميع جزئياته، التي تتعرف أحكامها منه([4]).

اصطلاحاً: عرف الدكتور محمد زكي عبد البر التقنين بمفهومه العام بقوله: "التقنين: عبارة عن جمع القواعد الخاصة بفرع من فروع القانون، بعد تبويبها وترتيبها، وإزالة ما قد يكون بينها، وما فيها من غموض في مدونة واحدة"([5]).

كما عرفه الدكتور الزحيلي بقوله: "التقنين: هو صياغة أحكام المعاملات وغيرها، من عقود ونظريات ممهدة لها، جامعة لإطارها، في صور مواد قانونية، يسهل الرجوع إليها"([6]).

ويلحظ على التعريفين، عدم ذكر المصدر والأساس الذي ينبني عليه التقنين، وهو الشريعة الإسلامية؛ ليظهر الفارق جلياً بين التشريع الإسلامي والتشريع الوضعي.

ويمكن لنا أن نقترح تعريفاً للتقنين الفقهي على النحو التالي:

هو مجموعة أحكام شرعية مرتبة مرقمة، صيغت بإيجاز، شاملة للمعاملات وغيرها، يسهل الرجوع إليها عند الحاجة.

·         والمقصود بغير المعاملات: أحكام الجنايات ونحوها، أما العبادات فليست معنية هنا بالتقنين([7])؛ لأنها أحكام طوعية تعبدية، لا علاقة للقضاء فيها على العموم.

·         وإذا أطلق لفظ (القانون) دون تقييد فإنه يراد به- في زماننا الحالي- القانون الوضعي، الذي يقابل الشريعة الإسلامية؛ وذلك لعدم وجود القانون الشرعي المستمد من الشريعة الإسلامية، الذي نحن بصدده الآن، على أرض الواقع والتطبيق إلا قليلاً.

2- الألفاظ ذات الصلة:

ثمة ألفاظ ذات صلة بالتقنين، منها شرعية، كالقواعد الفقهية، ومنها وضعية، كالتشريع والنظام والدستور، فلنعرف بها بإيجاز، ثم نذكر صلتها بالتقنين على النحو التالي:

أ. القواعد الفقهية: جمع قاعدة، وهي:

لغة: الأساس، ومنها قوله تعالى: (وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ) (البقرة: 127) أي: أساس البيت([8])، ويسميها النحاة: الضابط، بمعنى الحكم المنطبق على جميع جزئياته، كقولهم: الفاعل مرفوع، والمفعول به منصوب.

واصطلاحاً: حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته، كقولهم: الأمور بمقاصدها، والعادة محكّمة.

فالقواعد الفقهية: أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية، تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها([9]).

أما صلتها بالتقنين، فإن القاعدة قد تستخدم نصاً في إحدى مواد القانون الفقهي، كما في مجلة الأحكام العدلية، فإن المائة مادة الأولى منها كانت قواعد فقهية، فالعلاقة بين القواعد والتقنين الفقهي علاقة عموم وخصوص مطلق، فالتقنين عام، والقواعد من قبيل الخاص، فهي فرد من أفراد العام.

ب. التشريع: "وهو القواعد القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية المختصة، في نصوص مكتوبة، وفقاً لأصول معينة"([10]).

وهذا يفارق التقنين الفقهي من حيث المصدر، فهذا مصدره السلطة التشريعية، ويمثلها مجلس النواب، أو مجلس الشعب، حسب تسميتها في كل بلد، وهذا ما يكون في البلاد العلمانية، التي لا تحكم الشريعة الإسلامية في حياتها العامة، ويكون الشعب هو مصدر التشريع.

أما التقنين الفقهي: فهو عبارة عن قانون منظم، مستمد من الشريعة الإسلامية، هذا من حيث المصدر، أما من حيث العموم والشمول، فيبدو أن التشريع أعم من التقنين؛ لأن هذا الأخير قانون يندرج تحت قواعد التشريع العامة.

ج. النظام: مفرد، وجمعه أنظمة، وهي: "نصوص تصدر عن السلطة التنفيذية، متضمنة القواعد التي تفصل أحكام التشريعات، وتوضحها، وتبين كيفية تنفيذها وتطبيقها"([11]).

والفرق بين التشريع والنظام، أن الأول- أي التشريع- يصدر عن السلطة التشريعية- كما مر معنا- أما النظام: فإنه يصدر عن رئيس الدولة، أو الوزراء المختصين، أو الإدارات العامة، ويطلق على الأنظمة الصادرة عن رئيس الدولة (المراسيم التنظيمية)، كما أن هذه الأخيرة لها صفة الإلزام والتنفيذ، باعتبارها من صلاحية السلطة التنفيذية.

ويلاحظ أن الأنظمة- عموماً- قريبة المعنى من التقنين، فهي نصوص تصدر عن الوزارات المختلفة في الدولة، ملزمة لأهلها، والتقنين كذلك، إلى حد ما. يقول الدكتور عبد الرحمن القاسم: (فمضمون القانون ليس إلا مضمون النظام أو اللائحة، أو الأوامر العامة"([12]).

د. الدستور: "ويطلق على مجموعة القواعد القانونية الصادرة عن السلطة خاصة تسمى بالسلطة التأسيسية، والتي تتضمن النظام الأساسي للدولة والمبادئ العامة التي يقوم عليها أسلوب الحكم فيها"([13]).

فيبدو أن العلاقة بين الدستور والتقنين علاقة عموم وخصوص مطلق، فالدستور أعم من التقنين، كما هو أعم من النظام أيضاً؛ لأن النظام والتقنين متناظران بهذا الاعتبار، والدستور حاكم عليهما جميعاً.

هذا كله عن التقنين، فماذا عن الإلزام، الذي هو أحد مفردات عنوان البحث؟

الإلزام: من لزم يلزم لزوماً، وهو عدم مفارقة الشيء، ومنه: ملازمة الغريم، وألزمه: يعني أجبره على ملازمة الشيء([14]).

ونعني به في موضوعنا: أمر ولي الأمر القضاة ونحوهم باتباع هذا القانون والعمل به دون غيره.

والواقع أن مفهوم التقنين يقضي بأن يكون ثمة إلزام، وإلا فلا معنى له، إذا لم يكن القانون ملزماً للجميع.

ولذا كان الخلاف بين العلماء المعاصرين في قضية الإلزام، لا في مصطلح التقنين؛ لأن التقنين حقيقته: التأليف، وهو نوع جديد من التصنيف، كالمعاجم والموسوعات والفهارس الفقهية ونحوها، إنما الخلاف في الإلزام به لا غير.

المسألة الثانية: المراحل التي مر بها التقنين والإلزام

لقد مر التقنين والإلزام بمراحل عدة، نسردها حسب التاريخ الزمني، على النحو التالي:

1. يرى بعضهم أن الوثيقة التي دون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق المسلمين، وغير المسلمين، في المدينة المنورة([15])، بمثابة البذرة الأولى لفكرة التقنين، فهي تشبه ما يسمى في عصرنا (القانون الدستوري)([16])؛ لأن فيها معنى التقنين الملزم.

2. ويرى بعض الباحثين أن مبدي فكرة الإلزام، وجمع الإمام الناس على رأي واحد في القضاء هو عبد الله بن المقفع([17])، الأديب المشهور، فقد جاء في رسالته لأمير المؤمنين (المنصور): "ومما ينظر أمير المؤمنين، من أمر هذين المصرين، وغيرهما من الأمصار والنواحي: اختلاف هذه الأحكام المتناقضة، التي قد بلغ اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال، فيُستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان في مكة... فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة، فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية أمره الذي يلهمه الله ويعزم عليه، وينهى عن القضاء بخلافه"([18]).

3. روى الإمام مالك (ت: 179هـ) قال: لما حج المنصور([19]) دعاني فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: عزمت أن آمر بكتابك هذا- يعني الموطأ- فننسخ نسخاً إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، وعملوا به ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: لعمري، لو طاوعتني لأمرت بذلك([20]).

والشاهد في ذلك: أنه لو طاوعه الإمام مالك لكان الموطأ قانوناً ملزماً لجميع الأمصار وقضاتهم، ولكنه لم يفعل، وربما كان سبب ذلك أنه كان قبل جمع السنة كاملة، فقد خاف أن يكون منها في الأمصار ما لم يصل إليه منها، فيترك العمل به، بخلاف ما عليه الحال الآن، فقد جمعت السنة، وأمكن الإحاطة بها عموماً.

وما حدث للإمام مالك مع المنصور، حدث له أيضاً مع ولده المهدي([21]) (ت: 169هـ)، ومثل ذلك حدث مع ولده أيضاً هارون الرشيد([22]) (ت: 193هـ)، فكان يعتذر عن الموافقة على إلزام الناس بالموطأ([23])، كما ذكرنا. فالخلاصة: أن الخليفة العباسي- والذي يعتبر من العلماء- كان مصراً على هذه الفكرة، التي هي جوهر التقنين والإلزام.

4. روى القاضي أبو يوسف (ت: 182هـ) أن هارون الرشيد طلب منه أن يضع له نظاماً مالياً يضبط شؤون الدولة، فكان كتاب الخراج، الذي ضمنه: (أحكام الغنائم، والفيء، والخراج، وتقسيم الأراضي، والقطائع، وموات الأرض، والصدقات، وإجارة الأراضي، والأقنية، والآبار، والجزية، ومعاملة أهل الذمة، والأسرى ونحوها)، كما ضمنه شيئاً من النظام الجنائي والتعامل مع المجرمين. ثم وجهه إلى أمير المؤمنين قائلاً: "إلى أمير المؤمنين أيده الله تعالى، سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي([24])، وغير ذلك، مما يجب عليه النظر فيه والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته والصلاح لأمرهم..."([25]).

فأنت تلاحظ أن الغاية من هذا النظام هي رفع الظلم، وتحقيق المصلحة، وذلك بتحديد العلاقة بين الراعي والرعية، وغير المسلمين في الدولة.

5. ثم كانت كتب الأحكام السلطانية، أشبه بدساتير منظمة للمجتمع، للماوردي (ت: 450هـ)، ولأبي يعلى (ت: 458هـ)، وهما شبيهان بكتاب الخراج السابق. فمما جاء في كتاب أبي يعلى مثلاً: "وأما القسم الثالث: فيما يختص بالعمال من تقليد وعزل، فيشتمل على ستة فصول: أحدها: ذكر من يصلح منه تقليد العمالة، وهو معتبر بنفوذ الأمر، وجواز النظر، وكل من جاز نظره في عمل نفذت فيه أوامره، وصح منه تقليد العمال عليه، وهذا يكون من أحد ثلاثة: إما من السلطان المستولي على كل الأمور، وإما من وزير التفويض، وإما من عامل عام العمالة"([26]).

6. ولقد حاول ابن جزي (ت: 741هـ) ترتيب الفقه المالكي بما يشبه التقنين، فكان كتابه (القوانين الفقهية)، فقد صيغت أحكامه على طريقة تشبه مواد القوانين، وغايته من ذلك التسهيل والإيجاز، وفي هذا يقول: "الفائدة الثالثة: إنا قصدنا إليه الجمع بين الإيجاز والبيان، على أنهما قلما يجتمعان، فجاء بعون الله سهل العبارة، لطيف الإشارة، تام المعاني، مختصر الألفاظ"([27])، وهذه أبرز مواصفات التقنين الفقهي، إلا أن الأمر كان خالياً عن فكرة الإلزام، التي هي محور الخلاف.

7. ويرى بعضهم أن فكرة التقنين والإلزام، بقيت معطلة، بعيدة عن التنفيذ، حتى اتجهت الحكومة العثمانية في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، قبل زوالها، إلى إخراج قانون للمعاملات، يتلاءم وروح العصر، فصدرت إرادة سلطانية بتأليف لجنة من سبعة من العلماء، من مشاهير الفقهاء برئاسة أحمد جودت باشا([28])، ناظر ديوان الأحكام العدلية، وابتدأت اللجنة عملها سنة (1285هـ- 1869م) وانتهت من وضع أحكام المعاملات سنة (1293هـ- 1876م)، وكان ذلك في (1851) مادة، عرفت هذه المجموعة باسم (مجلة الأحكام العدلية) وهي مأخوذة من الفقه الحنفي، وذلك في: البيوع والدعاوى والقضاء، وقد اقتضى التيسير أن يؤخذ فيها ببعض الأقوال المرجوحة، وابتدأ العمل بها في تركيا والبلاد التابعة لها في 26 شعبان 1293هـ([29]).

8. ثم صدر بعد ذلك قانون حقوق العائلة العثماني، الذي يختص بالزواج والفرقة وحقوق الأولاد، وذلك في 8 محرم سنة (1336هـ- 1917م) ولم يلتزم هذا القانون بالمذهب الحنفي، كما هو بالنسبة لمجلة الأحكام العدلية([30]).

9. ثم إن الفقيه قدري باشا([31])، عمل مجموعة من القوانين، مستمدة من المذهب الحنفي، وهي:

أ. مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان، في المعاملات، وهو مكون من (1045) مادة، طبع سنة 1890م، وقد أشار في هوامشه إلى المصدر الذي استقى منه الحكم في كل مادة، وبذلك يتسنى للباحث والمحقق والقاضي أن يتتبع تلك المصادر للوقوف على صحة الأحكام ومعرفة مكانتها، ومدى قوة حجتها([32]).

ب. العدل والإنصاف في مشكلات الأوقاف، وجاء مكوناً من (646) مادة، وطبع سنة 1893م.

ج. الأحكام الشرعية في الأصول الشخصية، وهو مكون من (647) مادة([33]).

غير أن هذا الجهد العظيم، لم يكن له صفة الإلزام والرسمية، إذ لم تتبناه الدولة، فكان جهداً فردياً، يشكر عليه صاحبه، إلا أنه نبه الأذهان إلى أهمية التقنين الفقهي.

10. ثم وضع أحمد القاري المكي([34])، مجلة الأحكام الشرعية في المذهب الحنبلي، على غرار مجلة الأحكام العدلية، ومرشد الحيران، وهي مكونة من (2382)مادة([35]). غير أن هذا الجهد، كان كسابقه لدى قدري باشا، لم تعتمده الدولة، ولم يكن له صفة الإلزام والرسمية، إلا أنه نبه الأذهان إلى هذا المعنى وأهميته أيضاً.

11. ثم وضع المحامي الليبي محمد بن محمد عامر (ت: 1381هـ) كتابه في تقنين الفقه المالكي، سماه: (ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية) يشمل (928) مادة، في القضاء الشرعي ومتعلقاته، والحقوق العائلية والأحوال الشخصية، والمعاملات والمواريث([36]).

12. ثم كان مشروع تقنين الأزهر، وذلك على النحو التالي:

أ. وافق مجلس مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، في جلسته رقم (27) تاريخ 8/3/1967م، على إيجاد مشروع قانون شامل للأحوال المدنية والجنائية وغيرها، مصدره الشريعة الإسلامية، وأوصى المجمع بجلسته المنعقدة بتاريخ 27/5/1968م، بما يلي: (بتأليف لجنة من رجال الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، لتضطلع بوضع الدراسات ومشروعات القوانين، التي تيسر على المسؤولين في البلاد الإسلامية، الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية في قوانين بلادها، كقانون العقوبات، والقانون التجاري، والقانون البحري وغيرها)([37]).

ب. ثم وافق المجلس بجلسته رقم (22) تاريخ 7/1/1970م على الخطة المرحلية لأعمال لجان المجمع، ثم وضعت خطة العمل في مشروع التقنين على النحو التالي:

أولاً: تقنين المذاهب الفقهية التي يعمل بها في البلاد الإسلامية، ويبدأ في المرحلة الحالية بتقنين المذاهب الأربعة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) كل على حدة، وتصاغ أحكامه على شكل مواد، وذلك حسب الراجح في كل مذهب، على أن تلحق كل مادة بمذكرة تفسيرية، تذكر فيها الآراء الأخرى، كما يذكر فيها الرأي الذي يُرى أنه الأنسب للتطبيق في العصر الحاضر.

ثانياً: بعد الفراغ من تقنين كل مذهب على حدة، يبدأ العمل في وضع قانون مختار، من بين المذاهب جميعها.

وبذلك يمكن للمجمع أن يقدم لكل بيئة من البيئات الإسلامية التي ترتبط بمذهب معين، قانوناً إسلامياً، يصور ذلك المذهب في أمانة، كما يمكنه أن يقدم قانوناً إسلامياً مختاراً، من بين المذاهب، يفي باحتياجات البيئات التي تطلبه([38]).

ج. أتمت اللجنة العليا للتقنين إعداد مشروع قانون الحدود الشرعية، وقدمته إلى الجهات الدستورية المختصة لإصداره، فتم إعداد مشروع قانون عقوبات إسلامي متكامل، وقد جاء مكوناً من (630) مادة، مستمدة كلها من الشريعة الإسلامية([39]).

فهذه مراحل التقنين الفقهي، التي مر بها، منذ البذرة الأولى، وثيقة النبي صلى الله عليه وسلم التي وضعها أول قدومه المدينة، إلى عرض فكرة ابن المقفع على المنصور، إلى عرض فكرة إلزام الناس بالموطأ، إلى مجلة الأحكام العدلية، إلى تقنين قدري باشا، إلى تقنين أحمد القاري في المذهب الحنبلي، إلى تقنين المحامي محمد محمد عامر في المذهب المالكي، إلى مشروع تقنين الأزهر.

ويبدو أن عناية التقنين شملت المذاهب الثلاثة: الحنفي والمالكي والحنبلي، وإن كان الأول أكثرها عناية، ثم الثاني، ثم الأخير. أما المذهب الشافعي، فلم أقف على تقنين له- حسب اطلاعي- إلا ما كان من تقنين الأزهر، حيث شمل في مرحلته الأولى المذاهب الأربعة.

ويبدو أن سبب انتشار التقنين وعدمه يرجع إلى تبني الدولة لهذا المذهب والتقنين، فقد تبنت الدولة العثمانية المذهب الحنفي، فكانت مجلة الأحكام العدلية، وهكذا يبدو بالنسبة إلى ملخص الأحكام الشرعية في ليبيا([40])، أما مجلة الأحكام الشرعية في المذهب الحنبلي فلم تعتمد رسمياً في المملكة العربية السعودية، وبقي الأمر دائراً في حدود كتب المذهب الحنبلي.

المطلب الأول: التكييف

([41])

الفقهي للتقنين والإلزام:

لا خلاف بين العلماء في جواز تقنين الأحكام الشرعية، إذا قصد بها التيسير وسهولة الوقوف على المسائل([42])، إنما اختلفوا في اعتبار هذا التقنين للقاضي من قبل ولي الأمر([43])، أي: هل يجوز لولي الأمر، أن يلزم القاضي بالقضاء بالحكم الفقهي الذي يفرضه عليه، وهو القانون؟

هذه المسألة، من القضايا المعاصرة التي اختلف فيها العلماء:

- فالقدامى: اختلفوا فيها تحت مسمى: تقييد القاضي بمذهب معين.

- أما المعاصرون: فكان خلافهم تحت مسمى: الإلزام بالتقنين الفقهي.

فأصل هذه المسألة: تقييد القاضي بمذهب، والفقهاء في هذه فريقان: مانع ومجيز، يقول الدكتور عبد الناصر العطار: (والواقع أن التقنين، ليس إلا نوعاً من تخصيص القضاء بالحكم بمذهب معين"([44]).

وقبل عرض القولين في المسألة، ينبغي تحرير محل النزاع، وذلك من خلال النقاط التالية:

1. أن الحكم الثابت بنص قطعي الثبوت والدلالة، من كتاب أو سنة أو إجماع، هو ملزم بنفسه، ولا يحتاج إلى أمر خارج عنه، سواء أورد في تقنين أم غيره.

2. أن القاضي المجتهد([45])، الذي توفرت فيه أدوات الاجتهاد، لا يجوز إلزامه بشيء من الأحكام، التي مناطها الاجتهاد، سواء أكانت في مذهب أو تقنين، قال صاحب مواهب الجليل: "قال القرافي: الحاكم إذا كان مجتهداً، لم يجز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده"([46]).

3. أن نقطة الخلاف في الإلزام بالأحكام المقننة، هي أحكام اجتهادية، تجاذبتها الأدلة الشرعية.

4. أن محل التجاذب في الشخص المُلزَم، هو القاضي المقلد، الذي لم تتوفر فيه أدوات الاجتهاد([47]).

وبعد هذه المقدمة، نعرض أقوال الفريقين، وأدلتهما، والنصوص الفقهية في المذاهب، ثم نخلص إلى الترجيح، وذلك في مسألتين اثنتين:

المسألة الأولى: القائلون بعدم جواز تقييد القاضي بالمذهب:

وهم جمهور الفقهاء (جمهور المالكية وجمهور الشافعية والحنابلة)([48])، واستدلوا لذلك:

1. بأن شرط التقييد ينافي مقتضى العقد، فهو شرط فاسد؛ لأن عقد التولية يقتضي أن يحكم بالحق؛ لأن الله تعالى أمر به بقوله: (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص: 26)، وهذا الشرط قد حجر عليه، واقتضى أن يحكم بمذهب إمامه الذي قيده فيه.

2. بفعل عمر رضي الله عنه فقد كان يرى رأياً، ويرى علي بن أبي طالب رأياً، ويرى عبد الله بن مسعود رأياً، ويرى زيد بن ثابت رأياً، فلم يلزم عمر- وهو أمير المؤمنين- صاحب الرأي المؤيد بالوحي من هؤلاء أن يأخذ بقوله، ولقد كان إذا كثر عليه الخصوم رضي الله عنه صرفهم إلى زيد بن ثابت، فلقي يوماً رجلاً ممن صرفه إلى زيد، فقال له: ما صنعت؟ قال: قضى عليَّ يا أمير المؤمنين، قال: لو كنت أنا لقضيت لك، قال: فما يمنعك وأنت أولى بالأمر؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فعلت، ولكن أردك إلى رأيي، والرأي مشترك([49]).

فالخلاصة أن أمير المؤمنين لم يلزم أحداً من قضاته، لعله يرى ذلك حجراً عليه.

أما نصوصهم فهذه:

- جاء في تبصرة الحكام: (قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي([50]) رضي الله عنه في مقدمة كتابه المسمى: تعليقة الخلاف، في القاضي يوليه الإمام القضاء، ويشترك عليه أن لا يحكم إلا بمذهب إمام معين، مثل أن يكون مالكياً أو شافعياً أو حنفياً أو حنبلياً فيقول له: قد وليتك القضاء على أن لا تحكم إلا بمذهب مالك مثلاً، وسواء وافق مذهب السلطان الذي ولاه أو لا، فهذا على ضربين، أحدهما: أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام، فالعقد باطل والشرط باطل، سواء قارن الشرط عقد الولاية أو تقدمه، ثم وقع العقد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط، دليلنا: أن هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن العقد يقتضي أن يحكم بالحق عنده، وهذا الشرط قد حجره عليه، واقتضى أن يحكم بمذهب إمامه"([51]).

- وقال الحطاب([52]): "قال ابن عبد السلام: يعني إن ولي مقلد لعدم المجتهد، فهل يلزمه الاقتصار على قول إمامه، أولا يلزمه ذلك؟ والأصل عدم اللزوم، وهو الأقرب إلى عادة المتقدمين، فإنهم ما كانوا يحجرون على العوام اتباع عالم واحد، ولا يأمرون من سأل أحدهم عن مسألة أن لا يسأل غيره، لكن الأولى عندي في حق القاضي، لزوم طريقة واحدة"([53]).

- قال الماوردي([54]) (ت: 450هـ): "هل للإمام أن يشترط على القاضي القضاء بمذهب معين؟ فإن شرط المولِّي على المولَّى في عقد التقليد أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعية، أو بمذهب أبي حنيفة، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الشرط عاماً، والثاني: أن يكون خاصاً، فإن كان عاماً: فقال: لا يحكم في جميع الأحكام إلا بمذهب الشافعي، أو بمذهب أبي حنيفة، كان هذا الشرط باطلاً، سواء كان موافقاً لمذهب المولِّي أو مخالفاً؛ لأنه قد منعه من الاجتهاد فيما يجب فيه الاجتهاد. فأما صحة التقليد وفساده فمعتبر بشرطه:

- فإن عدل به عن لفظ الشرط، وأخرجه مخرج الأمر، فقال: احكم بمذهب الشافعي، أو أخرجه مخرج النهي، فقال: لا تحكم بمذهب أبي حنيفة، صح التقليد، وإن بطل ما أمر به ونهاه عنه.

- وإن جعله بلفظ الشرط في العقد، فقال: على أن تحكم بمذهب أبي حنيفة، إن جعله أمراً، أو على أن لا تحكم بمذهب الشافعي، إن جعله نهياً، بطل التقليد لفساد الشرط؛ لأنه معقود على شرط فاسد، وقال أهل العراق: لا يبطل التقليد، وإن بطل الشرط، كما لو لم يخرج في العقد مخرج الشرط"([55]).

- وقال الرملي([56]) (ت: 1004هـ): "ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه- أي خلاف مذهبه- لأنه يعتقد بطلانه، والله تعالى إنما أمر بالحكم بالحق"([57]).

- قال ابن قدامة([58]) (ت: 620هـ): "ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد، على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي، ولم أعلم فيه خلافاً؛ لأن الله تعالى قال: (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص: 26) والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع"([59]).

ويلاحظ على هذه النصوص:

- أن العراقيين وافقوا الجمهور في فساد الشرط، بخلاف التولية، فقد صححوها، أما الجمهور فقد فصلوا في الأمر.

- أرجعوا سبب فساد شرط الإلزام بمذهب معين، إلى أنه حجر على القاضي، قد يحول بينه وبين الحكم بما أمر الله تعالى، ولعلهم عنوا بذلك القاضي المجتهد، الذي يحكم بما يؤدي إليه اجتهاده، بخلاف المقلد.

المسألة الثانية: القائلون بجواز تقييد القاضي بالمذهب:

وهم الحنفية، وبعض المالكية، وبعض الشافعية، وهذه أدلتهم:

1. أن التقيد بالمذهب امتثال لأمر السلطان، فلا يملك القاضي مخالفة الشرط الذي قلده القضاء بموجبه.

2. أن الالتزام بالتقييد محقق للمصلحة؛ لأن السلطان يختار للناس الأوفق والأرفق عادة.

3. أن التقييد بالمذهب أسلم للقضاة المقلدين([60]).

أما نصوص هذا الفريق في المسألة فهي:

- قال ابن عابدين([61]) (ت: 1252هـ): "فأما المقلد، فإنما ولاه- أي السلطان- ليحكم بمذهب أبي حنيفة، فلا يملك المخالفة، فيكون معزولاً بالنسبة إلى ذلك الحكم"([62]). أي: ليس له أن يحكم بغير ما قيده به السلطان من مذهب، فإن حكم بغيره كان معزولاً، أي: غير سارياً، بالنسبة إلى هذا الحكم.

ونصت المادة: (1801) من مجلة الأحكام العدلية على نحو ذلك، فقد جاء فيها: "... وكذلك لو صدر الأمر السلطاني بالعمل برأي مجتهد في مسألة؛ لأن رأيه بالناس أرفق، ولمصلحة العصر أوفق، فليس للحاكم أن يعمل برأي مجتهد آخر يخالف رأي ذلك المجتهد، وإذا عمل لا ينفذ حكمه".

- قال ابن فرحون([63]) (ت: 799هـ): "وقال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: أخبرني القاضي أبو الوليد الباجي([64])، أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلاً القضاء اشترطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده.. . والذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون([65])، وذلك أنه ولى رجلاً القضاء، وكان الرجل ممن يسمع بعض كلام أهل العراق، فشرط عليه سحنون أن لا يقضي إلا بقول أهل المدينة، ولا يتعدى ذلك"([66]).

- وقال السبكي([67]) (ت: 756هـ): "فإن قلت: فإن لم يكن له أهلية الترجيح؟ قلت: حينئذٍ ليس له إلا اتباع الذي عرف ترجيحه في المذهب، فإن قلت: فلو حكم بقول خارج عن مذهبه، وقد ظهر له رجحانه وكان من أهل الترجيح؟ قلت: إن لم يشترط عليه في القضاء التزام مذهب جاز، وإن شرط عليه: إما باللفظ وإما بالعرف، وإما بأن يقول: وليتك الحكم على مذهب فلان، كما يقع ذلك في بعض التقاليد، فلا يصح منه الحكم بغيره؛ لأن التولية لا تشمله، فإن صححت اقتصرت على ذلك المذهب، وإن فسدت امتنع الحكم مطلقاً. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا اشترط عليه الحكم بمذهب معين، هل تفسر التولية أو تصح ويفسد الشرط، أو تصح ويصح الشرط؟ والقول بالصحة وفساد الشرط إنما هو في المجتهد، أما المقلد فلا ، والناس اليوم مقلدون، فلا يأتي هذا القول فيهم، والذي أقوله في هذه الأعصار: أن الذي تولى القضاء على الإطلاق إذا أطلق السلطان توليته الحكم بمشهور مذهبه إن كان مقلداً، وبما يراه إن كان مجتهداً، والذي يقول له السلطان: وليتك القضاء على مذهب فلان فليس له أن يتجاوز مشهور ذلك المذهب إن كان مقلداً، وإن كان مجتهداً في مذهبه فله الحكم بما ترجح عنده بدليل قوي، وليس له مجاوزة ذلك المذهب، مقلداً كان أو مجتهداً؛ لأن التولية حصرته في ذلك"([68]).

الترجيح:

من استعراض نصوص الفريقين وأدلتهم، يبدو لنا- والله أعلم- رجاحة أقوال الفريق الثاني (الحنفية ومن معهم) في جواز تقييد القاضي بمذهب معين؛ وذلك لوجاهتها من عدة نواح:

1. أن في ذلك طاعة لولي الأمر، الذي قلد القاضي القضاء على هذا الشرط، وهو لا يخالف نصاً، ولا مقتضى عقد التولية.

2- أن في ذلك توحيداً للحكم بين القضاة، إلى حد ما، في البلد الواحد، فلا تكون ثمة تناقضات([69]) في المسألة الواحدة.

3. أن الجمهور الذين منعوا التقييد بمذهب معين، إنما منعوه عندما كان القضاة في زمنهم مجتهدين، أما لو أدركوا زماننا وما عليه عامة الناس، ومنهم القضاة، من ضعف المستوى عموماً، لقالوا بجواز الإلزام والتقييد، الذي هو من شأن المقلدين، والله أعلم.

المطلب الثاني: التقنين الفقهي والإلزام بين المانعين والمجيزين:

لما كان موضوع التقنين الفقهي موضوعاً جديداً على الفقه الإسلامي، فقد انقسم العلماء المعاصرون في تكييفه وبيان حكمه إلى فريقين: مانع، ومجيز. فنذكر أصحاب القولين، ونورد أدلة كل منهما، ثم نناقشها، وأخيراً نخلص إلى الترجيح، على النحو التالي:

المسألة الأولى: المانعون للتقنين والإلزام وأدلتهم ومقترحاتهم

أولاً: العلماء المانعون: وهم أصحاب الفضيلة: عبد العزيز بن باز، ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد الله بن حميد، وعبد العزيز بن صالح، وإبراهيم بن محمد آل الشيخ، وسليمان العبيد، ومحمد الحركان، وعبد الله بن غديان، وصالح اللحيدان([70])، وعبد الله ابن بكر أبو زيد، وعبد الله بن عبد الرحمن البسام، وسليمان الأشقر، وعطية سالم([71]).

هذا ما وقفت عليه من خلال المصادر الموثوقة، ولعل علماء آخرين يرون ما يرى هؤلاء، لم أقف على أسمائهم.

ثانياً: أدلتهم ومناقشتها:

استدل هؤلاء بعدة أدلة وهي:

1. إن النصوص القرآنية توجب الحكم بما أنزل الله، قال تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) (المائدة: 48)، وقوله تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص: 26)، وقوله سبحانه: (ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ) (الشورى: 10) والأقوال الراجحة في مسائل الخلاف، إنما هي راجحة في نظر مرجحيها دون مخالفيهم، فلا يتعين أن تكون هي الحق الذي أنزله الله تعالى، وأمر بالحكم به بين الناس، فلا يلزم القاضي الحكم به، ولا يصح تقليده على هذا الأساس([72]).

ويناقش هذا القول بأن هذه الآيات عامة، وليست دليلاً خاصاً في هذا المقام، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال([73])، وليس من الصواب القول بأننا إذا رجعنا إلى ما يختاره العلماء من الأقوال الراجحة، أننا لا نرجع إلى حكم الله تعالى، بل إن القضاء بالتقنين أقرب إلى الحكم بما أنزل الله تعالى، وهو الحق؛ لأنه اختيار مجموعة من الفقهاء، لا شخصاً بعينه، وهذا أدنى إلى الحق.

2. قالوا: إن حصر الاختلافات المذهبية لمعرفة الراجح منها صعب جداً؛ وذلك لكثرتها([74]).

ويناقش: بأن رجوع القاضي بمفرده لاختيار الراجح منها، أصعب بكثير من رجوع لجنة مكونة من عدد من الفقهاء لاختيار الراجح، مع أن وقت هذه الأخيرة أوسع من وقت القاضي المعني بمفرده بالرجوع واستنباط الحكم والقضاء به.

3. إن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته مارسوا القضاء قبل تدوين أحكام الفقه الإسلامي، فلا ضرورة للتدوين والتقنين، إذ يمكن ممارسة القضاء بدونه([75]).

ويناقش: أن هذا الاستدلال فيه نظر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المشرع المؤيد بالوحي، وأصحابه ساروا على نهجه، فهم تربوا في مدرسته القضائية، وكل ذلك مع قلة الحوادث والنوازل الداعية إلى التقنين.

4. قالوا: إن التدوين لا يرفع الخلاف، وهو ما أثبتته تجربة الدول التي دونت الأحكام المعمول بها؛ لأن القضاة قد يختلفون في فهم النصوص؛ لاختلاف مداركهم([76]).

ويمكن مناقشة ذلك بأن يقال: إذا لم يرفع التدوين الخلاف بين القضاة، إلا أنه يخففه، وهو المطلوب، بل إن ترك الأمر دون تقنين، وإعطاء الحرية للقاضي في اختيار ما يراه صواباً، أدعى لوقوع الخلاف بين القضاة، فإن الأقوال في المسألة الواحدة تزيد على ثلاثة أحياناً، كما هو عند الحنابلة، والحنفية.

5. قالوا: إن تجربة التقنين أثبتت فشلها في البلاد الإسلامية المتأخرة، فقد ألزموا القضاة العمل به، فوقع اختلاف القضاء في الأحكام، وهذا ما أدى بهم إلى الحكم بالقوانين الوضعية، فيما عدا الأحوال الشخصية، فسداً لذريعة الفساد، ومحافظة على البقاء في التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وإظهاراً لشعائر أمتنا الإسلامية، ينبغي تجنب هذا التقنين، والتفكير في طريق آخر للإصلاح([77]).

ويناقش هذا القول من خلال النقطتين التاليتين:

أ. أن استيراد القوانين الوضعية لم يكن نتيجة لاختلاف القضاة بسبب التقنين أبداً، إنما سببه أمور أخرى، لعلها: ضعف الوازع الديني في المجتمع، والانبهار بحضارة الغرب وقوانينهم، ولا سيما ممن درسوا في بلادهم، وأعجبوا بقوانينهم، كالسنهوري([78]) وغيره.

ب. أن اعتماد التقنين المستمد من الراجح من كتب الفقهاء، القائم على الكتاب والسنة، عين التحاكم إلى شريعة الله تعالى، وإظهار شعائر ديننا وليس العكس.

6. قالوا: إن المحاكم في الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية، رغم أنها دونت قوانينها على هيئة مواد موحدة، مسلسلة الأرقام، فإنها اختلفت أحكام قضاتها، ووقع في بعضها التناقض والخطأ، واستؤنفت بعض الأحكام، فنقضت في محاكم الاستئناف، فلم يكن ذلك التنظيم والإلزام به مانعاً من الخطأ والتناقض، واتهام القضاة، ونقض الأحكام، ما دام القضاة متفاوتين في الأفكار والأفهام([79]).

ويناقش: بأن الخطأ والتناقض لا يسلم منه أحد، سواء أكان الفقه مقنناً أم لا، وسواء أكان في القانون الوضعي أم في الشريعة الإسلامية، إنما هو أمر نسبي، وليس سبب هذا التناقض والخطأ التقنين الفقهي.

- ولربما وقع ذلك في القانون الوضعي، القائم ابتداءً على مدارك العقول البشرية، الخالي عن التأصيل الشرعي والعناية الإلهية.

- أما التقنين الفقهي: فهو تلك النصوص الشرعية في أمهات الفقه المعتمدة في المذاهب ذاتها مضموناً، إنما تمت صياغتها وفق قالب معين منظم.

7. قالوا: إن الأحكام المدونة إذا ما عدلت- وهذا من طبيعة كل عمل بشري- فإنه يؤدي إلى زعزعة الثقة بأحكام الشريعة الإسلامية، وكثرة التعديلات التي تجري على القوانين يبعدها عن أصلها الشرعي، كما هو مشاهد في قوانين الأحوال الشخصية([80]).

ويناقش: بأن القاضي غير ملزم بالبقاء على اجتهاده الأول، إذا صح لديه الدليل باجتهاده الجديد، ومنعه من الأخذ به في هذه الحالة، يؤدي إلى المنع من الأخذ بالدليل، ولا يقول به أحد، كما أن القول بعدم تعديل القوانين إذا ظهرت المصلحة في تعديلها، يناقض بناء الإسلام على رعاية مصالح الناس، وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان([81]).

8. قالوا: إن إلزام القاضي بأن يحكم بالفقه المقنن، يقتضي أن يحكم بخلاف ما يعتقد، ولو في بعض المسائل، وهو خلاف المطلوب([82]).

ويناقش بالقول: إن القاضي المقلد- ومعظم القضاة كذلك- يلزم بالقضاء وفق مذهب شيخه- عند من يقول به- ولا يشترط اعتقاده بذلك، عرف الدليل أم لم يعرفه([83]).

9. قالوا: إن إلزام القضاة بأن يحكموا بالفقه المقنن من باب الحجر عليهم، وفصلهم في القضاء عن الكتاب والسنة والتراث الفقهي، وتعطيل لهذه الثروة، وفي ذلك مخالفة صريحة لما دل عليه كتاب الله تعالى، من وجوب الرجوع فيما اختلف فيه من الأحكام إلى الكتاب والسنة، وإن عدم الرد إليهما عند الاختلاف ينافي الإيمان بالله تعالى([84])، لقوله تعالى: (فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ) (النساء: 59).

ويناقش: بأن هذا صحيح في حق القاضي المجتهد، إذ إن التقنين حجر على اجتهاده، أما ذاك المقلد فقد ألزم نفسه بطبيعته، وذلك بتقليد مذهب شيخه، وإلزامه بالتقنين مثل ذلك، ولولي الأمر أن يلزمه بما يراه مصلحة، وليس معناه عدم رد الأمر لله ورسوله، بل إن اختيار الراجح من المذاهب وتقنينه هو من باب الرد إلى الله ورسوله، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن تقنين الفقه ليس فيه حجر كبير على القضاة؛ لأن تدوين الفقه لا يمنع الاجتهاد، ومستجدات الحياة كثيرة، مما يعطي للقاضي مجالاً في تبني أحكام جديدة لها، وهو يجتهد في ملابسات الأقضية المعروضة عليه، وللأحكام المقننة مذكرات إيضاحية وشروح، ولا يستغني واضعوها عن كتب الفقه الإسلامي، كما أن الإلزام والتقييد بمذهب معين، واقع في كثير من البلاد الإسلامية منذ قرون، ومع ذلك لم يكن مانعاً من الاتساع الفقهي([85]).

10. أن صياغة الأحكام الفقهية بأسلوب معين، سواء أكان من قبل أفراد أو لجان، فإنها ستتأثر ببشريتهم، ونسبتها إلى الله ليست دقيقة، بينما صياغة نصوص الشرع ربانية معجزة، يمكن نسبتها إلى الله، فيقال: أحكام الله تعالى([86]).

ويمكن مناقشة ذلك: بأنه إن كان المقصود من (نصوص الشرع) القرآن والسنة، فهو صحيح، أنها ربانية معجزة، وهذا غير مراد هنا، وأما إن كان المقصود منها نصوص الفقهاء القدامى- وهو الأغلب- فإنها ليست ربانية معجزة؛ لأنها من صياغة البشر، كما أن هذه التقنينات من صياغة البشر أيضاً.

11. قالوا: إن هذا التدوين والإلزام، لم يسبق الحمل عليه في صدر الإسلام، ولا في القرون المفضلة، فلا يعلم من هدي الصحابة رضي الله عنهم، مع مشاركتهم في العلم والمشاورة مع بعضهم لبعض إلزام واحد منهم للآخر بقوله: بل المعروف عنهم خلافه([87]).

ويمكن مناقشة ذلك بالقول: إن ظروف الحياة تغيرت، وأحوال المجتمع تبدلت، فما كان في ذلك الزمن ثمة حاجة للتقنين؛ وذلك لكثرة القضاة المجتهدين، وقلة المتخاصمين، بخلاف ما عليه الحال في هذه الأيام، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

12. قالوا: إن التقنين أو الإلزام بالمذهب، سواء أكان بعمل واحد أو باختيار جماعة لا بد أن يقع فيه خطأ، إذ العصمة لا تتحقق إلا للأنبياء، فالإلزام بها إلزام بما يعتقد أنه بمجموعة ليس صواباً، بل لا بد من وقوع خطأ([88]).

ويمكن مناقشة ذلك بالقول: بأنه لا يجزم بصحة اجتهاد من بلغ مرتبة الاجتهاد، فضلاً عن غيره، فلابد من وقوع الخطأ، ولكن اختيار جماعة من أهل العلم للراجح من أقوال الفقهاء، أدنى للصواب عموماً، من اجتهاد القاضي بمفرده في استخراج الحكم، والإلزام به.

13. قالوا: إن إلزام القاضي بمذهب معين هو منع له من الاجتهاد فيما يجب فيه الاجتهاد، وهو غير جائز([89]).

ويمكن أن يناقش هذا القول: بأن هذا خاص بالقاضي المجتهد، إذ لا يصح اشتراط ذلك عليه، وهذا خارج محل النزاع، فالكلام هنا يدور حول القاضي المقلد غير المجتهد، فهذا يجوز إلزامه على قول من يرى ذلك؛ لأنه يحكم استناداً لقول غيره، سواء من أهل مذهبه أم غيره، وسواء أكان المستند نصاً فقهياً، أم مادة من مواد الفقه المقنن.

14. قالوا ما مفاده: إن تدوين الفقه يتيح فرصة للخصوم بالاطلاع عليه، ومع ذلك لا يأمن أن يخالف القاضي في فهمه وتطبيقه على قضية؛ لأن الأحكام إذا دونت لا يكون لها ذكر جميع الجزئيات من القضايا، وإنما يجتهد كل قاضٍ في تطبيق النص على القضية التي ترفع إليه. وقالوا: بأنه ليس من الضروري أن يعرف الخصوم بما سيحكم القاضي، ولقد كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحكمون بين الناس في الخصومات، ولم يكن الفقه مدوناً، بل إن الخصوم كانوا مطمئنين إلى أن القاضي سيحكم بينهما استناداً لما فهمه من الكتاب والسنة([90]).

ويمكن الرد على ذلك: بأن منهج القضاء يتطور زمناً بعد آخر في الشكل، لا في المضمون، فلقد وجدت تنظيمات واختصاصات قضائية لم تكن موجودة من قبل، وكل ذلك لا يخالف الشرع، إنما يؤكد مقاصده ومعانيه، فلا يشترط أن يكون القضاء في زماننا مطابقاً للقضاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في كل شيء، فلا بأس بالمستجدات ما دامت العدالة وموافقة الشرع متحققتين.

15. استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار)([91]). ووجه الدلالة: أن الحكم المانع من الإثم هو الذي يرى القاضي أنه الحق، والرأي الراجح المدون، أو التقنين، ليس بالضرورة هو الحق في نظر القاضي، فإن قضى بخلاف ما يراه أنه الحق كان آثماً([92]).

ويجاب عن هذا الاستدلال: أن الحديث ليس دليلاً خاصاً في هذه المسألة، بل هو استدلال عام، ويتطرق إليه الاحتمال، وما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وكذلك فإن الحديث- كما هو ظاهر من منطوقه- في وعيد للقاضي الجائر، المتعدي الذي لا يحكم بالحق، ونحن لم نطالب بالتقنين إلا للتصدي لمثل هذا القاضي، ولو أسقطنا عجز الحديث، أي قوله: (فجار في الحكم) لتوجه الوعيد إلى القاضي المجتهد؛ لأنه يعرف الحق باجتهاده، دون المقلد([93]).

16. قالوا: إن تدوين الفقه وتقنينه إنما هو خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية، حيث يكون التشابه في الاسم أولاً، ثم يكون في المضمون ثانياً، وهذا ما أثبته واقع بعض الدول التي ألغت الشريعة الإسلامية، واستبدلت بها القوانين الغربية([94]).

ويرد على هذا القول: بأن هذه الحكومات لم يكن تنكرها للدين مقتصراً على المسلك القضائي في المحاكم، وإنما نفضت يدها من الدين مطلقاً، وانتقلت إلى دول علمانية، كما أن هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية، لم يكن لها مواد مدونة من الشريعة الإسلامية، وإنما كانت محاكمها تحكم بالراجح من مذهب إمام ما من أئمة المسلمين، فما كان منها إلا أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية، وأخذت بقوانين أوروبا وغيرها، وتركت التعاليم الإسلامية([95])، فليس التدوين وسيلة لإلغاء الشريعة الإسلامية، كما يظن، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن التشابه بين الشريعة والقوانين الغربية من حيث التقنين، ما هو إلا مواصفات واصطلاحات، المراد منها المعلوم والمفهوم للجميع، ولا مشاحة في الاصطلاح.

17. قالوا: بأن الإجماع منعقد على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه، وقد نص على ذلك ابن قدامة (ت: 620هـ)([96]).

ويرد على هذا القول: بأن الإجماع غير مسلم؛ لوجود المخالف، فقد أجازه بعض الحنفية([97]) والمالكية([98])، وبعض الشافعية([99])، ثم إن القول بالمنع من الإلزام بقول واحد، قول صحيح لو كان جميع القضاة من المجتهدين، وهذا متعذر في زماننا؛ لأن الحاجة تقتضي تعيين من غالبهم من المقلدين، كما هو ملاحظ.

18. قالوا: إن مبنى الشهادتين على تجريد الإخلاص لله تعالى، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التقنين الملزم: توهين لتجريد توحيد الاتباع وخدش لحماه، إذ إن حكم القاضي على خلاف ما يعتقده تقديم لقول غير المعصوم على ما يعتقده عن المعصوم([100])، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ) (الحجرات: 1).

ويناقش هذا القول: بأنه توسع كبير في الاستدلال على منع الإلزام، وتوظيف للنص في غير المراد، والله أعلم. فإن كل ما يقصد من التقنين: هو ضبط أمور القضاء والقضاة، بحيث لا يكون هناك أي مجال لسوء التصرف من قبل القاضي باسم الاجتهاد من جهة، وفي الوقت نفسه تسهيل معرفة الحكم الراجح وتطبيقه، دونما جهد وعناء في البحث عنه في بطون الكتب. ثم إنه لا يعقل أن يجيز كثير من فقهاء المذاهب إلزام القاضي المقلد بمذهب إمامه، ويخفى عليهم هذا الخطر العظيم على إيمان المقلدين! ثم يقال أيضاً: إنه لو ظهر للقاضي- بما لا يدع مجالاً للشك- بأن الحكم الملزم مخالف للشرع، أفلا يسعه أن يمتنع عنه تطبيقه حتى لا يوهن توحيده ويخدش حماه؟! بلى إنه يسعه ذلك، لكن بشرط أن يثبت ذلك بالأدلة. وإضافة إلى ذلك فإن القاضي حتى لو كان مجتهداً فإنه لا يعتقد جازماً بدون احتمال أن قوله وحكمه هو مقصود المعصوم؛ لأنه يعتقد في مسائل الخلاف أن قوله صواب يحتمل الخطأ، وقول غيره خطأ يحتمل الصواب، فهل يخشى على إيمانه ويقينه بذلك؟!([101]).

19. قالوا: إن قبول فكرة التقنين يفتح الباب على مصراعيه للقائلين بتأثر الأحكام الشرعية بالقوانين الوضعية في العصر الحديث([102]).

ويناقش: بأنه ليس من العقل والمصلحة أن نرفض أمراً لمجرد ادعاء البعض بأن شريعتنا قد تأثرت بقوانين وضعية، أو نحو ذلك، فالحكمة ضالة المؤمن، ولا ضير في الإفادة من منهج الآخرين، في تصنيف العلوم وترتيبها وعرضها، مع المحافظة على مضمونها وأصالتها، كما أفاد المسلمون من منهجية الشرق أو الغرب في دراسة بعض العلوم، إلى جانب المحافظة على الثوابت من شريعتنا.

20. قالوا: إن الفقه لا يحتاج إلى تقنين؛ لأنه مفصل في كتب وأبواب ومسائل وفهارس، فهو متيسر لكل أحد، فمن أراد حكماً في مسألة، أو فصلاً في قضية، فسيجد ذلك بسهولة ويسر.

ويناقش هذا القول: بأن هذا الأمر ليس متيسراً لكل أحد، وخاصة في هذا العصر، الذي قل فيه أهل البحث والاطلاع والاجتهاد، حتى كادت أهلية الاجتهاد أن تنعدم، كما أن مشكلات الحياة، وتعقيد المعاملات، لا يقارن بما كانت عليه من قبل، والسرعة التي تقتضيها كثرة الدعاوى والقضايا تقتضي تيسير الرجوع إلى أحكام الفقه([103]).

21. قالوا: إن من الأمور القضائية ما لا يحصى كثرة يرجع فيها- حسب قواعد الشريعة- للعرف الخاص بالبلد التي فيها التقاضي، فلا يجوز للقاضي إجراء الخصومات فيما سبيله كذلك إلا بعد معرفة عادات الناس وأعرافهم، كما أن العرف في بلد لا يكون مطرداً في بلد آخر، بل يختلف ذلك باختلاف البلدان، وهذا كله لا يمكن تقنين جزئياته والإلزام به، ثم إن العرف أيضاً قد يتغير من زمان لآخر([104]).

ويمكن الرد على ذلك بالقول: الأحكام المقننة ليست ملزمة طوال الدهر، إنما هي قابلة للتعديل، حسب الظروف والأحوال والأعراف، كما يتغير اجتهاد الفقهاء في المسائل بين الحين والآخر، حتى قالوا: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)([105])، فكما أن أحكام الشرع تتغير حسب ذلك، فهكذا يكون تغير التقنين الفقهي.

هذه أبرز أدلة القائلين بعدم جواز التقنين والإلزام، والتي تبناها بعض العلماء المعاصرين، والذين سلف ذكرهم.

ثالثاً: عيوب التقنين والمقترحات البديلة عنه:

أ- عيوب التقنين:

يرى بعضهم أن للتقنين عيوباً ومساوئ عامة، أبرزها:

1. الجمود على النصوص المقننة: قالوا: إن الحياة تتطور، وتتطور معها الأنظمة، فإذا قننت أحكام التعامل أصيب القانون بالجمود، ولم يعد يتفاعل مع مسيرة التطور والتغير، وهذا أمر ملموس في واقع الحياة الإنسانية.

ويمكن مناقشة ذلك: بأن القوانين مرنة ومتطورة، وقابلة للتجديد والتعديل مع تطور ظروف الحياة، فهو من الشريعة التي من قواعدها: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)، وتعديل القوانين أمر واقع وملموس في الشكل والمضمون([106]).

2. قالوا: إن التقنين يوقف حركة الاجتهاد؛ لأن القاضي أو الفقيه سيكون أمام النص القانوني الموحد مقيداً، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص، وحينئذٍ يقف النشاط الفكري والإبداع التشريعي، لتلبية مطالب الحياة المتغيرة، ومواكبة قضايا العصر، والأعراف والأنظمة والمعاملات المتغيرة.

ويناقش هذا القول: بأن التقنين لا يمنع الاجتهاد، ولا سيما أن مستجدات الحياة كثيرة، والقاضي يجتهد في ملابسات الأقضية المعروضة عليه، كما أن للأحكام المقننة مذكرات وشروح، تربط التقنين بأصله وجذوره، وهي كتب فقه المذاهب.

3. قالوا: إن التقنين يعني إلزام القضاة والمواطنين تطبيق رأي واحد، ونظام واحد، لا مجال للحياد عنه، وذلك في دائرة الأحكام التي يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها، فإذا لم يحدث مثل هذا الاتفاق فيطبق النص القانوني. ومن المعلوم أن الآراء الفقهية كثيرة وغنية ومتشعبة، وكثرة الآراء واختلافها في المسألة هي رحمة للأمة حقيقة؛ لأن الخلاف يسع الجميع، فإذا ألزمنا الناس برأي واحد، وهو القانون، أوقعناهم في حرج شديد([107]).

ويمكن مناقشة ذلك: بأن أصل الرحمة موجود في الشريعة الإسلامية، والتقنين منحدر منها، ومهما كثرت الأقوال الفقهية في المسألة، فلابد من أن يعتمد القاضي واحداً منها، وهو ما يراه الأرجح والأولى بالتطبيق شرعاً، وما القانون الملزم إلا ذاك القول الراجح، فإن كثرة الأقوال، لا تعني أن يتخير القاضي دائماً الأرحم والأسهل.

4. قالوا: إن في التقنين نقصاً أو قصوراً، وذلك من وجهين:

الأول: خلوه من التعريف بالألفاظ التي وردت فيه، وترك ذلك للفقه والقضاء، مع خطورة النتائج التي تترتب على الاختلاف في تعريفها، كألفاظ الغلط، والتدليس، والغرر، وحسن النية، وسوء النية، ونحوها.

الثاني: قصور التقنين عن استيعاب كل الأحكام القانونية، أي: عدم شموله لها.

لكن الملاحظ أن هذا العيب، لا يتصل بطبيعة التقنين، وإنما بمنهجه، إذ لا يمنع التقنين من إيراد تعريف للألفاظ المستعملة فيه، وهو ما فعلته بعض التقنينات كالمجلة، ومن الممكن محاولة استقصاء كل الأحكام، ومع ذلك فإن هذا العيب مردود حتى من ناحية المنهج بما يأتي:

أما الوجه الأول: وهو خلو التقنين من التعريفات، فهو فضيلة تحسب للتقنين، لا عليه؛ ذلك لأن التعريفات مسألة علمية، فينبغي أن تترك للفقه والقضاء، يذهبان فيها المذهب المناسب لمقتضى الحال، المتغير بتغير الظرف.

أما الوجه الثاني: وهو قولهم: عدم استيعاب التقنين لكل الأحكام، فهو أيضاً ما قضت به الحكمة، إذ ينبغي أن يقتصر التقنين على القواعد العامة، وأن تترك التفاصيل للقضاء، وعلى القضاء أن يكمل ما في التقنين من نقص، وفقاً لما تقتضيه الضرورات العملية، وتستوجبه العدالة([108]).

ب. المقترحات البديلة عن التقنين:

عرض الفريق المعارض للتقنين والإلزام، حلولاً وبدائل عنه، تتلخص فيما يلي:

1. إعداد القضاة، والعناية بهم وتأهيلهم علمياً، وتدريبهم عملياً على أعمال القضاء، ولو بدورات دراسية وتدريبية.

ويمكن أن يناقش هذا بالقول: أنه لا علاقة له بالتقنين، فالقضاة معنيون بتحسين مستواهم شرعاً، ليتفهموا القضايا، ويحكموا بها، وكذلك وزارة العدل، فهي معنية بتأهيلهم، سواء أكانوا يقضون حسب التقنين أو الكتب القديمة. والقاضي الذي يحكم استناداً للتقنين، مخاطب بالأمور التالية:

أ. فهم المادة التي سيحكم بموجبها.

ب. معرفة مدى انطباقها على القضية المتنازع فيها.

ج. معرفة ما يشرحها ويوضحها، وذلك بالرجوع إلى مظان حكمها في كتب المذاهب المعتمدة. وهذا كله لا شك يتطلب أن يكون القاضي مؤهلاً.

2. تقليل المحاكم، وتركيزها في المدن وعواصم المناطق، ويكتفى لتعيين متعلمين في القرى، ليقوموا بشؤون المساجد، وعقود الأنكحة، والوعظ والإرشاد، وهذا ما يخفف على قضاة المدن، فيتسنى لهم دراسة القضايا القليلة دراسة صحيحة، دون القضايا اليسيرة، التي يحلها المتعلمون في القرى.

ويناقش هذا الاقتراح: بأنه لا يحل المعضلة، بل يزيدها تعقيداً؛ وذلك لأن قضايا المجتمع تزداد يوماً بعد يوم كثرة من جهة، وهذا يتطلب توسعة في المحاكم في الحقيقة، لا تقليصاً لها وتقليلاًَ([109]).

ومن جهة ثانية يبدو أن صلة هذا الاقتراح بالتقنين ضعيفة إذالم تكن معدومة، ولربما قصدوا أن التخفيف من القضايا على القاضي يتيح له فرصة دراسة القضايا أكثر، وبالتالي يكون حكمه أدنى إلى الحق، لكن هذا الأمر ينسحب على القاضي الذي يحكم استناداً للتقنين أيضاً.

3. حسن اختيار القضاة، بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم، ورجاحة في العقل، مع حلم وأناة، وبعد نظر، وصدق وأمانة وابتعاد عن مظان الريبة.

ويمكن مناقشة ذلك بالقول: إن حسن الاختيار مطلوب، سواء أكان القاضي حسب ما يراه من كتب المذاهب، أو وفق التقنين الفقهي، فلا غنى لهذا الأخير عن حسن الفهم وسعة العلم، فهذه أمور تعينه على فهم القضايا، ومعرفة مدى انطباق المواد المقننة عليها، وتدعيم هذه المواد بنصوص الفقهاء في المذاهب، التي تمت صياغة التقنين الفقهي استناداً إليها.

4. تأليف لجنة من العلماء، لبحث المسائل القضائية الهامة، التي ربما يشتبه الحكم فيها على بعض القضاة، فتبين بالأدلة وجه الحكم فيها، وتوضح تطبيقها بأمثلة، كالقضايا التي حدثت في عصرنا، وذلك ليس على سبيل إلزام القضاة، بل ليكون عوناً لهم في القيام بمهمتهم، ونموذجاً لهم في دراسة القضايا، وحل مشكلها، والدقة في تطبيق الأحكام فيها، فبذلك تضيق شقة الخلاف، وتتحقق المصلحة المرجوة([110]).

ويناقش هذا المقترح بقولنا: لا شك أن استعانة القاضي بغيره، وبمن هم أعلم منه أمر حسن، بل قد يكون واجباً أحياناً، وذلك عند تعذر استبانة طريق الحق، وقد يستعين القاضي بأهل الخبرة في كل مجال، وبالفقهاء والفرضيين من باب أولى.

لكن هذا كله لا يتعارض مع كون الفقه مقنناً، والقاضي يحكم بموجبه، بل إن هذا يكون عوناً كبيراً له في إصدار الحكم استناداً إليه، دونما بحث طويل في بطون الكتب من جهة، ويحميه من مغبة المغامرة في إصدار الحكم في القضية دونما تأكد.

ومما سبق يتبين لنا أن هذه الحلول والمقترحات، لا تجعل القاضي مستغنياً عن مواد الفقه المقنن، وذلك حينما يكون التقنين صادراً وفق شروطه الصحيحة([111])، وقواعده السليمة، التي توافق الشرع أولاً، وروح العصر ثانياً.

المسألة الثانية: المجيزون للتقنين والإلزام وأدلتهم:

أولاً: العلماء المجيزون: وهم أصحاب الفضيلة: محمد أبو زهرة([112])، وعلي الخفيف([113])، وحسنين محمد مخلوف([114])، وعبد الناصر توفيق العطار([115])، ويوسف القرضاوي([116])، ومحمد زكي عبد البر([117])، من مصر. ومصطفى الزرقا([118])، وعبد الوهاب حافظ([119])، ووهبة الزحيلي([120])، من سوريا. ومحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي([121])، من المغرب، وأبو الأعلى المودودي([122])، من الباكستان.

ومن السعودية: (عبد الله بن منيع، وصالح بن علي بن غصون، وراشد بن خنين، وعبد الله الخياط، وعبد المجيد بن حسن، وصالح بن عبد الله بن حميد)([123])، وعبد الرحمن بن عبد العزيز القاسم([124])، ويعتبر رائد فكرة التقنين في بلاد المملكة العربية السعودية([125]).

فهؤلاء، لا يرون مانعاً من تقنين الأحكام الشرعية وتنظيمها وترتيبها، وإلزام القضاة بتطبيقها، ولا محذور في ذلك ما دامت هذه الأحكام مستمدة من التشريع الإسلامي، ومن اختيار فقهاء ذوي نزاهة ودراية تامة بشؤون القضاء، ولا حرج على القاضي بتطبيقها ما دامت لم تخالف دليلاً شرعياً قاطعاً، ولو خالفت رأيه.

ولا شك أن هناك علماء آخرين كثر في هذا الزمن يرون جواز التقنين، لكني لم أقف على أسمائهم، فذكرت ما ثبت لدي في المصادر الموثوقة.

ثانياً: أدلتهم ومناقشتها:

استدل هذا الفريق بعدة أدلة، نعرضها فيما يلي، ونناقش ما نراه جديراً بالمناقشة، على النحو التالي:

1. استدلوا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). وجه الدلالة: أن الله سبحانه أمر بطاعة ولي الأمر ما لم يأمر بمعصية، والالتزام بالتقنين طاعة لولي الأمر. قال الشوكاني (ت: 1250هـ): "لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق، أمر الناس بطاعتهم هاهنا، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه، وأولي الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية، لا ولاية طاغوتية"([126]). وقال محمد رشيد رضا([127]) (ت: 1354هـ) تعقيباً على الآية السابقة: (فهذا ما جاء به الإسلام، وهو هداية تامة كاملة، لا تعمل بها أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها، مرتقية في سياستها وأحكامها، يسير بها أهل الرأي والمعرفة، في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي يقتضيها الزمان والمكان، ومن ذلك: أن يضعوا القوانين وينشروها في الأمة، ويلزم القضاة والحكام باتباعها والحكم بها"([128]).

كما أكد الشيخ الزرقا (ت: 1420هـ) هذا المعنى بقوله: "والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام، من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها، أو يأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح، إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به، وبذلك صرح فقهاؤنا، وفقاً لقاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان. ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي... كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعاً"([129]).

وقالوا: كما أن لولي الأمر أن يقيد القاضي بالزمان والمكان والخصومات، فله أن يقيده بمذهب معين أو تقنين فقهي([130]).

ونوقش هذا الدليل: بأن طاعتهم هذه فيما وضح حكمه، واتفقت عليه الأمة، أما ما اشتبه أمره، واختلف فيه العلماء، فالمرجع في فصل النزاع فيه الكتاب والسنة، بدليل قوله تعالى: (فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ) (النساء: 59).

2. استدلوا بقوله تعالى: (وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، وقوله تعالى: (وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، بأن التقنين فيه تشاور بين العلماء- غالباً- لاختيار الراجح وتقنينه، وأخذ القضاة بالتقنين أخذ بالشورى، التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومدح المؤمنين لاتصافهم بها([131]).

ونوقش ذلك: بأن هذه المشورة يمكن أن تكون بين القضاة فيما بينهم، وبينهم وبين كبار العلماء، وذلك لحل مشاكل القضاة، فالآيتان تصلحان لهذا وذاك.

3. قالوا: إن أحكام الشريعة متعددة، ومصادرها كثيرة، ووجهات النظر في كثير من مسائلها متباينة، لما تحتمله نصوصها من المعاني الكثيرة، وكذلك عقول البشر محدودة، وتتفاوت في مدى قدرتها على استنباط الأحكام من تلك النصوص، فتتضارب الأحكام في كثير من الأحيان في المسألة الواحدة، وربما أحدث ذلك بلبلة واضطراباً، وأهدر الثقة بالمحاكم الشرعية، فكان التقنين ضرورة اقتضاها الحال وروح العصر([132]).

ويمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: بأن القاضي يمكن أن يجتهد في المسألة ما أمكن، ويستشير غيره، ويحكم استناداً لما يؤدي به اجتهاده، وهو ليس مكلفاً بأكثر من ذلك، كما أنه ليس شرطاً أن تتحد آراء القضاة وأحكامهم في المسألة الواحدة، ولقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في كثير من المسائل.

4. أن القضاة بمثابة الوكلاء عن الإمام ونوابه؛ لأنهم صاروا قضاة بإذنه، والوكيل مقيد بشروط موكله، فلا يخرج عن حدودها، فإذا ألزمه بالقضاء وفق مذهب معين أو تقنين، وجب عليه التقيد بذلك، ولا سيما أن شروط الاجتهاد غير متوفرة في غالب قضاة العصر([133]).

ويمكن أن يناقش: بأن أمر الإلزام غير مسلم به، وقد عارضه بعضهم، ومنهم من اعتبر التقليد بهذا الشرط باطل([134]).

5. أن الإجماع يكاد يكون منعقداً على أن من توفرت فيه شروط الاجتهاد من القضاة لا يجوز إلزامه بالحكم بمذهب معين، أما إذا كان القاضي مقلداً، كما هو حال أكثر قضاة اليوم، فأقوال الفقهاء صريحة بأن إلزام هؤلاء بالحكم بمذهب معين أمر سائغ، ومن لا يرى هذا الإلزام من الفقهاء إنما يمنعونه؛ لأنهم لا يرون تولية القضاة غير المجتهدين، وهذا فيه حرج شديد، فلم يبق إلا الإلزام بمذهب معين لهؤلاء القضاة غير المجتهدين([135]). قال ابن قدامة (ت: 620هـ): "الشرط الثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً، فيحكم بالتقليد"([136]).

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الاجتهاد يتجزأ، فإذا كان لدى القاضي القدرة على الإحاطة بالباب أو المسألة، بتصورها وأقوالها وأدلتها، وكان لديه معرفة حسنة بأصول الفقه، فلا مانع من اجتهاده في هذه القضية، كما يرى بعض العلماء، قال ابن تيمية (ت: 728هـ): "والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزيء والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة، دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه"([137]).

قالوا: إن فكرة التقنين ليست حديثة العهد، فقد كان موضعاً للبحث منذ أكثر من عشرة قرون، وكانت موضع التنفيذ في صورة الإلزام بالحكم بمذهب إمام بعينه في كثير من البلاد الإسلامية، قديماً وحديثاً، أما قديماً: فقد جاء في تبصرة الحكام ما نصه: "أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولو رجلاً القضاء اشترطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم([138]) ما وجده"([139])". وهذا عين الإلزام بالمذهب. وأما حديثاً، ففي كثير من البلاد العربية والإسلامية تم إلزام القضاة بالتقنين أو بمذهب معين، أما في التقنين: فقد وضعت قوانين الأحوال الشخصية في كثير من البلاد مثل: قانون حقوق العائلة العثماني عام 1917م، ومثله صدر في مصر عام 1929م، وفي سوريا عام 1953م، وفي العراق عام 1959م وغيرها([140])، وأما الإلزام بالمذهب، فقد صدر في المملكة العربية السعودية مرسوم: 6 صفر 1346هـ، وتم بموجبه توحيد القضاء، ثم صدر قرار هيئة الرقابة القضائية رقم (3) في 17/1/1347هـ ونص على أن تكون الأحكام في جميع المحاكم على المفتي به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كما تضمن القرار تعيين المصادر التي يرجع إليها القضاة في أحكامهم([141]).

6. ما عليه غالب القضاة من مستوى علمي ضعيف، لا يستطيعون به الاجتهاد لأنفسهم، ولا إدراك الراجح من مذهبهم الذي ينتسبون إليه من بين الأقوال المبثوثة في المذهب، وإن إصدار الحكم استناداً إلى التقنين يخفف على القضاة، ويحميهم من مغبة الوقوع في الخطأ([142]).

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بالقول: يمكن تلافي ذلك بما يلي:

أ. حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم، ورجاحة في العقل، مع حلم وأناة وبعد نظر، وصدق وأمانة وابتعاد عن مظان الريبة.

ب. إعداد القضاة بعد اختيارهم والعناية بهم وتأهيلهم علمياً، وتدريبهم عملياً على أعمال القضاء، ولو بدورات دراسية وتدريبية([143]).

ولكن الأمر لا يمكن تلافيه بهذا في الواقع؛ لتشعب مسائل الفقه واختلافها. يقول الدكتور الزحيلي: "إن الخلافات الفقهية بين المذاهب وفي المذهب الواحد نفسه كثيرة متنوعة، بل لدى إمام المذهب نفسه، فقد يكون له أكثر من قول في المسألة، ثم يكون لأصحابه أقوال، ثم يكون للمتقدمين قول، وللمتأخرين قول، ويصعب أحياناً وعلى التخصيص في مذهبي المالكية والحنابلة معرفة القول الراجح أو الرأي المعتمد أو المفتى به، فماذا يفعل القاضي أمام هذا الحشد الهائل؟"([144]).

7. حاجة المستجدات إلى حكم شرعي يتم بالنص عليها في التقنين، وتركها لاجتهاد القضاة ليس من الحكمة؛ وذلك لكثيرة مشاغلهم، وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء في كل مستجد، وخصوصاً مع تطور الحياة، وكثرة المستجدات فيها([145]).

8. إن ترك القضاة يحكمون بما وصل إليه اجتهادهم، يؤدي إلى فوضى واختلاف في الأحكام للقضية الواحدة([146])، وهذا ما يحدث بلبلة واضطراباً، ويهدر الثقة بالمحاكم الشرعية([147]).

والتقنين الفقهي يوحد أحكام القضاء([148])، ويحفظ للمحاكم هيبتها.

9. إن التقنين يسهل عملية الرجوع إلى الحكم، وذلك بالنسبة إلى القاضي والفقيه والمحامي والمسلم العادي، أما كتبنا الفقهية القديمة، فهي معروضة بأسلوب يختلف عن أسلوب العصر، وهي تغص بالخلافات والآراء والنظريات، ليس في المذاهب الفقهية كل على حدة، بل في نطاق المذهب الواحد ذاته، وهذا ما يجعل غير المتخصص- وهم أكثر الناس- في حرج وعسر وضيق وحيرة، حينما يريدون الأخذ بحكم فقهي معين، راجح في النظرة الإسلامية الكلية، أو في دائرة المذهب الاجتهادي ذاته، فإذا ما قننت أحكام الفقه بعبارة سهلة مألوفة، انتفع منها الجميع. يقول الدكتور وهبة الزحيلي: "وربما عزف الكثيرون عن التعرف على أحكام الشريعة في ظل الحياة التطبيقية؛ لصعوبة الرجوع إلى كتب الفقهاء، وتفضيلهم الأخذ بالقوانين الوضعية الغربية المذللة الطريق، المعبدة المسالك، المنظمة في جانب النظريات والعقود التفصيلية، ونحن لسنا عباد هياكل وشكليات، وإنما طلال حقائق موضوعية علمية، فهل من الأفضل إبقاء الرجوع إلى كتب الفقه في متاهاتها البعيدة الأغوار، أم تيسير الرجوع إليها، والإسلام كله دين اليسر والسماحة في الأهداف والوسائل معاً؟"([149]).

10. قالوا: إن التقنين الفقهي، يدخل في باب السياسة الشرعية؛ لأن على ولي الأمر أن يعمل على درء المفاسد وجلب المصالح، وإن تصرفاته على الرعية منوطة بالمصلحة، وقد عمل الصحابة رضوان الله عليهم أموراً كثيرة من باب السياسة الشرعية، وتحقيقاً للمصلحة، اتخذت صورة الإلزام، أحياناً منها:

أ. إلزام أبي بكر رضي الله عنه بالناس بقتال مانعي الزكاة، رغم مخالفة بعض الصحابة للرأي في بداية الأمر([150]).

ب. إلزام عمر رضي الله عنه بعدة أمور منها:

1. إلزام المطلق ثلاثاً بكلمة واحدة بالطلاق، وهو يعلم أنها واحدة، ولكن لما أكثر الناس منه رأى عقوبتهم بإلزامهم به.

2. منعه بيع أمهات الأولاد، وكان رأياً منه، رآه للأَمَة.

3. اختياره للناس الإفراد بالحج، ليعتمروا في غير أشهر الحج، فلا يزال البيت الحرام مقصوداً([151]).

4. إلزام الصحابة أن يقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتغلوا به عن القرآن([152]).

5. منعه الولاة والعمال من الدخول في الصفقات العامة، سواء أكانوا بائعين أم مشترين، وكان يقول: إنما بعثناكم ولاة، ولم نبعثكم تجاراً([153]).

6. كان عمر وعبد الله- رضوان الله عليهما- يقاسمان بالجد مع الإخوة، ما بينه وبين أن يكون السدس خيراً له من مقاسمتهم، ثم إن عمر كتب إلى عبد الله: ما أرانا إلا أنا قد أجحفنا الجد، فإذا جاءك كتابي هذا فقاسم به مع الإخوة، ما بينه وبين أن يكون الثلث خيراً له من مقاسمتهم، فأخذ بذلك عبد الله([154]).

ج. إلزام عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد، وإحراق ما عداه، خشية الفتنة في اختلاف القراءات([155]). وقد شبه ابن القيم (ت: 751هـ) جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد، بما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت، وكان سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت، ويُطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد وترك بقية الطرق، جاز ذلك([156]).

وقد يناقش هذا الدليل: بأن مقاصد السياسة الشرعية مختلف فيها، فما يراه أناس مصلحة، قد يراه آخرون مفسدة، فقد يقال: إن الإبقاء على الكتب القديمة وعدم التقنين هو المصلحة، بخلاف غيره فهو مفسدة، فالأمر يخضع لتكييف المصالح والمفاسد، وهو أمر مختلف فيه.

11. كما استدلوا بالقياس، فقد قاسوا التقنين وهو أمر جديد لم يعهد من قبل على وقائع من فعل الصحابة والسلف لعلة تحقيق المصلحة، مثل:

أ. إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد، بعد أن كان مجموعاً في الصدور، ومكتوباً في أماكن شتى.

ب. تدوين السنة النبوية، فقد حفظت من جهة، وأمكن الوقوف على صحيحها وسقيمها من جهة ثانية.

ج. قاسوا التقنين على تدوين الفقه، فليس التقنين إلا صورة من صور تدوين الفقه، فهو مدون بصور مختلفة: مختصرات، حواشي شارحة، منظومات ومتون، نظام معجمي موسوعي، ومثل ذلك تدوينه في صور مواد مرقمة، والعبرة بالمضمون لا بالشكل([157]).

وقد يناقش ذلك بالقول: إن موضوع التقنين ليس مختلف فيه، فهو لون من ألوان التصنيف، وفن من فنونه، إنما الخلاف في موضوع الإلزام، والأدلة السابقة، لا يوجد فيها معنى الإلزام.

12. قالوا: إن الأصل في الشريعة الإسلامية أن تكون معلومة وفي حكم المعلومة لتكون ملزمة، أي: أن عدم تقنين الأحكام أو تعيينها يتنافى مع مبدأ علنية الشرائع، الذي يوجب أن يكون المكلف في كل مجتمع نظامي (دولة) على علم مسبق بمصير أعماله وتصرفاته في حكم النظام الذي سيقضي به القاضي، له أو عليه، وإلا كان القضاء فوضى، والمكلف لا يعرف مصيره، ما دام القاضي سيقضي باجتهاده واختياره([158]).

لكن ربما ناقش المانعون ذلك بقولهم: يحسن ألا يعلم المتخاصمون ما عند الحكام؛ لأن معرفتهم هذه تكون عوناً لهم على الفجور والحيل، حتى إن أهل العلم منعوا القضاة من إفتاء الناس في شيء من الأحكام، التي من شأنها أن تعرض بين يدي الحكام لأجل التحاكم([159]).

13. قالوا: إن التقنين الملزم به يكون اختيار أحكامه باتفاق أكثر مجتهدي العصر، فيكتسب الإجماع([160]).

ويناقش هذا الدليل: بأن الإجماع لا ينعقد بوجود المخالف، وإن كان ذلك قول الأكثر، وهو قول الجمهور، فلا بد من اتفاق الجميع، خلافاً لابن جرير الطبري، وأبي بكر الرازي، وأبي الحسين الخياط، فإنهم ذهبوا إلى انعقاده مع مخالفة الأقل، وروي عن الإمام أحمد مثل قولهم([161]).

لكن يمكن القول: وإن لم يكن إجماعاً، فإنه يقرب منه، وهذا هو المقدور عليه في زماننا، ولا شك أن اجتهاد الجماعة خير وأقرب إلى الصواب من الاجتهاد الفردي([162]).

المسألة الثالثة: الترجيح بين الأقوال والمقترحات:

أولاً: الترجيح: من استعراض أدلة الفريقين (المانع لتقنين الفقه والمجيز له) ومناقشتها تبدو لنا رجاحة قول الفريق الثاني (المجيز للتقنين) لعدة اعتبارات، يأتي الحديث عنها.

أما أدلة الفريق الأول (المانع) فلم تسلم من المناقشات والرد، ويلاحظ عليها ما يلي:

1. غلبة الاستدلال بعموميات النصوص.

2. غلبة الجانب العاطفي أحياناً، على الجانب الموضوعي، وربما كان الدافع لذلك- غالباً- الحرص على الشريعة الإسلامية والغيرة عليها، والخوف من أن تسير بها الخطا لأن يسحب البساط من تحتها شيئاً فشيئاً، ويستبدل القانون الغربي بها. كما يظهر من كلام الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، حيث يقول: "وفي التقنين الملزم توهين لتجريد توحيد الاتباع وخدش لحماه!"([163]).

3. التخوف من مصطلح (قانون) وذلك خشية التأثر بالغرب. يقول الدكتور عبد الرحمن القاسم: "القانون... البعض منها يتخوف من مسماه، وبعض آخر يتهرب منه، وفريق آخر ينكره، وهكذا نتجاهل الحقائق في شكل من أشكالها، بينما نقرها ونعترف بها في أشكال أخرى، وفي هذا مخادعة لأنفسنا ولواقعنا، فمضمون القانون ليس إلا مضمون النظام أو اللائحة، أو الأوامر العامة"([164]).

4. أنهم يقيسون الوضع الراهن على الزمن السابق، في حال القضاة وظروف المجتمع، وهو قياس مع الفارق، فقد كان غالب القضاة سابقاً مجتهدين، ومن لم يكونوا كذلك، فقد كانوا على درجة عالية من الفقه والعلم، فيسهل عليهم استخراج الأحكام واستنباطها من مظانها، بخلاف قضاة اليوم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية: فإن القضايا والخصومات كانت معدودة، وغير معقدة، بخلاف ما هي عليه اليوم، كما سلف ذكره.

أما أدلة الفريق الثاني (المجيز للتقنين) فيلاحظ عليها ما يلي:

1. سلامة معظمها من المناقشة والرد.

2. موافقتها لروح العصر، عصر التقنين الدولي في كل شيء (التقنين المدني، والتقنين الجزائي، والتقنين الاقتصادي والتجاري، والتقنين العسكري، والتقنين الجوي، والتقنين البحري، والتقنين الدولي، وغيرها...).

3. أن التقنين مناسب لحال المجتمع الحالي من قضاة ومحامين ومواطنين، فالكل أمام نظام دقيق منضبط، يعرف ما له وما عليه: فالقاضي أمام تصور واضح للقضية، ويعلم بموجب أي المواد سيحكم، والمحامي كذلك، والخصمان أمام نظام واضح([165]).

4. أن الخصوم بمعرفتهم لمواد القانون الواضحة، يأمنون غوائل النزعات الشخصية لبعض القضاة.

5. وإضافة لما سبق، فإن للتقنين مزايا على مستوى المجتمع الإسلامي، أبرزها:

1. أنه بمثابة خلاصة ما يمكن العمل به من الروايات المتعددة، في المذهب الواحد وفي المذاهب الأخرى([166]).

2. أنه عبارة عن اختيار وترجيح يتأتى من العلماء، وليس عن طريق فرد واحد، كقاض أو غيره([167]).

3. أنه تحديد لأبعاد الحكم الشرعي، وبيان لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد، ودليل على صلاحيتها لكل زمان ومكان([168]).

4. أنه وسيلة لتوحيد سلوك الأمة على حكم واحد مختار من بين الآراء الراجحة في الفقه؛ لأنه أحكام تلزم الأمة بالعمل بها([169]).

5. أنه وسيلة لإشراف الدولة على سلامة تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك عن طريق اختيار الأحكام الملائمة منها، وإلزام القضاة جميعاً بالسير على مقتضاها([170]).

6. أن عدم تقنين أحكام الشريعة سيدفع حكام المسلمين إلى اقتباس القوانين الأجنبية لتنظيم شؤون الدولة، والابتعاد بذلك عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذه مفسدة لا يدرؤها إلى تقنين أحكام الشريعة الإسلامية([171]).

7. بالتقنين يمكن أن نجعل أحكام الشريعة أساساً لكل معاملة، وصل القضاء أمرها أم لم يصل، كأحكام البيع، والإجارة، والرهون، والشركات، والبنوك، والزواج، والقروض، والتجارة، والعمل والعمال وغيرها، بحيث توضع أحكام موجزة لكل نوع منها، فيكون ذلك بمتناول الأفراد والجماعات، وبعبارة موجزة([172]).

8. أن من أهداف القضاء تحقيق الضمانات اللازمة للمجتمع، ليعيش عيشة رخاء وتعاون، ويضمن كل فرد فيه حقوق الآخرين وحرياتهم، وبذلك يكون القضاء في حاجة إلى عناية، وموالاة تنظيم، وتنسيق لأجهزته واختصاصاته، وتدعيمه بالضمانات اللازمة، التي تحفظ هيبته ومكانته، وإن أضمن طريق وأقربه لتحقيق تلك الأهداف، وأنجح وسيلة للوصول إلى تلك الغايات هو التقنين، وذلك بجمع أحكام الشريعة، وضم الشبيه إلى شبيهه، والمثل إلى مثله، والخروج بمجموعات يعالج كل منها موضوعاً من الموضوعات، وبذلك يؤدي ولاة الأمور بهذا التقنين خدمة جليلة لأحكام الشريعة، وللجماعة الإسلامية، ويكون وسيلة من وسائل الإصلاح، لما يتضمنه من بيان للحقوق والواجبات والأوامر والزواجر، وحسن تطبيق ذلك([173]).

9. للتقنين أصداء إيجابية لا يمكن لأحد أن ينكرها، فقد دعت فكرته إلى تجديد الفقه الإسلامي، من خلال منهج يحفظ العلاقة بين النص والواقع، ويزيل العصبية المذهبية، كما دفعت إلى صحوة في الدراسات الفقهية المقارنة ونشأت الموسوعات الفقهية، كموسوعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية، والموسوعة الكويتية للفقه الإسلامي، وواكبت هذه الحركة الموسوعية أعمال مساعدة لها، تمثلت في إصدار فهارس من الكتب، أصولية وفقهية، ومعاجم لبعض موسوعات الفقه([174]).

10. أن التقنين يؤدي إلى حسن سير الجماعة نتيجة إلمام الأفراد بقواعد القانون، وتطبيقه على علاقاتهم الاجتماعية المختلفة([175]).

11. أن ثمة قضايا تستجد بين حين وآخر ليست موجودة في المراجع الفقهية القديمة، وهي كثيرة، ويصعب على القضاة الوصول إلى أحكامها باجتهاداتهم الفردية، وإنما يتحقق ذلك عن طريق الاجتهاد الجماعي، ومن الحكمة أن يتناول نخبة من الفقهاء هذه الاجتهادات ويعمموها على المحاكم، ويُلزم بها القضاة، خير لهم من أن يعتمدوا على اجتهاداتهم الفردية([176]).

12. أن هذا التقنين سييسر على الفقهاء شرحه ومقارنة أحكامه بغيرها في المذاهب المختلفة، فضلاً عن اشتغال آلاف القضاة والمحامين والطلبة بدراسته، وفي هذا تيسير لدراسة وتدريس الشريعة الإسلامية([177]).

13. أن هذا التقنين وسيلة لإلزام الناس بالعمل بالشريعة الإسلامية، ذلك أننا في عصر ألف الناس فيه السير على قواعد ملزمة، يصدرها الحاكم أو سلطة مختصة، وتقنين أحكام الشريعة الإسلامية ليس فيه غير إضفاء هذا الشكل عليها، مع الاحتفاظ بمضمونها، والعبرة بالمضمون لا بالشكل([178]).

هذه أبرز مزايا التقنين على مستوى المجتمع الإسلامي، أما مزاياه على المستوى الدولي العالمي فهي:

1. الحاجة إلى القانون الإسلامي؛ لتسهيل إسهام الشريعة الإسلامية في إمداد القانون الدولي، الذي تحكم بمقتضاه محكمة العدل الدولية، وغيرها من المحاكم الدولية، وتزويده بالقواعد والنظريات القانونية، من وجهة نظر الإسلام.

2. الحاجة إلى القانون الإسلامي، كمرجع لهيئات التحكيم الدولية في تفسير وتطبيق عقود الامتياز، التي تنص على اعتبار الشريعة مصدراً رئيسياً يرجع إليه عند الخلاف، وقد اشتدت الحاجة إلى ذلك بعد احتكاك البلاد الإسلامية بغيرها، وتطور العلاقات التجارية والاقتصادية بينهم.

3. الحاجة إلى القانون الإسلامي لتيسير دراسات القانون المقارن في الجامعات والمعاهد، وفي مؤلفات القانون المقارن التي تتخذ مرجعاً لهذه الدراسات.

4. إن التقنين ييسر عرض الشريعة الإسلامية وبحث نظرياتها في الجمعيات والمراكز العلمية غير التدريسية، وما يصدر عنها من مجلات وبحوث في القانون المقارن.

5. إن تقنين الشريعة يمد المشاركين في المؤتمرات القانونية الدولية بحكم الشريعة الإسلامية فيما تبحثه من مسائل، وتتخذه من توصيات([179]).

هذه أبرز مزايا التقنين، على مستوى المجتمع، وعلى المستوى الدولي.

وهذه بعض نصوص الفقهاء المعاصرين في المسألة:

1. يقول الشيخ حسنين محمد مخلوف (مفتي الديار المصرية سابقاً): "ولا شك أن في تقييد القضاء الشرعي بأحكام مستمدة من المذاهب الفقهية المدونة القائمة على الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ومفرغة في قالب قانوني منسق محكم، ضماناً لتحقيق العدالة، وتيسيراً على القضاة، وطمأنينة للمتقاضين، وبعداً عن مظان الريب ونوازع الشهوات، وذلك كله مصلحة ظاهرة، توجب شرعاً أن نسلك في هذا الزمن بالأحكام الفقهية العملية، مسلك التقنين المحترم، الواجب التطبيق"([180]).

2. يقول الشيخ الزرقا- رحمه الله تعالى: "التقنين في الفقه الإسلامي، هو الطريق الوحيد لحياته، وليس له محاذير، فهو الوسيلة لوضع الفقه موضع العمل والتطبيق، وإخراجه من حيز النظريات إلى حيز العمليات، فالفقه أحكامه كلها بمثابة نصوص تشريعية، والقانون الذي لا يطبق هو في حكم الميت، ففي فرنسا مثلاً يوجد بعض قوانين قديمة غير مطبقة، فتنوسيت رغم أنها غير ملغاة، فهكذا شأن فقهنا الإسلامي إذا لم يطبقه القضاء"([181]).

3. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: "ونحن نرى أن استخلاص قانون من الشريعة الإسلامية، لم يعد أمراً سائغاً فقط، بل أصبح واجباً محتوماً؛ لأننا نخشى أن يكون تقاصرنا في هذه الناحية مؤدياً إلى أن يدخل بلادنا قانون أجنبي لم ينبع من الإسلام، ولم يتفق معه، وبين أيدينا العبر، فمصر عندما تقاصر علماؤها من أن يجمعوا قانوناً من المذاهب الأربعة، أدخل واليها إسماعيل القانون الفرنسي، ولا تزال مصر الإسلامية خاضعة لسيطرة ذلك القانون، ومع الأسى والأسف أخذ المبدأ يسري إلى البلاد العربية الإسلامية الأخرى، إلا شبه الجزيرة العربية، فإنها إلى الآن بمنجاة، فهلا سارع القائمون عليها واتقوا الشر قبل وقوعه، ووضعوا القانون المسطور من الشريعة، إنه يجب العمل به، فالزمن يسير، والقافلة تسير، ولا يصح أن تكون الجزيرة من المتخلفين"([182]).

ثانياً: بعض المقترحات في منهجية التقنين:

بعد ترجيح قول الفريق الذي يرى التقنين والإلزام، وبيان مزاياه، فإننا نقترح أن يكون التقنين على النحو التالي:

1. أن تتولى أمر التقنين لجنة علمية، مختارة من أهل العلم والتقى والصلاح والغيرة على الشريعة الإسلامية؛ لأن مثل هذا العمل يحتاج إلى جهد جماعي، ولأن الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين، بل يكاد يكون محالاً أن يقوم به فرد من الأفراد، والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الجماعي، حيث تبادل الآراء والأفكار([183]).

2. عند كتابة مادة التقنين، تبحث المسألة من قبل القائمين على كتابة المواد، وتستعرض الأدلة وأقوال العلماء فيها، ويختار القول الراجح، بناء على قواعد الترجيح المعروفة في علم أصول الفقه([184]).

3. ألا يقتصر مشروع التقنين على مذهب معين، بل يكون ميدانه المذاهب الأربعة، التي هي تمثل الفقه الإسلامي. يقول الشيخ الزرقا: "فلابد في التقنين الفقهي أن يستفاد من جميع المذاهب؛ لأن كل مذهب بمفرده لا يمكن أن يعتبر هو الممثل للشريعة وحده، ما دام إلى جانبه مذهب آخر، أو مذاهب تخالفه في كثير. فالذي يمثل الشرعية هو مجموع المذاهب الفقهية المعتبرة"([185]).

4. أن يشارك في صياغة مواد القانون الإسلامي قانونيون، خوفاً من الالتباس أو سوء التفسير، وتستخدم الألفاظ الشرعية قدر الإمكان([186]).

5. يحسن تبويب التقنين تبويباً منطقياً (من حيث المنهجية)؛ لأن التبويب المنطقي يساعد كثيراً على فهم التقنين، والإحاطة به، وتيسير البحث فيه. فيقسم التقنين إلى أبواب وفصول، تبين بنوع خاص الأحكام الشرعية العملية، وتخفي الأحكام الفقهية النظرية، على أن تكون هذه الأبواب والفصول مرتبطة بعضها ببعض على وجه منطقي محكم. ويحسن أن يتقدم كل الأبواب باب تمهيدي، يكون موضوعه الأحكام العامة، التي تسيطر على جميع مناحي القانون([187]).

6. أن توضع لمواد التقنين مذكرات إيضاحية، تفصل الحالات وتذكر الاحترازات، وتستدرك ما لم تتضمنه هذه المواد من التفصيل([188]).

7. أن يشار إلى جانب كل مادة من مواد القانون إلى أصلها من كتب فقه المذاهب؛ وذلك لربط القانون بأصله، وليطمئن القاضي والمحامي والمتخاصمون إلى صحة الحكم، ومطابقته للشريعة الإسلامية([189]). يقول الشيخ حسنين محمد مخلوف: ".. وتبين اللجنة مأخذ كل حكم ودليله، والحاصل على الأخذ به دون غيره، في مذكرة تفسيرية مفصلة، تلحق بالقانون كشرح له، ويرجع إليها كمستند فقهي"([190])، وهذا ما تنبه إليه قدري باشا في كتابه (مرشد الحيران)، حينما أشار إلى أصل كل مادة استقاها من الفقه الإسلامي.

8. أن تخضع مواد التقنين للمراجعة بعد مرور وقت كاف، يؤخذ فيه رأي القضاة، وأهل العلم، الذين يقدمون مسوغات كافية لإعادة النظر في هذه المواد، وكذلك المحامون والمهتمون بشأن القانون([191])، فبذلك تتبلور هذه المواد، وتستكشف الثغرات، ومواطن الخلل، فيصار إلى تدارك ذلك مستقبلاً.

هذه أبرز المقترحات، التي يستحسن مراعاتها حين وضع التقنين، ولعل ثمة نقاط أخرى، تتبدى للجنة العلمية، وتكون جديرة بالاهتمام، تؤخذ بعين الاعتبار في حينها، أو مع مرور زمن التقنين، وذلك في ظل المصلحة العامة، وما تقتضيه الظروف.

المطلب الثالث: نماذج من التقنين الفقهي:

نورد في هذا المطلب بعض النماذج من التقنين الفقهي، تتميماً للفائدة، وليقف القارئ على حقيقة التقنين، وهو أنه لا يختلف عن نصوص الفقهاء القدامى إلا في الصياغة والترتيب، وهي: مجلة الأحكام العدلية، ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية، مجلة الأحكام الشرعية، تقنين مجمع البحوث في الأزهر، وذلك على النحو التالي:

النموذج الأول: مجلة الأحكام العدلية (الحنفية)([192]):

1. في البيوع:

- المادة (105): "البيع: مبادلة مال بمال"([193]).

- المادة (110): "البيع الباطل: ما لا يصح أصلاً، يعني أن لا يكون مشروعاً أصلاً".

- المادة (216): "يصح بيع حق المرور وحق الشرب والمسيل تبعاً للأرض، والماء تبعاً لقنواته".

2. في الإجارة:

- المادة (425): "الأجير الخاص يستحق الأجرة، إذا كان في مدة الإجارة حاضراً العمل، ولا يشترط عمله بالفعل، لكن ليس له أن يمتنع عن العمل، وإذا امتنع لا يستحق الأجرة".

- المادة (454): "يلزم في استئجار الأراضي أن يذكر لأي شيء استؤجرت، مع تعيين المدة، فإن كانت للزرع يلزم بيان ما يزرع فيها، أو تخيير المستأجر بأن يزرع ما شاء على التعميم".

- المادة (463): "ما صلح بدلاً في البيع يصلح بدلاً في الإجارة، ويجوز أن يكون بدلاً في الإجارة ما لا يصلح أن يكون ثمناً في البيع، فيجوز أن يستأجر بستاناً بركوب دابة أو سكنى دار".

3. في الكفالة:

- المادة (613): "الكفالة بالنفس: هي الكفالة لشخص واحد".

- المادة (625): "الكفالة كما تنعقد مطلقة كذلك تنعقد مقيدة بقيد التعجيل والتأجيل، بأن يقول: أنا كفيل على أن أؤدي في الحال، أو في الوقت الفلاني".

4. في الغصب والإتلاف:

- المادة (894): "لو سلم الغاصب عين المغصوب إلى صاحبه في محل مخوف، فله أن لا يقبله، ولا يبرأ الغاصب من الضمان في هذه الصورة".

- المادة (903): "زوائد المغصوب لصاحبه".

5. في الدعوى:

- المادة (1619): "يشترط أن يكون المدعى به معلوماً، ولا تصح الدعوى إذا كان مجهولاً".

- المادة (1623): "إذا كان المدعى به عقاراً، يلزم في الدعوى والشهادة ذكر بلده وقريته أو محلته وزقاقه، وحدوده الأربعة أو الثلاثة، وأسماء أصحاب حدوده".

6. في القضاء:

- المادة (1810): "ينبغي للحاكم أن يراعي قاعدة الأقدم فالأقدم في رؤية الدعوى، ولكن إذا كان تعجيل دعوى تأخر ورودها مما تقتضيه الحال والمصلحة فيقدم رؤيتها".

- المادة (1817): "إذا أقر المدعى عليه ألزمه الحاكم بإقراره، وإن أنكر طلب البينة من المدعي".

- المادة (1825): "يضع الحاكم في المحكمة ترجماناً أميناً وموثوقاً به، ليترجم كلام من لا يعرف اللسان الرسمي من الخصمين".

النموذج الثاني: ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية([194]):

1. في القضاء:

- المادة (3): "إذا طرأ على القاضي جنون أو بكم أو عمى أو صمم، وجب عزله، ونفذ حكمه الماضي قبل أن يعزل".

- المادة (4): "لا يصح ولا ينفذ حكم القاضي إلا إذا كان في مجلس حكمه وقضائه، أو بشهادة عدلين على حكمه".

- المادة (14): "ينبغي للقاضي أن يخصص يوماً أو وقتاً للنساء، بحسب درجة العمل، طلباً للستر عليهن، سواء أكانت الخصومة بين نسوة أو بين امرأة ورجل".

2. في النكاح:

- المادة (210): "للزوج توكيل غيره إذا كان هذا الغير ممن يصح أن يلي العقد، كأن يكون مسلماً بالغاً، غير محرم بحج أو عمرة".

- المادة (215): "لا يشترط في الولي العدالة والرشد، فلو كان فاسقاً أو سفيهاً غير معتوه جاز عقده".

- المادة (220): "الثيب البالغة العاقلة لا جبر عليها، فلا يزوجها أب أو غيره من الأولياء بغير إذنها ورضاها".

3. في البيع:

- المادة (635): "يصح بيع الصغير المميز، يعني المراهق للبلوغ، ويتوقف نفاذه على إمضاء وليه الشرعي".

- المادة (640): "كل ما جرى به العرف أنه من ضمن المبيع وتابعاً له يشمله البيع وإن لم يصرح به في عقد البيع".

4. في الرهن:

- المادة (660): "الرهن يحتاج لإيجاب وقبول بين بالغين عاقلين رشيدين، فلا يجوز أن يكون الراهن أو المرتهن صغيراً أو مجنوناً أو سفيهاً أو محجوراً عليه".

- المادة (663): "إنما يكون الرهن في دين لازم أو صائر إلى اللزوم".

5. في القرض أي: السلف:

- المادة (759): "متى جر السلف نفعاً للمقرض منع منعاً باتاً؛ لأنه خرج من عمل المعروف: لأن النفع إنما يكون للمقترض خاصة".

- المادة (761): "يجوز السلف بكل ما يثبت في الذمة، من نقود وطعام وعروض ونحو ذلك، على أن يرد المقترض مثل ما أخذه من معدود أو موزون أو مكيل".

6- في القسمة:

- المادة (815): "كل من أبى القسمة مع شريكه في كل ما يقبل القسمة، يقضى عليه فيه بقسمة القرعة بعد التعديل والتقويم".

- المادة (820): "لا تجوز قسمة الزرع حتى يحصد ويدرس ويصفى، ولا يجوز قسمة الأرض التي بها زرع أو شجر به ثمر، حتى يستوي الزرع والثمر".

- المادة (821): "أجرة القائم بالقسمة، ومصاريف عقد القسمة، وأجرة كاتب الوثيقة على عدد الرؤوس، لا على قدر السهام".

7. في المواريث:

- المادة (891): "يستحق الوارث الإرث في تركة الهالك بأحد ثلاثة أسباب: وهي النكاح والولاء والنسب".

- المادة (911): "العَوْل: يراد به هنا الزيادة في عدد سهام أصل المسألة والنقصان من مقادير أنصباء الوارثين لمزاحمة كل منهم بنصيبه، فلزم دخول النقص على كل وارث بحسب حصته في الأصل".

- المادة (920): "للجد السدس في كامل التركة، إذا كان ثلث الباقي أو مقاسمته للإخوة تنقصه عن السدس، والخلاصة: أنه ينظر لمصلحة الجد دائماً فيها يزيد معه".

النموذج الثالث: مجلة الأحكام الشرعية (الحنبلية)([195]):

وتمتاز هذه عن سابقتها (مجلة الأحكام العدلية) بأنها شاملة للعبادات والمعاملات، بخلاف تلك، فإنها لا تشمل العبادات، ومثلها سائر التقنينات.

1. في القواعد الفقهية:

- المادة (31): "من شرع في عبادة تلزم بالشروع ثم فسدت فعليه قضاؤها على صفة التي أفسدها، سواء كانت واجبة في الذمة على تلك الصفة أو دونها".

- المادة (59): "العقود لا تَرِدُ إلا على موجود بالفعل أو القوة([196])، أما الفسوخ: فترد على المعدوم حكماً واختياراً على الصحيح".

- المادة (112): "إذا اجتمع للمضطر محرمان، كل منهما لا يباح دون الضرورة، وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضرراً".

2. في البيوع:

- المادة (178): "بيع الوفاء والأمانة: هو البيع مع اتفاقهما على أن البائع متى رد الثمن رد عليه المشتري المبيع".

- المادة (234): "ينعقد بيع المضطر وشراؤه، كما يصح التورق، وهو أن يشتري الشيء نسيئة بأكثر من قيمته ليبيعه ويتوسع بثمنه".

- المادة (251): "البيع بشرطين لا يصح، إلا إذا كانا من مقتضى العقد أو من مصلحته".

3. في الإجارة:

- المادة (570): "يشترط أن يكون المؤجر مالكاً للمنفعة المعقود عليها، أو مأذوناً له في إجارتها بولاية أو وكالة، فلا تصح إجارة الفضولي ولا تنعقد أصلاً".

- المادة (582): "لمستأجر العين إجارتها قبل قبضها، سواء في ذلك العقار والمنقول، وسواء كان بمثل ما استأجر به أو بأكثر".

4. في الإعارة:

- المادة (1279): "الإعارة: إباحة منفعة العين بلا عوض، ويطلق عليها العارية أيضاً، فإن وقت بزمن فهي مؤقتة، أو قيدت بشرط أو قيد فمقيدة، وإلا فمطلقة".

- المادة (1302): "نفقة العارية ومؤنتها ما دامت عند المستعير لا تجب عليه، وإنما على المالك".

5. في الوديعة:

- المادة (1342): "الوديع أمين، فيصدق بيمينه في رد الوديعة إلى مالكها، أو من يقوم مقامه، سواء ادعى ذلك في حياة المالك أو بعد وفاته، لكن لا يصدق في ردها إلى الحاكم أو إلى ورثة المالك".

- المادة (1363): "منع الوديعة عن ربها عند طلبها بلا عذر تعد موجب للضمان".

6. في الصلح والإبراء:

- المادة (1616): "الصلح: معاقدة يتوصل بها إلى موافقة بين مختلفين، وهو نوعان: صلح عن إقرار، وصلح عن إنكار أو سكوت".

- المادة (1635): "يجوز الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه، سواء كان مما يجوز بيعه أم لا".

7. في المزارعة والمغارسة:

- المادة (1988): "يشترط لصحة المزارعة العلم بالبذر وقدره، وكونه من رب الأرض، فلا تصح المزارعة إن كان البذر من العامل أو منهما أو من ثالث".

- المادة (2002): "ليس للعامل في المزارعة أن يعامل غيره على عمله بغير إذن رب الأرض".

8. في القضاء:

- المادة (2020): "لا تسمع الدعوى ولا يطالب الخصم بالجواب عنها إذا كانت محررة، مستوفية شرائط صحة البينة في كتاب الدعوى".

- المادة (2025): "ليس للقاضي أن يقضي بعلمه، ولكن له أن يعمل بعلمه في عدالة بينة وجرحها".

النموذج الرابع: تقنين مجمع البحوث في الأزهر([197]):

1. الأحكام العامة المشتركة بين الحدود:

- المادة (2): "يشترط لإقامة الحد على الفاعل أن يكون قد أتم من العمر (17) عاماً، ما لم يتحقق بلوغه قبل ذلك، عاقلاً قاصداً ارتكاب الفعل، من رغبة واختيار، بلا ضرورة أو عذر شرعي".

- المادة (6): "لا يجوز الأمر بإيقاف تنفيذ عقوبات الحدود المنصوص عليها في هذا القانون، أو استبدال غيرها بها، ولا تخفيضها، ولا العفو عنها".

2. الأحكام الخاصة بالسرقة:

- المادة (1): "السرقة التي يقام فيها الحد تكون بأخذ مكلف خفية، بقصد التملك، مقداراً معيناً من مال منقول متقوم متمول، تحت يد صحيحة، لا شبهة فيه، من حرز مثله، سواء أكان مالاً عاماً أو خاصاً، بناء على طلب المجني عليه، وذلك على النحو المبين في هذا القانون. ويشترط في المال المسروق ألا تقل قيمته عن دينار إسلامي، ووزنه (4.457) غراماً من الذهب الخالص"([198]).

- المادة (2): "يعاقب السارق في هذه الحالة: في المرة الأولى بقطع يده اليمنى، في حالة العودة تقطع رجله اليسرى، وإذا تكرر العود يعاقب بالسجن حتى تظهر توبته".

3. الأحكام المتعلقة بحد الزنا:

- المادة (1): "1- الزنا المعاقب عليه حداً هو: إتيان الرجل للمرأة بغير أن تكون بينهما علاقة شرعية. 2- وتعتبر اللواطة في حكم الزنا"([199]).

- المادة (3): "1- يعاقب بالإعدام رجماً: المحصن الزاني رجلاً كان أو امرأة. 2- ويعاقب الزاني والزانية غير المحصن بالجلد مائة جلدة لكل منهما".

4. الأحكام الخاصة بحد الشرب:

- المادة (1): "يعتبر خمراً كل سائل مسكر، سواء أسكر قليله أم كثيره"([200]).

- المادة (2): "1- يعد جريمة تستوجب الحد: شرب الخمر، وتعاطيها، وحيازتها، وإحرازها وصنعها، والتعامل فيها، وتقديمها، وإعطاؤها، وإهداؤها، ويعاقب الجاني بالجلد (40) جلدة. 2- ويعاقب بالجلد (40) جلدة كل من وجد في حالة سكر ظاهر في مكان عام. 3- وتصادر المضبوطات في جميع هذا الحالات"([201]).

5. الأحكام المتعلقة بحد القذف:

- المادة (1): "1- القذف المعاقب عليه حداً هو: الرمي بصريح الزنا أو اللواط، أو نفي النسب أو الولد. 2- وتقع جريمة القذف بالقول الصريح، أو بالكناية، أو بالإشارة الواضحة الدلالة، وكذلك بالصورة المعبرة".

- المادة (2): "ويشترط في المقذوف: 1- أن يكون عفيفاً عفة ظاهرة، ذكراً كان أو أنثى. 2- إمكان حدوث الفعل منه. 3- ألا يكون مقذوفاً بحد"([202]).

فهذه بعض النماذج من التقنين الفقهي، أوردتها تتميماً للفائدة، ولتكون أمام شيء ملموس، وواقع محسوس، وأنت تلحظ أن هذه المواد لا تختلف عن نصوص الفقهاء في كتبهم القديمة، فما هي إلا صياغة جديدة للفقه ميسرة، لا أكثر، حتى لا يتوهم الخائفون من مصطلح (التقنين أو القانون) إنما هم على شاطئ الأمان، ومع نصوص فقهائهم- القدامى والمحدثين- الذين يطمئنون إليهم، ولقد اقتصرت على ذكر بعض نصوص القوانين الثلاثة الأولى (مجلة الأحكام العدلية، وملخص الأحكام الشرعية، ومجلة الأحكام الشرعية) دون تعليق، على أنها إما حنفية خالصة أو مالكية أو حنبلية كذلك، أما تقنين الأزهر، فقد قمت ببعض التعليقات عليه؛ لأنه يعتمد في مواده على المذاهب الأربعة، يتخير منها الأرفق لحال الناس، والأوفق لروح العصر، وهو من عمل لجنة علمية متكاملة، لا عمل فرد بعينه، كما هو شأن مجلة الأحكام الشرعية، وملخص الأحكام الشرعية. وإن مثل هذا القانون الفقهي، المصاغ من قبل لجنة علمية متخصصة، والمعتمد على المذاهب الأربعة، التي تمثل فقهنا الإسلامي، إنما هو محط أنظار العلماء والقضاة والباحثين في هذا الزمن، الذين ترنو أعينهم لوجوده وتقريره على مستوى العالم الإسلامي، متفوقاً على القوانين الوضعية في صياغته وترتيبه، فضلاً عن مضمونه، الذي يحقق مصلحة الناس وخيرهم في الدنيا والآخرة؛ لأنه من لدن عليم خبير.

الخاتمة:

وبعد هذا العرض السريع لبحث (التقنين والإلزام في الفقه الإسلامي) نستخلص النتائج التالية:

1. أن المسوغ لكتابة هذا البحث جمع شتات الموضوع، من خلال الدراسات السابقة، واستقصاء الأدلة المتعارضة في جوازه.

2. أن التقنين الفقهي: ما هو إلا صياغة للفقه الإسلامي بأسلوب جديد مرتب، تسهل الإفادة منه.

3. أن فكرة التقنين والإلزام مرت بعدة مراحل:

أ. طرح الفكرة زمن ابن المقفع على الخليفة المنصور.

ب. طرح الخليفة المنصور على الإمام مالك، ورفضه ذلك.

ج. طلب هارون الرشيد من القاضي أبي يوسف أن يضع له نظاماً مالياً يسير عليه، فأجابه إلى ذلك، بتأليف كتاب الخراج.

د. وجود التقنين حقيقة: وذلك في مجلة الأحكام العدلية، ثم مجموعة قدري باشا، ثم مجلة الأحكام الشرعية للشيخ أحمد القاري، ثم ملخص الأحكام الشرعية للمحامي الليبي محمد محمد عامر، ثم كان أخيراً تقنين الأزهر. ولم يأخذ التقنين صفة الإلزام حقيقة إلا في مجلة الأحكام العدلية التي تبنتها الحكومة العثمانية رسمياً.

4. أن حكم التقنين والإلزام مبني على اختلاف الفقهاء القدامى في مسألة تقييد القاضي بمذهب معين، والتي انقسموا فيها فريقين:

- الفريق الأول: ويرى عدم جواز التقييد، ويمثله جمهور الفقهاء (جمهور المالكية وجمهور الشافعية والحنابلة).

- الفريق الثاني: ويرى جواز هذا التقييد، ويمثله الحنفية وبعض المالكية وبعض الشافعية. وبعد استعراض الأدلة ومناقشتها ترجح لدينا القول الثاني، القائل بجواز التقييد.

5. أن العلماء المعاصرين انقسموا في نظرتهم إلى التقنين والإلزام فريقين أيضاً، الأول: مجيز للتقنين والإلزام، والثاني مانع له.

ويلاحظ على الفريق الأول ما يلي:

1. استدلالهم بظاهر النصوص على منع التقنين والإلزام، وأنه ليس من عمل السلف.

2. توجسهم خيفة من مصطلح (قانون) وقد دفعتهم غيرتهم على الشريعة الإسلامية إلى رفضه، خشية أن يستبدلوه بالشريعة.

3. اعتقادهم أن التقنين والإلزام حجر على القضاة، ومنع لهم من ممارسة الاجتهاد الذي هو من حقهم.

4. أنهم عرضوا بعض عيوب التقنين ومساوئه.

5. أنهم اقترحوا حلولاً بديلة عن التقنين.

أما الفريق الثاني، فيلاحظ عليهم:

1. أنهم اعتبروا التقنين من قبيل المباح، الذي إذا قرره ولي الأمر يصبح واجباً، وأن الله تعالى أمر بطاعته في غير معصية.

2. أنهم نظروا إلى القضية بعين الواقع، ولم يحملوها أكثر من حملها، على أن التقنين لون جديد، وأسلوب حديث من تصنيف الفقه، بقي موضوع الإلزام، فقالوا: بأنه جائز.

3. أنهم اعتبروا التقنين حلاً مناسباً للقضاء في هذا الزمن، وذلك لندرة المجتهدين، إذا لم نقل بانعدامهم، والقاضي المقلد، لا يصلح له إلا الإلزام، سواء بالمذهب أو بالقانون، والقانون أيسر وأسهل عليه.

4. قالوا: إن الإلزام بقانون واحد يوحد الحكم ويقطع الطريق على الفوضى، وتضارب الأحكام في القضية الواحدة.

وأخيراً تم ترجيح أقوال الفريق الثاني، القائلين بالتقنين والإلزام، لوجاهتها وواقعيتها، وملائمتها لروح العصر.

5. أن التقنينات الفقهية التي بين أيدينا، تؤكد صلاحيتها للعمل والتطبيق، ومن خلال عرض هذه النماذج من التقنين، تبين لنا مدى مشابهتها لنصوص الفقهاء القدامى من حيث المضمون، مما يمنحنا الطمأنينة في التقنين الفقهي.

هذا كله عن النتائج، أما التوصيات فهي:

1- أن يعقد مؤتمر فقهي حول التقنين والإلزام، يدعى إليه كبار الباحثين من فقهاء المسلمين المعاصرين، وممن لهم دراية في القانون، يستضاء بآرائهم، ويستفاد من بحوثهم ومقترحاتهم، وبالتالي يتم – بمشيئة الله تعالى- حسم هذا الموضوع، ووضع تصور كامل عن القانون الفقهي الإسلامي الذي ينتظره الكثيرون.

2- أن تبادر المملكة العربية السعودية إلى التقنين، بحكم تطبيقها للشريعة الإسلامية، وانتشار الثقافة الإسلامية بين أبنائها، فتقوم بدور الرائد الأول، لصياغة الفقه الإسلامي في صورة مواد، وإصدار قوانين إسلامية على المستويات الاجتماعية كافة، فتكون نموذجاً يعمل به في البلاد العربية والإسلامية.

وأخيراً، فهذا ما فتح الله تعالى به علي في هذا الموضوع (التقنين والإلزام في الفقه الإسلامي) فإن أصبت فلله الفضل والمنة، وإن كانت الأخرى فمن نفسي والشيطان، وأرجو الله تعالى أن لا أعدم أخاً ناصحاً، وزميلاً مسدداً، فإن همنا جميعاً الوصول إلى الحقيقة، التي ترضي الله ورسوله، اللهم اجعل ذلك مخلصاً لوجهك الكريم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المراجع:

الأحكام السلطانية، القاضي محمد بن حسين الفراء، أبو يعلى (ت: 458هـ)، عناية: محمد حامد الفقي، نشر: مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1386هـ- 1966م.

أخبار المدينة، أبو زيد النميري البصري، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م.

أدب القاضي، علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن، الماوردي (ت: 450هـ)، تحقيق: محيي هلال السرحان، نشر: مطبعة الإرشاد، بغداد، 1391هـ- 1971م.

الإسلام وتقنين الأحكام، د. عبد الرحمن بن عبد العزيز القاسم، نشر: مطبعة السعادة، القاهرة، ط2، 1397هـ- 1977م.

أضواء على تقنين الشريعة الإسلامية، المستشار السيد عبد العزيز هندي، نشر: دار الهداية، مصر.

الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد، أبو الغيث، الزركلي (ت: 1396هـ)، نشر: دار العلم للملايين، ط11، 1995م.

إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر، أبو عبد الله، شمس الدين، ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ)، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1414هـ- 1993م.

الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، محمد بن أحمد، شمس الدين، الشربيني (ت: 977هـ)، نشر: دار الفكر، بيروت، ط1، 1421هـ- 2001م.

الإمامة والسياسة (تاريخ الخلفاء) عبد الله بن مسلم، أبو عبد الله، ابن قتيبة (ت: 276هـ)، نشر: مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1980م.

البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر، أبو الفداء، عماد الدين، ابن كثير (ت: 774هـ)، نشر: دار ابن حيان، القاهرة، ط1، 1416هـ- 1996م.

تاريخ الخلفاء الراشدين، د. علي محمد محمد الصلابي، نشر: دار ابن كثير، دمشق، ط3، 1426هـ- 2005م.

تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، إبراهيم بن محمد، أبو الوفاء، برهان الدين، ابن فرحون (ت: 799هـ)، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1301هـ.

تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين، د. عبد الرحمن أحمد الجرعي، ندوة القضاء الشرعي، نشر: جامعة الشارقة، 1427هـ- 2006م.

تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية، د. محمد عبد اللطيف عبد العاطي، ندوة القضاء الشرعي، نشر: جامعة الشارقة، 1427هـ- 2006م.

تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، د. ناصر عبد الله الميمان، مجلة الأحمدية، دبي، العدد (19)، 1426هـ- 2005م.

تقنين الشريعة الإسلامية وصلتها بتطبيقها في القضاء الشرعي، د. عبد الله الجبوري، ندوة القضاء الشرعي، نشر: جامعة الشارقة، 1427هـ- 2006م.

تقنين الفقه الإسلامي، المبدأ والمنهج والتطبيق، د. محمد زكي عبد البر، نشر: دار إحياء التراث الإسلامي، قطر، ط2، 1407هـ- 1986م.

التقنين والإلزام، د. بكر عبد الله أبو زيد، نشر: مطابع دار الهلال، الرياض، ط1، 1402هـ- 1982م.

التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية، د. محمد الزحيلي، نشر: دار الفكر، دمشق، 1402هـ- 1982م.

جهود تقنين الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1408هـ- 1987م.

الخراج، القاضي يعقوب بن إبراهيم، أبو يوسف (ت: 183هـ)، نشر: المطبعة السلفية، القاهرة، ط6، 1397هـ.

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد المحبي (ت: 1111هـ)، نشر: دار صادر، بيروت.

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أحمد بن علي بن محمد، ابن حجر (ت: 852هـ)، نشر: دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، ط2، 1394هـ- 1974م.

الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، إبراهيم بن محمد، أبو الوفاء، برهان الدين، ابن فرحون (ت: 799هـ)، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت.

رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين، ابن عابدين (ت: 1252هـ)، تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي محمد معوض، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ- 1994م.

رسائل البلغاء، محمد كرد علي (ت: 1372هـ)، ط: 1946م.

الروض المربع مع حاشية النجدي، منصور بن يونس بن إدريس، البهوتي (ت: 1015هـ)، ط 11، 1428هـ.

سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، أبو عبد الله (ت: 275هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: المكتبة العلمية، بيروت.

سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث، السجستاني، الأزدي (ت: 275هـ)، تحقيق: عزت عبيد الدعاس، نشر: دار الحديث، بيروت، ط1، 1388هـ- 1969م.

سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، أبو عيسى (ت: 279هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، نشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1407هـ- 1987م.

السنن الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي، البيهقي (ت: 458هـ)، نشر: مطبعة دار المعارف العثمانية، حيدر آباد، ط1، 1352هـ.

سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بن عثمان، شمس الدين، الذهبي (ت: 748هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، نذير حمدان، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1401هـ- 1981م.

شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي، أبو الفلاح، ابن العماد (ت: 980هـ)، نشر: دار المسيرة، بيروت، ط2، 1399هـ- 1979م.

شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقا (ت: 1357هـ)، نشر: دار القلم، دمشق، ط4، 1417هـ- 1996م.

شرح مجلة الأحكام العدلية، سليم رستم الباز (ت: 1338هـ)، نشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

شرح مختصر الروضة، سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد، أبو الربيع، نجم الدين، الطوفي (ت: 716هـ)، تحقيق: د. عبد الله التركي، نشر: وزارة الأوقاف، السعودية، ط2، 1419هـ- 1998م.

صحيفة (اليوم) المملكة العربية السعودية، العدد (12951)، السبت 1/12/1429هـ- 29/11/2008م.

الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، محمد بن أبي بكر، أبو عبد الله، شمس الدين، ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ)، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر: الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الرياض.

الفتاوى، محمد رشيد رضا (ت: 1354هـ)، عناية: د. صلاح الدين المنجد، ويوسف الخوري، نشر: دار الكتاب الجديد، بيروت.

فتاوى الزرقا، مصطفى بن أحمد، الزرقا (ت: 1420هـ)، عناية: مجد مكي، نشر: دار القلم، دمشق، ط2، 1422هـ- 2001م.

فتاوى السبكي، علي بن عبد الكافي بن علي، السبكي (ت: 756هـ)، نشر: دار المعرفة، بيروت.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد، الشوكاني (ت: 1250هـ)، نشر: دار الفكر، بيروت، 1403هـ- 1983م.

الفروع، محمد بن مفلح بن محمد، شمس الدين، المقدسي (ت: 763هـ)، تحقيق: د. عبد الله التركي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1424هـ- 2003م.

القوانين الفقهية، محمد بن أحمد، أبو القاسم، ابن جزي (ت: 741هـ)، نشر: دار القلم، بيروت.

لسان العرب، محمد بن مكرم، جمال الدين، ابن منظور (ت: 711هـ)، نشر: دار صادر، بيروت، ط1، 1410هـ- 1989م.

مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أحمد بن عبد الله القاري (ت: 1359هـ)، تحقيق: د. عبد الوهاب أبو سليمان، د. محمد إبراهيم أحمد علي، نشر: دار تهامة، جدة، ط1، 1401هـ- 1981م.

مجلة البحوث الإسلامية، هيئة كبار العلماء، المملكة العربية السعودية، الأعداد (31، 32، 33).

مجموع فتاوى ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام، ابن تيمية (ت: 728هـ)، نشر: وزارة الأوقاف السعودية، سنة: 1416هـ- 1995م.

المدخل إلى علم القانون، د. هشام القاسم، نشر: جامعة دمشق، ط: 1415هـ- 1994م.

المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقا (ت: 1420هـ)، نشر: دار الفكر، بيروت، ط9، 1968م.

المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، محمد مصطفى شلبي، نشر: دار النهضة العربية، بيروت، ط7، 1405هـ- 1985م.

مدخل لدراسة القانون وتطبيق الشريعة الإسلامية، د. عبد الناصر توفيق العطار، نشر: مطبعة السعادة، مصر.

المستصفى من علم الأصول، محمد بن محمد، أبو حامد، حجة الإسلام، الغزالي (ت: 505هـ)، نشر: دار الفكر، بيروت.

مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه، د. شويش هزاع المحاميد، نشر: دار عمار، الأردن، ط1، 2001م.

المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي، أبو العباس، الفيومي (ت: 770هـ)، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، نشر: المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1417هـ- 1996م.

المعجم الوجيز، لمجموعة من العلماء، نشر: مجمع اللغة العربية، ط10، 1412هـ- 1991م.

المغني، عبد الله بن أحمد، أبو محمد، موفق الدين، ابن قدامة (ت: 620هـ)، نشر: دار الفكر، بيروت، 1414هـ- 1994م.

مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد بن أحمد، شمس الدين، الشربيني (ت: 977هـ)، نشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1377هـ- 1958م.

المقارنات التشريعية، بين القانون الفرنسي ومذهب الإمام مالك، سيد عبد الله علي الحسين، تحقيق: د.محمد أحمد سراج، د. علي جمعة، أحمد جابر بدران، نشر: دار السلام، القاهرة، ط1، 1421هـ- 2001م.

المقارنات التشريعية، تطبيق القانون المدني الجنائي على مذهب الإمام مالك، محمد حسنين مخلوف العدوي، تحقيق: د. محمد أحمد سراج، د. علي جمعة، نشر: دار السلام، القاهرة، ط1، 1420هـ- 1999م.

المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، إبراهيم بن محمد بن عبد الله، ابن مفلح (ت: 884هـ)، تحقيق: عبد الرحمن سليمان العثيمين، نشر: مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1416- 1996م.

ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية، المحامي محمد محمد عامر الليبي (ت: 1961م)، تحقيق: القاضي محمد الأمين بن محمد بيب، مكتبة النجاح، جدة، 1416هـ- 1996م.

مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، محمد بن عبد الرحمن، أبو عبد الله المغربي، الحطاب (ت: 954هـ)، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1416هـ- 1995م.

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، محمد بن أبي العباس، أحمد بن حمزة، شمس الدين، الرملي (ت: 1004هـ)، نشر: دار الفكر، بيروت.

نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا، التنبكتي (ت: 1036هـ)، نشر: كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس الغرب، ط1، 1398هـ- 1979م.

وفيات الأعيان، أحمد بن محمد بن أبي بكر، أبو العباس، شمس الدين، ابن خلكان (ت: 681هـ)، نشر: دار الثقافة، بيروت.

والحمد لله رب العالمين

 

 

Regulations and Enforcement of Islamic Jurisprudence

 

 

Abdoullak I. Al-Mousa

College of Sharia' and Islamic studies. Imam Mohamed

Ibn Saud University

Al-Ahsa. Saudi Arabia

 

Abstract:

The research addresses the following points.

1.    Stages of regulation and enforcement since the introduction of this concept by Ibn al-Mokfiaa to al-Mansur caliph, through its existence in the Journal of legal provisions to the recent Azhar Regulation Draft.

2.    Scholars' standpoint on the issue of restricting the judge to a particular doctrine which is the basis for bridging between enforcement and regulation with two views prevailing: the dominant of which permitting restriction.

3.    Viewpoints of proponents and opponents of regulation and enforcement, the discussion of their evidence and the prevailing stance of binding.

4.    Examples of jurisprudence regulation from the different doctrines to clearly demonstrate that it does not differ from the texts of scholars but for form and organization for the purpose of ease of reference.

And Praise be to Allah. Lord of the Worlds

Key Words: Enforcement. Islamic jurisprudence. Regulations


[1] ر: الإسلام وتقنين الأحكام ص (2).

[2] يقول (سبرل) عميد كلية الحقوق بجامعة فينا: "إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كمحمد إليها، فإنه على أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة". الإسلام وتقنين الأحكام ص (167).

[3] طالع كلاً من:

- المقارنات التشريعية بين القانون الفرنسي ومذهب الإمام مالك، للشيخ سيد عبد الله علي حسين.

- المقارنات التشريعية، تطبيق القانون المدني والجنائي على مذهب الإمام مالك، للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي؛ لتقف على حقيقة اعتماد القانون الفرنسي على مذهب الإمام مالك.

[4] ر: المعجم الوجيز ص (518)، مادة : (قنن).

[5] تقنين الفقه الإسلامي (عبد البر) ص (21).

[6] جهود تقنين الفقه الإسلامي ص (26).

[7] إلا ما كان من تقنين (القارّي) في مجلة الأحكام الشرعية، فقد ضمنها تقنينات خاصة بالعبادات، على خلاف سائر التقنينات، كما سيمر معنا في عرض نماذج التقنين.

[8] ر: لسان العرب (6/6)، ومادة: (أسس).

[9] ر: شرح القواعد الفقهية ص (33- 34).

[10] المدخل إلى علم القانون (هشام القاسم) ص (118).

[11] المرجع السابق ص (131).

[12] الإسلام وتقنين الأحكام ص (184).

[13] ر: المدخل إلى علم القانون (هشام القاسم) ص (130).

[14] ر: لسان العرب (12/541)، والمصباح المنير ص (285)، مادة: (لزم).

[15] ر: البداية والنهاية (3/257).

[16] ر: تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية (2/ 620).

[17] من أئمة الكتاب، وأول من عني الإسلام بترجمة المنطق، أصله من الفرس، ولد في العراق مجوسياً فأسلم، ولي كتابة الديوان للخليفة المنصور العباسي، من كتبه: كليلة ودمنة، مترجم عن الفارسية، والأدب الصغير، والأدب الكبير، اتهم بالزندقة، فقتله في البصرة أميرها سفيان بن معاوية سنة (142هـ). ر: الأعلام (4/140).

[18] ر: رسائل البلغاء ص (126).

[19] هو: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، كان عارفاً بالفقه والأدب، محباً للعلماء، غير أنه قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه، تولى الخلافة بعد أخيه السفاح سنة (136هـ)، وبنى بغداد سنة (145هـ)، وتوفي سنة (158هـ). ر: البداية والنهاية (10/155)، والأعلام (4/117).

[20] ر: الإمامة والسياسة (2/ 268)، وسير أعلام النبلاء (8/ 70- 71).

[21] هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المهدي، ثالث الخلفاء العباسيين، ولي الخلافة بعد أبيه المنصور سنة (158هـ)، كان محمود السيرة، محباً للرعية، جوادا" كريماً، وهو أول من مشي بن يديه بالسيوف المصلتة والقصي، توفي سنة (169هـ). ر: البداية والنهاية (10/194)، والأعلام (6/221).

[22] هو هارون بن محمد بن عبد الله (المهدي) أبو جعفر، خامس الخلفاء العباسيين وأشهرهم، تولى الخلافة بعد أخيه الهادي، كان عالماً بالأدب وأخبار العرب، والحديث والفقه، كان شجاعاً كثير الغزوات، حازماً كريماً، يحج عاماً ويغزو عاماً، توفي سنة (193هـ). ر: البداية والنهاية (10/ 273)، والأعلام (8/62).

[23] ر: إعلام الموقعين (2/ 276).

[24] جمع جالية: وهي الجماعة من الناس المهاجرة عن وطنها. ر: لسان العرب (14/149) (جلي).

[25] كتاب الخراج ص (3).

[26] الأحكام السلطانية ص (247).

[27] ر: القوانين الفقهية ص (7).

[28] هو: أحمد جودت باشا بن إسماعيل، مؤرخ تركي، من الوزراء، له اشتغال بالعربية، تولى عدة مناصب، من كتبه بالعربية: خلاصة البيان في جمع القرآن، تعليقات على الشافعية في النحو، وتعليقات على أوائل المطول في البلاغة، وله في التركية: تاريخ جودت (12) مجلداً، توفي في الآستانة سنة (1312هـ). ر: الأعلام (1/108).

[29] ر: المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي ص(158)، والتقنين والإلزام ص (17).

[30] ر: المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي ص (159).

[31] هو: محمد قدري باشا، من رجال القضاء بمصر، أصله من الأناضول، أمه مصرية حسنية، تعلم بالقاهرة، ونبغ في معرفة اللغات، تقلب في عدة مناصب، منها وزارة الأوقاف، توفي في القاهرة سنة (1306هـ)، من كتبه: الدر النفيس في لغتي العرب والفرنسيس، قانون الجنايات والحدود، ديوان شعر، وغيرها. ر: الأعلام (7/10).

[32] ر: الإسلام وتقنين الأحكام ص (246).

[33] ر: المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي ص (159).

[34] هو: أحمد بن عبد الله القاري بن محمد بشير خان، قاضي حجازي من أصل هندي، تعلم بالمدرسة الصولتية بمكة، وعين قاضياً بجدة سنة (1340هـ)، وجعل من أعضاء مجلس الشورى سنة (1349هـ)، ثم رئيساً للمحكمة الكبرى، توفي بالطائف سنة (1359هـ)، له: مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل. ر: الأعلام (1/ 163).

[35] قام بدراسة المجلة وتحقيقها صاحبا الفضيلة: الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، وصدرت طبعته الأولى عام: 1401هـ- 1981م.

[36] قام بتحقيق الكتاب فضيلة القاضي الشيخ محمد الأمين بن محمد بيب، رئيس محكمة الاستئناف في موريتانيا سابقاً، والقاضي حالياً بالمحكمة الاتحادية العليا بدولة الإمارات العربية المتحدة، وصدرت طبعته الأولى عام: 1416هـ- 1996م.

[37] ر: أضواء على تقنين الشريعة الإسلامية ص (46).

[38] ر: المرجع السابق نفسه ص(46).

[39] ر: المرجع السابق ص(48).

[40] ولا أدري فيما إذا تبنت الحكومة الليبية هذا التقنين في محاكمها أم لا.

[41] درج عامة الباحثين على استخدام كلمة (التخريج) مكانها، وهي المرادفة لها، إلا أنني آثرت هذا المصطلح تأثراً بأستاذنا الدكتور الدريني- رحمه الله تعالى.

[42] يرى الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد أن عرض هذه المسألة (حكم التقنين) بهذه الصورة خطأ، إنما ينبغي أن تكون (حكم الإلزام)؛ لأن التقنين أمر جائز باتفاق، فما هو إلا تأليف. وفي هذا يقول: "فإن التقنين حقيقة تأليف. .. ومهما كانت التسمية تقنيناً أو تدويناً أو تأليفاً، فإن هذا عرض مغلوط، ودائرة الخلاف إنما هي منحصرة في الإلزام، جوازاً أو منعاً" التقنين والإلزام ص (7).

[43] مدخل تقنين الأحكام وإلزام القضاة به: مجلة الأحمدية (19) ص (244).

[44] مدخل لدراسة القانون ص (50).

[45] قال ابن مفلح (ت: 763هـ): "والمجتهد: من يعرف الكتاب والسنة: الحقيقة والمجاز، والأمر والنهي، والمبيَّن والمجمل، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمستثنى والمستثنى منه، وصحيح السنة وسقيمها، وتواترها وآحادها، وما يتعلق بالأحكام، والمجمع عليه والمختلف فيه، والقياس وشروطه، وكيف يستنبط، والعربية المتداولة بحجاز وشام وعراق، فمن عرف أكثره، صلح للفتيا والقضاء، وقيل: ويعرف أكثر الفقه" الفروع (11/109).

[46] مواهب الجليل (8/71)، و ر: تبصرة الحكام (1/45)، والمستصفى (2/ 384).

[47] ر: التقنين والإلزام ص (9).

[48] ر: تبصرة الحكام (1/46)، ومواهب الجليل (8/73)، وأدب القاضي (الماوردي) (1/ 187)، ونهاية المحتاج (8/242)، والمغني (11/483).

[49] ر: أخبار المدينة (1/ 367).

[50] هو: محمد بن الوليد بن خلف، القرشي، الفهري، الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي، أديب من فقهاء المالكية الحفاظ، من أهل طرطوشة بشرقي الأندلس، تفقه ببلاده، ورحل إلى المشرق سنة (476هـ)، فحج وزار العراق ومصر والشام، وأقام بالإسكندرية إلى وفاته سنة (520هـ)، كان زاهداً في الدنيا، من كتبه: سراج الملوك، التعليقة في الخلافيات، وبر الوالدين، وغيرها. ر: شذرات الذهب (4/ 62)، والأعلام (7/133- 134).

[51] تبصرة الحكام (1/46 – 47)، ور: مواهب الجليل (8/73).

[52] هو: محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني، أبو عبد الله، فقيه مالكي، أصله من المغرب، ولد بمكة واشتهر فيها، ومات في طرابلس الغرب عام (954هـ)، من كتبه: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين، تحرير الكلام في مسائل الالتزام. ر: نيل الابتهاج ص (592)، والأعلام (7/58).

[53] مواهب الجليل (8/73).

[54] هو: علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن، الماوردي، أقضى قضاة عصره، تصانيفه كثيرة، ولد بالبصرة، وانتقل إلى بغداد، وولي القضاء في بلدان كثيرة، كانت له مكانة رفيعة عند الخلفاء، نسبته إلى بيع (ماء الورد)، من كتبه: الحاوي، الأحكام السلطانية، سياسة الحكومات، وغيرها، توفي في بغداد سنة (450هـ). ر: شذرات الذهب (3/ 285 – 286)، والأعلام (4/327).

[55] أدب القاضي (1/ 187- 188).

[56] هو: محمد بن أحمد بن حمزة، شمس الدين، الرملي، فقيه الديار المصرية في عصره، يقال له: الشافعي الصغير، نسبته إلى الرملة من قرى المنوفية بمصر، مولده في القاهرة، ووفاته فيها سنة (1004هـ)، صنف شروحاً وحواشي كثيرة، منها: نهاية المحتاج، فتاوى شمس الدين الرملي، غاية المرام. ر: خلاصة الأثر (3/342)، والأعلام (6/8).

[57] نهاية المحتاج (8/242).

[58] هو: عبد الله بن أحمد بن قدامة، الجماعيلي، المقدسي، أبو محمد، موفق الدين، فقيه من أكابر الحنابلة، تصانيفه كثيرة، منها: المغني، روضة الناظر، المقنع، وغيرها، ولد بجماعيل بفلسطين، وتعلم بدمشق، ورحل إلى بغداد، ثم عاد إلى دمشق، وتوفي فيها سنة (620هـ) ر: المقصد الأرشد (2/15)، والأعلام (4/ 67).

[59] المغني (11/ 483)، ور: فتاوى ابن تيمية (31/73).

[60] ر: رد المحتار (8/98)، وتبصرة الحكام (1/ 45- 46)، وفتاوى السبكي (2/12- 13).

[61] هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، ولد بدمشق، وتوفي فيها سنة (1252هـ)، من مصنفاته: رد المحتار على الدر المختار، المشهور بحاشية ابن عابدين، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، الرحيق المختوم في الفرائض. ر: الأعلام (6/42).

[62] رد المحتار (8/98).

[63] هو: إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون،  برهان الدين، أبو الوفاء، ولد ونشأ في المدينة، ومات فيها سنة (799هـ)، مغربي الأصل، نسبته إلى يعمر بن مالك، رحل إلى مصر والقدس والشام، وتولى القضاء في المدينة، يعتبر من شيوخ المالكية، من مؤلفاته: الديباج المذهب، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، طبقات علماء الغرب. ر: الدرر الكامنة (1/48)، والأعلام (1/52).

[64] هو: سليمان بن خلف بن سعيد، القرطبي، أبو الوليد، فقيه مالكي، من رجال الحديث، ولد في (باجة) بالأندلس سنة (403هـ)، ورحل إلى الحجاز وبغداد والموصل وحلب ودمشق، ثم عاد إلى الأندلس وتوفي فيها سنة (494هـ). من مؤلفاته: السراج في علم الحجاج، إحكام الفصول في أحكام الأصول، اختلاف المواطآت. ر: الديباج المذهب ص(120)، والأعلام (3/ 125).

[65] هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون، قاض، فقيه، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب، أصله من حمص في بلاد الشام، ولد في القيروان، وولي فيها القضاء إلى أن توفي سنة (234هـ)، كان رفيع القدر، عفيفاً زاهداً، روى المدونة عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك. ر: وفيات الأعيان (3/ 180)، والأعلام (4/5).

[66] تبصرة الحكام (1/ 45 – 46).

[67] هو: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام، أبو الحسن، تقي الدين، الأنصاري الخزرجي، شيخ الإسلام في عصره، ولد في (سبك) من أعمال المنوفية في مصر، وانتقل إلى القاهرة ثم إلى الشام، وولي قضاءها، ثم عاد للقاهرة وتوفي فيها سنة (756هـ)، من كتبه: المسائل الحلبية وأجوبتها، الفتاوى، الابتهاج في شرح المنهاج وغيرها. ر: الدرر الكامنة (3/ 63)، والأعلام (4/302).

[68] فتاوى السبكي (2/12 – 13).

[69] سيأتي الحديث عن أدلة المجيزين للتقنين من المعاصرين، وذلك في المطلب الثاني من هذا البحث.

[70] وهؤلاء من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية. ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص (65).

[71] ر: مسيرة الفقه الإسلامي ص (439)، وتقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية (2/ 624- 625).

[72] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (32) ص (36).

[73] ر: مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ص (446).

[74] ر: المصدر السابق ص (442).

[75] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص (62).

[76] ر: مسيرة الفقه الإسلامي ص (442).

[77] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص(62).

[78] هو: الدكتور عبد الرزاق بن أحمد السنهوري، كبير علماء القانون المدني في عصره، ولد في الإسكندرية، حصل على الدكتوراه في القانون والاقتصاد من فرنسا عام (1926م)، تولى وزارة المعارف في مصر عدة مرات، وضع قوانين مدنية كثيرة لمصر والعراق وسوريا وليبيا والكويت، من كتبه: الوسيط، مصادر الحق، شرح القانون المدني في العقود. توفي في القاهرة سنة (1971م). ر: الأعلام (3/ 350).

[79] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص (61- 62)، والتقنين والإلزام ص (79).

[80] تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين (2/ 592).

[81] ر: مسيرة الفقه الإسلامي ص (446).

[82] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص(60).

[83] ر: رد المحتار (8/98)، وتبصرة الحكام (1/ 45- 46)، وفتاوى السبكي (2/12).

[84] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص (60- 61)، والتقنين والإلزام ص (69).

[85] ر: تقنين الشريعة الإسلامية (الجبوري) (2/ 612).

[86] ر: مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ص (442).

[87] ر: التقنين والإلزام ص (69).

[88] ر: المصدر السابق ص (79).

[89] ر: أدب القاضي (الماوردي) (1/ 187).

[90] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص (62).

[91] أبو داود (3573) كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، والترمذي (1322) كتاب الأقضية، باب ما جاء في القاضي، وابن ماجة (2315) كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق.

[92] مجلة البحوث (32) ص(37- 38)، وتقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين (2/ 590).

[93] ر: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، مجلة الأحمدية (1) ص (262).

[94] ر: تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين (2/ 592).

[95] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) ص (50).

[96] ر: المغني (11/ 483).

[97] ر: رد المحتار (8/ 98).

[98] ر: تبصرة الحكام (1/45 – 46).

[99] فتاوى السبكي (2/12).

[100] ر: التقنين والإلزام ص (63).

[101] ر: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، مجلة الأحمدية، العدد (19) ص (261 – 262).

[102] ر: تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية (2/ 627).

[103] ر: المرجع السابق (2/ 627- 628).

[104] ر: التقنين والإلزام ص (87).

[105] القاعدة (38) من قواعد الزرقا، والمادة (39) من مجلة الأحكام العدلية.

[106] فالتقنين الفرنسي مثلاً، وضع سنة (1804م) ثم جددت معاملات وواقعات لم تكن يوم وضعه. وفي هذا يقول الفقيه (سالي) عنه: "المجموعة المدنية تطورت، فقد بقيت النصوص على حالها، ولكن الذي تغير هو محتواها، ففي أوعية ظُنَّ أنها قديمة جرى رحيق جديد، وقد كفت قوته المتجددة لأن تعيد إلى الوعاء نضارة الشباب". تقنين الفقه الإسلامي ص (29).

[107] ر: جهود تقنين الفقه الإسلامي ص (26).

[108] ر: تقنين الفقه الإسلامي ص (28- 29).

[109] جاء في صحيفة (اليوم) الصادرة في المملكة العربية السعودية، بعددها رقم (12951) السبت 1/12/1429هـ- 29/11/2008م في صفحتها الأولى تحت عنوان: (افتتاح 15 محكمة متخصصة سنوياً على مدى 20 عاماً): تعتزم وزارة العدل افتتاح 15 محكمة سنوياً على مدى العشرين عاماً المقبلة، ليصل مجموع المحاكم المفتتحة بعد هذه المدة (300) محكمة. .. وبدأ العمل به اعتباراً من العام المقبل، وذلك لمواجهة ارتفاع حجم التقاضي.

[110] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص (63- 64).

[111] والتي سيأتي الحديث عنها لاحقاً.

[112] ر: الإسلام وتقنين الأحكام ص (م).

[113] ر: المرجع السابق ص(21) وما بعدها.

[114] ر: المرجع السابق ص (25) وما بعدها.

[115] ر: مدخل لدراسة القانون ص (227).

[116] ر: سيرة الفقه الإسلامي ص (438).

[117] ر: تقنين الفقه الإسلامي ص (62).

[118] ر: المدخل الفقهي (1/ 191).

[119] ر: الإسلام وتقنين الأحكام ص (28).

[120] ر: جهود تقنين الفقه ص (29).

[121] ر: مسيرة الفقه الإسلامي ص (438).

[122] ر: الإسلام وتقنين الأحكام ص (30).

[123] وهؤلاء من هيئة كبار العلماء، ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) وما بعدها.

[124] ر: كتابه: الإسلام وتقنين الأحكام ص (5) وما بعدها.

[125] وهذا ما يلحظ من رسالته لنيل الدكتوراه، التي حصل عليها سنة 1385هـ- 1966م.

[126] فتح القدير (1/481)، وتفسير سورة النساء.

[127] هو: محمد بن رشيد بن علي رضا، القلموني، البغدادي الأصل، الحسيني، صاحب مجلة المنار، نشأ في القلمون، وتعلم في طرابلس الشام، ورحل إلى مصر، ولازم شيخه محمد عبده، توفي في مصر سنة (1354هـ - 1935م)، من كتبه: تفسير القرآن الكريم، الوحي المحمدي، تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده. ر: الأعلام (6/126).

[128] الفتاوى (2/ 625).

[129] المدخل الفقهي (1/191).

[130] ر: تبصرة الحكام (1/46)، والمادة (1801) من مجلة الأحكام العدلية، ونصها: "القضاء يتقيد ويتخصص بالزمان والمكان واستثناء بعض الخصومات".

[131] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (32) ص (43).

[132] ر: تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية (2/ 629).

[133] ر: مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر ص (441).

[134] ر: رد المحتار (8/98)، ومواهب الجليل (8/73)، ومغني المحتاج (4/378)، والمغني (11/483).

[135] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) ص (46).

[136] المغني (11/ 383).

[137] الفتاوى (20/212).

[138] هو: عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي، المصري، أبو عبد الله، فقيه، جمع بين الزهد والعلم، تفقه بالإمام مالك، ولد في مصر وتوفي فيها سنة (191هـ)، روى المدونة عن الإمام مالك. ر: وفيات الأعيان (3/ 129)، والأعلام (3/ 323).

[139] التبصرة (1/ 45).

[140] ر: جهود تقنين الفقه الإسلامي ص (37- 38).

[141] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) ص (32)، والتنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية ص (291).

[142] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) ص (46) (بتصرف).

[143] ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (31) ص (63).

[144] جهود تقنين الفقه الإسلامي ص (28).

[145] ر: مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ص (441)، ومن الأمثلة على هذه المستجدات: المعاملات المصرفية، ووسائل المقاولات والمناقصات، وشروط الجزاء، ومشاكل الاستيراد والتصدير، والتأمين بمختلف جوانبه، ونحو ذلك، مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به، لشدة الخلاف فيها، مما سبب إيجاد محاكم أخرى، بها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية، كمحاكم الرشوة، وفض المنازعات التجارية، ونحوها. ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) ص (49).

[146] ر: مسيرة الفقه الإسلامي ص (441).

[147] فقد اختلف وجهات النظر لدى محكمتي التمييز بالرياض ومكة، إذ قامت محكمة التمييز بالرياض بنقض حكم بالقسامة صادر عن محكمة الرياض؛ لأنه كان مبنياً على قول مرجوح في المذهب، بينما كانت محكمة التمييز في مكة المكرمة تشير إلى المحكمة الكبرى بمكة في قضية قتل، بأن تحكم فيها بالقسامة بالقول المرجوح، الذي قامت محكمة التمييز في الرياض بنقض الحكم المبني عليه. ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) ص (48).

[148] جهود وتقنين الفقه الإسلامي ص (28).

[149] جهود تقنين الفقه الإسلامي ص (28).

[150] ر: البداية والنهاية (6/380)، وتاريخ الخلفاء الراشدين (1/212).

[151] ر: الطرق الحكمية ص (16- 18).

[152] ر: المرجع السابق ص (18).

[153] ر: تاريخ الخلفاء الراشدين (2/ 403- 404).

[154] سنن البيهقي (6/ 249).

[155] ر: تقنين الشريعة الإسلامية (الجبوري) (2/ 610).

[156] ر: الطرق الحكمية ص (18- 19).

[157] ر: مدخل لدراسة القانون (46) (بتصرف).

[158] ر: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، مجلة الأحمدية (19) ص (258- 259).

[159] ر: التقنين والإلزام ص (35).

[160] ر: المرجع السابق ص (38).

[161] ر: شرح مختصر الروضة (3/ 53).

[162] ر: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، مجلة الأحمدية (19) ص (260).

[163] ر: التقنين والإلزام ص (63).

[164] الإسلام وتقنين الأحكام ص (184).

[165] فقد كثرت شكاوى الناس، بأن القضاء غير واضح المعالم، حتى لطلبة العلم أنفسهم، إذ إن أحدهم يمكن أن يكون طرفاً في خصومة عند أحد القضاة، وقد يكون مستواه العلمي أعلى من مستوى القاضي نفسه، ومع ذلك لا يدري بم يحكم القاضي، مما أحدث أثراً سيئاً في نفوس البعض من حال القضاء. ر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (33) ص (47).

[166] ر: مدخل لدراسة القانون ص (47).

[167] ر: المرجع السابق نفسه.

[168] ر: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به (مجلة الأحمدية) العدد (19) ص (249).

[169] ر: مدخل لدراسة القانون ص (47).

[170] ر: المرجع السابق ص (48).

[171] ر: مجلة الأحمدية (19) ص (249). فهناك مجموعة من الحكومات الإسلامية، ممن أبعدها الاستعمار عن روح الشريعة، كالباكستان بعد الاستقلال مثلاً، تخطط للأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية، لكنها تقرر العجز في اختيار ما تراه، وليس أمامها شئ ميسور يمكن أن تسير عليه، كما أن الغيورين على الشريعة الإسلامية أخذوا في الآونة الأخيرة يطالبون بوضع قانون إسلامي مستمد من الشريعة الإسلامية، وعقدت من أجل ذلك مؤتمرات، والتقنين يحقق هذه المطالب كلها. ر: مجلة البحوث الإسلامية العدد (33) ص (49).

[172] ر: الإسلام وتقنين الأحكام ص (136).

[173] ر: المرجع السابق ص (134).

[174] ر: تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية (2/ 630).

[175] ر: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، الأحمدية، العدد (19) ص (249).

[176] ر: المرجع السابق، العدد (19) ص (250).

[177] ر: مدخل لدراسة القانون ص (48).

[178] ر: المرجع السابق نفسه.

[179] ر: مجلة الأحمدية (19) ص (250)، بحث: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به.

[180] الإسلام وتقنين الأحكام ص (26).

[181] فتاوى الزرقا ص (373).

[182] الإسلام وتقنين الأحكام ص (ن).

[183] ر: تقنين الأحكام وإلزام القضاة به، مجلة الأحمدية (19/ 270).

[184] ر: تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين (2/ 597).

[185] فتاوى الزرقا ص (373)، ور: المدخل الفقهي العام (1/ 209- 210).

[186] ر: تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين (2/ 597).

[187] ر: تقنين الفقه الإسلامي ص (89- 90)، وذلك على غرار تقنين الأزهر، الذي سيمر معنا في المطلب الثالث التالي.

[188] ر: تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين (2/ 597).

[189] فقد عمد التقنين السويسري إلى بيان ملخص للنصوص في هوامشها، وهذه الملخصات تعتبر جزءاً من التقنين، تسهل فهم نصوصه، وتعطي خلاصة واضحة للمعنى المقصود منها، وتيسر العثور على الحكم القانوني المراد معرفته. ر: تقنين الفقه الإسلامي ص (90).

[190] ر: الإسلام وتقنين الأحكام ص (25).

[191] ر: تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين (2/ 597).

[192] والتي وضعتها اللجنة العلمية العثمانية سنة (1869م).

[193] أنت تلحظ الإيجاز والإطلاق في التعريف، وهذا شأن التقنين، فلم تنص المادة على التراضي، وذلك لتتناول بيع المكره، فإنه منعقد وإن لم يلزم، ولم تقيده بكونه على وجه مخصوص، وذلك ليتناول بيع درهم بدرهم استويا وزناً وضعة، فإنه منعقد عند الحنفية وإن كان فاسداً، وليتناول أيضاً مقايضة أحد الشريكين حصة داره بحصة الآخر، حالة كون الدار مشاعة والحصص متساوية، فهو منعقد ولو كان فاسداً، وعموماً فإن الإطلاق أولى من التقييد. ر: شرح المجلة (رستم) ص (65).

[194] للمحامي محمد محمد عامر، الليبي (ت: 1381هـ- 1961م).

[195] للشيخ أحمد بن عبد الله القاري (ت: 1359هـ).

[196] أي: إمكانية الوجود، وهذا مصطلح عند المناطقة، عندما يريدون التفريق بين وجود الشيء وإمكانية وجوده، فيقولون مثلاً: كاتب بالفعل، أي: موجودة منه الكتابة، وتراه يكتب حقيقة، وكاتب بالقوة، أي: لديه إمكانية الكتابة إذا شاء كتب، وإن كان لا يكتب الآن.

[197] وهذا جزء من التقنين، الذي قامت به اللجنة العلمية، وهو ما يخص الحدود والعقوبات، مختار من المذاهب الأربعة. وقد اعتمدت في نقل نصوص التقنين هذه على كتاب: أضواء على تقنين الشريعة الإسلامية ص (77) وما بعدها.

[198] ويبدو أن اللجنة أخذت برأي المالكية في شأن السرقة من المال العام، على أنه يجري فيه القطع كالمال الخاص، قال الحطاب: "أما مال بيت المال والمغانم بعد حيازتها فيقطع سارقها، وإن لم يزد ما أخذ عن النصاب، إذ لا بال لما يستحقه من ذلك" مواهب الجليل (8/ 417).

كما أن اللجنة اعتمدت رأي الحنفية في اعتبار الدينار- وهو نصاب السرقة- عشرة دراهم، وزنتها (4.457) غراماً، خلافاً للجمهور، الذين اعتبروا الدينار (12) درهماً، وتقطع اليد بربعه، وهو ثلاثة دراهم. ر: رد المحتار (6/140)، ومواهب الجليل (8/414)، ومغني المحتاج (4/158)، وحاشية الروض المربع (7/ 359).

[199] فقد أخذت اللجنة برأي جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد) بأن يكون حكم اللواط هو حكم الزنا، خلافاً للإمام أبي حنيفة، الذي يراه جريمة تستوجب التعزير لا الحد.

ر: رد المحتار (6/6)، ومواهب الجليل (8/ 389)، ومغني المحتاج (4/144)، وحاشية الروض المربع (7/ 318).

[200] أخذت اللجنة هنا أيضاً برأي جمهور الفقهاء، وهو أن كل شراب مسكر خمر، وسواء أسكر قليله أم كثيره، خلافاً للحنفية، الذين لا يقيمون الحد على شارب المسكر لو كان قليلاً، إلا إذا سكر. ر: رد المحتار (6/569)، ومواهب الجليل (8/433)، ومغني المحتاج (4/117)، وحاشية الروض المربع (7/ 339).

[201] ويلاحظ على هذه المادة ما يلي:

1- أن اللجنة أخذت برأي الشافعية وهو أن حد الشرب أربعون جلدة. ر: مغني المحتاج (4/ 189).

2- أنها اعتبرت هذه الجرائم (التعاطي والحيازة والصنع..) تستوجب إقامة الحد، وهذا فيه نظر؛ لأن الحدود عقوبات مقدرة شرعاً لجرائم محددة، وحد الشرب جاء منصباً على الشارب فقط، إنما هي عقوبات تعزيرية، كان ينبغي للجنة أن تفصل بينها وبين الحدود.

[202] ويلاحظ هنا أن اللجنة أخذت برأي الحنابلة في شروط المقذوف، وهو إمكانية حدوث الفعل منه، خلافاً للجمهور، الذين يشترطون البلوغ في المقذوف. قال البهوتي (ت: 1051هـ): "والمقذوف هنا، أي في باب القذف هو الحر المسلم العاقل العفيف عن الزنا ظاهراً، ولو تائباً منه، الملتزم الذي يجامع مثله، وهو ابن عشر وبنت تسع، ولا يشترط بلوغه" الروض المربع (7/ 332- 333)، و ر: نصوص الجمهور: رد المحتار (6/ 82)، ومواهب الجليل (8/ 401)، إلا أن المالكية استثنوا الصغيرة التي تطيق، فإن قذفها يوجب الحد، وانظر: الإقناع عند الشافعية ص(528).